#1  
قديم 08-24-2021, 10:12 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي مصير شركة كوداك قلب عالم التصوير النابض في القرن العشرين


صُورت أهم لحظات القرن العشرين على أفلام كوداك، لكن هذه الشركة الأميركية، التي كانت مسيطرة في السابق، عجزت عن التنافس في عصر التكنولوجيا الرقمية. ومع إفلاس إيستمان كوداك، بات مستقبل موظفي الشركة المتبقين معلقاً في الهواء. أولريخ فيشتنر من «شبيغل» تناول هذه الأزمة.

العشرين ظ†ط´ط£ط©-ط´ط±ظƒط©-ظƒظˆط¯ط§ظƒ.jpg
يركن روبرت شاينبروك سيارته الدودج أمام مبنى كبير في منتزه كوداك الغارق تحت الثلوج في روتشيستر بنيويورك. يقول: «يعدون صلصة المعكرونة هنا في الوقت الراهن». يتعمد شاينبروك أن تلف صوته نبرة من الحزن، كما لو أنه أراد العودة إلى اليوم الأول الذي دخل فيه قبل أربعين سنة عالم كوداك. كان شاينبروك آنذاك مهندساً شاباً، وكانت الشركة تبني الكاميرا التي التقطت صور مهمة أبولو 11، صوراً تُعتبر من أهم «لحظات كوداك»، فضلاً عن صور الإنسان الأول على سطح القمر والكرة الأرضية من الفضاء الخارجي.

شاينبروك رجل طويل القامة، رمادي الشعر، مشعث اللحية، ينتعل حذاء رياضياً. حافظ على نشاطه منذ تقاعده عام 2003 بعد أن عمل في كوداك طوال 35 سنة. خلال تلك الأيام الجميلة، حظي بامتياز العمل مع هذه الشركة والتنقل في مختلف أرجاء العالم. كان لا يزال فيها في تسعينيات القرن الماضي حين بلغ سعر الحصة فيها نحو 70 دولاراً، وفي الثمانينيات حين وظفت أكثر من 30 ألف عامل في هذه المدينة على بحيرة أونتاريو. آنذاك، كان الموظفون قلقين حيال العثور على موقف قرب مكان عملهم في ذلك المجمع المترامي الأطراف المؤلف من 195 مبنى.

يقول شاينبروك بغضب: «من الصعب تصور الوضع الراهن». يقود سيارته وسط مواقف للسيارات يغطيها الثلج وتفوق بحجمها ملاعب كرة القدم، لكنها خالية إلا من بضع سيارات. لا يتخطى عدد موظفي كوداك راهناً السبعة آلاف في هذه المدينة، ولا شك في أن الأخبار التي بلغتهم من مقر الشركة في 343 شارع الولاية مخيفة. في 19 يناير، قبل يومين من جولتنا مع شاينبروك، اضطرت هذه الشركة إلى إشهار إفلاسها. يسأل شاينبروك: «هل بكيت؟ لا. هل صدمت؟ نعم، ما زلت تحت وقع الصدمة حتى اليوم».

في اليوم التالي، أظهر التقرير أن الذعر بدأ يتفشى في روتشيستر. فصور كتّاب افتتاحيات الصحف خطوة كوداك على أنها رمز آخر على الوضع المزري في الولايات المتحدة، في حين اعتبر آخرون كوداك مثال الشركة التي تقاعصت عن مواكبة التطور، لذلك تتحمل وحدها اللوم لأنها أغمضت عينيها فتهاوت وتحطمت.

لكن هذه التفسيرات كافة بعيدة كل البعد عن الواقع. فتمثل كوداك التغييرات البنيوية العميقة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة. فليست قصتها مجرد قصة شركة سطع نجمها ثم أفل، بل قصة معقدة نهايتها مرضية أكثر مما قد نتوقع.

إلى العظمة... فالعدم

إن حاولت إرجاع عقارب الزمن إلى أي مرحلة خلال السنوات المئة والاثنتين والثلاثين الماضية، فلن تُضطر إلى البحث طويلاً لتقع على أحد منتجات كوداك من دون أن تدري ذلك أحياناً. فقد تحوّل شعارها الأحمر والأصفر وعلب أفلامها الصفراء إلى جزء من الحياة في الغرب، تماماً مثل

كوكاكولا. هكذا، تحوّلت الأفلام التي تُصنَّع في روتشيستر إلى وسيلة عالمية لتخزين صور الأعراس والعطل والأعياد قبل وقت طويل من ولادة الكاميرات الرقمية بدقة 12 ميغابيكسل والهواتف الذكية البالغة الرقة.

في مختلف أنحاء العالم، حفظ الناس صورهم على «كوداكولر»، أول «فيلم سالب بالألوان الحقيقية» بدأ تصنيعه عام 1942. لاحقاً، نجحت هذه الشركة في وضع صور إكتاكروم في أطر بلاستيكية رمادية وآلات عرض هشة، لتستعمل في النهاية «كوداكروم»، فيلم يدعي مصنعوه أنه «أفضل من العين البشرية». حتى إن بول سيمون ذكر في أغنية تحمل العنوان نفسه أن هذا الفيلم «يجعلك تعتقد أن الشمس دوماً ساطعة».

شكّلت شركة كوداك قلب عالم التصوير النابض. فأغدق الثناء على مؤسس الشركة جورج إيستمان وكُرِّم كما لو أنه ستيف جوبز عصره وكوداك غوغل. عام 1900، قدّم إيستمان للمستهلكين حول العالم «البراوني»، أول كاميرا محمولة نسبياً يمكن للجميع استعمالها. وقد بدّلت نظرتنا إلى العالم تبديلاً جذرياً، ومهدت الطريق أمام فكرة جديدة ومربحة في عالم الأعمال: فبعدما بيعت كميات كبيرة من كاميراتها البخسة الثمن، حققت كوداك نجاحاً كبيراً بتصنيعها الفيلم الذي يُستخدم فيها.

من خلال هذا النموذج المبدع جنت كوداك أرباحاً طائلة طوال قرن من الزمن. في عام 1999، حققت الشركة أرباحاً قياسية بلغت 2.5 مليار دولار. هكذا، صار بإمكان هذه الشركة التأمل بعين الرضا قرناً صاغت خلاله عالم الصور.

لم تكتفِ روتشيستر بإنتاج المواد الأولية الضرورية لالتقاط الصور. فقد أنتجت الأفلام للتصوير بالأشعة السينية، شرائح صغيرة من الأفلام (ميكروفيش) للأرشيف، لفافات لأفلام السينما بقياس 16 مليمتراً و35 مليمتراً، وأفلاماً لكاميرا الفيديو «سوبر 8». كذلك، صنعت بأعداد هائلة آلات عرض الصور، فضلاً عن كاسيتات الفيديو، بطاريات الليثيوم، والأقراص المرنة (floppy disks) للكمبيوترات الأولى.

خلال تلك العقود، ملأت كوداك فعلياً الأسواق بكاميرات دائمة التجدد. فكان من الطبيعي أن تطلق هذه الشركة 20 إلى 30 منتجاً جديداً كل سنة. وانتقلت بعد ذلك للعمل في مجال الطابعات، آلات النسخ، الأقراص المضغوطة recordable CD، الكاميرات الصالحة لاستعمال واحد، الورق الذي يتأثر بالضوء، والأفلام على أنواعها.

شاع استخدام منتجات كوداك في بلدان العالم كافة. بين عامي 1928 و2008، صورت الأفلام الفائزة بأوسكار أفضل فيلم على ابتكارات كوداك، ولا شك في أن انتقال هذا الفخر إلى فوجيفيلم منذ عام 2009 معبّر جداً. لكن لا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن الإنتاج السينمائي سيتمكن عما قريب من التخلص من أفلام التصوير برمتها بسبب غزو التكنولوجيا الرقمية.

الأفضل للأفضل


عندما كانت كوداك في أوج نجاحاتها، حظي روبرت شاينبروك بأفضل وظيفة في هذه الشركة. عمل مهندس الأبحاث هذا على تطوير الأفلام التي يستخدمها المصورون المحترفون. حملت منتجاتها أسماء مثل Portra وTX. وبما أنها اعتبرت أحدث وأفضل ابتكارات عالم التصوير الفوتوغرافي، اختبرها أعظم مصوري تلك الحقبة. لذلك، زار شاينبروك كبار المصورين حول العالم، من البرازيل إلى أوغندا ومن فرنسا إلى اليابان فالمكسيك وسنغافورة. قدّم لهم نماذج ليختبروها في الأستوديو وفي العمل الميداني ويطلعونه على آرائهم.

راقب أنسل آدم خلال جلسات التصوير، ناقش حجم ******ات مع سيباستياو سالغادو، وأصغى إلى آراء ستيف ماكري وإريك ميولا عن التلون وتضارب الألوان. اعتاد شاينبروك السفر حول العالم لتسليم أفلام جديدة، ليعود بعد أربعة أسابيع لجمعها. أما في الفترات التي أمضاها في الولايات المتحدة، قابل فنانين ومراسلين بالغي الأهمية، فمنهم مَن خلّد حروب العالم وأزماته والتقط صور هيمنغواي وكندي الشهيرة، ومنهم مَن حفظ صور مارلين مونرو وصوفيا لورين للأجيال المقبلة. ساعد شاينبروك مَن التقطوا صوراً علقت أولاً على أفلام كوداك ومن ثم في ذاكرتنا.

يتحدث باقتضاب عندما يتطرق إلى عمله في الشركة كي لا يبالغ في وصف دوره فيها. يولي شاينبروك أهمية كبيرة لكتاب صغير نشره، فقد قدم بصوره الكثيرة وكلماته القليلة وصفاً مفصلاً عن كيفية صنع الأفلام. ويُعتبر كتيباً تقنياً، مع أنه بات قديماً قدم العمليات التي يصفها.

عندما تتصفح كتاب شاينبروك، لا يمكنك إلا أن تقف مذهولاً أمام قدرات مصانع كوداك, فقد نجحت هذه الشركة في تغطية الأفلام بطبقات تتفاعل مع الضوء بسرعة 300 متر في الدقيقة. كانت الأفلام بحد ذاتها تُصنع من نحو 12 طبقة، إلا أن سماكتها لم تتخطَّ 0.06 مليمتر. باع شاينبروك ألف نسخة من كتابه. أما باقي النسخ، فما زالت مكدسة في مختلف أرجاء منزله.

حنين وفخر

خلال تجوالنا في منتزه كوداك، أثار شاينبروك أسئلة أكثر أهمية من المسائل التقنية: كيف يعقل أن تتهاوى شركة ضخمة إلى هذا الحد؟ كيف يمكن أن تقفل هذه الشركة أبوابها، في حين أنها في سبعينيات القرن الماضي كانت تنتج 90% من الأفلام المعروضة في الولايات المتحدة و85 % من الكاميرات المباعة؟ هل يمكن أن يحدث أمر مماثل لإحدى أهم وأشهر الماركات في القرن العشرين بأكمله؟ كيف عجزت كوداك عن مواكبة ركب العصر الرقمي؟ كيف يُعقل أن تتهاوى شركة كانت دوماً الأكثر إبداعاً إلى درجة تدنى معها سعر حصصها إلى ما دون الخمسين سنتاً في مطلع هذه السنة، ما أرغمها على إلغاء إدراج أسهمها في بورصة نيويورك؟

إن أردت معرفة الإجابة عن هذه الأسئلة، ينتظرك بعض المفاجآت. أولاً، مَن يصدق أن كوداك كانت أول مَن طوّر كاميرا رقمية عام 1975؟ ما زال روبرت شاينبروك يتذكر النموذج الأول وراح يصف حجمه بيديه. فقد بدا مع كل قطعه وأجزائه أكبر من علبة الأحذية بثلاثة أضعاف. وقد التقطت هذه الكاميرا، التي اخترعها مهندس كوداك ستيف ساسون، صورة واحدة بشعة بالأبيض والأسود تتألف من 0.01 ميغابيكسل رقمي. كذلك، يتذكر شاينبروك أن حفظ هذه الصورة تطلب ثماني دقائق، لا 28 ثانية، كما يدعي البعض على الإنترنت اليوم. لهذه الأسباب، لم يبدُ أن نموذج ساسون سيلقى رواجاً كبيراً في الأسواق.

لكن تقنيي كوداك واصلوا أبحاثهم، محسنين أجهزة الاستشعار التي استُخدمت في المعدات العسكرية، ولاحقاً في كاميرات نيكون وليكا، علماً أن ثمن هذه الأخيرة يُضاهي ثمن سيارة. إذاً، لم يغفل المديرون التنفيذيون في روتشيستر عن التطور الذي كان يحدث من حولهم، بل كانوا متيقظين جيداً. إلا أنهم سرعان ما اصطدموا بواقع مرعب.

هبوط نحو الهاوية

يتذكر لاري ماتيسون، أحد موظفي كوداك القدامى، تلك المرحلة بوضوح. لقد عمل مديراً في الشركة طوال سنوات، حتى إنه تبوأ منصب نائب رئيس مجلس إدارة. أما اليوم، فهو بروفسور في كلية سيمون للأعمال في جامعة روتشيستر. بعد أربع سنوات على اختراع الكاميرا الرقمية، طُلب منه وضع تقرير عن مستقبل التكنولوجيا الرقمية قدمه لمجلس إدارة الشركة. عند التأمل في هذا التقرير، نُلاحظ أنه توقع بدقة كل ما حدث لاحقاً.

أخبرني ماتيسون عبر الهاتف عن التقرير الذي أعده قبل 30 سنة، وقدرتُ استناداً إلى صوته وصورته على موقع الجامعة على الإنترنت أنه رجل مسن وقور. في عام 1979، لخّص احتمالات نجاح التصوير الرقمي في سلسلة رسوم بيانية سريعة التصاعد، أكّدت أن المنتجات كافة التي تروج لها كوداك، من الأفلام إلى الصور والكاميرات، ستتحول (حتماً وإن ليس راهناً) من الأنالوغ إلى الرقمي بحلول عام 2010 على أبعد تقدير. إذاً، كان العالم الذي بنته كوداك سيختفي وأعمالها ستتقلص إلى أن تتوقف. هكذا، وجدت نفسها تهبط نحو الهاوية.

من وجهة نظر موضوعية، حققت شركة كوداك نجاحاً كبيراً في مجالين: أولاً، كانت رائدة عالمياً في الكيمياء العضوية. ثانياً، اكتسبت، بفضل خبرتها التي لا تُضاهى في إنتاج الأفلام، خبرة واسعة في طلاء أنواع السطوح بدقة لامتناهية وبسرعة عالية. لكن ماتيسون يوضح أن «هذين المجالين ما عادا أساسيين مع بدء إنتاج الصور الرقمية».

بعد التركيز المفرط على المواد الكيماوية والأفلام، بدا من المستحيل (إن لم نقل من غير المعقول في مجال الأعمال) أن تحوّل كوداك نفسها إلى شركة للإلكترونيات. علاوة على ذلك، كانت صناعتها للأفلام لا تزال مزدهرة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وبدا أنها ستدر الأرباح على هذه الشركة لسنوات.

بالإضافة إلى ذلك، كان من السهل الوقوع في الشرك والتفكير في أن السوق الرقمية المحدودة لن تتمكن مطلقاً من مضاهاة أسواق أفلام الأنالوغ أو في أنها لن تتمكن من إبعاد شبح الإفلاس عن كوداك. لذلك، كان على الأخيرة أن تختار طوال 30 سنة أن تنتحر في الحال أو تؤجل عملية الانتحار إلى وقت لاحق.

تمسك بالرقمنة حتى الموت

يوضح ماتيسون: «كان خطأ كوداك، هذا إن أمكننا اعتباره خطأ، أنها لم تستطع التخلي عن مفهوم أنها شركة تُعنى بالصور». فقد أقدمت على محاولات، وإن لم تكن جدية، لإعادة تنظيم الشركة وتبديل توجهها. طرح كل مجلس إدارة جديدة استراتيجية مختلفة. فقد أملت كوداك في توسيع قسمها الكيماوي لتدخل عالم تصنيع الأدوية. كذلك، أنفقت الكثير من المال في محاولة منها للسيطرة على سوق الطابعات الرقمية، خطة اتبعت، ثم ألغيت ليُعاد تبنيها.

لكن الحظ أدى دوراً كبيراً في انهيار هذه الشركة. بذلت كوداك جهوداً حثيثة لتتخطى بنجاح المنافسة بين الأنالوغ والرقمي. فحدت من إنتاجها الأفلام بطريقة مضبوطة قدر الإمكان، معززة في الوقت عينه قدراتها الرقمية. لذلك، كانت كوداك المصنّع الأبرز للكاميرات الرقمية في السوق الأميركية حتى عام 2005.

لكن المؤسف أن القفزة التكنولوجية التالية جاءت سريعة، فبدأت الهواتف الذكية تحلّ محلّ الكاميرات الرقمية، وتوقف الناس عن استعمال الكاميرات العادية لالتقاط الصور، مفضلين استخدام هواتفهم. أدى ذلك إلى انخفاض سريع في أسعار الكاميرات. بحلول عام 2007، تراجعت كوداك إلى المرتبة الرابعة في سوق الكاميرات الأميركية، وما هي إلا سبع سنوات حتى أصبحت السابعة. في المقابل، نجحت الشركات الأخرى، مثل كانون وسوني ونيكون، في تخطي كوداك الواحدة تلو الأخرى، مقدمة منتجات بالجودة ذاتها أو حتى أفضل، فضلاً عن أن شكلها أجمل وألوانها أكثر نقاوة وتقنياتها أكثر حداثة.

في طوكيو، قرر مدراء الشركة المنافسة، فوجيفيلم، استخدام خبراتهم في مجال الكيمياء في صنع مواد التجميل. بيد أن مديري كوداك لم يستطيعوا التوصل إلى حل جذري يُنقذ الشركة. من بين الأفكار غير التقليدية التي طُرحت استخدام تكنولوجيا الطلاء المتقدمة في كوداك لتصنيع ورق جدران أو ورق الصقل أو أوراق الملاحظات الصغيرة (Post-it notes)، إلا أن هذه الاقتراحات رفضت سريعاً على اعتبار أنها تحط من قدر الشركة. هكذا، تبنت روتشيستر موقفاً مبرراً، إنما مميتاً: فقد قدمت للعالم صوراً من على سطح القمر، فهل يُعقل أن تقدّم له اليوم ورق جدران؟

مستقبل واعد لروتشيستر

عندما تزور روتشيستر اليوم، تدرك أن هذه المدينة اعتادت تقبل الأخبار السيئة. في وسطها، ترى مجموعة من الأبراج تضم مكاتب عُرض الكثير منها للبيع. تملأ السيارات الشوارع، إلا أن عدد المشاة على الأرصفة قليل. إن نظرت إلى الأفق، طالعتك مكاتب شركات Xerox وBausch and Lomb وChase Bank. تقع مقرات كوداك أيضاً وسط المدينة، إلا أنها تحتل جانباً خاصاً بها. يمكنك رؤيتها من بعيد، خصوصاً في الليل، عندما يلمع شعارها بلونه الأحمر الملتهب.

من هناك، تستطيع السير بضع مئات من الخطوات لتبلغ النقطة التي يتهاوى فيها نهر جينيزي من ارتفاع نحو 30 متراً في قلب هذه المدينة. تحيط بقاعدة هذا الشلال مصانع مهجورة ومتداعية أقدم من كوداك، وتشكل بقايا روتشيستر في القرن التاسع عشر. لطالما سعت المدينة إلى تحويل هذه البقعة إلى حي تكثر فيه الملاهي والمطاعم الليلية، إلا أنها لم تنجح حتى اليوم. فما تلبث المطاعم والحانات التي تفتح في هذه المنطقة أن تقفل أبوابها بعد بضعة أشهر.

على رغم ذلك، تبدو روتشيستر أفضل حالاً مما تخاله للوهلة الأولى. يعود ذلك في جزء منه إلى أن انهيار كوداك حلّ تدريجاً. ترك عدد كبير من مديري هذه الشركة وباحثيها عملهم في كوداك ليؤسسوا شركاتهم الخاصة بدلا من محاولة إنقاذ سفينة تغرق. فهذا العملاق الذي اعتاد سابقاً (على غرار دول الاتحاد السوفياتي) القيام بكل شيء بنفسه (من الطباعة إلى تصنيع علب الكرتون)، تفكك إلى وحدات أصغر حجماً.

إذا، كان لتراجع كوداك تأثير إيجابي في هذه المدينة، إذ أدى إلى ظهور شركات جديدة تُلائم منتجاتها القرن الحادي والعشرين. تحتل مجموعة منتزهEastman Business ، التي تملك فيها كوداك حصة، ركناً من المنطقة الصناعية. ويُقال إن هذه المجموعة المؤلفة من 35 شركة توظف راهناً ما مجموعه 6500 شخص. إذا صح ذلك، فيعادل هذا الرقم عدد الموظفين في كوداك في روتشيستر.

تنتج شركة Johnson and Johnson معدات تشخيص طبية في هذا المنتزه، في حين تعدّ شركة LiDestri للأغذية كميات كبيرة من صلصة المعكرونة في مبنى ضخم على طريق «لي». لكن ثمة أيضاً مؤسسات صغيرة ومتوسطة الحجم يتراوح عدد موظفيها بين خمسة وخمسين، منها شركة الطاقة الشمسية Natcore Technology وشركة Cerion للطاقة، التي أساسها موظفون عملوا سابقاً في كوداك وطوّروا منتجاً يُضاف إلى الوقود ويقلل من استهلاكه، حسبما يقولون.

نظراً إلى هذه التطورات، من المبالغ فيه القول إن روتشيستر قلقة بشأن مستقبلها. تضم هذه المدينة جامعة محترمة، فضلاً عن معهد روتشيستر للتكنولوجيا، الذي يُعتبر غالباً بأهمية نظيره معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج بماساتشوستس. كذلك يبدو مستقبل هذه المدينة واعداً، فهي تؤمن الوظائف لنصف مليون شخص، وهذا أكثر بنحو الخمس مقارنة بالمرحلة التي كانت خلالها كوداك في ذروة عطائها. كذلك، تُعتبر البطالة فيها أدنى من المعدل الوطني.

العصر الذهبي

كانت قصص النجاح التي تسجلت في القرن العشرين عابرة وأقل أهمية من تلك التي ارتبطت باسم كوداك. في نهاية المطاف، أثبتت هذه الشركة أنها منظمة «مجنونة» وكانت ثقافتها في أيام المجد تبدو شبه اشتراكية. يتذكر روبرت شاينبروك كيف كانت كوداك شركة «شاملة» بمعنى الكلمة: كانت تدفع معاشات التقاعد لموظفيها السابقين وتوفر علاجاً طبياً مجانياً، حتى إنها كانت تساعد في تنظيم نشاطات ترفيهية لموظفيها.

مرّت عربة «دودج» الصغيرة أمام المبنى رقم 28 على طريق «ويست ريدج». داخل مبنى القرميد الضخم الذي يفتقر إلى النوافذ، نجد نوادي رياضية وملاعب حيث كان الموظفون يلعبون كرة السلة والكرة الطائرة. في العصر الذهبي، كان المبنى يضم أيضاً قاعات خاصة بجامعي الطوابع وأخرى لتأجير الكاميرات مجاناً، وقد خُصصت 50 غرفة لتظهير الصور كي يستعملها العاملون لأغراضهم الخاصة. خلال فترة استراحة الغداء، كانت تُعرض مقتطفات من أفلام هوليوود لمدة 20 دقيقة في صالة تسع ألفي شخص تقريباً. على مدار الأسبوع، يمكن أن يشاهد الموظفون الفيلم كاملاً.

كانت المدينة تضم عيادة أسنان مجانية يموّلها مؤسس كوداك جورج إيستمان. اليوم لم تعد موجودة، لكن لا يزال مسرح إيستمان ومدرسة إيستمان للموسيقى هناك وهما بحالة جيدة، وينطبق الأمر نفسه على منزل إيستمان السابق في الجادة الشرقية الراقية، موطن أجمل المنازل الفخمة في المدينة وأغربها.

في غرفة المعيشة، ثمة رأس فيل بالحجم الحقيقي كان قد ***ه إيستمان من أفريقيا بعد فوزه به. كذلك يضم المنزل أحد أهم متاحف الصور والأفلام في العالم، بما في ذلك مجموعة خاصة ومميزة من أفلام مارتن سكورسيزي ونورمان جويسون وسبايك لي. تُخزَّن هناك أيضاً أكثر من أربعة آلاف كاميرا تاريخية، بالإضافة إلى صور فوتوغرافية لا تُقدّر بثمن من الحرب الأهلية الأميركية، ومطبوعات أعدها ألفرد ستيغليتز وأوجين أتجيت شخصياً، وصور تربط بين القرنين التاسع عشر والواحد والعشرين وتحمل قيمة كبيرة لأنها نادرة جداً.

أما أهم وثيقة مثيرة للاهتمام فهي رسالة الوداع التي كتبها إيستمان في عام 1932 حين كان مسناً ومريضاً قبل أن يطلق النار في قلبه بمسدس من طراز «لوغر». تقتصر الرسالة المعروضة في صندوق زجاجي على ثلاثة سطور ويمكن أن تشكل مواساة لشركة كوداك التي تواجه وضعاً مزرياً اليوم: «إلى أصدقائي. انتهى عملي. ما نفع الانتظار؟».

عودة إلى الوراء

ما الذي تنتظره كوداك إذاً؟ إذا أرادت الصمود، ستحتاج إلى معجزة حتماً! كجزءٍ من إجراءات الإفلاس، حصلت الشركة على قروض إضافية بقيمة 950 مليون دولار من مجموعة «سيتي غروب» (Citigroup) في محاولةٍ لتنظيم وضعها المالي خلال الأشهر الثمانية عشر المقبلة. تأمل الإدارة في أن تستعيد كوداك نجاحها في مجال الطباعة، لكن لا يبدو هذا الطموح مقنعاً لأن عملها كان يتمحور دوماً حول الصور. بغض النظر عن روعة تلك الصور، يبدو أن جميع القصص تصل إلى نهايتها في أحد الأيام. ربما ينطبق الأمر نفسه على الشركات أيضاً في بعض الحالات.

انتهت مسيرة كوداك في مجال التصوير وبدأت قصة جديدة تتبلور عبر مليارات اللقطات الرقمية التي تتدفق على شبكة الإنترنت. فعلاً، يميل جميع الأمور إلى الانتهاء في هذه الأيام، فعلى رغم وفرة اللقطات، يتراجع عدد الصور المطبوعة منها. بطريقةٍ ما، بدأ العالم يتخذ مساراً غير مألوف ويعود بالزمن إلى بدايات عصر التصوير الفوتوغرافي.

يملك الأشخاص في التسعين من عمرهم اليوم عدداً ضئيلاً من الصور الفوتوغرافية الخاصة بطفولتهم. بفضل ابتكار «كوداكولور» (Kodacolor)، يملك الأشخاص في الستين من عمرهم اليوم أرشيف صور أكبر. أما الأشخاص في الأربعين من عمرهم، فيحظون بسجل فوتوغرافي يشمل على الأقل اللحظات الأساسية في حياتهم بعد أن صوّرها أهاليهم عبر شرائح «إيكتاكروم» (Ektachrome). لكن يحصل الأطفال المولودون في القرن الواحد والعشرين على أعداد هائلة من الصور لدرجة تمكّنهم من تسجيل جميع مراحل حياتهم عبر لقطات متلاحقة تنفع لإعداد كتاب يجسد سيرتهم الذاتية (لو طُبعت الصور أصلاً!).

ما يثير الغرابة هو أن تلك اللحظات قد تصبح عابرة أيضاً على رغم تدفق الصور الرقمية. في هذا الصدد، يقول شاينبروك: «أنصح الناس دوماً بضرورة طباعة الصور وإلا سيفقدون جميع صورهم بعد عشر سنوات». قد يكون شاينبروك محقاً. يسهل فقدان اللقطات التي تُرسَل عبر البريد الإلكتروني، وتكون الملفات الإلكترونية التي تضم الصور الرقمية مهددة دوماً عند الانتقال من حاسوب إلى آخر أو بسبب التقدم التكنولوجي الذي يحصل بوتيرة متسارعة لم نشهدها سابقاً.

قد لا يحتاج الناس مستقبلاً إلى صور مطبوعة تتميز بجودة عالية، وربما سيكتفون بتسجيل عالمهم ولحظات حياتهم عبر لقطات عفوية.

إذا أصبح الوضع كذلك، قد يتحول القرن العشرون إلى أفضل حقبة موثّقة على الإطلاق لأن أحداثه مخزّنة في ألبومات لا تُعدّ ولا تُحصى أو في الشرائح أو حتى في شرائط الأفلام والبطاقات البريدية والملصقات المطبوعة. باختصار، سيكون ذلك القرن مصوّراً وخالداً!

لا شك في أننا ندين بهذا الإنجاز لشركة كوداك!
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مصير, التصوير, العشرين, النابض, القرن, شركة, عالم, قلة, كوداك


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع مصير شركة كوداك قلب عالم التصوير النابض في القرن العشرين
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
إبادة الكتب في القرن العشرين عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 10-20-2018 08:07 AM
أدباء القرن العشرين .. أدب الرحلات Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 10-26-2017 11:51 AM
شتاينماير: مع تنصيب ترامب عالم القرن العشرين انتهى إلى الأبد Eng.Jordan أخبار عربية وعالمية 0 01-22-2017 01:26 PM
الرافعي والعقاد أعنف المعارك الأدبية في القرن العشرين Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 02-06-2014 02:23 PM
علـم النفــس في القرن العشرين Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 3 12-26-2013 12:26 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 12:17 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59