#1  
قديم 11-11-2012, 01:59 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي جنايات أرسطو في حق العقل و العلم







جنايات أرسطو في حق العقل و العلم
- مظاهرها ،آثارها ، أسبابها-
- قراءة نقدية لكشف جرائم أرسطو في حق العقل و العلم -






الأستاذ الدكتور
خالد كبير علال
دار المحتسب
-الطبعة الأولى- الجزائر-
1432/2011









لتحميل الكتاب اضغط على الرابط التالي
- جنابات أرسطو في حق العقل والعلم: مظاهره، آثارها، أسبابها - د. خالد كبير علال

حجم الملف 17 تقريباً ميغا


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على النبي الكريم محمد بن عبد الله ،و على آله و صحبه ، و من سار على دربه إلى يوم الدين ، و بعد: أفردتُ كتابي هذا لنقد فكر الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس ( ت 322 ق م )) ، قصد الكشف عن جرائمه التي ارتكبها في حق العقل و العلم ، و غابت عن كثير من أهل العلم قديما و حديثا . و قد عنونته ب : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم – مظاهرها ، آثارها ، أسبابها - . و قد سميتُها جنايات لأنها ليست أخطاء عادية ، و إنما هي أخطاء غير عادية ،كثيرة و خطيرة و فادحة ، نتيجة انحراف أرسطو عن منطق البحث الاستدلال العلميين ، بقصد و بغير قصد .

و قد اخترتُ الكتابة في نقد الفكر الأرسطي بالطريقة التي اتبعتها في كتابي هذا ، لأنها أصبحت أمرا ضروريا لابد منه لأمرين أساسيين: الأول هو أنه على الرغم ما أظهرته العلوم المعاصرة و بعض الدراسات النقدية الحديثة الجادة من كثرة أخطاء أرسطو و انحرافاته المنهجية ، و خطورته على العقل و العلم ، فإن التيار الأرسطي المعاصر نهض من جديد على مستويين بارزين : الأول السعي لإعادة الاعتبار للفكر الأرسطي بحق و بغير حق ، و بطريقة غلب عليها التحريف و الغلو ،و التدليس و التغليط من جهة . و إغفال و طمس و تبرير الجوانب السلبية من فكر أرسطو من جهة أخرى . و من مُمثلي هذا التيار: الباحث مُصطفى النشار في كتبه التي أصدرها حول فكر أرسطو و الفلسفة اليونانية ، منها: نظرية العلم الأرسطية ،و نظرية المعرفة عند أرسطو .

و المستوى الثاني هو تبني الرشدية الحديثة للفكر الأرسطي ، لأنه هو الأرضية التي يقوم عليها الفكر الفلسفي عند ابن رشد الحفيد .و بما أنه لا فكر رشدي دون فكر أرسطي ، وجدت الرشدية الحديثة نفسها مُضطرة لتبني الفكر الأرسطي و الدفاع عنه بحق و بغير حق . و من ممثلي هذا الاتجاه محمد عابد الجابري و مدرسته ، و قد أظهر ذلك صراحة في كتابيه : تكوين الفكر العربي ، و بُنية الفكر العربي .

و أما الأمر الثاني فمفاده أنه بما أن ما قام به هؤلاء فيه إفساد كبير للعقل و العلم ،و فيه تحريف لكثير من حقائق التاريخ ،و فيه غلو في تعظيم أرسطو و التعصب له بالباطل ، و فيه إحياء لأفكار دهرية شركية صابئية تفسد الفكر و السلوك ،و فيه إخفاء كبير لسلبيات و أخطاء و انحرافات فكر أرسطو ؛ فقد أصبح من الضروري التصدي لهم و للفكر الأرسطي بهدم أُسس فكر أرسطو ، هدما علميا يقوم على الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . و بهذا يُشل هذا التيار من أساسه بانتقادنا للفكر الأرسطي من جهة ،و يأخذ فكر أرسطو مكانه الذي يستحقه بلا إفراط و لا تفريط من جهة أخرى .

و أما لماذا كتبتُ في هذا الموضوع الفلسفي ،و أنا مُتخصص في التاريخ الإسلامي ؟ . فالجواب واضح ، هو أن تخصصي الدقيق ليس في التاريخ الإسلامي عامة،و إنما هو في التاريخ الفكري للفرق الإسلامية ، و الفكر الفلسفي عند المسلمين جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ من جهة ،و هو امتداد للفكر الفلسفي اليوناني من جهة أخرى . و لا يمكن نقد الفكر الفلسفي عند الفلاسفة المسلمين نقدا صحيحا و كاملا إلا بدراسة الفكر اليوناني عامة و الأرسطي خاصة .

هذا فضلا على أن من حق أي باحث أن يكتب في أي موضوع إذا كان مُطلعا عليه ،و مُتمكنا منه ،و لا يُشترط فيه أن يكون مُتحصلا على شهادة علمية تشهد له بتخصصه في الموضوع الذي كتب فيه. فليست الشهادة هي التي تُكسب العلم و الكفاءة ،و إنما العمل و الاجتهاد هما اللذان يُكسبان العلم و الكفاءة العلمية . فكم من إنسان له شهادة في تخصص ما ، لكنه عاجز أن يكتب فيه مقالا نقديا واحدا !! . و لا يحق لأي إنسان أن يحتكر علما لمجرد أن له شهادة فيه ، فمن حق غيره أن يكتب فيه ما دام قادراً على الكتابة فيه . و من يُصر على الإنكار عليَّ ، فأنا لن أتراجع عن موقفي ،و بيّني و بينه الدليل ، لا الشهادات و لا التخصصات ، و لا الأشخاص و لا الألقاب.

و أما فيما يخص منهجي في نقدي لأرسطو و فكره ، فسأكون صارما بالحق و لا أتعاطف معه ،و لا أبحث له عن الأعذار و المُبررات ،و لا أُدَلِلَه كما دلّلَه المدلول . لكني من جهة أخرى لا أكذب عليه ،و لا أُحرّف كلامه ،و لا أُحمّله ما لا يحتمل . فهذا حقه عليَّ الذي تفرضه الموضوعية و الأمانة العلمية .

و سأعتمد في نقدي لأرسطو و فكره على ثلاثة أصول صحيحة ، منها أنطلق و إليها أَحتَكِمُ ، هي : الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح .

و أما بالنسبة للمصادر التي اعتمدتُ عليها في كتابي هذا فقد حرصتُ على الاعتماد على كتب أرسطو أولا ، فإذا تعذر عليّ الرجوع إليها اعتمدتُ على الكتب المتخصصة في الفلسفة اليونانية عامة ،و الأرسطية خاصة . ثم بعدها اعتمدتُ على المصنفات الفلسفية و التاريخية العامة التي تُفيد في موضوع كتابي هذا ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . كما رجعتُ إلى كتب أخرى متنوعة استفدتُ منها في ردودي و انتقاداتي لمختلف قضايا الفكر الأرسطي في الإلهيات و الطبيعيات و الإنسانيات . و هذه المصنفات موجودة في قائمة المصادر و المراجع ، في آخر الكتاب ، لم أر كبير فائدة في أعادة ذكرها هنا ، فمن أرادها فهي في قائمة المصادر و المراجع .

و أُشير هنا إلى أن بحثي هذا لم أُقمه على اصطياد و انتقاء مجموعة مُتفرقة من أخطاء أرسطو ، ثم نفختها و جعدتها ، و إنما هو عمل علمي شامل لأعمال أرسطو أقمتُه على قاعدة عريضة و أساسية من أخطاء أرسطو و انحرافاته المنهجية في كل مجالات العلوم التي كتب فيها . و هي قاعدة تضمنت مئات الأخطاء و الانحرافات و الجنايات ، ذكرتها – مع كثرتها- كعينات فقط من باب التمثيل لا الحصر ،و ضربتُ صفحا عن أخطاء أخرى كثيرة جدا . و أنا في عملي هذا لا أدعي الكمال ، فهو عمل بشري عرضة لمختلف الأخطاء و النقائص ، كغيره من أعمال الإنسان الأخرى . لكنني اجتهدتُ قدر المستطاع لبلوغ الهدف المنشود ،و يبقى المجال مفتوحا للاعتراضات و الانتقادات و الزيادات .

و أخيرا أسأل الله سبحانه و تعالى التوفيق و السداد ،و الإخلاص في القول و العمل ، و هو الموفق لما يُحبه و يرضاه ، و على الله قصد السبيل .
أ ، د : خالد كبير علال
1432 ه/ 2011م – الجزائر-


















الفصل الأول
مظاهر جناية أرسطو على العقل و العلم في الإلهيات

أولا: الله تعالى في فلسفة أرسطو
ثانيا: نشأة الكون و مكوناته في فلسفة أرسطو
ثالثا: حركة الكون في فلسفة أرسطو
رابعا : الغائية و الوظيفية في الكون عند أرسطو
خامسا: مصادر إلهيات أرسطو














مظاهر جناية أرسطو على العقل و العلم في الإلهيات

اتخذ الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس (ت 322 ق م ) مواقف فلسفية كثيرة تتعلق بالجانب الإلهي من هذا العالم ، كوّن بها نسقا فكريا ، و شرحها- من خلاله- ،و أقام عليه فكره المتعلق بالعلوم الطبيعية و الإنسانية. فما هي أساسيات إلهياته ؟ ، و ما هي مظاهر جناياتها على العقل و العلم .
أولا : الله تعالى في فلسفة أرسطو :
أطلق أرسطو على الله سبحانه و تعالى اسم : المحرك الذي لا يتحرك ، و هو عنده جوهر أزلي مفارق للمادة ، غير متحرك بالضرورة . و هو المبدأ الذي يتوقف عليه الكون ، و العقل الأول و المحرك الأول . و لا بد أن يكون بطبيعته لا يتحرك ،و القول به أمر ضروري ، لأن تسلسل المحركات إلى ما لا نهاية هو محال ، فلابد إذن من أن تنقطع السلسلة عند محرك أول لا يتحرك . و هو أسمى الموجودات ، و لا يُوجد عنده معقول أسمى من ذاته ، فهو عاقل و معقول[1] .

و قال فيه أيضا : (( فإن كان الإله كحالنا في وقت ما فذلك عجب ، و إن كان أكثر ، فأكثر عجبا فله كذلك . و هو حياة ، لأن فعل العقل الحياة ،و ذلك هو الفعل. و العقل الذي بذاته ، و له حياة فاضلة و مؤبدة . فنقول إن الإله حي أزلي في غاية الفضيلة ، فإذا هو حياة ، و هو متصل أزلي ، و هذا هو الإله ))[2] .

و قال أيضا : (( كل متحرك فواجب ضرورة أن يكون يتحرك عن شيء ما ... و لما كان المتحرك يتحرك عن شيء فواجب ضرورة أن يكون كل متحرك أيضا في مكان ، فإنما يتحرك عن غيره . و المحرك أيضا عن شيء آخر ... إلا أن ذلك ليس يمر بلا نهاية ، بل لابد من أن يقف عند شيء ما ، هو أولا سبب الحركة ))[3] .

و وصف الله تعالى بأنه هو مبدأ الموجودات و أولها ، و غير متحرك بالذات و لا بالعرض ، و هو محرك الحركة الأولى الأزلية[4] . وذكر أن المعقول عند الناس ليس هو العاقل ، لكن العقول التي ليست من الهيولى- و هي الإلهية- فإنه يلزم أن (( يكون المعقول منها، و العقل ،و فعل العقل شيئا واحدا بعينه))[5] .

و من ذلك أيضا أنه قال : المحرك الذي لا يتحرك متصف بالكمال لكنه خالٍ من القوة و ما تنطوي عليه من قابلية التحرك أو الصيرورة ، فهو المحرك الذي لا يتحرك، لأنه لو كان ينطوي على أي قدر من القوة لامكن انقطاع الحركة ،و هو محال ، فأوجب وجود محرك لا يتحرك ، حرّك المتحرك الأزلي الذي هو السماء الأولى- الفلك المحيط [6] .

و إله أرسطو لا يفعل شيئا أبدا ، و ليست له رغبات ، و لا إرادة و لا هدف ،و هو (( حيوية خالصة ، لدرجة أنه لا يعمل أبدا ،و هو كامل كمالا مُطلقا ؛ لذلك ليس بمقدوره أن يرغب بأي شيء ؛ فهو لا يفعل شيئا ، و عمله الوحيد هو التفكر في جوهر الأشياء ... فإن وظيفته الوحيدة هي التفكر في ذاته ))[7] .

و زعم أرسطو أنه يستحيل على ذلك الإله أن يُدرك غير ذاته ، لأن القول بخلاف ذلك يعني أن الإدراك مرتبط بشيء آخر غير الذات الإلهية ، يتوقف عليه ذلك الإدراك. كما أن إدراكه للعالم المتغير يُؤدي إلى تغير في المدرك له ، و هو الإله . و كما أن ذلك الإدراك يعني وجود شيء أشرف من جعل الإدراك هو موضوعه-أي ذاته – و لا يجعل الإله أفضل الموجودات ،و لم يكن وجوده أفضل الوجود ، و إنما هو قوة قابلة للإدراك . و بما أن الإله عند أرسطو فعل محض وجب أن (( ثمة أشياء لا يُعقل أن يُدركها العقل الإلهي )) ، و عليه فإن (( العقل الإلهي يُدرك ذاته لأنها أفضل الموجودات ، فهي إذاً إدراك بلا إدراك ، أو عقل للعقل ))[8] .
و إله أرسطو ليس هو صانع العالم ،و لا يعلم عنه شيئا، و لا يُعنى به ، فهو عله غائية للعالم ، لأنه معشوق له و ليس علة فاعلة له . فهو يفعل ضرورة لا اختياراً ، و يتأمل ذاته أزليا ، فهو إذن العقل و العاقل و المعقول[9] .

و يرى أرسطو أن الإله بما أنه عقل فهو إما أن يكون (( عاقلا لذاته أو لشيء آخر ... و إن كان عاقلا لشيء آخر فما يخلو أن يكون عقله دائما لشيء واحد ، أو لأشياء كثيرة . فمعقوله على هذا منفصل عنه ، فيكون كماله إذن لا في أن يعقل ذاته لكن في عقل شيء آخر . إلا أنه من المحال أن يكون كماله بعقل غيره ، إذ كان جوهرا في الغاية من الإلهية و الكرامة و العقل. و لا يتغير فالتغيرّ فيه انتقال إلى الأنقص،و هذا هو حركة ما ، فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل لكن بالقوة ... و إذا كان هكذا – أي الوجود بالقوة- فلا محالة يلزمه الكلال و التعب من اتصال العقل بالمعقولات . و من بعد فإنه يصير فاضلا بغيره كالعقل من المعقولات ، فيكون ذلك العقل في نفسه ناقصا و يُكمل بمعقولاته . و إذا كان هذا هكذا فيجب أن نهرب من هذا الاعتقاد بها . مالا يُبصر بعض الأشياء أفضل من أن يُبصر))[10] .

و أُشير هنا إلى موقف ابن رشد مما قاله أرسطو و دفاعه عنه في قوله السابق ، فأنكر أن يكون أرسطو جعل الإله جاهلا بغيره ، و لا أنه يعلم الكليات دون الجزئيات ؛ ثم قال : (( و الحق أنه من قِبل أنه يعلم ذاته فقط يعلم الموجودات بالوجود الذي هو علة في وجوداتها . مثال ذلك من يعلم حرارة النار فقط فإنه لا يُقال فيه : إنه ليس له بطبيعة الحرارة الموجودة في الأشياء الحارة علم ؛ بل هذا هو الذي يعلم طبيعة الحرارة بما هي حرارة . و كذلك هو الأول سبحانه هو الذي يعلم طبيعة الموجود بما هو موجود بإطلاق الذي هو ذاته . فكذلك كان اسم العلم مقولا على علمه سبحانه ، و علمنا باشتراك الاسم . و ذلك أن علمه هو سبب الموجود ، و الموجود سبب لعلمنا ، فعلمه سبحانه لا يتصف بالكلي ،و لا بالجزئي ، لأن الذي علمه كلي فهو عالم للجزئيات التي هي بالفعل بالقوة ، فمعلومة ضرورة هو علم بالقوة ، إذ كان الكلي إنما هو علم الأمور الجزئية ، و إذا كان الكلي هو علم بالقوة و لا قوة في علمه سبحانه ، فعلمه ليس بكلي ، و أبين من ذلك ألاّ يكون علمه جزئيا ، لأن الجزئيات لا نهاية لها ،و لا يحصرها علم ، فهو سبحانه لا يتصف بالعلم الذي فينا ،و لا بالجهل الذي هو مقابله ، كما لا يتصف بهما ما شأنه ألاّ يُوجد فيه واحد منهما . فقد تبين إذاً وجود موجود عالم لا يتصف بالعلم الذي فينا ،و لا بالجهل الذي فينا ،و لا يُغاير وجوده علمه ))[11] .

و أقول : إن معظم ما قاله أرسطو عن الإله غير صحيح ،و قد وقع في أخطاء فادحة ، منها ما يُضحك ، و منها ما تُثير الاستغراب و التعجب ، و منها ما يشهد قطعا على أن أرسطو لم يكن على منهج صحيح في تناوله لموضوع الألوهية . و الدليل على ذلك الشواهد الآتية:
أولا : إنه لا يصح القول بأن الإله لا ينطوي على أي قدر من القوة ، لأنه لا يُمكن أن يكون الإله كذلك ، بدليل الأمرين الآتيين : الأول هو أن من صفات الإله الأزلية الضرورية أنه قوي ، و إلا ما كان ربا و لا خالقا . و هذا أمر بديهي فأرسطو إما جاهل ، أو مُتبع لهواه. و الثاني هو أن الكائن الحي مهما كان نوعه و صفاته فلابد من أن ينطوي على قوة ، و إلا ما كان حيا .
و ثانيا : لا يصح وصف الله تعالى بأنه المحرك الذي لا يتحرك ،و أن القول بذلك ضروري ، لأمرين أساسيين : الأول هو أن الله سبحانه هو الخالق لهذا العالم و ليس هو المحرك له . و الأدلة العقلية و الشرعية و العلمية شاهدة على أن الكون مخلوق و ليس أزليا ،و لا هو مُتحركا فقط[12] . و هذا يستلزم أن نصف الله تعالى بالخالق ، و لا نصفه بالمحرك الذي لا يتحرك .
و الأمر الثاني هو أن صفة الحركة ليست عيبا و لا نقصا، ،و هي من صفات الكائن الحي. فإذا وصفنا الله تعالى بها ، فهي صفة كمال في حقه ،و تليق به سبحانه . و لا يصح النظر إلى هذه الحركة نظرتنا إلى الحركة التي يتصف بها المخلوق ،و هذا هو الخطأ الذي وقع فيه أرسطو ، فنفاها بدعوى أنها نقص و تفيد التغير ، لكنه نسي أو تناسى بأنه وصف الإله بعكس تلك الصفا عندما نفاها عنه ، و هي أنه وصفه بصفة السكون ، فيكون قد شبهه بالجمادات ،و هي صفة نقص لا صفة كمال بالنسبة للمخلوق .
علما بأن كلا من صفتي الحركة و السكون لهما وجهان : نقص ،و كمال ؛ فالمخلوق المتحرك اتصافه بالحركة هي صفة كمال بالمقارنة إلى الكائن غير المتحرك . لكنها مع ذلك قد تكون صفة نقص عندما تكون دليلا على الحاجة ، فيتحرك هذا الكائن ليقضي حاجته ، لأنه لا يستطيع قضاءها دون أن يتحرك . و نفس الأمر ينطبق على المخلوق الجامد ، فهو يستطيع أن يقضي حاجاته جامدا كالأشجار التي تأخذ حاجياتها من الغذاء دون أن تنتقل إلى مكان آخر ؛ لكن بعضها لا يستطيع توفير حبوب التلقيح بنفسها ، لأن الأمر يتطلب تنقلها ،و بما أن هذا غير ممكن في حقها ، فهي في حاجة إلى غيرها ليوفر لها ذلك . فتتدخل مخلوقات أخرى توفر لها ذلك ، من إنسان ،أو طيور ،أو حشرات ،أو رياح .

لكن كل ذلك لا ينطبق على الله تعالى لأن صفاته كلها كمال لا نقص فيها ،و هي صفات أزلية تابعة لذات الله الفعال لما يريد . و منها صفتا الحركة و السكون ، فاتصاف الله تعالى بهما لا نقص فيه أبدا ، و قد دلت النصوص الشرعية على اتصاف الله تعالى بهما في نصوص كثيرة ، على أساس أنه سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } سورة الشورى:11-، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } سورة الإخلاص:1-4- ، و {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } سورة طه:5- ، و {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }سورة الفجر:22 - ، و { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }سورة الأعراف:143- ، و في الحديث الصحيحعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له ))[13] . و بما أن المخلوق الذي يتصف بصفتي الحركة و السكون أكمل ممن يتصف بأحدهما ،و بما أن الله تعالى هو الخالق العظيم المتصف بصفات الكمال و المخالف للمخلوقات ، فإن اتصافه بالحركة و السكون ليس نقصا و لا عيبا و لا عجزا ،و إنما هما صفتا كمال في حقه سبحانه .

و بناءً على ذلك فإنه لا يصح ما زعمه أرسطو من أنه من الضروري أن يكون الإله أزليا غير متحرك . لأن الصواب هو أن يُقال : إنه من الضروري أن يكون الإله أزليا متصفا بكل صفات الكمال التي لا نقص فيها أبدا . و بما أن صفة الحركة ليست نقصا في حقه سبحانه فمن الضروري أيضا أن يكون اتصاف الله تعالى بها هو من كمال ذاته و صفاته .
و أُشير هنا إلى أن من غرائب أرسطو و سفسطاته أنه أكثر التأكيد على أن الإله مُحرك لا يتحرك ، حتى أنه يجعل القارئ يعتقد أن أرسطو يقول بأن هذا الإله هو الذي تولى عملية التحريك عن إرادة و قصد . لكن الحقيقة خلاف ذلك تماما و هي أن إله أرسطو ليس هو المحرك الفعلي و الحقيقي للعالم . و قد سبق أن ذكرنا أقواله في ذلك التي نصت على أنه نفى من أن يكون للإله فعل ، أو علم بغيره ، أو أنه حرّك العالم عن إرادة و قصد ، و صرّح أيضا بأن إلهه كان معشوقا للعالم من دون أي قصد منه و لا فعل . و هذا يعني أنه لا يصح أن يُوصف الإله بأنه المحرك الفعلي و الحقيقي ، لأنه وَصْف فيه تغليط و تدليس و سفسطة . مع أن الحقيقة هي أن الكون-حسب زعم أرسطو- هو الذي تحرك من داخله فكان عاشقا لمعشوقه . و سنزيد هذا الموضوع تفصيلا في المبحث الثالث من هذا الفصل بحول الله تعالى .

و ثالثا إن قول أرسطو:(( كل متحرك فواجب ضرورة أن يكون يتحرك عن شيء ما )) هو حكم عام لا يصدق على كل كائن ، و إنما يصدق على المخلوقات و لا يصدق أبدا على الخالق . و عليه فإنه لا يصح أن يُقال: إن كل كائن لا بد له من بداية ، أو لابد أن يكون حادثا . فهذا لا يصح لأن الكائن قد يكون مخلوقا حادثا ،و قد يكون خالقا أزليا . و نفس الأمر ينطبق على المتحرك ، فقد يكون خالقا أزليا ،و قد يكون مخلوقا حادثا . و عليه فلا يصح قول أرسطو ، و يصح أن نقول : كل متحرك مخلوق فهو حادث بالضرورة ،و كل متحرك خالق فهو أزلي بالضرورة .
و بناء على ذلك فإن قول أرسطو بأن كل متحرك واجب ضرورة أن يتحرك عن شيء قبله ، و هكذا إلى أن يجب أن نتوقف عند محرك لا يتحرك . فهو توقف ذاتي يقوم على الرغبة أكثر مما هو توقف علمي موضوعي صحيح ، لأنه يُمكن أن يُقال : لماذا لا يكون ذلك التأثير المتبادل بين المحرك و المتحرك تأثيرا أزليا دائما أبديا ، على طريقة أرسطو نفسه عندما قال بأزلية العالم و الحركة ، و كونها حركة دائرية[14] ؟ . و بما أن الكون ليس أزليا شرعا و عقلا و علما[15] ، فإن رأي أرسطو لا يصح ،و فرضنا الذي ذكرناه اعتراضا على أرسطو لا يصح هو أيضا . فطريقة أرسطو في طرحه لذلك الموضوع غير صحيحة و يجب تركها و التخلي عنها ،و طرح الموضوع بطريقة أخرى صحيحة توافق الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح ، مفادها : يجب ترك طريقة المحرك الذي لا يتحرك ،و علاقته بالكون الذي حرّكه ،و إحلال محلها مقولة : إن الكون مخلوق ، و لا بد له من خالق خلقه . و عليه فلا المخلوق خالق ،و لا الخالق مخلوق ،و بذلك يتوقف التعليل ،و هو توقف منطقي بديهي ،و لا يصح الاستمرار فيه ، لأنه لا يصح طرح تساؤل : من خلق الخالق ، لأن الخالق ليس مخلوقا ، و لو كان مخلوقا ما كان خالقا ، و بما أنه خالق فهو ليس مخلوقا . فهو الأول و الآخر ، و المتقدم و المتأخر ،و الأزلي و السرمدي الذي ليس قبله شيء ،و لا بعده شيء .

و رابعا إن زعمه بأن الإله خالٍ من القوة مع اتصافه بالكمال، فهو زعم باطل مردود على أرسطو . لأنه من الثابت عقلا أنه لا حي دون قوة ، و لا إله دون قوة . و بما أن الله تعالى هو الحي القيوم ،و إله هذا الكون و خالقه فإنه بالضرورة قوي متين ، لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السماء ، فهو سبحانه كما وصف نفسه : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ }سورة هود:66- ، و { الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }سورة الحشر:23 - .
و الحقيقة إن زعم أرسطو بأن الإله خالٍ من القوة ، هو من أغرب أخطائه و أفحشها ،و لا يصح الوقوع فيه أبدأ ، بل هو من أغرب أباطيله و خرافاته و سفسطاته !! . و هو قد تحجج بقوله : لو كان الإله ينطوي على أي قدر من القوة لأمكن انقطاع الحركة[16] . لكنه مبرر لا يصح ، و لا يصدق على الله تعالى ، لأن صفاته تعالى - منها القوة – هي صفات أزلية ،و هو سبحانه فعال لما يريد . و هذا يستلزم عدم انقطاع أو توقف أية صفة من صفاته ، فهو سبحانه الأزلي بذاته و صفاته الفعال لما يريد ،و يخلق ما يشاء و يختار .

و خامسا إن زعم أرسطو بأن الإله لا يعقل- بمعنى يعلم- غيره ،و إنما يعقل ذاته فقط ، بدعوى أن هذا هو الكمال ،و عقله لغيره نقص و لا يصح في حقه . فهو زعم باطل ، و قول مُضحك و مردود على صاحبه . لأن الكمال الكامل الذي يتصف به الله تعالى يستلزم أن يكون كاملا في علمه أيضا ، و هو أنه يعلم ذاته و غيره علما كاملا شاملا لا نقص فيه . لأن الذي يعقل و يعلم ذاته فقط ناقص ،والذي يعقل و يعلم غيره فقط ناقص هو أيضا ،و هذان الأمران لا يصحان في حق الله تعالى ، فهو سبحانه يجمع بين الأمرين ، يعقل و يعلم ذاته و غيره بصفة كمال لا نقص فيها أبدا .
علماً بأن أرسطو قد طرح موضوع علم الله بطريقة ناقصة ، فحصره في احتمالين فقط : إما أن يعقل ذاته ، و إما أن يعقل غيره . و هذا طرح ناقص تضمن احتمالين غير صحيحين ، و غاب عنه الاحتمال الثالث ،و مفاده : أو أنه يعقل ذاته و غيره . و هذا هو الصحيح الموافق للعقل الصريح ،و الوحي الصحيح . فكمال العلم الإلهي يستلزم انه سبحانه يعلم ذاته و غيره علما كاملا شاملا لا نقص فيه .

و أما المبررات التي تحجج بها أرسطو ، فهي لا تصمد أمام المناقشة البديهية الموضوعية . أولها إنه ذكر أن القول بخلاف رأيه يعني أن الإدراك الإلهي مرتبط بشيء آخر غير الذات الإلهية ، يتوقف عليه ذلك الإدراك[17] . و هذا تبرير لا يصح ، لأن إدراك الله تعالى شامل كامل لا نقص فيه ،و الله تعالى غني بذاته غِنى مطلقا ، و ليس مرتبطا بأحد ، و لا تابعا له في ذاته و لا صفاته . و كيف يكون تابعا لغيره ، و كل ما سواه هو من مخلوقاته و مُفتقر إليه ؟؟!! ، و هل يُعقل أن يكون الخالق تابعا لمخلوقاته ؟؟!! . فالصحيح هو أن إدراك الله تعالى ، هو من صفاته الأزلية يدرك به ذاته و غيره إدراكا كاملا لا نقص فيه ،و لا يصح وصفه بما زعمه أرسطو .

و مبرره الثاني مفاده هو أن إدراك العالم المتغير يُؤدي إلى تغير في المدرك له و هو الإله[18] . و هذا اعتراض باطل يدل على أن صاحبه جاهل بالله تعالى ، لأن زعمه هذا يصدق على المخلوق لا على الخالق . فهذا الرجل جعل علم الله كعلم الإنسان يتغير حسب تغير معلوماته ، و توسع معارفه . و قياسه هذا باطل ، لأنه في غير محله . فَعِلم الله تعالى انكشاف تام شامل مُطلق ، لا يحده زمان و لا مكان ،و لا تعوقه حواجز و لا عوالم ،و لا يتصف بالزيادة و لا بالنقصان . و قولنا هذا يُوجبه العقل الصريح ، و قد نص عليه الوحي الصحيح أيضا . فلا يمكن أن يكون إدراك الخالق كإدراك المخلوق ،و لا يمكن أن يكون ناقصا كنقصان إدراك مخلوقاته ،و لا يمكن أن يكون تابعا لها . و أما من الوحي الصحيح فالأدلة على ذلك كثيرة جداً ، منها قوله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ }سورة الرعد:9- ، و {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }سورة التوبة:78- ، و {عالم الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }سورة سبأ:3- ، و {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }سورة طه:7- ، و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }سورة غافر:19 - .

و أما المبرر الثالث -الذي تحجج به- ، فمفاده هو أن أرسطو ذكر أن إدراك الإله لغيره دون ذاته يعني أنه يُوجد شيء أشرف من إدراكه لذاته ،و هذا عند أرسطو غير مقبول ، مما جعله يزعم بأنه توجد أشياء لا يُعقل أن يعقلها الإله[19] . و هذا اعتراض لا يصح ، لأن الصواب ليس كما قال الرجل ، و إنما هو أن الله تعالى لا يعلم ذاته فقط ،و لا يعلم غيره فقط ، و إنما يعلم ذاته و غيره معا ، يعلمها علما شاملا كاملا ،و هذا هو الأشرف والأكمل ، و الأجدر و الأليق . و نسي أرسطو أو تناسى أن قوله بأن الإله يعلم ذاته فقط ، يتضمن وصفا له بالعجز من حيث أراد أن يُنزهه ، فأخطأ في المنهج و النتيجة.

و أما مبرره الرابع-الأخير الذي تحجج به- فمفاده أن أرسطو ذكر أن عقل الإله لغيره يجعل كماله في غيره لا في ذاته . لكن من المحال أن يكون كماله في غيره ، لأنه جوهر غاية في الإلهية و الكرامة و العقل ، و لا يتغير لأن التغير فيه انتقال إلى الأنقص ، و هذا حركة ما ، فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل ،و إنما بالقوة ،و هذا يُؤدي لا محالة إلى أنه يُلزمه الكلال و التعب من اتصاله بالمعقولات ، فيصير فاضلا بغيره ، و يصبح ناقصا في نفسه ،و يكمل بمعقولاته ، لذا يجب أن نهرب من هذا الاعتقاد ،و ما لا يُبصر بعض الأشياء أفضل من أن يُبصر[20] .
و مبرره هذا غير صحيح ،و هو يندرج ضمن مبرراته السابقة ، و فيه تغليط و تدليس و سفسطة . لأن كمال الله تعالى هو كمال ذاتي أزلي مُطلق ليس تابعا لمخلوقاته في أي صفة من صفاته ،و لا يصح حصر علم الله و إدراكه بين أمرين : إما أن يعلم ذاته ، و إما أن يعلم غيره ، و هذا لا يصح ،و قد سبق أن بينا وجه الصواب في ذلك . فهذا الرجل أمره غريب جدا ، لا أدري هل هو لم يكن يدرك ما قلناه ، أو أنه كان يتعمد القول برأيه السابق الظاهر البطلان ؟ ! .

فعلم الإله و إدراكه و عقله لذاته و لغيره كل ذلك هو من مُستلزمات الألوهية على أساس من الشمولية و الكمال المُطلقين . و لا يصح وصف إدراك الله و علمه بمخلوقاته بأنهما تغير و انتقال و نقص ، فهذا اعتراض صبياني ، أو كلام جاهل بالله لا يعي ما يقول . لأن الله تعالى كامل و أزلي بذاته و صفاته ،و فعال لما يريد ، عالم الغيب و الشهادة ، و علمه شامل كامل مُطلق بلا حدود ، لا تحده حدود الأزمان و لا الأكوان و الأماكن . و قد أوصله جهله بالله إلى أنه زعم أن علم الله بغيره يُوصله إلى التعب و الكلال !!! . و هذا قول مُضحك ،و عورة من عورات أرسطو ،و جريمة من جرائمه في موضوع الإلهيات ، فهل يصح في العقل البديهي أن الله الخالق العظيم يصيبه التعب و الكلال ؟؟!! . و قوله هذا سبقه إلى القول به كفار بني إسرائيل عندما زعموا أن الله عندما خلق الكون تعب فارتاح في اليوم السابع ، فسجل ذلك القرآن الكريم ،و رد عليهم و على أمثالهم ، في قوله سبحانه : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }سورة ق:38- ، و {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }ق38- .
و بناء على ذلك يجب علينا أن نهرب من الاحتماليّن اللذين طرحهما أرسطو ، و لا نهرب فقط من الاحتمال الذي حذّرنا منه ،و لا نرضي بما قرره كحل جزافي ، عندما قرر أن ما لا يُبصر بعض الأشياء أفضل من أن يُبصر . فهذا كلام باطل ، إذا صح في حق بعض المخلوقات ، فإنه لا يصح أبدا في حق الله تعالى الخالق العظيم ، الفعال لما يُريد ، المُتصف بصفات العظمة و الجلال و الكبرياء .
و أما تأويل ابن رشد الحفيد لموقف أرسطو و دفاعه عنه ، فهو تأويل تحريفي لقول الرجل و مصادم له . لأن أرسطو نصّ صراحة على أن الإله يعقل ذاته فقط و لا يعقل غيره ،و قد أشرنا إلى مبرراته التي تحجج بها ،و قرر من خلالها أن الإله يعقل ذاته فقط . و عليه لا يصح لابن رشد و لا لغيره أن يُحرّف كلام أرسطو ،و لا يُقوّله ما لم يقله ،و ما لم يُرده . فلا تأويل مع الكلام الواضح المُحكم القطعي الدلالة .

و ابن رشد قد مارس التأويل التحريفي[21] مع كلام أرسطو ، و هو واضح التهافت ، لأنه عندما قال : إن عقل الإله بذاته يتضمن عقله و علمه بغيره . هو قول لا يصح لأمرين : الأول هو أن أرسطو أعلن صراحة أن الإله لا يعقل إلا ذاته ، فنفى أن يكون يعقل غيرها ،و من ثم سقط الاحتمال الذي تعلق به ابن رشد . و الثاني هو أن القول بأن الإله لا يعقل إلا ذاته ، لا يتطلب ،و لا يستلزم أنه يعلم غيره لأن القول قد نفى ذلك من جهة ، كما أنه حتى إذا أبعدنا النفي ، فإن القول واضح في حصر عقل الإله لذاته ،و من ثم فهو لا يستلزم عقله و علمه بغيره من جهة أخرى .
و أما قول ابن رشد بأن علم الله ليس كليا و لا جزئيا ،و لا يصح وصفه بذلك ؛ فهو زعم باطل ، لأن علم الله تعالى علم شامل كامل ،و مع أنه مُخالف لعلم مخلوقاته ، فإنه بالضرورة العقلية و الشرعية ، أنه سبحانه يعلم بكل ما في الكون بكلياته و جزئياته . و هذا يقوله العقل البديهي ،و نص عليه القرآن الكريم مرات عديدة ، منها قوله سبحانه : {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }سورة التوبة:78- ، و {عالم الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }سورة سبأ:3- ، و {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }سورة طه:7- ، و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }سورة غافر:19 - .

و فيما يخص قول ابن رشد من انه لا يصح وصف علم الله بأنه علم بالكلي ،و الكلي هو علم بالقوة ،و لا قوة في علمه . فهذا التعليل ينطبق على المخلوق ، لأن علمه يتكون من العلم بالفعل و العلم بالقوة . و أما الله تعالى فعلمه شامل كامل أزلي لا نقص فيه، و لا يصح وصفه بأنه علم بالقوة ،،و قد أصاب ابن رشد في نفي كون علمه تعالى بالقوة . لكنه مع ذلك فهو سبحانه يعلم بكل ما في العالم بكلياته و جزئياته ،و علمه ليس نقصا و لا عيبا ،و إنما هو كمال ما فوقه كمال . لكن علمه بالكلي لا يتطلب ما حذّر منه ابن رشد ، لأن ما حذّر منه ينطبق على المخلوق لا على الخالق .

و لا يصح من جهة أخرى نفي ابن رشد لصفة علم الله بالجزئي ، بدعوى أن الجزئي لا نهاية له . فهذا كلام باطل مُثير للضحك و الاستغراب ، لا يصح و لا يجوز نسبته إلى الله تعالى ،و إنما هو يصدق على المخلوق لا على الخالق . فالله تعالى عالم بكل شيء علما كاملا شاملا مُطلقا لا تغيب عنه جزئيات و لا كليات ،و كلامنا هذا لا يحتاج إلى دليل ، لأنه من بديهيات العقل الصريح و الوحي الصحيح . و ليس صحيحا أن الجزئيات لا نهاية لها ، فهذا زعم باطل بناه ابن رشد على زعم أرسطو القائل بأزلية الكون ،و استمراية الحركة و التوالد أزلاً و أبداً . و هذا زعم لا يصح ،لأن الكون له بداية و ستكون له نهاية[22] ، و هذا يستلزم أن جزئياته محدودة ،و ليست لا نهائية . و حتى إذا افترضنا جدلا أن الكون أزلي ، فإن الله تعالى يعلم بكل جزئياته و كلياته اللانهائية ، لأنه سبحانه علام الغيوب لا يعزب عنه شيء في الأرض و لا في السماء .
و بناء على ذلك فإنه يتضح منه أن ما فعله ابن رشد هو عملية تأويلية تحريفية للدفاع عن موقف أرسطو في نفيه لعلم الله بغيره ،و لم يكن الهدف منه تفسير كلامه تفسيرا علميا موضوعيا صحيحا . فمارس ذلك التأويل التحريفي محاولة منه لدفع الشناعة التي لحقت بأرسطو عندما نفى عن الله عقله و علمه بغيره . و يُؤيد ذلك أيضا تصرف ابن رشد غير العلمي في كلام أرسطو ، و يتعلق بقول أرسطو: (( فلا محالة أنه يُلزمه الكلال و التعب من اتصال العقل بالمعقولات )) . هذا القول لم يذكره ابن رشد في تفسيره لكتاب أرسطو : ما بعد الطبيعة ، فقد نقل كلامه الذي نصّ فيه على أن الإله لا يعقل إلا ذاته ،و أوّله تأويلا تحريفيا كما سبق أن بيناه ؛ لكنه أسقط قول أرسطو المتعلق بالكلال و التعب ((فلا محالة أنه يُلزمه الكلال و التعب من اتصال العقل بالمعقولات )) . هذه العبارة موجودة في النص الأصلي لكتاب ما بعد الطبيعة في مقالة اللام ،و كانت معروفة لدى أهل العلم في العصر الإسلامي ،و قد أوردها الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه درء تعارض العقل و النقل[23] . فلماذا لم ترد عند ابن رشد عندما نقل نص أرسطو ؟! ، و هل أسقطها عمدا ، أو سقطت منه سهوا ؟ ! . الأرجح عندي هو انه تعمد إسقاطها ، لأنه عندما دافع عن أرسطو في موقفه السابق بالتحريف و التغليط ، وجد تلك العبارة مخالفة للعقل و الشرع ، و كاشفة لخطأ أرسطو ، و جالبة له الشناعة ،و ناسفة لدفاعه التأويلي ، أسقطها من النص الذي نقله من كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو . و هذا عمل ليس من العلم ،و لا من الدين ،و لا من العقل في شيء ، و إنما هو عمل تحريفي تغليطي إجرامي .

و أخيرا- خامسا- إن أرسطو قد أقام فكره حول الإله و صفاته على متناقضات ، تشهد بنفسها على ضعف فكره و تهافته ،و بطلان معظمه . فمن ذلك أن أرسطو يقول بوجود أزلييّن ، هما: الإله و العالم ، الأول مُحرك بلا قصد و لا إرادة من دون أن يتحرك ، و الثاني يتحرك بسبب تأثره بالمحرك الذي لا يتحرك ، كتأثر العاشق بمعشوقه من دون تبادل للعشق . و هذا تناقض واضح ، لا يصح في العقل و لا في المنطق ، لأن المفروض بديهة التسوية بين الأزلييّن و الجمع بينهما في الذات و الصفات ، لأنه لا يُوجد أي مبرر منطقي صحيح للتفريق بينهما . لكن أرسطو فرّق بينهما من دون أي دليل صحيح ، إلا رغبته الشخصية ، و هي ليست دليلا ، و إنما هي رغبة تندرج ضمن المزاعم ،و المزاعم ليست أدلة ،و لا يعجز عنها أحد ، و لا قيمة لها في ميزان البحث العلمي الصحيح ، إذا لم تكن معها أدلتها و براهينها الصحيحة .
و المثال الثاني -من تناقضات أرسطو- يتعلق أيضا بالأزليين : الإله و الكون ، الأول لا قوة فيه ، و الثاني فيه قوة ، و هذا تناقض واضح ، و لا يصح القول به . لأنه بما أنهما كائنان حيان أزليان بينهما علاقة كعلاقة العاشق بمعشوقه ، فإن هذا يستلزم أنهما يتصفان بالقوة و الحركة ،و لا يصح التفريق بينهما دون دليل عقلي صحيح . لكن أرسطو لم يلتزم بذلك و فرض رغبته على هذين الأزليين فجعل أحدهما له قوة ، و الآخر لا قوة له . و هذا فعل لا يصح ، و ما هو إلا زعم مردود على صاحبه ،و ليس من العلم و لا من المنطق الصحيح ،و لا من الموضوعية في شيء .


[1] أرسطو : كتاب الطبيعة ، حققه عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة ، القاهرة ، 1965 ، ج 2 ص: 845 و ما بعدها. و ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 125 ، 131 ، 132 . و ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، 1958 ، ص: 84، 99 . أرسطو : مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة ، مُلحقة بكتاب أرسطو عند العرب لعبد الرحمن بدوي، ط2 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1978 ، ص: 3 ، 4 . و أرسطو : مقالة الجما من كتاب ما بعد الطبيعة ،، ملحقة بكتاب الميتافيزيقا لإمام عبد الفتاح إمام ، ص: 267 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو و المدارس المتأخرة ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، د ت ، ج 2 ص: 192 .

[2] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ط1 ، دار إدريس ن سوريا ، 2007 ، ج 3 ص: 316، 317 .

[3] أرسطو : الطبيعة ، ج 2 ص: 733 ، 735 .

[4] أرسطو : مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة ، مُلحق بكتاب أرسطو عند العرب ، ص: 4 .

[5] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 364 .

[6] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 131 .

[7] ول ديورانت : قصة الفلسفة ، ص: 114

[8] ماجد فخري: أرسطو المعلم الأول ، ص: 100 ، 101 .

[9] علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو و المدارس المتأخرة ، ج 2 ص: 192 ، 201

[10] أرسطو : مقالة اللام من كتاب أرسطو عند العرب ، ص: 9 .

[11] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 367-368 .

[12] سنثبت حدوث الكون و بطلان زعم أرسطو بأزليته ، في المبحث الثاني من هذا الفصل .

[13] البخاري : الصحيح ، حققه محمد زهير بن ناصر الناصر ، دار طوق النجاة1422 هـ ج 2 ص: 53 .


[14] سيأتي توثيق ذلك في المبحثين الآتيين .

[15] سنوثق ذلك في المبحث الثاني من هذا الفصل .

[16] ماجد فخري: الفلسفة اليونانية ، ص: 131 .

[17] ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول ، ص: 100 .

[18] نفسه ، ص: 100 ، 101 .

[19] ماجد فخري: أرسطو ، ص: 100، 101 .

[20] سبق توثيق ذلك .

[21] إن ابن رشد الحفيد معروف بتأويلاته التحريفية ، و عنها أنظر كتابنا : نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد ، و الكتاب منشور ورقيا و إلكترونيا .

[22] سنفصل في موضوع أزلية الكون و خلقه في المبحث الثاني من هذا الفصل .

[23] ج 10 ، ص: 357 ، 377 .
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-11-2012, 01:59 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

و المثال الثالث مفاده أن أرسطو نصّ على أن الإله له فعل دائم ،و هو أفضل الموجودات و أكملها و أفضلها على الإطلاق ؛ ثم نقض ذلك عندما زعم أن الإله لا فعل له و لا قوة ، و انه لم يصنع العالم ،و لا عِلم له به ،و أنه لا يعلم إلا ذاته !! .

و المثال الأخير- الرابع- مفاده أن أرسطو أشار صراحة إلى أن الإله مُخالف للموجودات عندما وصفه بأنه أفضلها ، و أكملها ، و أشرفها على الإطلاق . لكنه يأتي و ينقض هذا الأصل و يسوي به الموجودات عندما زعم أنها أزلية مثله ،و جعل بعض الموجودات آلهة مثله سماها الجواهر المفارقة[1] . و سواه بالإنسان في علمه بغيره ، فزعم أن الإله إن عقل غيره فإنه سيُصاب بالكلال و التعب ،و علمه سيتغير !! .

و أُشير هنا إلى أن مقدمات أرسطو حول الإله و الكون هي في الحقيقة تنفي وجود الإله أكثر مما تثبته بدليل الشاهدين الآتيين : الأول قوله بوجود أزليين: الإله و الكون ،و هذا يعني بسهولة إلغاء وجود الإله ، لأنه يُمكن الاستغناء عنه بوجود الكون الأزلي، فهو بما أنه كذلك فهو أزلي في كل صفاته و مكوناته ،و لا يصح افتراض أنه ناقص في أي صفة من صفاته، و من يقول بذلك ليس عنده دليل صحيح إلا رغبته الذاتية ،و هي ليست دليلا .
و الثاني هو بما أن الكون أزلي ،و هو العاشق و المتحرك، فهذا يعني أنه حي مريد قادر سرمدي ،و أنه هو الذي تحرك من ذاته، و هو الذي حرّك نفسه ، و هذا يعني أنه هو الكون و الإله معا ،و من ثم يمكن بسهولة إسقاط الإله و الاستغناء عنه ، لأنه فقد دوره و وجوده من عدمه سيان . و هكذا يكون أرسطو قد بنى أساس فكره على المقدمات الضعيفة و المرجوحة ،و لم يُقمه على مقدمات منطقية يقينية صحيحة على أساس من العقل الصريح و العلم الصحيح . فأين اليقين و البرهان اللذان تغنى بهما أرسطو كثيرا في كتابيه : القياس و البرهان[2] ؟؟!! .

و إنهاءً لهذا المبحث يتبين منه أن أرسطو كان جاهلا بالله جهلا كبيرا، و أنه أخطأ في معظم أفكاره المتعلقة بذات الله و صفاته، فكانت أخطاؤه جسيمة جدا تتعلق بالمنهج و التطبيق . وقد وقع في ذلك بسبب انحراف و قصور و ضعف منهجه الفكري في تناوله لموضوع ذات الله و صفاته . فلم يُقمه أساسا على عقل صريح ،ولا علم صحيح ،و إنما أقامه أساسا على ظنونه و رغباته ،و خلفياته المذهبية، و بعض أساطير مجتمعه . فأفسد بذلك جانبا من فكره و سلوكه ، و جنى به على نفسه و أتباعه، و على العقل العلم معا.
ثانيا: نشأة الكون و مكوناته في فلسفة أرسطو:
اتخذ أرسطو مواقف فلسفية عديدة أوقعته في أخطاء و انحرافات منهجية فاحشة و كثيرة ؛ بعضها يتعلق بنشأة الكون و مكوناته ، و بعضها يتعلق بطبيعة العالم ، فهل هو أزلي أو مخلوق ؟ . و منها ما يتعلق بالعناصر المكونة للكون ،و بعضها الآخر يتعلق بألوهية العقول و الأجرام السماوية ،و الغاية من الوجود . فما تفاصيل ذلك ؟ ، و كيف دنى بها على العقل و العلم ؟ .
(أ) : قول أرسطو بأزلية العالم و أبديته :
كان أرسطو يقول بأن العالم باقٍ لا يزول، و أن (( الشمس تستمر في دورانها على الحالة التي نشاهدها ، كما هي كذلك قديما )) . والأفلاك لا تقبل الفساد و لا تتخرب[3].و السماء عنده ليست مُكوّنة و لا مُولدة ، و لا يمكن أن تقع تحت الفساد كما قال بعض الناس ،و لكنها (( لا مبدأ لها و لا منتهى في الدهر كله ، و هي علة الزمان ، الذي لا نهاية له مًحيطة به )) ، فالسماء دائمة غير واقعة تحت الفساد و الفناء[4] .

و الكون عند أرسطو أزلي واجب الوجود ، لا بداية له و لا نهاية[5] ، و كما هو أزلي في مادته فهو أزلي أيضا في حركته ،و المحرك الذي لا يتحرك هو محرك الحركة الأولى الأزلية[6] . و زعم أنه استبان له و صح عنده- بناء على مقدماته- أن السماء غير مصنوعة و لا مكونة ، و أنها دائمة[7] . و العالم قديم بمادته ،و صورته ، و حركته ، و أنواع موجوداته ،و لا يفسد فيه إلا أفراد أنواعه . فهو كله أزلي لا بداية له و لا نهاية [8] . الأجرام السماوية لا تخضع للتكَوّن و لا الفساد ، فاستحال عليها الحدوث ،أو التغير ، أو التلاشي ،و هي تدور في أفلاكها دورانا أزليا لا يطرأ عليها خلل قط[9] .

و لأرسطو شواهد تحجج به في قوله بأزلية العالم و أبديته ، منها أنه ذكر أنه تبين له أن طبيعة الأجسام السماوية المتحركة باستدارة هي واحدة بسيطة لا اختلاف فيها ،و لا يُلحقها تغير و لا انفعال أثري أصلا[10] .

و منها أنه استدل على أن الجرم السماوي أزلي غير قابل للزيادة و النقصان ، هو أن المشاهدة تدل على ذلك ، فمنذ أقدم العصور لم يطرأ أي تغيير على فلك السماء الأقصى ، أو أي جزء من أجزائه[11] . و لو كانت الشمس حادثة لفسدت و تغيرت [12].
و منها أنه استدل بأنه (( لو كانت الهيولى-المادة- حادثة لحدثت عن موضوع ، لكنها هي موضوع تحدث عنه الأشياء ، بحيث يلزم أن توجد قبل أن تحدث و هذا خُلف . و لو كانت فاسدة لوجبت هيولى أخرى تبقى لتحدث عنها الأشياء ، بحيث تبقى الهيولى بعد أن تفسد ، و هذا خلف كذلك ))[13] .

و آخرها استدل به على أزلية تناسل الأجيال الإنسانية، و مفاده أنه (( لو ثبت أن له أول إنسان لكان من غير أب و أم ،و هو مُحال )) ،و استدل بنفس الاستدلال في شأن الطيور ، فقال: إنه لا يُمكن أن يكون هناك بيضة أولية هي أصل لجميع الطيور ،و لا طائر أولي هو أصل لجميع البيض ، بدليل أن الطير من بيضة ،و البيضة من طير ،و هكذا . و استدل بنفس الطريقة في سائر الأجناس و الأنواع التي في الكون[14] .

تلك هي أقوال أرسطو و شواهده في قوله بأزلية العالم و أبديته . و إبطالاً لها ،و رداً على صاحبها أقول : إن قوله بأزلية العالم و أبديته هو زعم باطل من بدايته إلى نهايته ، و تضمن تناقضات و أباطيل ، و انحرافات منهجية فادحة ، جنى بها على فكره و سلوكه ،و على أتباعه . و الانتقادات الآتية تُثبت ذلك بوضوح :

أولها إنه واضح من أقوال أرسطو أنه تكلم بجزم و تأكيد ، و إثبات و يقين ، في موضوع أزلية الكون و أبديته ،و هذا انحراف كبير عن منهج البحث العلمي الصحيح ، فهو لم يلتزم طرق الاستدلال الصحيحة التي تناسب موضوع أزلية الكون . فهذا موضوع غيبي ظني مقدماته معظمها احتمالية ، و لا تخضع للتجربة ،ولا للقياس العقلي الجلي الصحيح ، فكان عليه أن يتجنب القطع و الجزم،و يقول بالظن و الاحتمال ، و الترجيح و التقريب . لكن أرسطو لم يلتزم بالمنهج العلمي الصحيح ،و تكلم في أمور غيبية كأنه يراها ، مع أنه لا يُمكنه رؤيتها و لا معرفة آثارها من جهة ،و انطلق من مقدمات معظمها غير صحيحة ، و بنى عليها أفكاره و اختياراته من جهة أخرى . فأوقعه هذا الانحراف المنهجي في أخطاء و انحرافات كثيرة جعلت ما قاله حول أزلية الكون غير صحيح ، لا نكاد نعثر فيه على موقف صحيح .
فمن تلك الانحرافات قوله بأزلية العالم و أبديته ، و تركه القول بحدوثه ؛ مع أن القول بخلقه و حدوثه يكاد يكون من بديهيات العقول ،و هو كذلك عند الغالبية الساحقة من الناس . لأن أدلة الحدوث واضحة و سهلة و طبيعية ، و ليس فيها معاندة للبديهة و لا الفطرة . لكن أرسطو ترك ذلك و اتخذ موقفا خاطئاً ،و اتبع طريقا عِوجا للاستدلال على موقفه . فترك حجج الفطرة و البديهة و راء ظهره ،و خاض في موضوع غيبي ليُثبت عكس ما تدل عليه شواهد الفطرة و البديهة . و بما أنه لم يكن عنده أدلة صحيحة ينطلق منها ، فإنه لجأ إلى ظنونه و رغباته وتمنياته ،و ملاحظاته و معلوماته الناقصة ، و تحكماته و خلفياته الفكرية ،و جعلها مقدمات بنى عليها مواقفه المتعلقة بأزلية الكون و أبديته . فأوقعه ذلك في أخطاء و انحرافات كثيرة ،و سيأتي تفصيل ذلك فيما يأتي من هذا المبحث و الذي يليه بحول الله تعالى.

و منها أيضا أن أرسطو أكد على أنه تبين له أن الأجرام السماوية-كالشمس مثلا- لا تفنى ، و لا تتغير ، و لا تفسد . و هذا كلام غير علمي ، و لا يصح الجزم به ، لأنه يتعلق بموضوع غيبي لا تكفي فيه النظرة العادية التي عند كل الناس ،و لا يمكن رؤية الأجرام عن قرب ،و لا إجراء تجارب عن مادتها و تاريخها كما هو الحال في عصرنا . فالرجل لم يكن في مقدوره - من الناحية العلمية – الخوض في ذلك الموضوع بطريقة صحيحة ، لكنه – مع ذلك – خاض فيه بلا علم صحيح ، و لا منهج قويم ،و أكد على أن العالم أزلي، و نصّ على أن ذلك تبين له بفضل مقدماته و أقيسته و تحليلاته . و نحن نعلم يقينا أن أرسطو وقع في أخطاء كثيرة عندما تكلم في موضوع أزلية العالم ، منها تأكيده على أن الكون أزلي أبدي لا بداية له و لا نهاية . و قد ثبت شرعاً و علماً أن الكون حادث مخلوق ، له بدية ،و ستكون له نهاية[15] .
و ثانيا إن مقدمات أرسطو و استدلالاته في قولة بأزلية العالم لا تصح و متناقضة فيما بينها . من ذلك أنه قال بوجود أزليين ، هما: الإله و الكون ، و هذا غير صحيح ، لأن الثابت شرعا و عقلا أن الكون ليس أزليا ، و إنما هو مخلوق[16] . ثم زعم أن هذين الأزليين أحدهما كامل ،و هو الإله ،و الثاني ناقص ،و هو الكون ، يحتاج إلى من يُحركه . و هذا زعم بلا دليل من العقل و لا من العلم ، و هو تحكم موجه من خلفياته الذاتية و المذهبية . لأن الصحيح هو إما أن يكون الأزليان متساويين في الذات و الصفات ، و في هذه الحالة لا يحتاج أي منهما إلى الآخر ،و يصبح وجودهما كأنه واحد لا اثنان . و إذا لم يتساويا فالكون هو الناقص في هذه الحالة ، و يكون تابعا إلى الإله ،و هذا لا يتفق مع القول بأزليته ، و لا يوجد دليل مقنع يُفسر سبب ذلك، و أرسطو لم يُقدم أي دليل يُبرر به قوله بأن الكون ناقص مع كونه أزليا !! . فلماذا لم يكن أزليا في كل صفاته ؟، و لماذا كان كما زعم هو ؟ ، لا جواب صحيح على ذلك ، و ليس عند أرسطو رد صحيح يُبرر به موقفه ، و كل ما ذكره ليس جوابا علميا ، و إنما اعتمد أساسا على رغبته و ظنونه ،و أقيسته و اجتهاداته الاحتمالية الظنية !! .

و ذلك النقص المُتمثل في حاجة الكون إلى من يُحركه ، هو دليل دامغ ضد قول أرسطو بأزلية العالم : نشأة و حركة ؛ فهو شاهد قاطع على أن العالم ليس أزليا في تحركه و لا في تكوّنه ، و إنما هو حادث مخلوق . فأرسطو متناقض مع نفسه، لكنه مُصر على موقفه القائل بأزلية العالم و أبديته ، مع انه نقضه من حيث يدري أولا يدري ، و نص على ما يُخالفه و ينقضه .
و من ذلك أيضا أنه-أي أرسطو- في الوقت الذي أكد فيه على أزلية الكون نصّ صراحة على أن الإله هو الذي جعل الكائنات حية نشطة متحركة متناسلة ، و هذا دليل دامغ على أن ذلك ليس أزليا . فلو كانت أزلية ما احتاجت إلى من يُحركها و يُحييها و يُنشطها ، و بما أن ذلك حدث لها فهي بالضرورة حادثة مخلوقة و ليست أزلية مهما تصورنا قِدمها ، فهي مسبوقة بعدم ضرورةً . و القول بخلاف هذا يعني أن تلك الكائنات كانت أزلية في حالة كاملة و لم تكن في حاجة إلى تدخل عامل خارجي، و لا تدخل الإله في تحريكها،و بهذا يسقط زعم أرسطو و مقدماته الظنية الخيالية .

و ربما يُقال : إن أرسطو قال بأن الإله هو الذي حرّك الحركة الأزلية الأولى ، بناءً على مبدأ دوام فاعلية الإله الأزلية ، و بما أنه فاعل أزلي ، فحركة العالم تابعة لها ، و لا يمكن أن تكون لها بداية و لا نهاية . و هذا العليل لا يصح لثلاثة أمور : أولها هو أنه لا يصح التأكيد على أن فعل الإله أزلي دائم بالضرورة ،و لا يصح فرض رغباتنا عليه ، فهذا القول لا دليل عليه . لأن الإله في تصور العقل الفطري البديهي هو أنه سبحانه فعال لما يريد ،و يفعل ما يشاء و يختار ، متى أراد ، و كيفما أراد . فهو إما أن يفعل دائما بإرادته و اختياره ، و إما أنه يفعل و يتوقف باختياره و حكمته ، و إما أنه لا يفعل مُطلقا بإرادته و اختياره و حكمته . و هذا يعني أنه لا يستطيع أرسطو و لا غيره التأكد من الاحتمال الصحيح الذي اختاره الإله تجاه الكون . و لا يُمكننا التأكد من ذلك إلا بالوحي الصحيح ، أو بالعلم الصحيح ، أو بهما معا . و بما أنه ثبت شرعا و علما بأن الكون مخلوق ، فهذا يعني أن الله تعالى لم يكن فعله مع هذا الكون فعلا أزليا ، و إنما كان فعلا حادثا مخلوقا له بداية و ستكون له نهاية . و بذلك يسقط قول أرسطو بأزلية الفعل الإلهي في تحريكه و تفعيله للكون .
و الأمر الثاني هو أن القول بأزلية الكون بناءً على أزلية الفعل الإلهي في تحريكه له ، هو دليل دامغ على أنه أكمل و أسبق منه ، و هذا يستلزم أن الكون ليس أزليا مهما تصورنا قِدم الفعل الإلهي ،و قد سبق أن فصلنا هذا الأمر أعلاه .
و الأمر الثالث هو أن الإصرار على القول بأن حركة العالم أزلية لا بداية لها ، يعني أن هذا الكون أزلي في كل صفاته ،و لم يكن في حاجة إلى تدخل أي عامل خارجي ،و لا حرّكه محرك لا يتحرك . و هذا يُسقط حكاية العشق و المحرك الذي لا يتحرك من أساسها.

و بذلك يتبين- في كل الحالات- أن مقدمات أرسطو لا تصح ، و متناقضة فيما بينها . علماٌ بأن الثابت شرعا و علما أن القول بأزلية العالم باطل ، لكننا نحن هنا نناقش أرسطو عقليا لنبين بطلان قوله و تهافته من الناحية النظرية التجريدية التي اشتُهر أرسطو ببراعته فيها . فتبين من ذلك أن هذه البراعة كانت براعة سفسطائية تلاعبية ،و لم تكن براعة بديهية منطقية صحيحة .
و ثالثا إنه واضح من أقوال أرسطو و مواقفه من أزلية الكون و حدوثه ؛ أنه ترك المنهج الصحيح ،و الأدلة الواضحة الدالة على خلق العالم و حدوثه ، و لجأ إلى الظنون و التخمينات ، و استخدم منهجا منحرفا قاصرا ضعيفا في تناوله لذلك الموضوع ،و أقام عليه مقدماته الظنية التحكمية ، فأخطأ في المنهج و التطبيق و النتيجة . فلو نظر إلى الموضوع بعقل بديهي إلى نفسه و ما يُحيط به من كائنات لتبين له منهجيا أن أسهل طريق و أصحه للبحث عن حدوث الكون من أزليته – قبل التطور العلمي الحديث- هو الانطلاق من الكائنات الحية عامة ، و الإنسان خاصة ، لأن هذه الكائنات تشهد بنفسها على أنها مخلوقة لها بداية و نهاية .

و أما المظاهر الأخرى من كواكب ، و هواء ، و مياه ، فهي بالضرورة يجب أن تسبق الإنسان في الظهور ، لأن وجوده على الأرض يتوقف عليها ، فلا يمكنه أن يسبقها من جهة ،و تلك الموجودات ليس لنا عليها دليل مباشر يُثبت بدايتها ، و لا أزليتها من جهة أخرى .
و بناء على ذلك لم يبق أمامنا إلا الانطلاق من الإنسان و الكائنات الحية الأخرى الثابت حدوثها ، فبما أنها ليست أزلية ، فسنعمم ذلك – باستخدام قياس التمثيل- على كل كائنات العالم الأخرى ، من أرض ،و كواكب ،و شموس ، و بحار ، على أساس مبدأ الجمع بين المتماثلين ،و التفريق بين المختلفين ؛ , بما أن تلك الكائنات تشبه الإنسان و الحيوان في أنها كلها محكومة بقوانين ، و أنها لا تملك مصيرها بيدها ،و أن كلا منها مُسخر لخدمة غيره ، فهذا يعني أن الكل مخلوق .

و هذه الطريقة هي طريقة عقلية جمعت بين المنطق البديهي ،و حقائق الواقع المُشاهدة و الملموسة ،و أوصلتنا إلى أن العالم حادث مخلوق . فجاء الشرع و العلم و أكدا على صحة هذا المنهج و نتيجته[17] ، و أثبتا خطأ أرسطو منهجا و نتيجة . فلا هو اتبع العقل الصريح ،و لا العلم الملموس الصحيح !! .
و رابعا إن زعم أرسطو بأن الكون أزلي بالوجوب ، بمعنى أنه واجب الوجود ، بأن يكون أزليا ، فهذا كلام باطل ، لا دليل صحيح عليه من العقل ،و لا من العلم . و الرجل في زعمه هذا لم يٌقدم دليلا صحيحا ،و إنما اعتمد على ظنونه و تحكماته و رغباته ، و بنى عليها زعمه هذا . فلا يُوجد أي دليل عقلي ،و لا مقدمة صحيحة يُوصلان إلى القول بوجوب أزلية الكون من جهة ،و قد ثبت شرعا و عقلا بطلان القول بأزلية الكون من جهة أخرى . فأين هذا الوجوب الذي زعمه أرسطو ؟! ، إن هذا الرجل أمره غريب جدا ، يفرض علينا رغباته ، و تمنياته ، و ظنونه ، على أنها حقائق أوجبها الاستنتاج العقلي . و هذا افتراء على العقل و الحقيقة ، و لا يصح أن يصدر عن إنسان يحترم العقل و العلم .

علماً بأن وجود أي موجود في الواقع فله ثلاث حالات ، أولها: إذا كان مستحيلا فلا يُمكن أن يُوجد في الواقع كموجود حقيقي . و الثانية هي وجود موجود ممكن الوجود ، فهو مخلوق له بداية و نهاية . و الثالثة-الأخيرة- وجود موجود واجب الوجود ،و هو الأزلي الذي لا بداية و لا نهاية ،و يستحيل تصور عدم وجوده . و لتحديد نوع وجود الحالتين الثانية و الثالثة لابد من وجود أدلة صحيحة-عقلية و شرعية و علمية- تُثبت حالة كل نوع . و أرسطو عندما قال بأزلية العالم و وجوب وجوده لم يُقدم أي دليل صحيح من العقل ،و لا من العلم ،و لجأ إلى ظنونه و رغباته و تحكماته . و هذا فعل تغليطي و تدليسي مردود عليه ، و لا يُمكن قبوله .
و خامسا إن قول أرسطو بأزلية العالم مع أنه غير صحيح ، فإنه أضعف مكانة وجود الإله في فلسفته ، فجعله أمرا زائدا افتراضيا يُمكن الاستغناء عنه ، مع أن المفروض عقلا و شرعا و علما أن وجود الله تعالى هو أمر ضروري لأنه لا مخلوق بلا خالق . لكن قول أرسطو بأزلية العالم جعل الأمر خلاف ذلك ، و أصبح يُمكن أن يُقال: بما أن أرسطو يقول بوجود أزليين ، هما : الإله الكامل المحرك ،و الكون الأزلي الناقص المتحرك بدون أي دليل صحيح ؛ فإن وجود الكون الأزلي يكفي وحده لتفسير الطبيعة و مظاهرها ، و هو لا يحتاج إلى من يخلقه ، و لا إلى من يُحركه و هو كامل في طبيعته . و هذا اعتراض وجيه أقوى من قول أرسطو بوجود أزليين ، لأن الحقيقة هي لا بد من وجود أزلي واحد ، إما الكون الأزلي و لا إله ، و إما الإله الأزلي ،و الكون المخلوق . و بما أن الكون مخلوق ، فلابد له من خالق ، و هكذا يكون وجود الله تعالى وجودا ضروريا خلاف وجوده في إلهيات أرسطو.

و إذا كان وجود الإله ليس ضروريا في فلسفة أرسطو ، فكذلك تحريكه للكون ، هو أيضا ليس ضروريا ، لأن الكون حسب زعمه أزلي ، و الأزلي غير محتاج لغيره في ذاته و لا في صفاته . و أرسطو قد زعم أيضا أن الكون تحرك من ذاته ، كتحرك العاشق في عشقه لمعشوقه من دون علم و لا مبادلة من معشوقه[18] . فالكون إذن لم يكن في حاجة إلى من يحركه ، و هذا يجعل قول أرسطو بتحريك الإله للكون لا معنى و لا أساس له، و ليس ضروريا ، و يُمكن الاستغناء عنه كلية .
فإلهيات أرسطو لا تقوم على أساس صحيح ، في موقفها من الإله و لا من الكون ، و إنما تقوم على مقدمات أقامها صاحبها على ظنونه و رغباته ، و تمنياته و تحكماته .

و سادسا إن قول أرسطو بأن أنواع الكائنات أزلية و أفرادها حادثة مخلوقة لها بداية و لها نهاية ، كالإنسان مثلا ، فهو كنوع تناسُله أزلي ، لكن أفراده حادثة . فهو قول لا يصح ، أقامه أرسطو انطلاقا من قوله بأزلية الكون ،و لم يُقمه على دليل صحيح من العقل ،و لا من العلم . و الشواهد الآتية تثبت عدم صحة زعمه هذا . أولها إنه سبق أن بينا أن القول بأزلية الكون قول غير صحيح ، و إنما هو مخلوق ، و هذا يستلزم أن الإنسان و غيره من كائنات العالم حادثة كلها ، و ليست أزلية الأنواع و لا الأفراد .

و الشاهد الثاني مفاده هو أن أرسطو نفسه نقض زعمه هذا ، عندما قال : إن الإله هو الذي أوجد التوالد الحيواني[19] . و هذا يعني أن توالد الكائنات الحية كانت له بداية ، و مهما تصورنا قِدمه ، فهو مخلوق و ليس أزليا . و القول بخلاف هذا ينفي تدخل الإله ،و هو نقض لما قاله أرسطو حول تدخل المحرك الذي لا يتحرك . و في الحالتين هو ضد مقولة أرسطو .
و الشاهد الثالث مفاده هو أن حدوث أفراد أنواع الكائنات الحية ، يعني بالضرورة حدوث كل أفرادها . و هذا يعني أيضا أن كل الأنواع هي أيضا حادثة ، لأن هذه الأنواع هي مكونة من أفراد ،و ليست تمثل كائنا كليا منفصلا يًسمى نوعاً . بمعنى آخر هو أنه لا يُوجد لكل نوع من الكائنات كائن كلي مَستقل بذاته يسمى مثلا: الإنسانية ، أو الأسدية ،أو الغنمية ، أو الخيلية ، أو الزواحفية . و بما أن الأمر هكذا ، فحدوث الأفراد يستلزم حدوث الأنواع ، التي هي في الحقيقة مجموعة أفراد مستقلة،و ليست كائنات كلية . و بما أنه لا وجود للأنواع دون الأفراد ،و الأفراد حادثة ، فبالضرورة يجب أن تكون للأنواع حادثة لها بداية رغم أنف أرسطو .

فذلك هو الذي يقوله العقل الصريح القائم على البديهة و القياس الجزئي الصحيح . و يمكن توضيحه و تدعيمه بمثال واقعي ، مفاده : إن السيارات الموجودة في العالم بأنواعها و أعدادها ، هي سيارات كلها مصنوعة لها بداية و ستكون لها نهاية لا محالة ، مهما تصوّرنا استمرار عملية إنتاجها . و هذا يعني أن جميع تلك السيارات حادثة كلها بأفرادها و أنواعها . و لا يصح القول بأن أفرادها حادثة ، و أنواعها أزلية ، لأننا نعلم يقينا أن هذا السيارات بأفرادها و أنواعها لم تكن موجودة قبل العصر الحديث ،و وجدودها الفردي هو الذي أنتج الأنواع ، و لا وجود لأنواعها دون وجودها الفردي .

و الشاهد الأخير- الرابع – مفاده هو أن أرسطو-في قوله السابق - قلب الأمر من أجل فكرة يُريد الوصل إليها ، من دون أن يقدم أي دليل صحيح مُكتفيا بزعمه السابق ، و الزعم ليس دليلا ، و لا يعجز عنه أحد . و الحقيقة هي أن أرسطو فرض رغبته و تحكمه على المقدمات التي اعتمد عليها ، فقوّلها ما لم تقل ،و حمّلها ما لا تحتمل ، و استنتج منها ما لا يصح استنتاجه منها . و قد سبق أن بينا أن حدوث الأفراد يستلزم حدوث الأنواع التي لا وجود حقيقي لها في الواقع كأنواع كلية ، و لا وجود نظري لها دون أفرادها . لكن أرسطو مارس التغليط و التلاعب بالألفاظ ، فطرح مقدمات صحيحة ، و لم يأخذ بنتيجتها الصحيحة البديهية ، و إنما فرض عليها رغبته و عكس نتيجتها . و هذا فعل ليس من الموضوعية و لا من العلم في شيء، و هو عمل مردود على صاحبه، و شاهد قوي على ذاتية صاحبه ،و ممارسته للتغليط و السفسطة .

و أُشير هنا إلى أن أرسطو-بناء على قوله بأزلية التوالد الحيواني- كان قد ذكر مثالين ، يتعلق الأول بالإنسان ،و الثاني بالبيضة . فعن الإنسان أكد صراحة على أنه من المستحيل أن يكون أول إنسان من غير أب و لا أم . قوله هذا في الحقيقة ليس مستحيلا ، و إنما هو أصدر حكمه هذا بناء على قوله بأزلية الكون و التوالد الحيواني ؛ و لو نظر إلى الموضوع على أساس القول بحدوث الكون و التناسل الحيواني ، ما أصدر ذلك الحكم القطعي باستحالة كون أول إنسان من غير أب و لا أم . مع أن الحقيقة الثابتة ليست ما زعمه الرجل ،و إنما هي التي أنكرها و حكم عليها بالاستحالة . و بما أن الكون مخلوق شرعا و علما ، فإن كل المخلوقات وُجدت بعد أن لم تكن . و أن أول إنسان خلقه الله تعالى من غير أب و لا أم .

و أما حكاية البيض و الطير ، فهي ليست مُشكلة أصلا ، لأن الطيور مخلوقة كغيرها من الكائنات ، و من ثم فلها بداية محددة ، سواء كانت بدايتها من ذكر و منه خُلقت الأنثى ، كما حدث في الإنسان ، أو كانت بدايتها من أنثى و منها خُلق الذكر ، أو خُلقا دفعة واحدة ، أو ... فالنتيجة هي أن كل ذلك ممكن ، و لا توجد أية مَشكلة في نشأة الطيور ، أو أي نوع من الحيوانات. و إنما المُشكلة أوجدها أرسطو في قوله بأزلية الكون.

و أخيرا- سادسا- إن قول أرسطو بأزلية العالم ، كما أنه لم يصح عقلا ، فإنه ثبت بطلانه أيضا بالوحي الصحيح و العلم الصحيح . فأما شرعا فقد نص الله تعالى في آيات كثيرة على العالم مخلوق ، له بداية و ستكون له نهاية ، منها قوله سبحانه : ((أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ))- سورة الأنبياء : 30 - ،و ((كما بدأنا أول خلق نعيده ، وعدا علينا إنا كنا فاعلين ))- سورة الأنبياء: 104- ، و (( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ))-سورة الفرقان : 2 - ،و ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ))- سورة الرحمن :26- 27 - ، و ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ))-سورة التكوير : 1-2- ، و ((إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ))- سورة الانفطار : 1 - ، و ((يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ))- سورة إبراهيم : 48 - ،و غيرها كثير .
و أما علمياً ، فقد : فقد نص العلم الحديث على أن العالم ليس أزليا ، و أن له بداية قُدرت ب: 13 مليار سنة ، و أنه ستكون له نهاية حتمية[20] . و أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة أن العالم يسير إلى الانهيار و الفناء ، و أن الشمس –مثلا- في طريقها إلى الزوال بسبب ما تفقده من طاقتها تدريجيا . و أن النجوم في حالة ميلاد و فناء من القديم إلى يومنا هذا ، و لها آجال مُحددة تُولد فيها و تموت كبني آدم . و تبين من الحسابات العلمية أن الأرض عند تكوّنها كان يومها يُساوي 4 ساعات ، و هو اليوم يُساوي 24 ساعة ، بسبب تباطؤ سرعتها المحورية[21] .

و بذلك يكتمل انتقادنا لقول أرسطو بأزلية العالم و أبديته ،و منه تبين عقلا و شرعا و علما، أنه قول باطل ، أقامه صاحبه على ظنون و رغبات و تحكمات شخصية ، لا سند صحيح لها عقلا و لا علما . و اتضح منه أيضا أن أرسطو وقع في تناقضات في قوله بذلك الزعم ، أبطلت مقدماته ، عندما فرض عليها رغباته و تمنياته و ظنونه . منها أنه زعم أن الكون أزلي ، لكن الإله حرّكه !!. و أن التوالد الحيواني أزلي ، لكن الإله هو الذي بدأه !! . و أن الأفراد التي في الأعيان حادثة ،و الأنواع التي في الأذهان أزلية !! . و أن الكون أزلي بالوجوب ، لكنه مُحتاج إلى غيره !! . ومن كل ذلك يكون أرسطو قد جنى-بذلك الفكر- على نفسه و أتباعه ، و العقل و العلم معا .
ب- موقف أرسطو من الخلق من عدم :
بما أن أرسطو قال بأن الكون أزلي لا بداية له ، فهذا يعني بالضرورة أن الكون عنده غير مخلوق . و من ثم فهو غير معني بالخلاف الذي حدث بين القائلين بحدوثه : فهل خلقه الله تعالى من مادة سابقة ، أو أنه خلقه من عدم ، أي من لا شيء ؟ . لكنه مع ذلك أنكر إمكانية الخلق من عدم ،و نفى أن ينبثق شيء من عدم ،و قد نقله عنه ذلك ابن رشد الحفيد و انتصر له[22] .

و أقول : نعم إنه يستحيل عقلا و شرعا و علما أن يُوجد شيء من عدم ، أو ينبثق موجود من غير شيء . فالقول بذلك هو نقض للعقل و العلم و الشرع جميعا. لكن هذه الحقيقة يجب وضعها في مكانها الصحيح ، فهي تصدق على المخلوق لا على الخالق أبدا . و لا يصح نفيها عن الخالق عقلا ،و لا شرعا ،و لا علما .
فأما عقلا فإن العقل مثلا لا يمنع الخلق من عدم بالنسبة للخالق عز وجل ، فهو-أي العقل- إذا حكم باستحالة الإنسان أن يُوجد شيئا من لا شيء ، أو أن يُظهر شيئا من عدم ؛ فإنه لا يمنع ذلك في حق الله تعالى ، لأنه هو الخالق ، و كيف يكون خالقا ،و لا يستطيع أن يخلق من شيء و من غير شيء ؟ ! . و الكائن المخلوق من غير شيء لم يخلق نفسه،و لن يستطيع خلقها ،و لا خَلقَه مخلوق مثله ،و لن يستطيع فعل ذلك أيضا . فالمخلوق هو الذي يعجز عن الخلق من عدم ،و أما الخالق فلا يُعجزه شيء ، فهو يخلق من شيء ، و من غير شيء،و إلا لا يكون خالقا . و عندما يخلق الله شيئا من غير شيء ، فلا يصح أن يُقال : خُلق من غير شيء ، بمعنى أنه خلق نفسه من غير شيء ،و إنما الله تعالى هو الذي خلقه من دون شيء ، فهو مخلوق لله تعالى . و بما أنه سبحانه هو الخالق ، فلابد أن يكون قادرا على الخلق من عدم . لذا قال سبحانه و تعالى : (( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ))- سورة النحل : 17 - . و { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ}سورة الطور: 35-36- .

و أما شرعا فإن الخلق في القرآن الكريم له معنيان واضحان ، أولهما إيجاد شيء من شيء ، لقوله تعالى: (( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مارج مِّن نَّارٍ ))- سورة الرحمن :14- 15 - . و ثانيهما إيجاد شيء من غير أصل و لا احتذاء ، لقوله تعالى : ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ))- سورة يونس : 3 – ، فلم يقل لنا أنه خلق ذلك من مادة سابقة كما في النوع الأول ، فهذا المعنى هو الذي يُسمى خلق شيء من لا شيء ، بدليل قوله تعالى ، : (( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ))-سورة يس : 82 - ،و ((هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ))-سورة غافر : 68 - . فالله تعالى مُطلق القدرة و الإرادة يخلق ما يشاء و يختار ، من شيء و من غير شيء .

و أما من الناحية العلمية فإن فكرة الخلق من عدم-أي من لاشيء- أصبحت لها مكانتها في علم الفيزياء الحديثة ، و فيها يقول الفيزيائي منصور حسب النبي : (( ياليتها من نتيجة مذهلة يتحدث عنها علماء الفيزياء الآن ، بعدما كانوا قديما يقولون : إن المادة و الطاقة لا تفنى و لا تُستحدث ،و هذا صحيح طبعا في طور التسخير-أي بعد الخلق- ، أما في طور الخلق الإلهي فهناك قانونان ، أحدهما : كن فيكون من جهة ، و الخلق من عدم من جهة أخرى )) .و الخلق من عدم لا يحتاج مطلقا إلى زمن سابق لأن الزمان هنا هو افتراض ذهني لا وجود له فيزيائيا عند بداية الخلق ، و هو ما يُسمى في الفيزياء الحديثة بأنه (( قفزة كمية في الزمكان دون حاجة لمادة أو طاقة )) [23] .
و قال أيضا : إنه يجب التمييز بين الخلق من عدم بلا زمن ،و الخلق بالأمر الإلهي المُسخر بقوانين ثابتة ، و هو الخلق من مادة سابقة , و الخلق الأول لا يتم إلا ب : كن فيكون ،و لا يحتاج لزمان و لا لمادة ، و لا لطاقة . فهو خلق من لا شيء في لا زمن ،و عندما يُوجد هذا النوع من الخلق يصبح خاضعا للنوع الثاني من الخلق الذي هو في طور التسخير الخاضع –في المكان و الزمان- لمقادير محددة ثابتة يدرسها العلماء . و قال الفيزيائي ستيفن هوكنج : (( إن لحظة الانفجار العظيم لا تخضع لقوانيننا العادية الفيزيائية ، لأنها تُوحي لنا بالخلق من عدم ))[24] .
و بما أن المخلوق لا يَخلق من عدم، و لا عدمٌ يَخلق ذاته، و بما أنه ثَبُت أن الكون مخلوق مسبوق بعدم ، فإن هذا يستلزم أن خالقا خلقه من عدم ، و هو الله عز وجل.

فواضح مما ذكرناه أن أرسطو أخطأ عندما أصدر حكما عاما بأنه لا يُمكن انبثاق شيء من عدم ، من دون أن يُميز بين الخالق و المخلوق . كما أن الذي أوقعه في ذلك هو قوله بأزلية الكون ،و نقص معرفته بالله تعالى ، فقد كان جاهلا بالله تعالى وصفاته جهلا كبيرا ، و قد سبق أن بينا طرفا من ذلك في المبحث الأول من هذا الفصل .
ج- العناصرالخمسة المكونة للعالم عند أرسطو :
يعتقد أرسطو أن العالم مُكوّن من خمسة عناصر أزلية بسيطة التكوين، منها أربعة مُكونة لعاَلم ما تحت فلك القمر- العالم الأرضي- ، و الخامس مُكوّن لعاَلم ما فوق فلك القمر- العالم السماوي-[25] .
ففيما يخص العناصر الأربعة فهي عند أرسطو تتمثل في : التراب، و الماء، و الهواء ، و النار ،و هي جواهر بسيطة ، و مضادات قابلة للصيرورة و التحول ، لكنها غير قابلة للتحلل إلى عناصر أبسط منها ، تتكون منها جميع الكائنات الأرضية [26] . و أنكر أرسطو على الطبيعيين القائلين بأن الأجسام مكونة من مادة واحدة معينة ، و خطأهم لأن قولهم-حسب رأيه- يُمايز العناصر جوهريا ،و يجعلها مُتمايزة بالعَرَض فقط ، كالشكل ، و الحجم . لكن الملاحظة-حسب أرسطو- تدل على أنها تتباين بالخصائص و ليس بالأعراض ، كما أن العقل يدل على أن الاختلاف في العرض لا يُحدث اختلافا في الجوهر[27] .

و رتب أرسطو تلك العناصر في عالم الكون الفساد- ما تحت فلك القمر- كالآتي : النار أعلاها , و التراب أسفلها ،و الهواء و الماء بينهما ، و يتصلان بهما هكذا: الهواء مُتصل بالنار، و الماء مُتصل بالتراب-الأرض- ،و الهواء و الماء كل منهما متصل بالآخر[28] .

و أما العنصر الخامس فهو عند أرسطو عنصر بسيط ، لا يقبل الفساد و لا التكوّن ، لأنه لا ضد له ، و يسمى الأثير ، و مادته هي المكونة للأجرام السماوية . و هو يٌقابل العناصر الأربعة في عالم الكون و الفساد ، لكن مادته تختلف عن مادتها ، لأنه جسم لا ضد له ، لذا فهو لا يتغير و لا يفسد ، بمعنى انه أزلي و لا يقبل التحولات التي تحدث للعناصر الأربعة في عالم الكون و الفساد[29] .

و زعم أرسطو أن العناصر الأربعة مُكَوّنة من مادة سماها : الهيولى . و هي-حسب زعمه- موضوع غير معين في نفسه ، و أزلية حاملة لتلك العناصر ،و لا تُوجد مُفَارقة مُنفَصلة إلا في الذهن ، و لكنها توجد دائما متحدة في صورة ما بالجسم الذي تدخل في تركيبه . و هي ليست ماهية ،و لا كمية ، و لا شيئا داخلا في المعقولات التي هي أقسام الوجود . و لكنها قوة صرفة لا تُدرك في ذاتها،و إنما نضطر لوضعها ، و ندركها بالمماثلة كما ندرك الخط شيئا بغير صورة ، لأنه تارة يكون في صورة ، و طورا يكون في أخرى[30].

و تلك الهيولى هي في الحقيقة ليس لها وجود فِعلي مُستقل عن العناصر الأربعة و الأجسام التي تدخل في تركيبها ؛ فهي ليست من الموجودات ، و إنما (( هي تكتسب صفة الوجود لدى اتحادها بإحدى الكيفيات الأربع ، و هي : الحار ، و البارد ، و الرطب ،و الجاف ، التي يُقابلها : النار ، و الماء ، و الهواء ، و التراب . فتُصبح حينئذ أحد هذه الأجسام البسيطة ))[31] . و قد أشار أرسطو إلى أن الهيولى لها شبه وجود ، فهي ليست عدماً، و ليست موجودا مركباً ، لكنها قريبة منه[32] . و بمعنى آخر فهي مادة لا وجود لها بالفعل ، بل لها وجود بالقوة و حسب ، فهو عدم نسبي ،و ليس عدما محضا ؛ لكنها تستمد وجودها الفعلي من الصورة التي تتجوهر بها ، فتصبح بذلك لها القابلية للوجود . و لهذا فإن الصورة عند أرسطو هي الوجود الفعلي و ليست المادة ، لأن الصورة جوهر الشيء و ماهيته ،و سابقة للمادة [33].

و تلك المادة عند أرسطو هي المكونة لطبيعة الموجودات الطبيعية ، كمادة الخشب التي هي مادة الأشياء الخشبية ، و مادة البرونز التي يستمد كل شيء برونزي مادته منها كالتمثال البرونزي مثلا . و هي مادة ثابتة لا شكل لها ،و تبقى في (( كل حالة كما هي في ذاتها بلا تغير ))[34] . و على أساس تلك المادة تحدث عملية التكوّن و الفساد ،و يحب أن تتوفر فيها أربعة عوامل ، أو علل و أسباب ، هي: المادة ، و الصورة ، و الفاعل و الغاية[35] .
و المادة عند أرسطو لها وجودان : وجود بالقوة ، و وجود بالفعل ؛ الأول ليس وجودا بالمعنى الأصيل ، لكنه يختلف عن العدم المحض ، و الثاني هو الوجود الحقيقي للمادة حسب الصورة التي تظهر بها. و حسب أرسطو أن الآراء التي خالفته في قوله بالوجودين ، هي آراء عاجزة عن تفسير ظاهرة الصيرورة ، أو التغير في الكون ، و هي أخص ما يتميز بها عالمنا . و عليه فإنه : يستحيل تأويل هذه الظاهرة ما لم نُقر بأن بين الوجود و العدم طوراً ثالثا، و هو طور القوة ، أو الإمكان ، و إلا لم يكن بين الممكن و الممتنع فرق ، فأمكن للشيء أن ينبثق عن المُمتنع ،و امتنع له أن ينبثق عن المُمكن ، و هو مُحال، و لكان الحدوث أو التغير على سبيل الطفرة،و هو ما تُُكذبه المُشاهدة )) [36] .

تلك هي أقوال أرسطو التي بينت موقفه من العناصر الخمسة المكونة لمادة العالم و موجوداته . و هي مواقف مليئة بالأخطاء، و غير صحيحة في معظمها،و تضمنت أيضا أوهاما و مغالطات ، و تحكمات لا مبرر صحيح لها . فجنى بها أرسطو على عقله و علمه ،و على أتباعه و من تأثر به . و تفصيل ذلك فيما يأتي:
أولا إن القول بأن العناصر الخمسة جواهر أزلية لا تفنى و لا تفسد ، هو قول بلا علم، و رجم بالغيب ، لأنه لم يكن عنده أي دليل صحيح يجعله يقرر ذلك، و إنما اعتمد على ظنون و اجتهادات ضعيفة ، لا يصح الاعتماد عليها للقول بأزلية تلك العناصر . و بما أنه سبق أن أبطلنا زعم أرسطو بأزلية العالم، فإن قوله بأزلية العناصر الخمسة باطل أيضا ، لأنه جزء من هذا الكون الحادث،و حدوث الكل يستلزم حدوث أجزائه .

و ليس صحيحا أن العناصر الخمسة بسيطة لا تتفكك و لا تتحلل ، فهذا زعم باطل ، و قول بلا علم ، و ما كان له أن يقول ذلك من دون دليل صحيح . لأن الثابت قطعا أن تلك العناصر( الماء، و النار، و الهواء، و التراب ) ، هي بنفسها عناصر مُركبة من مجموعة عناصر أخرى . فالماء مثلا يتكون من عنصريين أساسيين ، هما : الأوكسجين ،و الهيدروجين ،و التراب يتكون من عدة معادن ،و الهواء يتكون أيضا من الأوكسجين ، و النيتروجين، و الهيدروجين، و غير ذلك .، و كذلك النار تتكون من الأوكسجين ،و مواد أخرى[37] .
و ثانيا ليس صحيحا أن العالم العلوي( ما فوق فلك القمر) مُكوّن من مادة الأثير ، التي هي مغايرة للعناصر الأربعة المُكوّنة للعالم الأرضي( ما تحت فلك القمر) . فهذا كلام بلا علم، و رجم بالغيب ، بناه أرسطو على ظنونه و رغباته ، لأن الثابت شرعا و علما أن العالم كله مخلوق من مادة واحدة في أصلها الأول ، و واحدة أيضا في أصغر وحدة مكونة لها ، و هي الذرة . فالله تعالى يقول: ((أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ))- سورة الأنبياء : 30 - ،و ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ))-سورة فصلت : 11 - .
و أما علماً فقد تبين حديثا أنه يُوجد تشابه كبير بين مكونات العالمين العلوي و السفلي ، لأن العالم بأسره أصل مادته واحدة ، حسب نظرية الانفجار العظيم. فالشمس مثلا ، من مكوناتها : غازا الهيدروجين و الهليوم ، يمثل فيها الأول 3/4 من كتلتها .و هذان الغازان موجودان في الغلاف الغازي للأرض[38] ، و الهيدروجين يدخل في تكوّن الماء ، و موجود في القشرة الأرضية بنسبة 1 / 100 [39] .

و من مظاهر قول أرسطو بلا علم أنه زعم أن عالم ما فوق فلك القمر مُكوّن من عنصر واحد ، هو الأثير . و هذا غير صحيح ، و كان على أرسطو أن لا يتكلم في أمر لا يستطيع رؤيته ،و لا التأكد منه بواسطة آثاره . و الصحيح أن العالم العلوي مُكوّن من عناصر كثيرة ، من غازات ،و معادن ،و أشعة . و قد أثبتت الأبحاث الفيزيائية الحديثة عدم وجود عنصر الأثير الذي قال به أرسطو ،و من اتبعه من أهل العلم[40] .
و بناء على ما ذكرناه فليس صحيحا ما ذكره أرسطو بأن القول بوحدة أصل المادة يُبطل تمايز الأجسام جوهريا ،و يجعلها مُتمايزة بالعرض فقط . فهذا لا يصح ، لأن أصلها هو نفسه قابل للتغير و اكتساب جواهر و خصائص أخرى عن طريق التفاعل الكيميائي و الذري . فالماء مثلا له ذاتيته و خصائصه ، فإذا تفكك بالحرارة يتحول إلى غاز الأوكسجين و الهيدروجين ، و في هذا الحالة يصبح لكل منهما خاصيته و صفاته . و نفس الأمر ينطبق على المعادن، فهي تتحول من حالة إلى أخرى عن طريق التفاعل الكيميائي و الذري ، و في كل حالة تتحول إليها يكون لها فيها ذاتية و خصائص . و عليه لا يحدث ما أشار إليه أرسطو من ذهاب الخصائص الجوهرية ، و إنما الذي حدث هو اختلاف تنوّع و تعدد في الحالات ،و ليس إبطالا لجواهر و خصائص الأجسام الطبيعية . و صحيح أن أرسطو و من تابعه لم يكونوا على علم بذلك من الناحية التجريبية ، لأنه لم يكن اُكتشف في زمانهم ، لكن الخطأ دخلهم من أنهم جزموا بأمر بأدلة ظنية ، من جهة ،و لم يُدققوا البحث في موقفهم من تفاعلات الأجسام من جهة أخرى .

و ثالثا إن ترتيب أرسطو للعناصر الأربعة في العالم الأرضي ( ما تحت فلك القمر) على أساس طبيعة كل عنصر : حرارة و خفة ، فالنار في الأعلى ،و التراب في الأسفل ، و الماء و الهواء بينهما ؛ هو ترتيب غير صحيح ، لأن الحقيقة خلاف ذلك في باطن الأرض و وجهها و أعلاها . فنحن نجد أن تلك العناصر كلها موجودة في باطن الأرض ، و متداخلة فيما بينها ، و كذلك حالها فوق سطحها . و في سماء الأرض لا يوجد الترتيب الذي ذكره الرجل ، لأن غلافها الجوي كله هواء تقريبا ، تتخلله ذرات من الغبار،و بخار الماء، و يُمثل فيه غاز الآزوت 78/ 100 من حجمه ،و 76/100 من وزنه[41] . فالترتيب الذي ذكره الرجل غير صحيح ، قاله ظنا و تأملا ، و اجتهادا و تخمينا ، فأخطأ من جانبين: الأول أن قوله غير صحيح، و الثاني أنه جزم بأمر جانب منه لا يُمكنه رؤيته ،و لا التأكد منه بآثاره ، كقوله بأن النار مُحيطة بالهواء، و أن الماء هو العنصر الموجود بين الجسم السماوي و الأرضي[42] .
و رابعا إن ما قاله أرسطو حول الهيولى- المادة الأولى- غير صحيح في معظمه ، و فيه تغليط و سفسطة . لأنه إن كانت هذه الهيولى لها وجود حقيقي و مادتها تخالف المادة المعروفة، فهي في هذه الحالة لها وجود حقيقي، و لها موضوع ، و كمية، و كيفية، و صورة حسب طبيعتها ،و من لا تنطبق عليها الصفات التي ذكرها أرسطو .
و إن كان لها وجود حقيقي و مادتها لا تختلف عن المادة المعروفة ، و لا تنفك عنها كما قال أرسطو ، فهي بالضرورة لها صورة ، و كمية ، و كيفية ... و في هذه الحالة لا يصح وصفها بالصفات التي ذكرها أرسطو ، لأنها لا تنطبق عليها .
و أما إن كانت الهيولى هي مجرد فكرة مجردة، و ليس لها وجود موضوعي حقيقي في الواقع ، فهي في هذه الحالة معدومة ، و المعدوم لا وجود حقيقي له . و من ثم لا يصح التكلم عنها كأنها موجودة في الواقع ، و لا وصفها بتلك الأوصاف ،و لا نفيها عنها أيضا ، لأن المعدوم لا وجود له في الواقع .


[1] سنوثق ذلك و نتوسع فيه في المبحث الثاني من هذا الفصل بحول الله تعالى .

[2] سنعود إلى موضع البرهان و القياس في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى .

[3] ديوجين لا يرتيوس: مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ترجمة عبد الله حسين ، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006 ، ص: 123 ، 124 .

[4] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، حققه أسعد جمعة ، مركز النشر الجامعي ، تونس ، 2002 ، ج 2 ص: 3 ، 4 .

[5] أرسطو : الكون و الفساد ، ترجمة أحمد لطفي السيد ، الدار القومية ، القاهرة ، د ت ، ص: 215 .

[6] أرسطو : مقالة اللام ، ص: 7 . و ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 333 .

[7] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، ج 2 ص: 230 .

[8] ابن رشد : الآثار العلوية ، حققه سهير فضل الله ، و سعاد عبد الرازق ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1994ص: 29 .يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 190 .

[9] أحمد فخري: أرسطو : المعلم الأول ، ص: 55 .

[10] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، حققه جمال الدين العلوي ، ط1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، 1994 ، ص: 19 .

[11] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 118 ، 119 .

[12] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، 81، 86 .

[13] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 187-188 .

[14] ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة، ص: 123، 124 .

[15] سنوثق ذلك من الشرع و العلم لاحقا .

[16] هذه حقيقة ثابتة شرعا و علما ن لا تحتاج على توثيق ، لكننا سنوثقه لا حقا بحول الله تعالى .

[17] لأن الشرع حث في آيات كثيرة على تدبر الكائنات الحية و الجامدة ، لوصلها إلى خلق الكون ،و معرفة خالقه . كما أن العلم الحديث من المعروف أنه قام أساسا على الاستقراء ، و منه وصل إلى نتائج قرر بها حدوث الكون و عدم أزليته .

[18] سنوثق ذلك و نتوسع فيه قريبا بحول الله تعالى .

[19] سبق توثيق قوله هذا .

[20] دافيد برجاميني : الكون ، دار الترجمة ، بيروت ، ص: 98 . و منصور حسب النبي : الزمان بين العلم و القرآن ، ص: 108، 122 .

[21] الكون ، ص: 50، 91، 98 . و آن تري هوايت : النجوم ، ترجمة إسماعيل حقي ، ط7 ، دار المعارف ، مصر ، 1992 ، ص: 20 ، 21 . و روبرت أغروس و جورج ستانسيو : العلم في منظوره الجديد ، المجلس الوطني للثقافة ، الكويت ، ص: 9 ، 60 ، 61 . و منصور حسب النبي : نفس المرجع ، ص: 89 ، 100 .

[22] ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول ، ص:102 . ابن رشد : كتابه تلخيص ما وراء الطبيعة ، ص: 50 و ما بعدها .

[23] منصور حسب النبي : الزمان بين العلم و القرآن ، ص: 123، 124 ، 126 .

[24] نفس المرجع ، ص: 128 .

[25] سنفصل في الفلك عند أرسطو في الفصل الثاني، بحول الله تعالى .

[26]أرسطو : مقالة الدال ، ص : 356 . ديوجين لا يرتيوس : المختصر ، ص: 123 . و ابن رشد : الآثار العلوية ، تحقيق سهير فضل الله ، و سعاد عبد الرزاق ، الهيئة المصرية العامة ، القاهرة ، 1994 ، ص: 15 و ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 116. و أرسطو : المعلم الأول ، ص: 84، 162 .

[27] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 173 ، 174 .

[28] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، حققه جمال الدين العلوي ، ط 1 ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994 ، ص: 19 . و ماجد فخري: أرسطو ، ص: 42 .

[29] ديوجين لا يرتيوس : المصدر السابق ، ص: 123 . و ابن رشد : شرح السماء و العالم ، ص: 205 . و ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 118 ، 119 . و يوسف كرم : المرجع السابق ، ص: 92 .

[30] يوسف كرم : المرجع السابق ، ص: 175، 176 ، 196 . و ماجد فخري: أرسطو ، ص: 31 .

[31] ماجد فخري : نفس المرجع ، ص: 49 .

[32] أرسطو : الطبيعة ، ج 1 ص: 82، 83 .

[33] ماجد فخري : المرجع السابق ، ص: 86 ، 88 ، 89 .

[34] أرسطو : مقالة الدال ، ص: 346 .

[35] ماجد فخري: المرجع السابق ن ص: 86 .

[36] نفسه ، ص: 86 ، 89 ، 90 ، 163 .

[37] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الهواء، و الماء ، النار .

[38] منصور حسب النبي : لزمان بين العلم و القرآن ، ص: 108 . و دافيد برجاميني : الكون ، دار الترجمة ، بيروت ، ، ص: 13 ، 87 .

[39] الموسوعة العربية الميسر ، مادة : الهيدروجين .

[40] نفس المرجع ، مادة : الفيزياء، الأثير ، الضوء .

[41] حسن أبو العينين : أصول الجغرافيا المناخية ، ص: 57 و ما بعدها . و الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الهواء، الأرض .

[42] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، حققه جمال الدين العلوي، ص: 21، 22، 84 .
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-11-2012, 02:01 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

و مع وضوح و معقولية ما قلناه ، فإن أرسطو يُغالط و يُسفسط عندما أصر على وجود نسبي ثالث للهيولى بين الوجود و العدم ، فلا هو موجود ،و لا هو معدوم ، فهو في منزلة بين المنزلتين حسب زعمه . و هذا زعم باطل مردود عليه ، لأنه لا يُوجد –عقلا و لا علما- شيء لا هو موجود و لا هو معدوم ،و لا يُوجد شيء بين الوجود و العدم ، فهو إما موجود و إن اختلفت طبيعته ، و إما غير موجود . و كلام أرسطو لا يقوله عاقل صادق يعي ما يقول ،و إنما يقوله مُتعصب ، أو جاهل . و نحن لا نترك بدائه العقول و حقائق الواقع ،و نتبع أرسطو في هذه الأوهام و الأباطيل من جهة ،و لا نعتذر له في هذه التُرهات و السفسطات من جهة أخرى . فالرجل لا للمنطق اتبع ،و لا للواقع المُشاهد احتكم !! .

و عليه فإنه لا يصح زعم أرسطو بأننا مُضطرون بأن نقول بالوجود النسبي للهيولى بين الوجود و العدم . لأنه بينا أنه لا توجد أية ضرورة تدفعنا إلى الاعتقاد بذلك من جهة ،و القول بها باطل عقلا و واقعا من جهة أخرى . و قوله بأننا نُدرك تلك الهيولى كما (( نُدرك الخط بغير صورة ، لأنه تارة يكون في صورة ، و طورا في أخرى )) ، هو مثال ضده ، و لا يصلح مثالا على زعمه . لأن الخط له صورة و حجم و مادة ، و إذا تغيّر الخط تتغير بعض أوصافه أو كلها ،و هذا ليس نفيا للوجود، و لا هو وجود بين موجود و معدوم ،و إنما هو اختلاف تنوع و تعدد للموجود . كما أن الرجل نسي أو تناسى أنه لا يصح تمثيل الهيولى المزعومة بالخط ، لأن الهيولى لا وجود حقيقي لها، و ليست مرئية لأنها بين الموجود و المعدوم حسب زعم أرسطو ، لكن الخط شيء موجود ، له صفات محسوسة ، لا هو معدوم ،و لا شبه معدوم . و لو كانت الهيولى مثله لكانت موجودة ،و ليست في منزلة بين الوجود و العدم ،و بما أنها ليست مثله ، فلا يصح ضربه مثالا للاستدلال على وجودها، و هي غير موجودة !! .

و بذلك يتضح أن الرجل قال بوجود تلك الهيولى المزعومة ، ليس لأنها موجودة حقيقة ،و إنما قال بوجودها لأنها ضرورية لنسقه الفكري الزائف الذي بناه على القول بأزلية الكون : وجودا ،و حركة . و هذا تبرير مرفوض ، من جهة ،و قد سبق أن بينا بطلان زعمه بأزلية الكون ،و قوله بهذه الهيولى الخُرافية من جهة أخرى .

و خامسا إنه كما بينا- بالمناقشة العقلية- بطلان قول أرسطو بتلك الهيولى المزعومة ، فهو باطل أيضا شرعا و علما . فأما شرعا فإن الله تعالى قد نصّ صراحة على أنه خلق العالم من مادة واحدة ، لها وجود موضوعي حقيقي ، كقوله سبحانه و تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ))- سورة الأنبياء : 30 - ، و ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ))-سورة فصلت : 11 -.

و أما علماً فإن العلم الحديث قال بأن الكون تكوّن من مادة واحدة بناءً على نظرية الانفجار العظيم، و هي-أي المادة- على تنوّعها فإنها تتكون من أصغر جزء معروف هو الذرة ، لها وجود حقيقي بذاتيتها و صفاتها و آثارها، و هذا أمر ثابت معروف ، من حقائق العلم الحديث لا يحتاج إلى توثيق [1].

و سادسا إن تقسيم أرسطو للموجود إلى قسمين: موجود بالفعل ،و موجود بالقوة ، هو تقسيم غير علمي و لا يصح ،و ليس تقسيما حقيقيا . و توضيحه هو أن الصحيح أن الموجود هو وجود واحد ،و هو الوجود- الموجود- بالفعل ،و أما الوجود-الموجود- بالقوة ، فهو وجود مزعوم لا حقيقة له في الواقع كموجود موضوعي ، و إنما هو عدم- معدوم- ،و العدم ليس له وجود يُمثله كموجود حقيقي في الواقع، و إنما يُمثله العدم بأنه معدوم .
و لتوضيح ذلك نضرب المثال الآتي: إذا قلنا : هذا الولد الصغير طفل بالفعل، و رجل بالقوة –بالإمكان- . معنى ذلك أن هذا الطفل له وجود حقيقي كطفل ، لكن ليس له وجود حقيقي كرجل ، و إنما له استعداد ليكون رجلا في المستقبل إن طال عمره . فهذا الاستعداد ليكون رجلا هو جزء من طفولة الطفل ،و ليس جزءا من مرحلة رجولته ، لأنه ما يزال لم يصل إلى مرحلة الرجولة . فالموجود بالفعل هو مرحلة الطفولة و من خصائصها الاستعداد ليكون الطفل رجلا إن عاش . لكن لا يصح وصف مرحلة الرجولة بأنها وجود بالقوة ، لأن هذا الولد ما يزال طفلا، و لم يبلغ مرحلة الرجولة التي لا وجود لها في الحقيقة ، و الاستعداد الذي في الطفل-ليكون رجلا- ليس هو الرجولة ،و إنما هو من خصائص الطفولة. فالقول بأن الرجولة وجود بالقوة ، هو قول فيه تحريف و تغليط و سفسطة ،و يتنافى مع ما يتطلبه الأسلوب العلمي في الدقة و الوضوح في التعبير .

و أما قوله بأن الإقرار بوجود طور ثالث للمادة بين الوجود و العدم ، هو أمر ضروري
و إلا يستحيل تفسير ظاهرة التغير و الصيرورة في الطبيعة . و هذا الطور هو طور القوة-الإمكان- ،و بدونه لا يُوجد فرق بين الممكن و الممتنع ،و لكان ذلك التغير أو الحدوث بطريقة الطفرة ، و هذا أمر يُكذبه الواقع[2] . فالأمر ليس كما قال أرسطو و دافع عنه ، و لا يستلزم ما نبّه إليه ؛ لأنه سبق أن بينا –في مثال الطفل- أن الوجود واحد فقط ، هو الوجود بالفعل ،و استعداده ليكون طفلا ليس وجودا بين الوجود و العدم ، و إنما هو وجود واحد تابع لوجوده الحقيقي كطفل ،و ليس وجودا مُستقلا عنه .

و بذلك يتضح أن التغير و صيرورته في الطبيعة هو تغير في إطار ثابت من جهة ، و تغير قائم على استعدادات الكائن من جهة أخرى . و هذه العملية مُستمرة و فاعلة في الطبيعة من دون افتراض ما توهمه و افترضه أرسطو من وجود ثالث بين الموجود و المعدوم ، لأنه غير موجود في الحقيقة ،و لا يصح القول به . و عليه فإن الموجود المُتغيّر يأخذ ذاتيته و خصائصه من طبيعته و حسب تحوّله من طور إلى آخر ،و في كل الحالات عندنا وجود و عدم ،و لا يُوجد وجود ثالث بينهما،و لا يصح توهمه و افتراضه . و قولنا هذا لا يُلغ الفرق بين الممكن و الممتنع ، لأن الممكن هو جزء من الموجود بالفعل الذي له استعداد على التغيّر ، و ليس مُستقلا عنه ،و لا جزءا من العدم ،و لا له وجود ثالث بينهما . و هذا يعني أن الفرق يبقى قائما بين الممكن و الممتنع ،و أن التغير سيستمر في الطبيعة سواء كان بطيئا ، أو سريعا ، أو فُجائيا .

و أخيرا- سابعا- إن قوله بأن الصورة أسبق من المادة ، فإن كان يقصد بذلك الصورة كوجود حقيقي مادي في الواقع ، فإنه لا مادة بلا صورة ،و لا صورة بلا مادة . و المادة قبل تحوّلها إلى هيئة أخرى ، فهي تحمل صورة مُسبقاً ، و لا يمكن أن توجد بلا صورة . و الصورة مهما تغيرت فهي لا توجد بلا مادة .

و أما إذا كان يقصد بالصورة كوجود صوري في الذهن ، كالنجار الذي له صورة في ذهنه و يعمل على تجسيدها بالخشب في صورة مادية ، فإن الحقيقة هي أن مادة الخشب لها صورة مُسبقة تمثل حالتها الخشبية الأولى . و الصورة الذهنية التي يحملها النجار ليُجسدها في الواقع هي أسبق ذهنيا لا واقعيا ، فهي ليست صورة حقيقية في الواقع ، و إنما صورة ذهنية فقط . فهي ليست ذات وجود حقيقي مادي في الواقع ، و عليه لا يصح القول أنها أسبق من المادة ، لأن كلامنا يتعلق بها و هي في الأعيان لا في الأذهان . و مع ذلك توجد حالات كثيرة تكون فيها الصورة المادية أسبق من الصورة الذهنية ، و ذلك عندما يأخذ الإنسان صورا من الطبيعة فيُجردها ذهنيا ، ثم يعمل على رسمها أو تقليدها .

و إنهاءً لما ذكرناه يتبين أن أرسطو أخطأ في معظم ما قاله عن العناصر الخمسة المكونة للعالم ،و ما يتصل بها من حالات أخرى . و اتضح أيضا أنه تكلم في أمور لم يكن في مقدوره رؤيتها ،و لا يُمكنه التأكد من صحتها بوسائل أخرى ؛ و مع ذلك تكلم فيها بأسلوب الجزم و الإثبات . و هذا فعل مرفوض شرعا و عقلا و علما ، و هو انحراف منهجي كبير عن منهج الاستدلال القويم ، و البحث العلمي الصحيح . و هذا يعني أن الرجل لم يكن حريصا على التثبت ، و التدقيق ، و التمحيص عندما خاض في موضوع العناصر الخمسة و ما يتصل بها ،و إنما كان مهملا لذلك ، متأثرا بخلفياته الذاتية و المذهبية.

و تبين أيضا أن أرسطو كان ذاتيا إلى درجة كبيرة من جهة ،و مهملا لجانب كبير من أساسيات البحث العلمي الصحيح من جهة أخرى . فعندما أراد أن يجعل العالم العلوي أزليا إلهيا ، زعم أنه يتكون من عنصر واحد بسيط لا يتغير ،و لا يفسد ، و لا يفنى ،و لا ضد له ،و أن الآلهة هي التي تُحركه حتى جعل عددها يُساوي عدد الأفلاك[3] !! . قال كل ذلك- و غيره- بلا دليل صحيح من العقل و لا من العلم ، و خاض فيه بظنونه و تأويلاته ،و اجتهاداته و رغباته .

و كما أنه أقام فكره على التناقض في موقفه من الإله و قوله بأزلية الكون ، فإنه هنا وقع أيضا في التناقض و بنى عليه موقفه من الهيولى . من ذلك أنه زعم أن الهيولى لا هي موجودة ،و لا هي معدومة !! . و أنها موجودة و ليست مفارقة للمادة ، لكنها- مع ذلك- لا ماهية و لا موضوع لها ، و لا كمية ،و لا كيفية ،و لا صورة لها ... !! .

قول أرسطو بألوهية العقول و الأجرام السماوية:
كان أرسطو يعتقد بتعدد الآلهة و يُسميها عقولا ، و يزعم أن عالم ما فوق فلك القمر-الأجرام السماوية- كلها ذات طبيعة إلهية . و تفصيل ذلك هو أنه قال بوجود عقول في العالم العلوي، و هي جواهر و محركات ، و عقول أزلية مفارقة للمادة ،و ليست هيولانية . و قد وصف العقول العشرة بأنها آلهة ،وهي خارجة عن الزمان ،و لا يُؤثر فيها . و جعل عددها يُساوي عدد الحركات و الكواكب، آخرها العقل الفعال ، الذي يُحرك فلك القمر[4] . و هي محركات الأجرام السماوية و الطبيعية ، تحركها حركة أزلية دائمة[5] .

و أما الأجرام السماوية و مكوناتها ، فقد كان أرسطو يُؤلّها ، و يزعم أنها جواهر ،و موجودات إلهية . و قد أشاد أرسطو بأجداده اليونان الذين نسبوا الألوهية إلى الأجرام السماوية[6] .
و أقول: إن قول أرسطو بتعدد الآلهة ،و ألوهية الأجرام السماوية ، هو قول باطل عقلا و علما و شرعا ، و ليس له في ذلك إلا الأوهام و الظنون ،و السفسطة ،و المزاعم . و هو خرافة من خرافاته التي أخذها عن المجتمع اليوناني و الحضارات القديمة . و تفصيل ذلك فيما يأتي :

أولا إنه قال بتلك المزاعم –أُلوهية العقول و الأجرام- من دون أي دليل صحيح ، و إنما قالها زعما ،و ظنا ،و رغبة . و متى كانت المزاعم و الظنون و الرغبات أدلة و براهين ؟ ! . إنها ليست حججا و لا أدلة ، و إنما هي مزاعم لا يعجز عنها أحد ،و من صفات أهل الظنون و الأهواء ، أنهم من الذين يصدق عليهم قوله سبحانه و تعالى : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }-سورة النجم:23- ،و {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }-سورة النجم:28- ،و{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }-سورة القصص:50- .
و من جهة أخرى أنه لا يُوجد أي مبرر صحيح للقول بتلك المزاعم و الخرافات ، انطلاقاً من فلسفة الرجل ،و من خارجها أيضا . فبالنسبة لفلسفته فبما أنه قال بأزلية العالم بما فيه من عقول و أجرام،و ذكر أن الإله هو الذي حرّكه، فهذا وحده كافٍ لجعل العالم يتحرك و يُؤدي وظيفته كاملة من دون أية حاجة إلى القول بتعدد الآلهة التي سماها عقولا مُفارقة . و أما من خارجها فالأمر أوضح و أصح ، فبما أن الكون مخلوق، و لا بد له من خالق عظيم كامل الصفات ، فهذا يعني أن كل ما سواه مخلوق ليس بإله ،و لا توجد أية حاجة ،و لا مُبرر للقول بوجود آلة غير الله سبحانه و تعالى .

فواضح من ذلك أن أرسطو لم يكن-فيما زعمه- مُتبعا للعقل الصريح ،و لا للعلم الصحيح ، و إنما كان مُتبعا لظنونه و أهوائه ،و رغباته و تناقضاته . فلماذا سمح لنفسه أن يتكلم في موضوع لا يُمكنه رؤيته ،و لا لديه من آثار صحيحة تُمكنه من الخوض فيه، حتى يزعم أنه توجد عقول إلهية تُحرك العالم ؟! . و من أين له بأن الأجرام السماوية هي أيضا ذات طبيعة إلهية ، مع أن الظاهر من صفاتها أنها كائنات مخلوقة كالإنسان و غيره ؟ ! . فالرجل جانب الصواب و قال بخرافات و حماقات ، و وقع في أخطاء فادحة و مُضحكة ، مع أنه كان في مقدوره تجنب ذلك ، لو أنه اتبع المنهج البديهي في الاستدلال . فلو طبقه و نظر به إلى الأجرام السماوية ، لتبين له أنها كائنات كالتي نراها على الأرض ، ثم يُطبق عليها مبدأ الجمع بين المُتشابهين ،و التفريق بين المختلفين . فسيتبين له أن تلك الأجرام هي كغيرها من الكائنات الأرضية ، ليست آلهة ،و لا أنصاف آلهة ،و إنما هي كائنات مخلوقة . و هذه النتيجة البديهية هي نتيجة صحيحة ، أوصلنا إليها المنطق الفطري البديهي الذي طبقناه في استدلالنا هذا ،و هي نفس النتيجة التي قررها الشرع ،و قال بها العلم الصحيح . لكن أرسطو أرادها عِوجا ، فتفلسف تفلسفا معوجا قرر به أمورا باطلة ،و أخرى خُرافية . و هذا إخلال كبير منه بمنطق البحث الاستدلال العلمي الصحيح ، فباع بذلك المنطق و العلم بالظنون و الأوهام،و الرغبات و الخرافات ، و هذه هي الميزة الغالبة على إلهيات أرسطو من بدايتها إلى نهايتها .

و ثانيا إنه كما أن أرسطو لم يُقدم دليلا صحيحا على قوله بتعدد الآلهة ،و ألوهية الأجرام السماوية ، فإنه أيضا هو قول مُخالف للوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . فأما عقلا فلا شك أن العقل البديهي لا يعرف إلا الخالق و المخلوق ، و بما أن الله تعالى هو الخالق لهذا العالم فلا يصح، و لا يُعقل، و لا يُوجد أي مبرر مُقنع للقول بتعدد الآلهة. لأن الله تعالى كامل غني بذاته ، و على كل شيء قدير ، فلا يحتاج إلي تلك الآلهة المزعومة ، و القول بوجودها معه عبث ،و لا فائدة من وجودها من جهة . و بما أن الكون مخلوق ، فلا يُمكن أن يكون إِلهاً ،و لا يُمكن أيضا أن تكون بعض كائناته آلهة من جهة أخرى .

و أما شرعا فالأمر واضح جدا ، بأنه-أي الشرع- لا يقبل مزاعم أرسطو من أساسها ، و يرفضها رفضا مُطلقا ،و ينسفها نسفا . من ذلك قوله سبحانه : {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ }-سورة الشعراء:213- ،و {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }-سورة الذاريات:51 - ،و {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً }-سورة الفرقان:3- ،و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ }-سورة الأنبياء:22- ،و {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }-سورة المؤمنون:91- .
و أما علما ، فإن العلم الحديث هو أيضا أثبت ما قرره العقل الصريح ،و الشرع الصحيح ، من أن هذا الكون مخلوق ، ليس أزليا ، و لا ربا ،ولا خالقا ،و لا إِلهاً ، و ليست أجرامه السماوية آلهة ، و لا تحركها آلهة ،و لا أنصاف آلهة . و إنما الكل مخلوق خاضع لسنن إلهية مُحكمة غاية في الدقة ، و لا يحتاج إلى آلهة لتحركه ،و هذه الحقائق هي من ثوابت الشرع و العلم معا ، لا تحتاج إلى توثيق .
و ثالثا إن أرسطو كما بنى أقواله على التناقض في موقفه من الإله ،و أزلية العالم ،و العناصر الخمسة ، فإنه هنا أيضا ضل التناقض سمة فكره و منهجه في الاستدلال . من ذلك أن أرسطو قال بوجود الإله الكامل ، ثم زعم أنه توجد آلهة أخرى كثيرة . و هذا نقض للقول الأول ، لأنه لا مبرر لوجودها مع وجود الإله الكامل .

و منها أيضا إن أرسطو ذكر أن الإله هو الذي حرّك تلك الآلهة- العقول- ،و هذا يعني أنها ناقصة ،و لم تكن قادرة على الحركة بذاتها . و هذا نقض لقوله بألوهيتها ، فلو كانت آلهة ما احتاجت إلى غيرها .

و من تناقضاته أيضا أنه قال بأزلية تلك الآلهة من جهة ، ثم قال بأن الإله هو الذي حرًكها من جهة أخرى . و هذا تناقض صارخ ، لأن الأزلي لا يحتاج إلى من يُحركه ،و إذا حرّكه غيره فهذا يعني أنه ليس أزليا ،و أن له بداية تحرّك فيها مهما تصورنا قِدم الفعل الإلهي .

و أخيرا يتبين-مما ذكرناه- صحة ما قلناه سابقا ، من أن أرسطو لم يُقم أقواله المتعلقة بألوهية العقول و الأجرام السماوية ، لم يُقمها على عقل صريح ،ولا على علم صحيح . فأخطأ أخطاء فاحشة أفسد بها جانبا من فكره و سلوكه ، و جنى بها على العقل و العلم ،و باعهما بالظنون و الرغبات ، و الأوهام و الخرافات .

ثالثا: حركة الكون في فلسفة أرسطو:
يُعد مبدأ الحركة من أهم أُسس إلهيات أرسطو ، فبها تحرّك الكون ،و بها أصبح أزليا أبديا ،و بها تستمر عمليات توالد الكائنات الحية ،و موقفه منها هو الذي أوقعه في أخطاء كثيرة ، جنى بها على العقل و العلم معاٌ . فما هو مصدرها ؟ ، و ما هي طبيعة تحريك الإله للكون ؟ ،و ما هو دليله على أزليتها؟ ،و ما هي تفاصيل تلك الأخطاء ؟ .

زعم أرسطو أن الإله هو الذي حرّك العالم بواسطة الفلك المحيط ،و العقول الإلهية المحركة للأجسام السماوية ، حرّكه بحركة أولى أزلية[7] . و قد تحرك بالاضطرار من المحرك الأول[8] . و الإله عند أرسطو غير مُنشغل بالعالم ، فهو منشغل بتأمل ذاتي لا نهاية له ، لذا فهو حرّك العالم كما يُحرك المحبوب محبه من دون قصد منه[9] . و لم يكن تحريكه علة فاعلة عن قصد و اختيار من الإله ،و إنما كان علة غائية بالنسبة للكون . فالإله يُحرك دون أن يتحرك كما يُحرك المعشوق عاشقه من دون أن يتحرك ؛ فالإله هو المعشوق يُحرك معشوقه عن طريق العشق . و بمعنى آخر أنه حرّك العالم على نحو ما تحركنا الأشياء المُشتهاة و اللذيذة ،و لاسيما المعقولة، من دون أن تتحرك هي[10].

و زعم أيضا أن الإله هو محرك الحركة الأولى الأزلية للكون ،و هي متصلة به دائما ، و تحريكه هو بالاضطرار ، فهو يفعل ضرورة لا اختيارا . و ينبغي أن يكون فعله دائماً ، و إلا لم تكن الحركة المنبثقة عنه أزلية[11] .

و تلك الحركة ليست حادثة ،و لا تفنى و لا تفسد ، و هي متصلة الحركة و الزمان ، فزمانها مُتصل أزلي ،و لا يُمكن تصور بداية لزمانها ، لأن كل توقف يستلزم زمانا قبله ،و هكذا . فهي حركة أزلية متصلة و واحدة ، لا بداية لها ،و غير مُمكن أن تكون لها بداية. و حركة السماء الأولى مستوية بدرجة واحدة لا اختلاف فيها من حيث الشدة و الضعف ، فلو كانت مختلفة لظهر لنا آثار ذلك ،و لو كانت كذلك لتباعدت الكواكب عن بعضها في طول الدهر[12] .

و عَلّل سبب أزلية الحركة و الكون بأن حركة العالم دائرية تجعل الكون يرجع على نفسه ، و بذلك لا يكون محدودا و لا بداية له . و لو كانت على خط مستقيم لكان محالا أن يكون الكون أزلياٌ، فوجب بذلك أن يكون الكون دائريا . لكن حركة التوالد التي تخضع لها الكائنات الحية في الأرض تتم على خط مُستقيم ، من أعلى إلى أسفل ،و بالعكس ، لذلك لم تكن نفس أفرادها تعود و تتكرر في الوجود. و زعم أن الجسم المستدير يتحرك حركة لا تسكن أبدا ،و هذا ليس من باب القول فقط، و إنما هو من باب العقل و الحس أيضا[13] . و زعم أيضا أن سبب أزلية الحركة المستديرة هو أنها حركة كاملة و غير متناهية ، لأن المستقيمة ناقصة و متناهية . و قرر أن الحركة المستديرة باقية دائما بالضرورة[14] .
و الحركة عند أرسطو هي حاملة الزمان ، و الزمان صفة لها ،و لا ينفصل عنها، و هو غير متناه من طرفيه: من القبل و من البعد ، و هما أزليان و متصلان[15] .
تلك هي طائفة من أقوال أرسطو و آرائه المعبرة عن موقفه من حركة الكون : مصدرا و نشأة ، مصيرا و زمانا . و رداً عليه أقول :

أولا إن قول أرسطو حول حركة الكون ، غير صحيح في معظمه ،و قد بناه على الظن و الرغبة ، و القول بلا علم . و ما هو إلا زعم ، و الزعم ليس دليلا ،و لا يعجز عنه أحد . و قد وقع الرجل في انحراف استدلالي كبير- هو امتداد لمنهجه السابق- فأوقعه في أخطاء و متناقضات ، سيأتي ذكرها تِباعاً فيما يأتي بحول الله تعالى . من ذلك أن قوله في الحركة قد بناه على ما قاله في الإله و أزلية الكون ، فهو فرع من أصل . و بما أنه سبق و أن أبطلنا معظم ما قاله عن الإله ،و بينا بطلان قوله بأزلية العالم ، فهذا يستلزم أن قوله بأزلية الحركة و الزمان هو باطلا بالضرورة . لكنا – مع ذلك- فإننا سنواصل مناقشته عقليا لمزيد من التوضيح و الإبطال لمزاعمه المتهافتة أصلا .

و ثانيا إن أرسطو لم ينطلق من مقدمات صحيحة ، و إنما انطلق من رغبات و تحكمات بنى عليها زعمه السابق . و هذا أمر مرفوض موضوعيا و علميا . من ذلك أنه زعم أن الحركة منها المستديرة ، و هي أزلية كاملة غير متناهية ،و تتعلق بالعالم السماوي . و منها الحركة المستقية ، و هي حادثة تتعلق بالعالم الأرضي ، حيث الكون و الفساد . و هذا زعم غير صحيح ، لأن الحركة ليست محصورة في المستديرة و المستقيمة ، فمنها مثلا الحركة المتعرجة . و كما أنه لم يُقدم دليلا عل ذلك التفريق بين الحركتين ،و كل ما قاله هو زعم و ليس دليلا ، فلم يُقدم حجة و لا شاهدا يُثبت بأن الحركة المستديرة أزلية و المستقيمة حادثة ،و إنما قال ذلك رغبة و تحكما منه . و هذا الانتقاد كافٍ وحده لرفض زعم أرسطو لأنه خطأ من الناحية الاستدلالية ،و ما بُني عليه فلا يصح . و الشواهد الآتية تزيد زعمه إبطالا و تهافتا .

أولها بما أنه سبق أن بينا: شرعا و علما و عقلا بأن الكون حادث مخلوق ، فهذا يستلزم إبطال زعمه بأزلية الحركة المستديرة ، لأنها هي جزء من أنواع الحركات في الكون ، و بما أنه حادث مخلوق فهي بالضرورة مخلوقة لا محالة .

و الشاهد الثاني هو أنه لا يُوجد في الحركة المستديرة ما يدل على أنها أزلية لا متناهية و لا فاسدة ،و أن غيرها حادث فاسد . فهي كما نراها في الطبيعة لا تختلف عن المستقيمة و لا عن المتعرجة ، فهي مثلهما. لأن كلا منها مُسخّر يتحرك في إطار ثابت ،و له دورة كاملة يُؤديها و يتحرك فيها . و العبرة هنا ليست في شكلها ،و إنما في دورتها الكاملة التي تقوم بها ، في إطارها الذي تتحرك فيه ، فهي هنا مُتشابهة تماما . و عليه فكل منها كامل في دورته من جهة ، و متناهِ في إطاره من جهة أخرى . فالمستديرة مثلا لها بدايتها و نهايتها في إطارها الذي تتحرك فيه، و يمكن تحديد نقطة بداية و نهاية لها ، و عندما تكملها تُعيد الدورة و هكذا ،و هذا الأمر ينطبق أيضا على الحركتين : المستقيمة و المتعرجة ، فلا فرق بينهما و بين المستديرة المُستديرة .

و الشاهد الثالث مفاده أنه لا يصح القول بأن الحركة المستديرة كاملة غير متناهية، و غيرها مُتناهٍ ،و ليس كاملا . فهذا زعم باطل ، لأن كل كائنات هذا العالم بما فيها الحركة المستديرة ، هي في ذاتها كاملة قبل فنائها ، و غير متناهية ما دامت حية ، فإذا ماتت انتهت . و عليه فإن كل كائن هو كامل في خلقته من جهة ، و ناقص في ذاته بحكم أنه مخلوق من جهة أخرى . و هذا يعني أن كل كائن له دورة حياة تبدأ من مولده و تنتهي بموته ،و هذه سنة كونية إلهية تنطبق على كل المخلوقات دون استثناء ، بما فيها الحركة المستديرة .
و من ذلك أن النجوم و الكواكب -مثلا- لها مدارات تدور فيها ، و مع ذلك فهي لها بداية و نهاية ،و قد ثبت هذا شرعا و علما ، بأنها تموت و تتلاشى كغيرها من المخلوقات الأرضية ،و هذا أمر لا يحتاج إلى توثيق[16].

و الشاهد الرابع مفاده أنه لا يُوجد أي اختلاف حقيقي نوعي بين الحركتين المستديرة و المستقيمة . فالإنسان يصنع الحركتين و يستخدمهما في آلاته الصناعية ، من دون أي فرق جوهري بينهما، فهو اختلاف تنوع ،و ليس اختلافا جوهريا من حيث الحدوث و عدمه،و لا من جهة التناهي و عدمه . فهما حادثتنا لهما بداية و نهاية بلا شك . و إنما أرسطو هو الذي يُفكر برغباته و تحكماته ، فعندما أراد أن تكون الحركة أزلية أخترع حكاية الحركة المستديرة ، فعجبا منه ،و من تفكيره المعوج !! .

و الشاهد الأخير- السادس- مفاده أنه من الثابت علماٌ أن الكون كله يتحرك حركة مستديرة ، من خلال أصغر وحدة مُكوّنة له هي الذرة ، و هي تتحرك دائريا في مداراتها . و مع ذلك فالكون كله حادث مخلوق كما سبق أن بيناه . فأين حكاية أرسطو المزعومة بأن الحركة المستديرة أزلية ؟ ! .

و ثالثا إن زعم أرسطو بأن الحركة التي حدثت بين الكون و المحرك الذي لا يتحرك ، حدثت من جهة الكون فقط ، كما يحدث بين العاشق و المعشوق من دون قصد من المعشوق . هو زعم باطل، و كلام فارغ، و عورة من عورات الرجل،و خرافة من خرافاته ، و قول بلا علم ، و رجم بالغيب . فمن أين له هذا الحكاية المُضحكة ؟! ، إنه مُطالب بالدليل الصحيح لإثباتها ، و رغباته و تحكماته مرفوضة مردودة عليه . و نحن نطالبه بالدليل اليقيني ،و إلا فقوله كلام باطل . إنه لن يستطيع الظفر به ، لأن زعمه هذا باطل أساسا من جهة ،و لأنه تكلم بلا علم في أمر غيبي لا يُمكنه معرفته من جهة أخرى .
و مما يُبطله هو أنه ليس صحيحا أن عملية العشق المزعومة تتم من طرف واحد ، فهي قد تحدث من الطرفين ، بل المعروف أنه إذا حدث ، فسيحدث بتفاعل الطرفين قصدا من العاشق و المعشوق . لكنه قد يحدث من طرف واحد ، لعدم علم المعشوق ، أو لرفضه . و عليه فمن أين لأرسطو أن عملية العشق التي حدثت و حركت الكون -حسب زعمه- كانت من جهة الكون من دون مشاركة الإله ؟ ! . بمعنى أن الإله كان علة غائية للكون من دون قصد منه ،و لم يكن علة فاعلة له . إنه-أي أرسطو- لا يملك أي دليل صحيح على زعمه ،و لن يستطيع الإتيان به أو إثباته ، لأمرين أساسيين : الأول هو أن زعمه هذا خرافة من خرافاته. و الثاني مفاده هو أنه لن يستطيع التأكد منه إلا إذا أستطاع أن يُعيد تاريخ حدوث تلك الحكاية ليراها ، أو أنه كان حيا حاضرا عندما حدثت فرآها مباشرة ، أو أنه يمتلك أدلة ملموسة تشهد بحدوث تلك الحكاية ، أو أن الإله اتصل به و أخبره بها . و لا شك أن كل هذه الاحتمالات مُستحيلة في حقه، فلا يتحقق و لا واحد منها فيه . فالرجل يتكلم بلا علم،و يُخرّف على نفسه و غيره، و زعمه باطل مردود عليه .

و من جهة أخرى فإنه بما أن ذلك العشق المزعوم تم من طرف الكون فقط حسب زعم أرسطو ، فمعنى هذا أنه الكون كان كائنا حيا واعيا يعشق و يُحب قبل حدوث عملية العشق المزعومة ، فاختار هو ممارستها. و هذا يعني أنه كان متحركا أصلا قبل عملية العشق ، لأن من طبيعة الحي الواعي العاشق أنه يتحرك حسب طبعه . فهو إذن مُتحرك بطبعه ،و لا يحتاج إلى عشق الإله ليتحرك ،و لا إلى الإله ليُحركه قصدا، أو بلا قصد . و بهذا يسقط زعم أرسطو بأن العالم تحرك بسبب عشقه للإله من دون قصد منه .
و إذا فرضنا جدلا أن الكون تحرّك بعد العشق ، فهذا أيضا يعني أنه كان قادرا على القيام بالعشق من تركه ، و لم يُكن محتاجا إلى من يُحركه ،و من ثم فحو مُتحرك أصلا، و له اختيار في الفعل من عدمه، و من هذه صفاته لا يحتاج إلى من يُحركه . و إذا افترضنا أنه لم يكن حيا و لا مُتحركا، فهذا يعني أنه كان ميتا، و الميت لا يُمكن أن يعشق أبدأ . و من ثم تسقط الحكاية المزعومة من أساسها . و إذا قيل : إن العشق تم من طرف الإله تجاه الكون . فهذا لا يصح ، لأنه مُخالف لقول أرسطو صراحة ، و يُنقضه أيضا ، لأنه يعني أن الإله هو الذي تحرك بسب عشقه للكون الجامد، فتحرك تجاهه: عشقا و فعلا ، و قصدا و اختيارا . و هذا مبطل تماما لحكاية العشق الأرسطية المزعومة .

و رابعا إن قوله بان حركة العالم أزلية ، هو قول لا يصح عقلا ،و لا شرعا ،و لا علما . فأما شرعا و علما فقد سبق أن بينا بطلان قوله بأزلية العالم، و هذا يستلزم بطلان قوله بأزلية الحركة ، لأنها جزء لا يتجزأ منه . و أما عقلا فهو لا يصح أيضا ، لأنه إذا كانت حركات العالم العلوي ، و حركة التوالد الحيواني في العالم الأرضي أزلية لا بداية لها ، فهذا يستلزم أن الكون لم يكن في حاجة أبدا إلى من يُحركه،و لا إلى من يعشقه لكي يُحركه . و سبب ذلك واضح ، هو أنه –أي الكون – كان موجودا كاملا بكل حركاته و كائناته ، و لم يكن يحتاج أبدا إلى من يُحركه .
و أما إذا لم تكن تلك الحركات العلوية و الأرضية موجودة ، فأوجدتها حركة حكاية العشق المزعومة، فهذا يعني بالضرورة أنها حادثة ، أوجدتها تلك الحركة ، التي تدخلت و أوجدت كل حركات العالم . و في الحالتين لا يصح زعم أرسطو في قوله بأزلية حركة العالم ، فهو باطل مردود على صاحبه .

و أما إذا قيل: إن أرسطو قال بأزلية الكون على أساس أنها قائمة على أزلية دوام الفعل الإلهي و أبديته . فهذا لا يصح أيضا ، بدليل الشواهد الآتية : أولها إنه ليس لأرسطو دليل صحيح يُثبت به زعمه، و لن يستطيع الحصول عليه أبدا . لأن الفعل الإلهي لا يُمكن أن يكون محصورا فيما قال به أرسطو ، و إنما هو قائم على القدرة و الاختيار ،و الإرادة المُطلقة ، والإله الذي لا يتصف بذلك فليس ربا ،و لا خالقا ،و لا إِلهاً رغم أنف أرسطو الجاهل بالله . فالله تعالى فعال لما يُريد ، ومن ثم فهو سبحانه إما أن يفعل دائما دون توقف باختياره، و إما أنه لا يفعل مُطلقا بإرادته، و إما أنه يفعل و يتوقف باختياره أيضا . فقول أرسطو لا يصح من وجهين : الأول أنه زعم أن دوام فاعلية الإله مفروضة عليه فرضا ،و هذا زعم باطل و مُضحك ، لأنه لا يصح عقلا و لا شرعا أن يفرض أرسطو و لا غيره أمرا ما على الله سبحانه و تعالى . و من يقول بذلك فهو جاهل، أو مريض ، و أو زنديق مُعاند مُكابر .
و الوجه الثاني مفاده أن قول أرسطو لن يستقيم إلا إذا جاء بدليل قطعي من عند الله ينص على أن فعله تعالى دائم أبدي . و هذا لن يحصل عليه أرسطو ،و من ثم فزعمه باطل ،و استدلاله بدوام الفاعلية لا يصح .
و الشاهد الثاني هو أنه بما أن الدليل الصحيح قد قام على أن الكون بكل ما فيه من مخلوقات و حركات حادث مخلوق ، فهذا يعني بالضرورة أنه ليس قائما على دوام الفاعلية الإلهية الأزلية كما زعم أرسطو ،و إنما هو قائم على الفعل الاختياري لله في الفعل من عدمه .

و الشاهد الثالث هو أن القول بتدخل الفعل الإلهي في التحريك، فإن هذا يستلزم أن هذا التدخل له بداية مهما تصورنا قدمه،و القول بخلافه هو تناقض ،و لا يصح الهروب و الاختفاء بحكاية دوام الفاعلية . لأن الأمر محصور بين أمرين : إما أن يكون الكون أزليا بكامله ،و من ثم فهو لا يحتاج أبدا إلى الإله ليخلقه،و لا ليُحركه . و إما أنه كان محتاجا إلى الإله ، ليُحركه أو لأمر آخر . و هذا يستلزم أن الكون كان موجودا ناقصا ينتظر من يُحركه، و هو بهذه الحالة قد سبق الفعل الإلهي في الوجود ، ثم تدخل الفعل الإلهي ليحركه ، و هذا يستلزم بالضرورة أن فعله له بداية مهما تصورنا قدمه، فهو حادث يُؤدي بالضرورة إلى حدوث الحركة .

و الشاهد الرابع-الأخير- مضمونه أن قول أرسطو بدوام فاعلية الفعل الإلهي ، لا يصح و يتناقض مع قوله بأن العشق بدأ من العاشق نحو معشوقه، بمعنى أنه بدأ من الكون نحو الإله . و هذا يعني أن الفعل لم يبدأ من الإله و إنما بدأ من الكون ،و هذا يستلزم أن الفعل له بداية بالضرورة ،و ليس أزليا من جهة ،و هو يُبطل القول بدوام الفاعلية الإلهية المزعومة من جهة ثانية،و لا يصح نسبة الفعل الأول الحقيقي إلى الإله ، و إنما يجب نسبته إلى الكون من جهة ثالثة . و كل هذا يُبطل زعم أرسطو في قوله بأزلية الحركة بدعوى دوام فاعلية الفعل الإلهي . فالرجل اخترع فكرة دوام الفاعلية للاختفاء من ورائها . ثم جعلها مقدمة بنى عليها زعمه بأزلية حركة الكون .

و خامسا إن زعمه بأن الزمان أزلي بسبب أزلية الحركة ، فهو زعم باطل، و بما أن الأمرين مترابطين ، على أساس أن الحركة حاملة الزمان كما ذكر أرسطو ،و بما أنه سبق أن أثبتنا بطلان قوله بأزلية الكون و حركته، فإن هذا يستلزم أيضا بطلان القول بأزلية الزمان . لكننا مع ذلك نقول : إن موقف أرسطو من الزمان غير صحيح، لأنه امتداد لقوله بأزلية العالم، و بما أنه سبق أن أبطلنا قوله بذلك، فهذا يستلزم خطأ و بطلان موقفه من الزمان . فالزمان ليس أزليا ،و إنما هو مخلوق من مخلوقات هذا العالم ، فخلق الله تعالى للكون أوجد الكون بمادته و زمانه و مكانه ، فالكل حادث مخلوق . و هذا الموقف لا يُثير أية مُشكلة حقيقية ، كالتي أشار إليها أرسطو عندما قال : إن القول ببداية للزمان ليس حلا، لأنه يستلزم وجود قبل و بعد للزمان . و هذا اعتراض لا يصح ، لأنه بناه على أساس القول بأزلية العالم ، و بما أنه حادث مخلوق ،و ليس أزليا ، فاعتراضه يسقط و لا يصح . لأنه لا وجود لزمان و لا لحركة، ،و لا لمكان و لا لمادة قبل الخلق ،و هنا يتوقف السؤال بطريقة طبيعية ،و لا يصح السؤال عن الزمان و لا عن غيره من المخلوقات . و بذلك يسقط زعم الرجل و اعتراضه .

و من جهة أخرى فقد ذكر الفيزيائي المعاصر منصور حسب النبي أن الفيزياء الحديثة نصت على أنه لا زمان دون مكان،و لا مكان دون زمان ، و لا وجود لزمان مُطلق ، و لا لمكان مُطلق ،و قد أُطلق على دمجهما مصطلح : الزمكان . و نصت أيضا على أن الزمن نسبي و ليس مُطلقا ، فالزمن الذي نحس به على كوكب الأرض يختلف عن الزمن المقيس على الكواكب الأخرى . من ذلك أن السنة على كوكب عطارد مثلا يُعادل 88 يوما من أيامنا ،و يومه يُعادل 59 يوما من أيامنا، فقصُر عامه و طال يومه بالنسبة لأعوامنا و أيامنا [17] .

و هذه المعطيات العلمية الحديثة كما أنها تُبطل قول أرسطو بأزلية الزمان من جهة ، فإنها من جهة أخرى تُبطل أيضا زعمه بأن حركة السماء مستوية واحدة .
و أخيرا – سادسا – أُشير هنا إلى أن أرسطو كما بنى موقفه من الإله ،و نشأة الكون و مكوناته على التناقض ، فإنه قد بنى موقفه من حركة الكون على التناقض أيضا . فأصبح التناقض سمة أساسية من سمات إلهياته ، لأنه لم يُقمها على عقل صريح ،و لا على علم صحيح، و إنما أقامها أساسا على رغباته و أوهامه ،و تحكماته و خرافاته . و أما تناقضاته المتعلقة بهذا المبحث فمنها :

أولها إنه زعم أن فعل الإله يجب أن يكون أزليا، ثم زعم أن الحركة بدأت من الكون كتحرك العاشق نحو معشوقه ،و هذا نقض للقول بأزلية الحركة الفاعلة .
و التناقض الثاني مفاده أنه – أي أرسطو – زعم أن فعل الإله دائم أزلي ،و هو الذي حرك العالم ، ثم زعم أن الفعل بدأ من الكون في عشقه للإله من دون أي قصد و اختيار من الإله . و هذا تناقض يتعلق بمن هو الفاعل الحقيقي ، فهل هو الإله ، أو الكون ؟ ،و أرسطو قد أسند إليهما الفعل معا ،و نفاه عنهما أيضا !! .

و الثالث إنه زعم أن الإله و الكون أزليان ، و لا يتحركان ، ثم قال: إن الإله لم يُحرك إرادة و قصدا، و إنما الكون هو الذي تحرك عشقا له . و هذا تناقض صارخ فكيف استطاع الكون أن يتحرك و هو لا قدرة له على الحركة ،ولا على التحريك ؟ ! . و من أين له ذلك ؟ ! .
و التناقض الرابع مفاده أن أرسطو زعم أن الكون لا يتحرك ، و مُحتاج إلى من يُحركه، ثم زعم أن الكون هو الذي تحرك بعشقه للإله من دون مشاركة من الإله . و هذا تناقض ، لأن القول بأن الكون هو العاشق يستلزم أنه كائن حي واعٍ يستطيع الحركة بذاته ،و لا يحتاج إلى من يُحركه . و هذا يعني أيضا أن الكون هو الذي حرّك نفسه، و من ثم فليس الإله هو الذي أوجده ، لأنه أزلي حسب زعم أرسطو ،و لا هو الذي حرّكه، و إنما الكون هو الذي حرّك نفسه بقصد و وعي و إرادة ، عندما عشق الإله . فالكون في الحقيقة هو الإله ، فهو كون و إله ،و هذا شبيه بفكرة وحدة الوجود. فأرسطو انطلق من القول بالثنائية : الإله و الكون ، و انتهي إلى القول بوحدة الوجود ،و هذا بسبب قوله بأزلية العالم .
و التناقض الرابع مفاده هو أن أرسطو أكد مراراٌ على أن الإله هو الذي حرّك ،و جعل التوالد الحيواني أزليا، و أن فعله في ذلك هو أبدي سرمدي ، لكنه زعم أيضا أن الإله ليس هو الذي أمر، و لا خلق، و لا له علم بالكون، و لا هو قادر على الفعل . فهذا تناقض صارخ واضح !! ، فهل يُعقل أن يقوم الإله بتلك الأفعال ، و هو لا علم له بالكون ،و لا قادر على الفعل ؟! . أليس هذا من أغرب تناقضات و مهازل فكر أرسطو ؟! ، و هل يصح أن يصدر هذا عن إنسان عاقل يعي ما يقول ؟ ! ، و أليس من يقول هذا لا يستحق الاحترام العلمي ؟ ! .

و التناقض الأخير- الخامس- مضمونه أن الرجل زعم أن الحركة المستديرة أزلية بذاتها، و أن الحركة المستقيمة المتحكمة في توالد كائنات الأرض هي حادثة بذاتها و ليست أزلية . لكنه سبق أن ذكرنا أنه زعم أن التوالد الحيواني في الأرض- الذي تحكمه الحركة المستقيمة- هو توالد أزلي على مستوى الأنواع . و هذا تناقض ، فكيف تكون الحركة المستقيمة حادثة من جهة ،و أزلية من جهة أخرى ؟ ! .

فواضح مما تقدم ذكره ، أن قول أرسطو بأزلية الحركة و الزمان هو قول غير صحيح، و أنه اخترع مبررات وهمية من عنده ، ثم جعلها مقدمات بنى عليها ذلك الزعم .. فهذا الرجل يفرض رغباته و تحكماته، و ظنونه و خرافاته على بدائه العقول ،و حقائق الطبيعة ، ثم يُوجهها كما يريد حسب أهوائه و خلفياته المذهبية . و بمثل هذا الانحرافات و الخرافات جنى أرسطو على نفسه و أتباعه ،و على العقل و العلم . و مسلكه هذا لا يصح و مرفوض عقلا ، و شرعا ، و علما ،و ليس هو من الموضوعية ،و لا من الاستدلال العلمي الصحيح في شيء .
رابعا : الغائية و الوظيفية في الكون عند أرسطو:
بنى أرسطو موقفه من الغائية و الوظيفية في الطبيعة على أساس إلهياته التي سبق أن ذكرناها . و انطلاقا منها فإن الكون عنده ليس له غاية محددة يعمل من أجلها ، فهو أزلي أبدي، يُكرر نفسه على أساس الحركة الدائرية . و ليس الإله هو الذي جعل للكون غايته، و إنما الكون هو الذي تحرك من ذاته وجعل لنفسه غاية هي عشق الإله من دون أي تدخل منه ، فلم يكن له دخل مباشر في تحريك العالم ،ولا في تحديد و توجيه مساره و غايته ،و العالم كله عاشق للإله [18] .

و عنده أن أسمى وظائف الإنسان في الحياة، هو ممارسته للتأمل النظري، و سعادته الكاملة يجدها في ذلك ،و به يقترب من الطبيعة الإلهية و يتشبه بها، لأن فعل الإله هو تأمل ذاته ، فهو عقل و عاقل و معقول[19] . و الإنسان- كغيره كائن من كائنات العالم الأرضي - يطلب دائما الكمال من الموجودات العلوية الأزلية، فهدفه في حياته الدنيوية أنه يسعى إلى تحقيق ذلك الكمال[20] .

و يعتقد أرسطو أنه ليس للإنسان خلود في هذه الأرض كفرد، و إنما له خلود كنوع ، فهو في ذلك كغيره من الحيوانات خلودها لأنواعها لا لأفرادها[21]. و عندما يموت الإنسان يُفارق عقله المادة ، و ينفصل عن الجسد و يصبح بذاته فقط ، و عندها فقط يكون خالدا و أزليا ،و مع ذلك لا نذكر حاله الأولى ، لأنه عقل غير منفعل ، و قد سماه أيضا بالنفس الناطقة ، لكن العقل المُنفعل قابل للفساد[22] .

وأما عن الغائية و الوظيفية العملية في الطبيعة ، فقد فسر أرسطو تنوع الكائنات الحية و وظائفها بالاضطرار و الحاجة و الطِباع ،و انتقد القائلين بالآلية في حركة الطبيعة ، و عنده أن الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا و لا عبثا . من ذلك أنه ذكر أن الطِباع هيأ للإنسان يدين ، بدلا من الرجلين الأماميتين ، لعدم حاجته إليهما. و أشار إلى أن الفيلسوف أنكساغورس لم يقل صوابا عندما قال : لما كان للإنسان يدان صار أحكم و أعقل من جميع الحيوان . ، فرد عليه بأن الأمثل هو أن نقول: لما كان (( الإنسان أعقل و أحكم من جميع الحيوان ، صارت له يدان )) . و قال أيضا : (( فليس الإنسان حكيما جدا لحال أن له يدين ، بل لأنه حكيم جدا صارت له يدان )). و خلاصة فكرة أرسطو هي أن الوظيفة توجد العضو و تعدمه [23] . و يرى أيضا أن الحاجة إلى الولادة بين الحيوانات هي التي دعت إلى الجماع ،و (( صيّر الطباع أعضاء مُختلفة موافقة بعضها لبعض ، فبهذا النوع يختلف عضو الذكر و عضو الأنثى ))[24] .

تلك هي نظرة أرسطو إلى الغائية و الوظيفية في الكون عامة،و العالم الأرضي خاصة . فأين خطأه في ذلك ؟ ،و كيف جنى به على العقل و العلم .
أولا ، لا يصح القول بأن العالم الأرضي - عالم الكون و الفساد – ناقص و يسعى دائما لإدراك الكمال في طلبه الأبدي له بفعل الموجودات العلوية الأزلية. فمن أين لأرسطو هذا الزعم ؟ ! و من الذي حدد للكون هذه الغاية ؟ ! . علماً بأن القول بذلك فيه تناقض مع أفكار الرجل نفسها ، لأنه بما أن العالم الأرضي أزلي بطبيعته حسب زعمه ، فمن المفروض أنه لا يختلف عن عالم الموجودات العلوية الأزلية ، و يجب أن يكون كاملا بطبيعته و أزليته ، على أساس أزلية الأنواع التي قال بها الرجل . فالعالم الأرضي إذن لا يختلف عن العالم السماوي ، فكل منهما كامل أزلي بذاته و بأنواعه ، و بذلك يكون الرجل قد ناقض نفسه .
فمن أين لأرسطو بأن العالم الأرضي يطلب ذلك الكمال المزعوم ؟ ! ، و من الذي أعلمه بذلك ؟ . واضح من مواقف الرجل السابقة، أنه لا الإله قرر ذلك،و لا أخبر به ، لأن الإله –حسب زعمه- لم يكن له دخل مباشر في ظهور الكون المتحرك،و لا كان له علم به . و لا الكون ذاته هو الذي حدد ذلك الهدف ، لأن أرسطو وصفه بأنه كان ناقصا غير قادر على الحركة،و إنما الإله هو الذي حرّكه و جعل حيواناته تتوالد أزلياٌ[25] . و أمام هذا التناقض الصارخ لم يبق إلا أن أرسطو هو الذي حدد تلك الغاية للكون ، فمن أين له ذلك ؟ و ما هو دليليه عليه ؟ . واضح بداهة أنه ليس لأرسطو أي دليل صحيح يُثبت به زعمه ، لأنه خاض في أمر لا يُمكنه أن يقول فيه قولا يقينيا . فتجاوز حدوده و تكلم بالظن و التخمين ، و اتخذ موقفا بناه على رغباته و تحكماته .

و بناء على ذلك فإن زعمه بأن غاية الكائنات في هذا الوجود أنها تطلب كمالها بعشق الإله . هو كلام غير ثابت و لا يُمكنه إثباته أبدا ، و يمكن معارضته بأن يُقال مثلا : لا ، إن الغاية من الكون و موجوداته هي عبادة الخالق . أو يُقال : لا ، إن الغاية من ذلك هي اللعب و اللهو ،و الاستمتاع بملذات الدنيا . و كل ذلك مُمكن نظريا، فهو ليس بمستحيل ، و لا بواجب ، لكن الذي يُبين الاحتمال الصحيح في هذا الأمر، هو الشرع وحده . و بما أن الله تعالى قد بينا لنا ذلك في قوله سبحانه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }-سورة الذاريات : 56-58- ،و {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }- سورة الأنعام:162- ؛ فإن الاحتمال الصحيح هو أن الله تعالى خلقنا لنعبده وفق شرعه بإخلاص و حب و التزام بدينه . فأرسطو قد أخطأ في موقفه هذا خطأين : الأول أنه قال : إن الغاية من الكون هي عشق الإله ،و هذا مُخالف للشرع . و الثاني أنه أكد على صحة رأيه و بنى عليه أفكاره دون دليل صحيح من جهة ،و لا يُمكنه إثباته بيقين من جهة أخرى .

و ثانيا إنه كما أن أرسطو أخطأ في قوله بحكاية العشق، فإنه أخطأ أيضا في قوله بخلود العقل الإنساني المفارق للمادة[26] . فمن أين له ذلك ؟ إنه قرر أمرا لا يُمكن إثباته إلا بدليلي يقيني ،و لا يُمكن لأرسطو الحصول عليه. فلم يُخبره به إلهه المحرك الذي لا يتحرك،و لا أخبره به الكون الذي عشق معشوقه !! . و إن قيل : إن أرسطو هو الذي قرر ذلك . فنقول : نعم في إمكانه أن يجتهد لمحاولة معرفة مصير عقل الإنسان بعد موته ، لكن الرجل لم يفعل ذلك فقط ، و إنما قرر موقفه على أنه حقيقة من دون أي دليل صحيح من جهة ، كما أنه لا يصح عقلا الخوض في ذلك المجال الذي لا يستطيع الإنسان إدراكه و تصوّره من جهة أخرى . و هذا خطأ كبير: منهجاً و نتيجةً ، كان قد وقع في مثله سابقا ؛ فهذا الرجل مواصل على نهجه في الانطلاق من رغباته و تحكماته و بناء أفكاره عليها .

علما بأن حقيقة غاية الإنسان في الدنيا و مكانتها في فكر أرسطو هي غاية زائفة ، و من ثم فهي خرافة بعد وفاته . لأنه زعم انه بعد الموت يحدث خلود للنوع لا للأفراد . و هذا تغليط و زعم باطل ، لأنه إذا كان الأفراد لا يخلدون ،و لا وجود لكائن مُطلق آخر اسمه الإنسان ، أو الإنسانية ، فهذا يعني أن لا يُوجد خلود للأفراد و لا للأنواع ، و إنما أرسطو يُغالط و يُسفسط ،و قد سبق أن بينا بطلان زعمه بحدوث الأفراد و أزلية الأنواع ، فلا نعيده هنا . و عليه فغاية الإنسان في هذا العالم عند أرسطو ، هي غاية عبثية جوفاء ، و تنتهي إلى عبث ،و ليست غاية حقيقية في الدنيا و بعد الممات .

و أما إذا قيل : إن أرسطو كان يقول بخلود العقل المفارق بعد الموت ، و لم يكن ينكره ،و لا شكك فيه . فنحن نقول: إن كلام أرسطو في ذلك لا يٌقدم و لا يُؤخر ،و ليس بجديد، لأنه يندرج ضمن قوله بأزلية الكون ،و أبدية توالد أنواع الكائنات الحية من جهة ،و هو خلود لا دليل صحيح عليه ، و إنما هو من أوهام و تخمينات و رغبات الرجل من جهة أخرى . و هو أيضا خلود زائف و لا معنى له، لأنه لا ينتهي إلى معادٍ أخرويٍ يتحقق فيه العدل المطلق بين بني آدم . فليس من العدل و لا من الحق القول بخلود لا قصاص فيه، و ليس من العقل و لا من العدل أن يعيش الإنسان في دنياه بعقله و لحمه ، و شحمه و عظمه ثم عندما يموت يخلد عقله فقط !!. فالعقل و العدل يقولان بخلود الإنسان بكل مكوناته ليحاسب عن أعماله كلها يوم المعاد الأخروي . و هذا الذي قلناه قد نص عليه الشرع الصحيح و يُرجحه العقل الصريح ،و العلم الصحيح .


[1] لكن سبق توثيقه .

[2] ماجد فخري : أرسطو ، ص: 89 ، 90 .

[3] سنتكلم عنها فيما يأتي .

[4]أرسطو : مقالة اللام ، ص : 3 ، 4 . و ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 124 . و ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 352، 353 ، و تلخيص ما بعد الطبيعة ، حققه عثمان أمين ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ،1958 ، ص: 154 . . و ماجد فخري: أرسطو المعلم الأول ، ص: 56، 57 ، 98، 99 ، 84 . و تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 114 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 205 .

[5] ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 124 . و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 56 ، 57 ، 98 ، 99 . و تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 119 ، 120 . و يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 175 .

[6] أرسطو : مقالة الدال ، ص: 356 . ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 356 ، 357 .و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 55 ، 100 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ،ج 2 ، ص: 240 .

[7]سبق توثيق ذلك أكثر من مرة ، لكن أنظر مثلا :أرسطو : مقالة اللام ، ص: 7 . و ديوجين لاير تيوس: المختصر، 124 . علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 201 .

[8] أرسطو : نفس المصدر ، ص: 7 ، 8 .

[9] جفري بارندر : المعتقدات الدينية لدى الشعوب ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، عالم المعرفة ، رقم : 173 ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون ، الكويت ، ص: 60 .

[10]أرسطو : مقالة اللام ، ص: 5 ، 6 . ابن رشد : ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 305 و ما بعدها . و ماجد فخري: أرسطو ، ص: 96 ، 97 ، 170 . علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي، ج 2 ص: 192 .

[11] أرسطو : نفسه ، ص: 7 . و مقالة اللام ، ص: 6 . و ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 354 ، 355 . و ماجد فخري: أرسطو ، ص: 96 ، 97 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 201 .

[12] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ط1 ، دار إدريس ، سوريا ، 2007 ، ج 3 ص: 285 . و شرح السماء و العالم ، ج 2 ص: 188، 204، 205 ،230.

[13] أرسطو : الكون و الفساد ، ص: 215 . و مقالة اللام ، ص: 4 ، 5 . ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 302 . يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 92 .

[14] أرسطو : الطبيعة ، ج 2 ص: 891 .

[15]ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 288، 302 . و ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 114، 115 ، 131 . و أرسطو : المعلم الأول ، ص: 48 .

[16] كما أن عدم أزلية الكون يستلزم أن الأجرام السماوية هي أيضا لها بداية و نهاية .

[17] منصور حسب النبي: الإشارات القرآنية للسرعة العظمى و النسبية ، دار المعارف، القاهرة ، 2002 ، ص: 81 ، 82 .

[18] سبق توثيق كل ذلك ، فلا نعيد توثيقه هنا .

[19] مصطفى النشار: نظرية المعرفة عند أرسطو ، ط 3 ، دار المعارف ، 1995، ص: 5 .

[20] ماجد فخري: أرسطو ، ص: 91 .

[21] سبق توثيق ذلك، و مناقشته ، لكن أنظر مثلا: ماجد فخري : أرسطو ، ص: 89 .

[22] أرسطو : كتاب النفس ، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، ط 1 ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1949 ، ص: 113 .و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 84 ، 161 .

[23] أرسطو : في أعضاء الحيوان ،- من كتاب الحيوان – حققه كروك رمكة ، مجمع العلوم الملكية الهولندي، 1978 ،، ص: 49 . و طبائع الحيوان البري و البحري، المقالة : 14 ، حققه عزة سليم سالم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985 ، ص: 109، 110، 111، 112 ، 155 . و الطبيعة ، ج 1 ص: 142 و ما بعدها . إمام عبد الفتاح إمام : أرسطو و المرأة ، ص: 25 ، 29 .

[24] أرسطو : في كون الحيوان ، المقالات : 15 – 19 ، ترجمة يحيى بن البطريق ، حققه يان بروخمان ، و ويوان دروسات لولوقس ، مؤسسة دي خُوي ، رقم : 23 ، بريل ، بمدينة ليدن ، 1971 ، ص: 3 .

[25] سبق توثيق ذلك .

[26] ربما يقول بعض الناس : إن أرسطو عندما أشار إلى خلود العقل المفارق ، كانت إشارته غامضة ،و لم يقصد به الخلود الأخروي . و هذا الرأي فيه وجاهة، لكنه ضعيف جدا لأن كلام أرسطو في خلود ذلك العقل واضح كما نقلناه من كتاب النفس ،و من كتب أخرى .و سنذكر بعضه في الفصلين الثالث و الرابع بحول الله تعالى .
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11-11-2012, 02:01 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

و ثالثا إن تعليل أرسطو لظاهرة اختلاف وظائف أعضاء الحيوان بالحاجة و الضرورة ، هو تعليل غير علمي ،و غير مقنع . و قد بناه على قوله بأزلية العالم و إنكار تدخل الإله في خلقه و توجيهه . لذلك وجدناه ابتدع حتمية زائفة في تفسيره للتنوع الحيواني و الوظيفي في الكون، أقامها على رغباته و تحكماته ، كما فعل في مواقفه السابقة من الإله و صفاته، و الكون و ما يتصل به . فهو هنا يُطبق خلفياته المذهبية و المنهجية المتعلقة بالإلهيات يُطبقها هنا على عالم الطبيعة الحيوانية . فهو في هذا الموضوع لا يُعلل التعليل الصحيح ، بقدر ما يفرض حتمياته التي هي في الغالب رغباته و تحكماته المذهبية . و قد جعلها تحل محل الإله ، لأن هذه الحتمية المزعومة غير قادرة على تفسير الظاهرة تفسيرا عقليا علميا صحيحة إلا إذا جعلناها إِلهاً . لكن أرسطو متناقض مع نفسه في هذا الأمر ، لأنه يُنكر التدخل الإلهي في الطبيعة تدخلا إراديا مقصودا فاعلا في الطبيعة من جهة ،و يفرض الغائية الوظيفية على الطبيعة كأنها حتمية واعية تُمارس عمل الإله من جهة أخرى!! فمن أين جاءت ؟! ، و من الذي وضعها ؟ ! . و هل لها هدف غائي حقيقي ؟.، ليس لأرسطو جواب صحيح على هذا التساؤلات .

و بناءً على ذلك فإنه لا يُمكن إيجاد تفسير صحيح لظاهرة اختلاف وظائف و أعضاء الحيوان و علاقتها بالحاجة و الضرورة من جهة ، و يكون ذلك التفسير موافقا للعقل و الشرع، و للواقع و العلم من جهة أخرى ، إلا بالقول بأن ذلك التنوع الكثير ، و المًدهش ، و المُعجز قد تمّ بفعل التدخل الإلهي . لأن الواقع الحقيقي الذي نشاهده من حال الكائنات الحية ، يشهد أنها تعيش في البيئة الواحدة ،و هي شديدة التنوع في باطن الأرض و ظاهرها،و في سمائها ، من طيور، و زواحف ، و خيول ، و ديدان ، و أغنام ، و نباتات ، و حشرات ،و ... إلخ . فلو كان ذلك اضطرارا بسبب طِباعها ،و حاجياتها كما زعم أرسطو، لكانت كلها مُتشابهة ، لأن وسطها الواحد يفرض عليها ذلك، و كلها قادرة على أن تعيش على نمط واحد ، و ليست في حاجة إلى ذلك التنوع في الأنواع ،و الأشكال ،و الألوان من جهة ، و لا تستطيع تلك الحتمية المزعومة أن تُحدث فيها ذلك في الأنواع و الأشكال من جهة أخرى . و كان يكفيها أن تكون نوعا واحدا على غرار النوع الواحد كالأغنام مثلا . و بما أنها ليست كذلك فهذا دليل قطعي دامغ على أن هذا التنوع ليس سببه الكائنات نفسها ،و لا الظروف الطبيعية المحيطة بها ، و لا توجد أية حتميات طبيعية فعلت ذلك ، لأن الكل مخلوق محكوم بخلقته التي جبله الله تعالى عليها.

و عليه فإنه لا يُمكن أن يُوجد ذلك التنوع الحيواني المُشاهد ، إلا بفعل كائن مُختار مريد قادر يفعل ما يشاء و يختار ، و هو الله سبحانه و تعالى . و بدون هذا التفسير الموضوعي الصحيح ، لا يُمكن تعليل تلك الظاهرة تعليلا صحيحا يكون موافقا للشرع الصحيح، و العقل الصريح، و العلم الصحيح . و من يرفض هذا التفسير ، فإنه لن يستطيع الاعتراض عليه،و لا يُمكنه رفضه بالدليل الصحيح، و إنما إذا فعل ذلك ، فإنه سيعترض عليه و يرفضه بأهوائه و ظنونه ، و مزاعمه و حتمياته الزائفة، و تفسيراته الخرافية . و هذا مسلك أهل الأهواء ،و ليس هو من مسلك أهل العلم المخلصين الراسخين في العلم ، و لا هو من الموضوعية و لا من العلم في شيء .

و رابعا إن مثال أرسطو المتعلق باليدين ،و زعمه بأن الطباع هو الذي هيأ للإنسان ذلك دون غيره من الحيوان ، فهو تفسير غير صحيح بتلك الطريقة . لأنه لا يستطيع أن يُجيب جوابا صحيحا عن : لماذا خُص الإنسان بذلك دون غيره من الكائنات الأخرى ؟ . و من هذا الطِباع الذي فعل ذلك ، فهل هو خالق أو مخلوق ؟ ، و لماذا فعل ذلك في حق الإنسان ؟ ، ،و لماذا اختلف طِباع الإنسان عن طِباع الكائنات الأخرى ؟ ، و ... إلخ . فواضح من ذلك أن قول أرسطو بالطباع هو نوع من الهروب، و الإحالة على مجهول أيضا .
و أما رده على قول أنكساغورس ، فهو أيضا تفسير ضعيف و لا يصح أيضا . فليست اليدان هما اللتان جعلتا الإنسان أعقل و أحكم من جميع الحيوانات ،ولا أن عقله و حكمته جعلا له يديّن . فتفسيرهما غير صحيح ، لأنه لا يصح النظر إلى الإنسان بهذه النظرة الجزئية، فهو مخلوق كامل في خلقته ككائن ناقص ، كحال باقي المخلوقات . لأن كل مخلوق هو كامل في خلقته ، و يُؤدي دورة حياته بتمام و كمال حسب طبعه . و عليه فلا إنسان بلا عقل ،و لا إنسان بلا يدين ،و لا عقله هو الذي أوجد يديه، و لا يداه هما اللتان أوجدتا عقله . فالإنسان كائن مخلوق مٌستقل بذاته كغيره من كائنات هذا العالم المُحدث المخلوق .

و ليست الحكمة العالية جدا في الإنسان هي التي أوجدت له يدين ، فهذا تعليل لا يصح ، لأن وجود اليدين في الإنسان هما صفة كمال و نقص معا، ،و ليستا صفة كمال فقط . فالإنسان لما كان محتاجا إلى اليدين خلقهما الله تعالى له . و لا شك أن الإنسان لو كان يستطيع أن يلبي حاجياته دون يدين لكان ذلك بالنسبة إليه أحسن و أكمل ، لكن الله تعالى لم يُرد له ذلك ليجعله يحس بأنه مهما تميز عن الحيوان بصفات ممتازة انفرد بها ، فهو يبقى- مع ذلك- مخلوقا ناقصا .

و عليه فليست حكمة الإنسان العالية هي التي أوجدت له يديه كما زعم أرسطو، لأنه لو كانت هي التي أوجدتهما لكان من الأحكم و الأحسن و الأنفع للإنسان أن لا تجعل له يدين مُطلقا، و تجعله قادرا على تلبية كل ما يريده دون يدين ، كأن تجعله يحقق أغراضه بالأمر فقط من دون أن يتحرك من مكانه . و بما أن هذا لم يحدث فدلّ على أن تفسير الرجلين غير صحيح . و أنه ليس صحيحا أن الوظيفة هي التي توجد العضو و تعدمه، و إنما الصحيح هو أنه لا الوظيفة توجد العضو ، و لا العضو يُوجد الوظيفة ،و لا أحدهما يعدم الآخر . و إنما الكائن مخلوق لله بكامله، و لم يكن للمخلوق في خلقه رأي و لا دور ، و لا خُلق ناقصا في خِلقته حتى يظهر له عضو ، و لا خُلق بأعضاء زائدة عن خلقه حتى تندثر . و قولنا هذا يشهد على صحته الشرع و الواقع معا .

فأما شرعا فالله تعالى ذكر مرارا أنه سبحانه خلق كل شيء بإتقان و حكمة ،و قدره تقديرا مُحكما ، كقوله سبحانه : {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }- سورة الفرقان:2- ،و {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ }- سورة السجدة:7- ، و { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }- سورة النمل:88- ، و {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ }- سورة الملك:3- .

و أما واقعا ، فالذي لا شك فيه أن الطبيعة التي نراها – و نحن جزء منها- تشهد على أن كل أنواع المخلوقات – مع أنها مخلوقة ناقصة- إلا أنها كاملة في خلقتها . وأن كلا منها يحيا حياته طبيعيا ،و يُؤدي دورة حياته كاملة تتفق مع خلقته و طبعه . و لا يحتاج أي نوع منها إلى اكتساب عضو ،و لا إلى فقدانه . و كل كائن لن يستطيع أن يخرج عن طبعه و وظيفته . فإذا أخذنا حيوانا بريا- ليس من طبعه العيش في الماء- و رميناه في البحر مثلا ، فإنه سيموت لا محالة ،و إذا رمينا فأرا إلى الأعلى فإنه لن يتكون له جناحان لكي يطير، و إذا قطعنا للطائر جناحيه، ثم قذفناه إلى الأعلى فإنه سيسقط و لن يظهر له جناحان ليطير ، و... . فكل كائن خُلق كاملا في خلقته لا يحتاج زيادة و لا نقصانا ، و يُؤدي دورة حياته بتمام ، و بذلك تسقط مزاعم أرسطو ،و أمثاله من التطوريين المُحْدَثين.

و أما ربطه بين حاجة الحيوان إلى الولادة و الجماع ، فإن الحقيقة ليست كذلك ، لأن الحاجة إلى الولادة ليست هي التي أوجدت الجماع بعضوي الذكر و الأنثى بالضرورة . و لا التوالد يتوقف على تلك الطريقة فقط . و إنما الصحيح هو أن ذلك الجماع هو وسيلة من وسائل التوالد التي خلقها الله تعالى في الكائنات الحية ، و يُمكن تحقيق الغرض بدونه . و قد ثبت علميا أنه توجد كائنات حية تتوالد بدون جماع ، فتلقي الإناث بيضها في الخارج، فتأتي الذكور و تضع عليه النُطاف فيتلقح ، أو أن يلقي الذكر النُطاف في الماء ، فيدخل بواسطته إلى جسم الأنثى و يحدث التلقيح . و أخرى لا تتكاثر جنسيا ، و إنما عن طريق الانقسام الخلوي[1] . فالحقيقة إذن ليست كما قال أرسطو ، و إنما هي أن الله تعالى كما أنه أكثر من أنواع المخلوقات ، فإنه سبحانه عدد من طرق تكاثرها ، و لم يجعلها تتكاثر كلها بالجماع المعروف .

و أخيرا- خامسا – إنه كما سبق أن بينا أن أرسطو كان متناقضا مع نفسه في مواقف كثيرة من إلهياته، فهو هنا قد ناقض نفسه أيضا و لم يستطع التخلص من تناقضاته التي أصبحت من أساسيات فكره في الإلهيات . من ذلك إنه زعم أن العالم الأرضي أزلي و كائناته الحية أزلية بأنواعها ، فهي أبدية بلا بداية و لا نهاية . و هذا يعني أنها كاملة في خلقتها و لن تتغير ؛ لكنه ينقض ذلك و يعود و يزعم بأن العالم الأرضي ناقص يطلب الكمال بعشقه للعالم السماوي !! .

و المثال الثاني مفاده هو أن أرسطو كان قد قال بأن الإله لم يخلق العالم،و لا هو الذي حرّكه عن قصد و إرادة و اختيار، و لا كان له علم به، و لا كان الكون قادرا على الحركة ، ثم يأتي و يقول : إن للكون غاية يسعى إلى تحقيقها . و هذا تناقص صارخ ، فمن الذي جعل له تلك الغاية ؟؟!! . فإن قيل : الإله هو الذي جعل ذلك . فهذا لا يصح، لأنه يتناقض مع ما ذكرناه عنه . و إن قيل : الكون هو الذي جعل الغاية لنفسه . فهذا لا يصح و لا يتفق مع موقف أرسطو من الكون . فالكون كان ناقصا ليس مُتحركا حسب زعم أرسطو، فكيف يضع الغاية لنفسه، ؟؟!! . و إذا قيل : كان الكون حيا عاشقا، لذا جعل غاية لنفسه . فهذا يعني أنه كان حيا واعيا ، مريدا قادرا[2] ، و لم يكن في حاجة إلى إله أرسطو ليُحركه . و هذا لا ينسجم مع إلهيات أرسطو و يُهدمها من أساسها ، لأنها تقوم على أن المحرك الذي لا يتحرك هو الذي حرّك العالم الذي لا يتحرك ، لكن الاحتمال الثاني الذي ذكرناه يُخالف ذلك، و يُناقض قول أرسطو و يُهدمه بالضرورة . و إذا قيل : إن أرسطو هو الذي وضعها للكون . فهذا صحيح بأنه هو الذي اختلقها، لكن لا يصح و لا يحق له فعل ذلك ، و قد سبق أن ناقشناه فيه . فواضح من ذلك إذن أن الغاية التي ذكرها أرسطو تتناقض مع إلهياته ، و لا يُمكن رفع ذلك التناقض إلا بهدم إلهيات الرجل .
و المثال الثالث من تناقضاته مضمونه أن أرسطو قال بأزلية الكون و أبديته، فلا بداية و لا نهاية له ، ثم قال: إن للكون بكل كائناته غاية يسعى إلى تحقيقها . و كلامه هذا فيه تناقض و لا يستقيم ، لأنه إذا كان في مقدور الكون تحقيق غايته ، فهذا يعني أنه عندما يُحققها سيتوقف عن الحركة ، لأن غايته هذه هي التي تحركه، و هذا يتناقض مع قول أرسطو بأزلية العالم و أبديته . و إذا لم يكن في مقدوره تحقيقها ، فهذا نقض لمبدأ الغائية لأنها لن تتحقق ،و لا فائدة منها ، و القول بها عبث و ضحك على الناس من جهة ،و لا فائدة للكون و موجوداته من السعي وراء غاية لا يُمكن تحقيقها من جهة أخرى .

و المثال الأخير – الرابع من تناقضاته - مضمونه أن أرسطو أشار مرارا في كتبه إلى أن الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا، و عملها قائم على الوظيفية و الغائية . و هذا صحيح لا شك فيه ، لكن الرجل ناقض نفسه عندما لم يجعل للكون نهاية يكون فيها المعاد الأخروي غاية نهائية كبرى . لأن وجوده مطلوب و ضروري إنسانيا و أخلاقيا ،و عدم وجوده هو نقص و عبث في الطبيعة . لأنه من الثابت تاريخا و واقعا أن حياة الإنسان مملوءة بالفساد و الظلم و الجرائم ،و أن مئات الملايين من البشر قتلوا ظلما و عدوانا و لم يُقتص لهم،و أن آخرين أُخذت حقوقهم ، فماتوا و لم يسترجعوها ،و آلاف من كبار ظلمة طغاة العالم ماتوا و لم يُقتص منهم . فمن الضروري- أخلاقيا و إنسانيا- أن يُوجد المعاد الأخروي ليتحقق فيه العدل المطلق بين كل الناس ،و عدم وجوده هو ظلم و عدوان ، و إهمال و عبث . لكن أرسطو لم يقل بالمعاد الأخروي ، و نقض موقفه بأن الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا و لا عبثا . فعدم وجوده هو نقض لتلك الغائية من جهة ، و هي غائية عبثية ظالمة مهملة للعدالة و حقوق الناس من جهة أخرى .

و ختاما لهذا المبحث يتبين أن موقف أرسطو من الغاية و الوظيفية في الكون هو موقف يتناقض مع أصول إلهياته،و غير صحيح في معظمه ، و مُخالف للشرع الصحيح ،و العقل الصريح و العلم الصحيح . و غايته هي غاية عبثية جوفاء، لا يترتب عنها شيء حقيقي هام مصيري في حياة الإنسان ، فلا يتحقق بها عدل ،و لا يرتفع بها ظلم في النهاية ، لأنها بلا نهاية ، أقامها صاحبها على إلهيات دهرية عمياء : مصدراً و مصيراً .
و اتضح أيضا أن نظرته للغائية الوظيفية في الكون لا تختلف في النهاية عن النظرة الآلية للطبيعة التي انتقدها . فهي نظرة أزلية آلية حتمية لا بداية لا و لا نهاية . و قد جعل غاية الإنسان و الحيوان سواء ، فهي في النهاية أزلية أبدية ، فلا معاد و لا حساب ينتظره ، و كلاهما تأكله خرافة دهرية الأنواع و هلاك الأفراد التي قال به أرسطو. فجنى بذلك على نفسه و أتباعه،و ساهم في إفساد الفكر و السلوك معا .
خامسا: مصادر إلهيات أرسطو :
هل نجد لإلهيات أرسطو( ت 322 ق م ) مصادر و أصولا في التراث الفكري المعاصر لأرسطو و السابق له ، أم لا نجد لها ذلك ، لأنها من نتاج فكر أرسطو وحده فقط ؟ . و هل كان أرسطو يذكر مصادره المتعلقة بالإلهيات ؟ ،وإذا كان استفاد من فكر غيره في الإلهيات ، ففيما تمثل ذلك،و إلى أي حد بلغ ؟ . هذا التساؤلات و غيرها ستتضح أجوبتها فيما يأتي من مبحثنا هذا .
ففيما يتعلق بقول أرسطو بالمحرك الذي حرك العالم ،و قوله بتعدد الآلهة و ألوهية الأجرام السماوية ، فإن أقواما ،و بعض الفلاسفة المتقدمين قد سبقوه إلى القول بنفس قوله ، أو بما يقاربه جدا . منهم : أكسينوفانس ( ق: 5 ق م ) قال بأن الإله حرّك العالم من دون أن يتحرك[3] . و قال أفلاطون ( ت 347 ق م ) : إن الإله هو المحرك الذي حرك الحركة الدائرية للعالم[4] .

و اعتقد السومريون بتعدد الآلهة ، و زعموا أنها تسكن في الكواكب و النجوم[5] . و قال البابليون بتعدد الآلهة، و قد سجلت ذلك ملحمة جلجامش البابلية ( ما بين: 1950-1550 ق م ) نصت على تعدد الآلهة،و عبادتها ،و خدمتها، من دون ذكر للمعاد الأخروي ، و هذا فيه تشابه كبير مع إلهيات أرسطو و قومه عامة فيما يتعلق بتعدد الآلهة و عدم القول بالمعاد الأخروي[6] .

و أَلّهَ قدماء المصريين كثيرا من مظاهر الطبيعة ،و عبدوها ، منها عبادة السماء، و الشمس ، و القمر ،و غيرها من الأجرام السماوية[7] . و ألّه الكلدانيون[8] الأجرام السماوية ،و عنهم أخذه اليونان و العرب[9] . و قد أشار أرسطو نفسه إلى أن الكلدانيين قالوا بألوهية الكواكب[10] .
و نفس الأمر ينطبق على اليونانيين فاعتقدوا أن كل ما هو سماوي، فهو إلهي ، و قد ورد في ملحمة أسطورية يُونانية - تعود إلى القرنين : 8، و 7 قبل الميلاد- ، ورد فيها ذكر لتعدد الآلهة، و أنها أزلية كلها ، أروعها الإله البديع أيروس[11] . و ألّهوا مختلف مظاهر الطبيعة العلوية السفلية و عبدوها ، كالسماء ، و الأرض[12] . و عندما قال أرسطو بألوهية العقول المفارقة أشاد بأجداده اليونانيين الذين قالوا بأُلوهية الأجرام السماوية[13] .
و من فلاسفة اليونان الذين قالوا بذلك : الطبيب اليوناني ألقمايون ( ق: 5 ق م )، فقد قال بألوهية الأجرام السماوية[14] . و قال فيثاغورث ( ق:6 ق م ) بأن الأجرام السماوية كلها آلهة . و قال بتعددها أيضا أكسينوفانس ( ق: 5 ق م )[15] . و قال أفلاطون بتعدد الآلهة، منها آلهة علوية، و أخرى متوسطة ،و أخرى سفلية[16] .
و فيما يتعلق بالجواهر المفارقة التي قال بها أرسطو ، فهي نفسها العقول الأزلية الإلهية ،و هي ذاتها الآلهة التي أشرنا إليها أعلاه ، و قد أكد ذلك ابن رشد الحفيد [17] . و قد قال بها أفلاطون في زعمه بأن الإله عندما صنع العالم جعل في كل كوكب من الكواكب نفسا تحركه و تديره، و هي نفوس إلهية عاقلة خالدة [18] .
و أما بالنسبة لقول أرسطو بأزلية العالم و العناصر المكونة له، و الحركة المحركة له، و ،و إنكار الخلق من عدم ؛ فقد سبقته إلى القول بذلك طائفة من فلاسفة اليونان . فقال طاليس بأن العالم أزلي لا أول له و لا آخر ،و أنه على حاله دون تغيير في جميع أزمنته[19] . و قال بذلك أيضا أنكسيمندرس ق: 6 ق م ) ،و أنكسيمنيس ( ق: ق 6 ق م ) ،و هرقليطس (ق: 5 ق م ) ، و الفيثاغوري فيلولاس الكروتوني-كان معاصرا لأفلاطون- ، و بارمانيدس ( ق: 5 ق م ) ، و أمبادوقليس(ق: 5 ق م) ، و أكسينوفانس (ق: 5 ق م ) [20] . و قال أنكسمينيس ( ق: 6 ق م ) ، و أنكسيماندرس (ق: 6 ق م ): أن الحركة المحركة للعالم و المُسيرة له ، هي حركة أزلية[21] .
و عن الخلق من عدم ، فقد أنكر فلاسفة اليونان القول بالخلق من عدم ، منهم : لوقسيس ،و تلميذه ديموقريطس ،و أفلاطون، و أمبادوقليس ، فكانوا يرون استحالة حدوث ذلك الخلق[22] . و نحن قد ذكرنا مبررهم عندما ناقشنا أرسطو في قوله بذلك،و بينا خطأه فيه .

و قال بالعناصر الأربعة المكونة للعالم ( النار ، و الهواء ، و الماء ، و التراب ) طائفة من فلاسفة اليونان- قبل أرسطو- ، منهم : فيثاغورث ، و أمبادوقليس (ق : 5 ق م ) [23] ، الذي قال أيضا بالعنصر الخامس الذي هو الأثير، و قد سماه الأثير الإلهي ،و قد حكاه عنه أرسطو في كتاب النفس[24] ، و أشار إلى أنه هو أول من تحدث عن العناصر الأربعة[25]. و منهم أيضا : أفلاطون[26] ، و أكسينوفانس الذي كان يقول بعنصرين فقط ، هما: التراب و الماء[27] .
و أُشير هنا إلى الصينيين القدماء قالوا بالعناصر الأربعة ،و أضافوا إليها عنصرا خامسا هو الخشب . ، الذي يتفاعل مع العناصر الأخرى على أساس التضاد الموجود بينها [28] .
و الذين قالوا بتلك العناصر – قبل أرسطو - أشاروا إلى أنها تتفاعل فيما بينها على أساس التضاد الموجود بينها، و بذلك تظهر الموجودات و تختفي على أساس ذلك التفاعل . و قد أشار إليه الصينيون ،و أمبادوقليس، و أنكسامندرس[29] ،و غيرهم .

و فيما يخص المادة الأولى المكونة للعالم التي قال بها أرسطو ،و المعروفة باسم الهيولى ، فقد قال بها أنكسيماندرس ( ق: 6 ق م ) قبله ، و زعم أنها مادة الكون الأولى أزلية لا نهائية ،و لا متعينة كيفا ،و لا محددة كماً ،و هي مادة بلا صفات ، و هي هلامية قابلة للتكون و التشكل حسب الأنواع لأن الفرق بينها هو فرق كيفي ،و لو كانت مُحددة لكانت (( اُستنفدت منذ فترة طويلة في خلق العوالم المتعددة و فنائها ))[30] .


تلك هي أهم أصول إلهيات أرسطو ، و مقارنتها بإلهيات الذين سبقوه من فلاسفة اليونان و غيرهم[31] . فماذا يتبين منها ؟ . واضح منها أولا أن إلهيات أرسطو ليست جديدة عن أهل العلم في زمانه ، فهي لا تختلف – في الغالب- عن إلهيات السابقين له في أصولها وكثير من جزئياتها من جهة ، و هي من جهة أخرى قريبة جدا من إلهيات شيخه أفلاطون ، فيما يخص العناصر الأربعة ، و تعدد الآلهة ،و الحركة .
و ثانيا ما سبب هذا التشابه الكبير بين إلهيات أرسطو و السابقين له ؟ . فهل نقلها عنهم حرفيا بحكم أنه كان واسع الإطلاع على تراث السابقين له، و قد أشار إلى ذلك في بعض كتبه ؟ . أو أنه نقل ذلك عنهم عن وعي و فهم و اجتهاد ، من دون تبعية و تقليد لهم ؟ . أو أنه نقل عنهم جانبا من إلهياته مُتابعة لهم و تأثرا بهم ، و وافقهم على جانب آخر اجتهادا و اختيارا ،و توافق معهم في جانب آخر من إلهياته على أساس تطابق الأفكار ، لا على أساس الانطلاق من أفكارهم في الإلهيات ؟ . و الراجح عندي أن أرسطو جمع بين كل ذلك ، فتابع ، و قلّد ،و اجتهد .
و ثالثا إن أرسطو – في أخذه بإلهيات السابقين له – لم يكن مُصيبا في ذلك، لأنه سبق أن بينا بطلان معظم ما قاله في إلهياته . و هذا يعني أنه لم يكن في المستوى المطلوب من النقد و التمحيص : منهجا و لا تطبيقا . فلم يتمكن- في الغالب- من تمييز صحيح إلهياته من سقيمها ، حتى انه أقامها على التناقضات ، و الرغبات ، و التحكمات ، و لم يُقمها على العقل الصريح،و العلم الصحيح ، و هذا أمر سبق أن بيناه .

و قبل ختام هذا الفصل أذكر هنا مواقف هادفة لبعض أهل العلم من إلهيات أرسطو . أذكرها تتميماً ، و إثراءً ، و تأكيدا لانتقادات و آراء أوردناها سابقاً ، و سأذكر-بحول الله تعالى- منها سبعة مواقف . أولها موقف أبي الريحان البيروني ( ت 440 هجرية ) فإنه يرى أن طريقة أرسطو في قوله بأزلية العالم هي طريقة تمويهية ،و أنه في ذلك هو مُزخرف لكفرياته ،و مُتبع لهواه . ثم توسع في الرد عليه[32] .

و الموقف الثاني للشيخ تقي الدين بن تيمية ( ق: 8 الهجري) يرى أن أصحاب المنطق الصوري- منهم أرسطو - هم من أجهل الناس برب العالمين. و ذكر أيضا أن أرسطو و أتباعه في الإلهيات هم (( أجهل من اليهود و النصارى بكثير كثير )) ،و أن أكثر كلام أرسطو في ذلك خطأ. و هم (( جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية ، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ )) . و أشار إلى أن أرسطو (( أكثر ما بنى الأمور الإلهية على مقدمات سُفسطائية في غاية الفساد )) [33] . و من ذلك أيضا أنه وصف أقوال أرسطو و أصحابه في الله و صفاته و أفعاله بأنها أقوال لا يقولها (( إلا من هو من أجهل الناس و أضلهم ،و أشبههم بالبهائم من الحيوان ))[34] .
و الموقف الثالث للمحقق ابن قيم الجوزية ، إنه يرى أن كلام أرسطو في الإلهيات كله خطأ من أوله إلى آخره ، و قد جاء بما يسخر منه العقلاء ، فادعى أن الله كان يُلحقه التعب و الكلال من تصوّره للمعلومات ،و أنكر أن يكون الله يعلم شيئا من الموجودات[35].

و الموقف الرابع للباحث محمد علي أبي ريان ، إنه يرى أن إلهيات أرسطو متناقضة في تصوّرها لله تعالى ، فهي تصفه بأنه عاطل عن الفعل ، فلا خلق و لا قدرة و لا اختيار و لا عناية ، خاضع للضرورة اللولبية . ثم هي من جهة أخرى تصفه بأنه معشوق ، و له الكمال المطلق و الغبطة الإلهية و التأمل الإلهي . فمذهبه هذا هو حفظ للوجود بمعزل عن الله ، حاول الربط بينهما بطريقة تعسفية ، ثم (( تعود لتضفي على الوجود الإلهي أسمى الصفات و أشرفها، دون أن يكون لهذه الصفات أدنى تأثير في المخطط الوجودي ، فتكون هذه الصفات مجرد ألفاظ لا مدلول لها ))[36] .

والموقف الخامس للكاتب ول ديورانت ، إنه علّق على موقف أرسطو من الإله و صفاته ، بقوله (( يا له من إله فقير ، هذا الإله الذي يعتقده أرسطو ، إنه مَلِك لا يفعل شيئا ، مَلِك بالاسم لا بالفعل . و لا غرابة في أن يُحب البريطانيون أرسطو ، لأن إلهه صورة طبق الأصل من ملكهم ، أو صورة عن أرسطو نفسه ))[37] .

و الموقف السادس للباحث الإنجليزي برتراند راسل : يرى أن إله أرسطو هو إله (( فلسفي لا لون له ،و ما هو إلا مُلحق من ملاحق نظريته في السببية ))[38] .
و الموقف الأخير –السابع - للباحث ماجد فخري: ذكر أن أرسطو عندما قال بالمحرك الذي لا يتحرك ، فإنه لم يتحرر من الاعتقاد بألوهية الكواكب كل التحرر[39] .

و تعليقا على ذلك أقول : إن أقوال هؤلاء تتضمن انتقادات صحيحة لإلهيات أرسطو، و بعضها كان يشمل إلهياته عامة، و بعضها الآخر ركز على جزء من جزئياتها ،و بعضها كان انتقادا قويا لاذعا هادما لكل أو معظم إلهياته . لكن ملاحظة الباحث ماجد فخري لا أوافقه عليها ،و لا تصح أيضا ، لأن التوحيد الذي قال به أرسطو ، ليس توحيدا جديدا، و لا حقيقيا ، لأن قوله قال به غيره ، من اليونان و غيرهم . و يعني وجود إله أول هو أكبر الآلهة ، و معه آلهة أخرى كثيرة تساعده في الخلق،و هذا قاله أرسطو ،و أفلاطون ،و أكسينوفانس ، و غيرهم من الفلاسفة[40] . فالتوحيد الذي قال به هؤلاء ، ليس هو التوحيد الحقيقي الذي جاء به الوحي الصحيح، الذي يعني الأحدية و الصمدية ، و عدم الشرك بالله ، كما في قوله سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَد }-سورة الإخلاص : 1-4 - . فتوحيد هؤلاء ليس توحيدا حقيقيا ،و إنما هو توحيد ناقص و زائف يقوم على تعدد في القول بالألوهية ، مبني على الترتيب و الأولوية في درجة الألوهية . و هذا القول موجود الديانات الشركية ، التي تؤمن بوجود كبير الآلهة ،و معه آلهة أخرى تساعده ، كما هو حال العرب قبل الإسلام و غيرهم الشعوب . و قد سجل القرآن الكريم ذلك في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : (( { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } سورة الزمر:3- ، و { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }سورة الأنعام:19- .
علما بأن أرسطو عندما قال بذلك لم يكن يسعى إلى التحرر من القول بتعدد الآلهة ، لأن القول به هو جزء أساسي من إلهياته ،و قد نص أرسطو صراحة على أنها هي التي تحرك الأجرام السماوية ، و قدّر عددها بأكثر من 47 إِلهاً[41] . و لهذا وجدناه يُشيد بأجداده اليونان الذين قالوا بأُلوهية الأجرام السماوية[42] .

و إنهاءً لهذا الفصل يُستنتج منه أن إلهيات أرسطو باطلة في معظمها منهجا و تطبيقا . و لا تقوم على بديهيات العقل ،و لا على المقدمات اليقينية ، يصدق ذلك على موقفه من الله وصفاته، و على القول بأزلية الكون و ما ترتب عنه . و قد تضمنت تلك النماذج من إلهياته أكثر من 68 خطأً و انحرافا منهجيا ، و هي عينات من باب التمثيل لا الحصر . و سبب ذلك هو أنه لم يُقمها على العقل الصريح و لا على العلم الصحيح، و إنما أقامها أساسا على رغباته و ظنونه و تحكماته ، فأوقعته في تناقضات كثيرة ، و نتائج خاطئة جنى بها على نفسه و أتباعه ،و على العقل و العلم معاً . و قد ذكرناها مُفصلة فيما تقدم من مباحث هذا الفصل.

و أتضح أيضا أن معظم ما قاله أرسطو حول الإله و صفاته غير صحيح مما دلّ على أن هذا الرجل كان جاهلا بالله جهلا كبير ، حتى أنه زعم أن الإله لا يعلم إلا ذاته، و لا علم له بغيره ، و لو عَلِم بها لأصابه التعب ، و أن معه آلهة تساعده في الخلق قَدّرها بأكثر من 47 إِلهاً . و هذا بلا شك تفكير خرافي يهدم العقل و يُفسد الفطرة ، فأوصله ذلك إلى الاعتقاد بخرافات سماها العقول و الجواهر ، و ما هي بعقول و لا جواهر ،و إنما هي خرافات و أباطيل و سفسطات ، ضحك بها أرسطو على نفسه ،و على أتباعه .

و من ذلك أيضاً أنه تبين أن إلهيات أرسطو هي إلهيات دهرية صابئية شركية ، و ليس لها غاية حقيقية هادفة ،و إنما لها غاية عبثية جوفاء عمياء . و ذلك بسبب قوله بأزلية العالم ،و تعدد الآلهة ،و عدم القول المعاد الأخروي .











[1] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : التكاثر ، و الأسفنج ، و الأسماك .

[2] هذا مجرد احتمال فرضناه جدلا ،و إلا فإن الحقيقة هي أن الكون حادث مخلوق ،و من ثم لا يُمكنه أن يضع لنفسه غاية،و لا قانونا ،و لا أي أمر آخر .

[3] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 33 . حسين حرب : الفكر اليوناني قبل أفلاطون ، ص: 63، 64 .

[4] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 99 ، 101 ، 107 .

[5] خزعل الماجدي : متون سومر ، ط1 ، الدار الأهلية ، الأردن ، 1998 ، ص: 20 .

[6] مصطفى النشار : المصادر الشرقية للفلسفة اليونانية، ط1 ، دار قباء، القاهرة، 1997 ، ص: 120، 125 .

[7] أحمد علي عجيبة : دراسات في الأديان الوثنية القديمة ، ط 1 ، دار الأفاق العربية ، القاهرة ، 2004 ، ص: 95 .

[8] هم قوم ساميون عاشوا في بابل بالعراق ، في الفترة ما بين القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، إلى 875 قبل الميلاد ،و كانت لهم هناك حضارة معروفة . الموسوعة العربية العالمية ، مادة : كلدانيا .

[9] ماجد فخري: أرسطو ، هامش ص : 55 .

[10] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 356، 357 .

[11] بريو سينكين : أسرار الفيزياء الفلكية و الميثولوجيا القديمة ، ترجمة حسان ميخائل إسحاق ، ط 1 ، دار علاء الدين ، دمشق ، 2006 ، ص: 84 . دحام إسماعيل العاني : موجز تاريخ العلم ، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم التقنية ، الرياض ، 2002 ، ج 1 ص: 105 .

[12] أحمد علي عجيبة : دراسات في الأديان الوثنية القديمة ، ص: 149، 150 .

[13] ماجد فخري: أرسطو ، ص: 100 .

[14] أرسطو : كتاب النفس ، ص: 15 .

[15] ديوجين لا يرتيوس : المصدر السابق ، ص: 67 . و ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 26 ، 96 . حسين حرب : الفكر اليوناني قبل أفلاطون ، ص: 51 .

[16] ديوجين لايرتيوس : نفس المصدر، ص: 101 . و ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 86 ، 89 . علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 240 .

[17] في كتابه : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 358 .

[18] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 105 .

[19] ديوجين لايرتيوس: مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 5 .

[20] حسين حرب: الفكر اليوناني قبل أفلاطون ، ط1 ، دار الفكر اللبناني، بيروت ، 1990 ، 16 ، 17 ،40 ، 41 ،63، 64 ، 71 ، 72 . و ماجد فخري تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 29 ، 35 ، 39 ، 44 . و إميل برهيبة : تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة جورج طرابيشي ، ط 2 ، دار الطليعة ، بيروت، 1987 ، ج 1 ص: 62 . و يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية، ص: 16 ، 17 .

[21] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 16 ، 17 ، 62 .

[22] ديوجين لايرتيوس : المختصر ، ص: 81، 101 . و مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، ج 2 ص: 227 . و ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 44 .

[23] ديوجين لايرتيوس: المصدر السابق ، ص: 67 ، 85 . و يوسف كرم : نفس المرجع ، ص: 74، 104 . و حسين حرب : نفس المرجع، ص: 51 ، 71 ، 72 . و ماجد فخري: نفس المرجع، ص: 44

[24] ص: 12.

[25] أرسطو : مقالة الألفا ، ملحقة بكتاب الميتافيزيقا لإمام عبد الفتاح إمام ، ص: 267 .

[26] ديف روبنسون : أقدم لك أفلاطو، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2001 ، ص: 147 . مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، دار قباء، القاهرة، 200، ج 2 ص: 226، 227 .

[27] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية، ص: 32 .

[28] كمال المويل : صفحات من تاريخ الطب، يوجد البحث على الشبكة المعلوماتية ، ص: 24 ، 25 .

[29] نفسه ، ص: 24 ، 25 . و ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 44 . و حسين حرب : الفكر اليوناني قبل أفلاطون ، ص: 40 ، 41 .

[30] وولتر ستيس : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد ، دار الثقافة ، القاهرة ، 1984 ، ص: 33 .

[31] تلك الأصول سبقت مناقشتها فلا نعيدها هنا .

[32] عبد الكريم اليافي : حوار البيروني و ابن سينا ، ط1 ، دار الفكر، سوريا ، 2002 ، ص: 37 .

[33] ابن تيمية: الرد على المنطقيين ، ص: 143 ، 222 ، 234 ، 278 ، 395 .

[34] ابن تيمية : درء التعارض ، ج 2 ص: 355 .

[35] ابن قيم الجوزية : إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ، ج 2 ص: 259 .

[36] محمد علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ، ص: 208 .

[37] قصة الفلسفة ، ط 6 ، مكتبة المعارف، بيروت ، 1988 ، ص : 114 .

[38] برتراند راسل : حكمة الغرب ، سلسلة المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة و الفنةن ، الكويت ، رقم : 62 ، 1983 ، ج 1 ، ص: 140 .

[39] ماجد فخري : أرسطو ، هامش ص: 55 .

[40] سبق توثيق ذلك، و أنظر أيضا : ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، 33 .

[41] سبق توثيق ذلك .

[42] سبق توثيق ذلك .
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 11-11-2012, 02:03 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الفصل الثاني
مظاهر جناية أرسطو على العقل و العلم
في علم وظائف الأعضاء



أولا : من أخطاء أرسطو المتعلقة بالإنسان و الحيوان
ثانيا : حقيقة موقف أرسطو من المنهج التجريبي .













مظاهر جناية أرسطو على العقل و العلم
في علم وظائف الأعضاء
توسع أرسطو في علم وظائف الأعضاء عند الإنسان و الحيوان ، ضمن كتاباته في علوم الطبيعة ، كعلمي الفلك و الجغرافيا . فوقع في أخطاء كثيرة جدا ، بعضها يتعلق بالحقائق العلمية ، و بعضها الآخر يتصل بالانحرافات المنهجية المتعلقة بأبجديات و شروط منطق البحث و الاستدلال في مجال علوم الطبيعة: التزاماً و ممارسة و نتيجة .

أولا : من أخطاء أرسطو المتعلقة بالإنسان و الحيوان:
نُخصص هذا المبحث لأخطاء أرسطو و انحرافاته المنهجية المتعلقة بالإنسان و الحيوان من جهة علم وظائف الأعضاء و ما يتصل به . و سنذكر منها نماذج كثيرة جدا ، و سنوردها في ثماني مجموعات ، بحول الله تعالى .

الأولى تتعلق بالمني و الحمل، و الجنين و الولادة ، و تتضمن ثمانية نماذج . الأول مفاده أن أرسطو قسّم المني إلى نوعين من جهة كثافته : رقيق ، و جامد يشبه البَرَد ، الأول موافق لولادة الإناث ، و الثاني موافق أكثر لولادة الذكور. و قبل كلامه هذا نصّ على أنه (( ليس يكون ولد من المني الرقيق )) [1] . لكنه وصف المني أيضا بأنه لا يجمد بما فيه من الهواء ، لأن الهواء لا يجمد[2] .
و وصف المني بأنه رطوبة من الرطوبات ، و هو فضلة طعام يُحتاج إليه ، و فضلة الغذاء الأخير. و قد سوى بينه و بين طمث النساء ، فقال : (( إن الطمث الذي يعرض للنساء فضلة من الفضول، و المني أيضا فضلة )) [3] . ثم قال : إنه تبين بالوجوب بأن المني (( هو فضلة غذاء ، و فضلة الغذاء الأخير )) ، بمعنى أن المني يتكون من فضلة الغذاء الدمي الأخير الذي اكتمل نضجه و طبخه ، فيخرج بغير لون الدم ، لكن عندما يُكثر الرجل الجماع و يُجهد نفسه فيه يخرج المني دميا غير ناضج . فالمني يتكون من فضلة الغذاء الدمي الأخير- أي الناضج – و هو الذي يفترق في أعضاء الجسم[4] .

و أقول: أولا إن نوع الجنين لا علاقة له بكثافة المني من رقته ، لأن المسئول عن نوع الجنين هو الرجل ، لأن منيه يحمل الخاصيتين ، و هذا سنفصله لاحقا إن شاء الله تعالى . و هذا يعني أنه لا دخل هنا لكثافة المني من رقته ، في تحديد نوع الجنين ، و لهذا معظم الرجال لهم أطفال من الجنسين . و عليه فإن قول أرسطو و تعليله لا يصح و غير علمي . علماً بأن كلام أرسطو فيه تناقض ، فهو نفى أن يكون ولد من المني الرقيق ثم عاد و نقض ذلك .
و ثانيا إنه لا تصح المقارنة بين الطمث و المني ، لأن الطمث انتهى دوره عندما يخرج من المرأة ، فيخرج ليُرمى ، لكن المني لم ينته دوره ، فهو يخرج أساسا للقيام بمهمة الإخصاب ، فهو ليس فضلة ، كحال الطمث من جهة ، كما أن الطمث هو بقايا فاسدة من دم و مكونات بطانة الرحم ، لكن المني يخرج حيا كاملا طازجا لم يفسد ، و لم يحدث له ما حدث للطمث من جهة أخرى . و المني ليس فضلة من جهة أصل تكوّنه ، ولا عند خروجه ، و لا هو فضلة بمعنى أنه يُرمى للتخلص منه كالفضلات و السموم التي يرميها الجسم ليتخلص منها ، كالعَرَق ، و البراز ، و البول ،و دم الحيض .

و الرجل مُخلّط و مّضطرب في وصفه للمني بأنه فضلة ، فمرة سوى بين المني و الطمث بأنهما فضلة ، و هذا يعني أنه قصد بهما أنهما فسدا و فقدا وظيفتيهما ، و يجب التخلص منهما . و مرة أخرى وصفه بأنه فضلة غذاء ، و فضلة الغذاء الأخير الدمي ، الذي اكتمل نضجه ،و هذا يُخالف الوصف الأول !!.

و الحقيقة أن الرجل أخطأ في تفسيره لطريقة تكوّن المني ، فزعم أن المسألة هي مسألة طبخ و نضج في الدم ، فإذا لم ينضج جيدا فهو مني دمي ناقص ،و إذا نضج فهو مني كامل غير دمي . و هذا لا يصح ، لأن الرجل أغفل ما تقوم به الخصية في تكوين المني ، لأن الدم ليس هو الذي يكوّن المني ،و إنما هو يُغذي الجسم و يُطهره من سمومه . و الخصيتان- كغيرهما من أعضاء الجسم- تأخذان منه الغذاء ، ثم تتوليا إنتاج النُطاف- المني -، و الهورمونات الذكرية التي تحتاجها[5] .

و ثالثا ليس صحيحا أن المني لا يجمد ، فهذا الرجل يتكلم بلا تثبت و لا تجربة،و إنما يتكلم من رغباته و تأملاته ، و ظنونه و تحكماته . و هو كان قد وصف النوع الثاني من المني بأنه جامد، و هذا يُناقض قوله بأن المني لا يجمد . و ربما يُقال : إنه قصد بذلك أنه كثيف جدا، و ليس أنه يجمد . و هذا مبرر له وجه صحيح ، لكنه لا يعفي صاحبه من التناقض في التعبير ، و هو مسئول عنه . و المهم هو أن المني يتجمد كغيره من السوائل مع اختلاف درجات تجمدها ، و في زماننا يُجمد مني الرجل و يُخزن في المخابر ، لأغراض كثيرة ، كإجراء التجارب ، و استخدامه مُستقبلا ،و نقله لاستخدامه في مكان آخر[6] .
و ليس صحيحا أن وجود الهواء ضمن مكونات المني هو الذي يمنعه من التجمد . لأن الهواء يتكون من عدة غازات ، و هي قابلة للتجمد ، كما يحدث في الماء و هو مُكون أساسا من غازين ، هما : الأكسجين و الهيدروجين ، و مع ذلك فهو يجمد . و نفس الأمر ينطبق على السوائل الأخرى ، فهي كلها مُكونة من غازات . و يبدو أن أرسطو قال ذلك و أخطأ فيه ، بسبب تأثره بإلهياته الزائفة ، فقد سبق أن ذكرنا أنه جعل الهواء من العناصر الأزلية البسيطة التي لا تقبل التغير و لا الفناء ،و لهذا قال بأن الهواء لا يجمد . و هذا مثال واضح على تأثير إلهيات أرسطو في صاحبها ، فأوردته الموارد ، و أفسدت عليه جانبا كبيرا من فكره و سلوكه .

و النموذج الثاني- من أخطاء المجموعة الأولى – مفاده أن أرسطو زعم أن أرحام جميع الحيوانات مُجزأة إلى قسمين مثل (( تجزّئ أنثى الذكورة بجزأين )) . و عندما تكلم عن الحيوان الكثير الأرجل قال : (( و لذلك يُظن أن يكون رحمه واحدا ليس مُجزءاً ، و عِلة ذلك عِظم الجسد لأنه متشابه من ناحية ))[7] .

و أقول: قوله هذا غير صحيح ، و فيه تناقض صارخ ، لأنه أصدر حكما عاما بأن أرحام جميع الحيوانات مُجزأة إلى قسمين دون أن يستثني من حكمه أي حيوان ، ثم يعود و ينقضه بظن يتعلق بالحيوان كثير الأرجل بأنه ربما كان له رحم واحد !! . و الرجل قد أخطأ في حكمه الأول من جهتين : النتيجة ، و القياس ، فمن جهة النتيجة فرحم المرأة ليس مُجزءاً إلى قسمين، و إنما هو مُكوّن من قسم واحد كما هو موضح في الصورتين رقم : 01، 02 . و كذلك رحم أنثى الفيل ، فرحمها يتكون من قسم واحد فقط ، كما هو مُبين في الصورة رقم : 03 . هذا فضلا عن أن الحيوانات البياضة ليس عندها رحم واضح كأرحام الثدييات ، لأنها لا تحتاج إليه ، و كثير منها رحمها عبارة عن قناة لا غير، كما هو في الأسماك مثلا [8].

[1] أرسطو : طباع الحيوان ، حققه عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1977 ، ص: 464 .

[2] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 62 .

[3] أرسطو : كتاب طبائع الحيوان ، المقالة : 14 ، ص: 127 . و في كون الحيوان ، 32، 35 .

[4] في كون الحيوان ، ص: 35 ، 36 .

[5] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : التكاثر البشري ، الخصية :

[6] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الاستيلاد .

[7] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 6 .

[8] أنظر : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الأسماك .
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
أرسطو, العلم, العقل, جنايات


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع جنايات أرسطو في حق العقل و العلم
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
جنايات إسطنبول تقضي بتوقيف قادة في الجيش الصهيوني عبدالناصر محمود أخبار منوعة 0 05-27-2014 06:16 AM
جنايات المنيا تحيل أوراق 528 قياديا إخوانيا إلى المفتى عبدالناصر محمود شذرات مصرية 0 03-24-2014 12:41 PM
أرسطو سقراط أوناسيس Eng.Jordan مشاهير وشخصيات أجنبية 0 04-29-2013 01:50 PM
من المعرفة إلى العقل (بحوث في نظرية العقل عند العرب) - محمد المصباحي احمد ادريس بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 04-10-2013 12:54 PM
أرسطو أحد تلاميذ أفلاطون و معلم الاسكندر الأكبر Eng.Jordan مشاهير وشخصيات أجنبية 0 02-01-2013 03:43 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:20 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59