#1  
قديم 01-19-2021, 09:43 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم


الكتاب: إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم
المؤلف: عبد السلام مقبل مجبرى (المتوفي: معاصر)
الناشر: دار الإيمان - القاهرة
الطبعة: -
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الإهداء
إلى: سيدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... صاحب خبر السماء صلّى الله عليه وسلّم ... نفسي له الفداء ...
أنفاسك الطاهرة ... طالما أقرأت الكتاب المجيد ... فكان من يديك- يا سيدي- كلّ برّ أمين مبين رشيد ... فخلف من بعدهم- يا سيدي- خلف ورثوا الكتاب ... يأخذون عرض هذا الأدنى ... طمعا في السراب ... وبلي القران في صدور أقوام كما تبلى الثياب ... وانطلق الملأ منهم ينتجون: إن سيرهم على حرف الكتاب لفي ضلال مبين ... فحرفوه، ورموا به في غيابات الجب، وكانوا فاعلين ... وهم يصعدون ...
يصعدون- يا سيدي- ولا يلوون على أحد ... واشتري بايات الله ثمن قليل ...
وحشرج الصدر لذلك بعويل الأسوار، وسمعت اهات نداء الحق خلف أسوار العويل ... وملأ من المؤمنين للحق كارهون ... يجادلون في الحق بعدما تبين، وهم ينظرون ... وأحلوا الخسر؛ إذ حطموا باستكبارهم التواصي بحق وصبر، وهم لا يشعرون ... وصار ما سوى الكتاب المجيد عندهم هو العجاب ... فمسنا حين من الدهر تاهت عنا فيه حقيقة المتاب ... وأفل عنا كل نور صالح، وتركتنا شفقة عبد لله ناصح، ولغبنا بعوج ماديات المصالح، ونأت خلفنا هدايات عليّ حكيم ...
فذهبت الريح ... وبكى الغار ... وأنّ أحد وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ... ألم تدعهم في أخراهم ... وأخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ...
فكان نداؤك- يا حبيبي- يشق الأزمان للولهى، ويغيث أمة من اضطرام الفتنة حيرى: «هذا الكتاب ... فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا بعده أبدا» ، فسارع إلى الخيرات كلّ ممسّك بالكتاب يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ... يبتغي الحق مظانه، وعلى شدة القروح انقلبوا بنعمة من الله وفضل ... لم يمسسهم سوء ... فإذا
(1/3)
________________________________________
سعيهم محمّد محمود أحمد ... بما علمتهم من الكتاب المجيد ... حتى كادوا يكونون عليه- لهفا وشوقا- لبدا ... ينتظرون ورود الحوض، وشروق شمسك أمامه ... كأن وجهك ورقة مصحف علّمته ... وما زالوا- يا حبيبي- يخرون للأذقان ... يبكون ابتغاء شربة هنيئة لا تظمأ بعدها قلوب لهفى طالما ظمئت إلى يدك الشريفة- أبدا ...
يرددون مع ****** الجليل ابن أم عبد- إذ أمرتهم بالتمسك بعهده-:
«اللهم أسالك إيمانا لا يرتد ... ونعيما لا ينفد ... ومرافقة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم في أعلى جنان الخلد ...
(1/4)
________________________________________
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقدّمة
الحمد لله على الائه ... هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ... لقد جاءت رسل ربنا بالحق، ومقال الصدق، صلى اللة عليهم اجمعين ... اللهم صلّ على محمد صلاة أزدلف بها إلى مغفرتك، وسلم عليه تسليما يحشرني في زمرة أوليائه ... الهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة ... الهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والاخرون، وعلى اله وأصحابه الكرام الطيبين، الأخيار الطاهرين.
اللهم إني أعوذ بك أن أقول بحقّ أطلب به غير طاعتك، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك ... أعوذ بك أن أستعين بشيء من معاصيك على ضرّ نزل بي ... أعوذ بك أن تجعلني عبرة لأحد من خلقك في مقام الخزي ... اجعلى ممن ابتدأته بفضلك ... وأعقبته بودك، ورأفتك، ورحمتك.
وبعد: فكم عللت الفؤاد العليل بإشراق غده ان أن كان يتطلع لهفا وشوقا إلى معرفة المنهجية النبوية الصافية في تعليم اللفظ القراني ... فمتى غده إن لم يكن الان؟ والاخرة على الأبواب ... ومعرفة كهذه تفتح أبواب الإيمان واليقين والعمل والإخبات ففيها لكل ذلك مغتسل بارد وشراب ... وقد كانت رسالة العالمية العليا (الدكتوراه) محاوله أولية في سبيل تحقيق ذلك، إلا أن طولها، وعمق أبواب كثيرة من مسائلها دعا عددا من الأحباب النصحة لكتاب الله وللمسلمين إلى طلب اختصارها عسى أن يعم النفع بها لعامة المسلمين بعد أن كان موقوفا على
(1/5)
________________________________________
المختصين والباحثين ... فكان هذا الكتاب ... ملتمسا من الله عز وجل خير ختام وحسن ماب.

المنهجية النبوية في تعليم اللفظ القراني ... لماذا؟
1- لأن حاجة علماء الإقراء والتجويد ماسة وضرورية إلى منهج محدد يوضح لهم كيفية إقراء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللفظ القراني، ليكون أساسا تقعيديا يعتمدون عليه في تأصيل عمليات الإقراء، وركنا واضحا يتخذونه سبيلا تطبيقيا في تعليم اللفظ القراني وتعلمه.
2- ليستبين المقياس المطلق لصحة المنهجية التعليمية للفظ القراني، وبالتالي يتم تصحيح بعض الأخطاء الشائعة في المنهجيات التعليمية السائدة كالغلو في حفظ الألفاظ دون مصاحبة ذلك لمنهجية في تعلم المعاني، والتخلق بالخلق القراني ... فتكون هذه الدراسة محاولة في سبيل إعادة المنهجية النبوية إلى واقع الأمة، وتمثل أساسا لتقويم واقع الإقراء وتسديده في العصر الحاضر.
3- ليأوى معلم القران ومتعلمه من المسلمين عامة إلى ظلال وارفة عيشا مع قضايا علم القراءة والتجويد في صورتها الصافية، وسيرتها الأولى ... حيث كان الموجه القران الكريم، والسنة النبوية قبل حدوث الأقوال وتعددها- على فضلها- ... عسى أن ينشر الله له فيها من رحمته، ويهيئ له من أمره مرفقا إذا دلف إلى جنانها في عصر أحزاننا المستديمة على حد قول القائل:
دخلت، وقلبي قد طار مني ... ولكنه عاد لمّا دخلت
دخلت الرحاب، وأسلمت نفسي ... إلى تلف الوجد حتى سلمت
وكان المقام العظيم العظيم ... عليه يخيم نور وصمت
فطوف بي من جلال القران ... ذهول فهمت، وهمت، وهمت
(1/6)
________________________________________
4- لسد الثغرة القائمة في مؤلفات علوم القران الكريم؛ إذ لا يوجد- فيما أعلم- كتاب جامع يتضمن دراسة وصفية لتعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم القران الكريم لأصحابه رضى الله عنهم، ويؤصل لقواعد علم التجويد، وإن سدت كتب فضائل القران ومقدمات التفاسير جزا عظيما وهاما من ذلك.

الأهداف التفصيلية للكتاب:
1- التأصيل الشرعي الدقيق لمناهج القراء، وقواعد التجويد حيث تخلو الكتب المؤلفة في هذا العلم- غالبا- من ذلك.
2- الوصول إلى نتائج مبينة في بعض قضايا اللفظ القراني الشائكة كمسألة التواتر القراني ... والتكبير عند خواتم القران ... عدد الحفاظ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ...
صورة حفظ القران مسألة عامة شائعة ... التأكيد على حفظ كبار الصحابة رضي الله عنهم للقران كله في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ... العرضة الأخيرة ... حل إشكالات في الفهم لبعض الروايات والنصوص التعليمية ... الكلام عن القراءة التفسيرية ... نظرية القراءة بالمعنى ... أسلوب إدارة النبي صلّى الله عليه وسلّم للجامعة النبوية القرانية ... تخرج الاف الحفاظ للقران الكريم على أيدي أئمة الإقراء من أصحابه رضي الله عنهم.
3- إظهار الأداة الواقعية التي تؤدي إلى الاطمئنان على دقة نقل ألفاظ القران الكريم، وعدم طروء أي تطور مخالف لما كان عليه الأمر قديما في نقلها إلا ما كان عائدا إلى خدمة الأصل التوقيفي ... فتتجلى عند ذاك واقعية الحقيقة الإيمانية (العقدية) الخالدة (حقيقة الحفظ الإلهي للقران الكريم) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: 2) ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (السجدة: 2) ، من خلال وصف ذلك في العهد النبوي، وعرض حقائق التلاوة بطريقة فيها تنوع جديد.
(1/7)
________________________________________
4- رام المؤلف أن يبين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان- في أداء البلاغ المبين للفظ القراني- كرئيس جامعة عصرية تضم تحتها عددا من الكليات، ومجموعة متخصصة من هيئة التدريس يبرز بعضهم ككبار المدرسين، ويمكن تشبيه بعضهم بالمعلم الأول في عصرنا ... وأما الطلاب فأعداد غفيرة تشكل الأمة بأسرها، ومنهم المتفرغون لتعلم القران الكريم كالسبعين الذين قتلوا في بئر معونة، كما حاول أن يبين مفردات المنهج الذي يجب على جميعهم أن يتعلموه «الواجب العيني» ، ثم يرتقي بعضهم إلى الدراسات العليا ليحيطوا بنسبة أكثر وأدق من المعرفة القرانية لهذا المنهج التعليمي «الفرض الكفائي» ...
5- فصّل الكتاب كيفية تعليم الناس اللفظ القراني وفق منهجية التلقي، وكيف كانت تتم عملية التلقين والتلقي على الرغم من كثرة العدد، مع ضرورة تطبيق اللفظ القراني، ومعرفة معانيه.

لماذا اختار الكتاب مصطلح (أصحاب) ولم يختر مصطلح (تلاميذ) ؟
لأن هذا هو المصطلح النبوي لتلاميذ النبي صلّى الله عليه وسلّم ... والاصطلاح على المتعلم بأنه (تلميذ) نشأ متأخرا «1» ، والأصحاب مأخوذ من الصحبة التي «تعني المصاحبة والمرافقة والمجالسة على حب الله تعالى وحب رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والصحابة هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين صاحبوه وجالسوه وسمعوا منه وأخذوا عنه هدي الإسلام وسننه، فنصروه وعزّروه وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ولقد قام المنهج النبوي على تأسيس الصلة والصحبة والجندية كلها على المتابعة بالمحبة والصدق والإخلاص» «2» ، ولا شك أن الظلال النفسية لمصطلح صاحب لها
__________
(1) انظر: لسان العرب (3/ 478) ومما ذكره أن التلاميذ هم الخدم والأتباع واحدهم تلميذ.
(2) أحمد علي الإمام (دكتور) : الصحبة والصحابة (ص 6) ، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم.
(1/8)
________________________________________
أثرها الراقي بصورة أعلى بكثير من الظلال التي يثيرها مصطلح تلميذ خاصة في المرحلة الثانوية والجامعية، وقد طلب البعض عدم استعمال مصطلح تلميذ لطلاب العلم في هاتين المرحلتين.

حول الروايات الواردة في الكتاب:
يلتزم الكاتب إيراد الروايات المقبولة دون غيرها في صلب البحث، وقد يورد غيرها مما لم يشتد ضعفه على سبيل الاستشهاد- إن كانت تلك الروايا صالحة للاعتبار- وذلك ينسجم مع ما قاله الإمام أحمد- رحمه الله-: «الأحاديث الضعيفة قد يحتاج إليها في وقت، والمنكر أبدا منكر» «1» ، وكل ذلك بحسب ما يلائم كل قضية من درجة في التوثيق. وقد يذكر الكاتب تخريج الهيثمي في مجمع الزوائد وحكمه على الرواية، مع أنه إنما يحكم على السند الذي أمامه وليس على الحديث، ولذا فقد يضعّف بعض الأحاديث مع أنها مقواة من جهات أخرى، فأرجو ألا يغتر بذلك.

معوقات في مواجهة البحث:
1- شح المادة العلمية التفصيلية لهذا البحث، وما ذاك إلا لصيرورة مفردات مناهج التعليم للفظ القراني بدهيات لا يستغنى عنها، فصار الجانب العملي فيها مغنيا عن النقل العلمي، كما أن هذا اقتضى التنقيب البالغ عن النصوص المطلوبة في كل كتاب علمي يمكن الاطلاع عليه ... وهو ما جعل العبء مضاعفا.
2- غموض الترتيب في المادة المجموعة لعدم النسج على مثال سابق في خصوص الموضوع، كما أن جلالة الموضوع، وهيبته؛ إذ إن حقيقته محاولة العيش بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم والقران الكريم والصحابة رضي الله عنهم مع أشرف وظيفة بعث بها
__________
(1) أحمد علي الإمام (دكتور) : الصحبة والصحابة (ص 6) ، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم.
(1/9)
________________________________________
الرسول صلّى الله عليه وسلّم هي تعليم الكتاب ... وهذا قد يؤود الباحث فيتنكب الصواب في ثنايا الاضطراب ... وذا أثر نفسي لا ينكره الباحث.

منهج الاختصار للبحث:
1- قرئ أصل هذا الكتاب عدة مرات أخر من أوله إلى اخره حتى يتم حذف ما يمكن حذفه، وتعديل ما يجب تعديله بحيث يتناسب مع الحيز المقترح له من عدد الصفحات.
2- حذفت الاراء الفقهية المختلفة، واكتفي ببيان الراجح فقط عند وجود الاختلاف في المسألة ... ومن أراد الاستزادة فعليه بالأصل.
3- اكتفي بأهم النصوص القرانية والحديثية التي توضح فكرة الموضوع، واقتصر على واحد منها عندما يسوغ ذلك، كما اكتفي في غالب الأحيان بموضع الشاهد من النص القراني أو النبوي، وحذف تفصيل الكلام على تخريج الأحاديث، وكلام الشراح حولها إلا ما لابد منه في نظر الكاتب.
4- حذفت العبارات التي يمكن بدونها فهم الفكرة الأصلية، وكان وجودها زيادة إيضاح وبيان، وامتد هذا التصرف إلى النصوص المنقولة عن أهل العلم.
5- حذفت الاعتراضات على الفكرة أو المعنى الراجح والأجوبة على ذلك غالبا.
6- دمجت عدد من المطالب والمباحث، وحذف بعضها لكن الكاتب أبقى على الهيكل العام (الفصول) كما هو.
7- تم حذف كثير من تفاصيل براهين النظريات التي مال إليها الباحث في الفصل الخامس، كما حذف موضوع التواتر القرائي بأكمله من هذا الفصل مما لا أظن الباحث يستطيع الاكتفاء بما هو موجود في هذا المختصر، فأنصح بالرجوع إلى الأصل في هذا الموضوع الكبير.
(1/10)
________________________________________
8- حذفت معلومات المرجع من أول موضع ورد فيه غالبا، واكتفى بمختصره، حيث يغني فهرس المراجع عن ذلك، كما تم حذف تراجم الأعلام، وتفاصيل التعريفات اللغوية.
9- تركت ما فيه ذكر لأخبار القراء من الصحابة والتابعين مما يزيّن القارئ به مجالسه وحلقته.
فإن اعترض على هذه الطريقة في الاختصار ... فأنا أسلم بذلك، وليكن هذا كتاب جديد يكون مدخلا للأصل.

الهيكل العام للبحث «خطة البحث» :
يتكون البحث من مقدمة وخمسة فصول، وقد اختار الباحث أن يسير سيرا متدرجا بالنسبة لتعليم قراءة القران الكريم، ابتداء بما قبل القراءة وحتى ختامها ...
ولما كان البحث دائرا حول شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية في الإطار الخاص وهو تعليم ألفاظ القران الكريم لا التعليم لكل ما يتعلم فقد انعقد الفصل الأول لأجل ذلك فكان حول شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية من الناحية العامة إشارة إليها، ومن الناحية الخاصة المتعلقة بتعليم اللفظ القراني.
ولما كان البحث دائرا حول تعليم ألفاظ القران الكريم فقد لزم من هذا بيان أصول هذا التعليم في منهجية النبي صلّى الله عليه وسلّم من الناحية الإدارية والمنهجية وعقد الفصل الثاني لأجل ذلك.
ولما كان محور البحث متركزا في كيفية تعليم تلاوة الألفاظ القرانية فقد عقد الفصل الثالث لإيضاح ذلك بالتفصيل، وبيان منهجية النبي صلّى الله عليه وسلّم في تعليم الترتيل «التجويد» .
(1/11)
________________________________________
ولما كان حفظ «جمع» القران يمثل الغاية من هذا التعليم فقد انعقد الفصل الرابع لبيان جمع القران كتابة وعن ظهر قلب، واستتبع هذا الكلام عن جامعي القران الكريم من الصحابة على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم «المخرجات التعليمية» .
ولأن القران قد اختص من بين سائر الكتب السماوية بنزوله على لغة العرب ومن ثم امتناع ترجمته حرفيا، مع الإذن بقراءته على سبعة أحرف ... فقد انعقد الفصل الخامس لبيان كيفية تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك، واستتبع هذا ربط ذلك بحقيقة التواتر القراني واثاره التي تدل على عدم مس القران الكريم كما أنزله الله تعالى بزيادة أو نقصان، وبيان الحقائق التي تجلي بعض الاستشكالات التي أوردت على المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم.
وعلى هذا انحصرت تبويبات البحث بعد المقدمة في التالي:
الفصل الأول: شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية: وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة.
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه.
الفصل الثاني: أصول تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه ألفاظ القران: وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية تعلمه لكلام الله القراني.
المبحث الثاني: وسائل تعليم ألفاظ القران الكريم كما وضعها النبي صلّى الله عليه وسلّم.
المبحث الثالث: وسائل النشر التعليمية لألفاظ القران الكريم في عموم المجتمع المسلم كما قام بها النبي صلّى الله عليه وسلّم.
المبحث الرابع: القواعد التربوية المصاحبة لعملية الإقراء «من حيث اللفظ» .
(1/12)
________________________________________
الفصل الثالث: جماع منهجية النبي صلّى الله عليه وسلّم في تحفيظ الألفاظ وترتيلها: وفيه ستة مباحث وهي:
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أساسيات الدرس القراني «منهج الحلقات القرانية» .
المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم ماهية التجويد وحكمه.
المبحث الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أهمية التجويد وضوابطه الشرعية.
المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم ترتيل ألفاظ القران الكريم.
المبحث الخامس: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم مراتب الأداء الأعلى من التجويد.
المبحث السادس: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم الملحقات بأحكام التجويد.
الفصل الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم جمع القران الكريم حفظا وكتابة «المخرجات التعليمية» : وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه «منهجية النبي صلّى الله عليه وسلّم في تعليم الصغار» .
المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم ألقاب حامل القران وصفاته.
المبحث الثالث: أصحاب «تلاميذ» النبي صلّى الله عليه وسلّم من أئمة الإقراء «المخرجات التعليمية» .
المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم جمع القران.
الفصل الخامس: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم قراءة القران على أحرفه المنزلة: وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم القراءة بما تيسر من الأحرف السبعة.
المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول.
(1/13)
________________________________________
المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم «التواتر في نقل ألفاظ القران» .
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ.
وهذا أوان انطلاق القلم في البحث سائرا بسم الله مجراه ومرساه، وحسبنا الله ونعم ال****، على الله ربنا توكلنا.
الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي
(1/14)
________________________________________
الفصل الأول: شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية «الرسول المعلم» :
وفيه ثلاثة مباحث:
يتناول هذا الفصل شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية بما يعطي لمعلم القران الكريم الدلالات الاتية:
1- الاعتزاز بهذه الوظيفة، واستشعار أنها فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وهديه، وسمته ...
فهي أفضل الأعمال.
2- استشعار الاهتمام الشديد الذي أولاه الشرع لتلاوة القران وتعليمه بما يعين الفرد والمجتمع على استيعاب مدى الأهمية الشرعية ومن ثم الواقعية لهذين العملين في الحياة، وذلك لأن جميع وظائف النبي صلّى الله عليه وسلّم تفصيلا تعود إلى تلاوة الكتاب المجيد، وتعليمه ... وبناء على ذلك يبين الفصل الأخير حكم تعلم ألفاظ القران الكريم وتعليمه، ولتحقيق الغاية من هذا الفصل فقد انقسم منطقيا إلى ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة.
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه.
ولما كان المبحث الأول كالتقدمة للثاني والثالث كالتتمة كان الثاني أطول منهما.
(1/15)
________________________________________
المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم:
وفيه ثلاثة مطالب:
يناقش هذا المبحث وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم العامة، ويحلل الدلالات اللفظية لوصفها المصطلحي، وماهية مرتكزاتها تفصيلا ... ويرجع ذلك إلى ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
المطلب الثاني: تحليل دلالات الوصف الإجمالي للوظيفة النبوية.
المطلب الثالث: تفصيل الوظيفة الرسالية للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
يمكن إيجاز وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم في أن الله جل جلاله إنما بعثه معلما كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لم يبعثني معنتا، ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» «1» ، وجعل وظيفته الكاملة القيام ب (البلاغ المبين) كما قال عزّ وجل: فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (المائدة: 92) وهذا الأسلوب يفيد حصر الوظيفة على البلاغ، وقصر المهمة على أن يكون البلاغ مبينا، وحصرت مهمته صلّى الله عليه وسلّم في ذلك ليعلم طبيعتها أهل المشرق والمغرب ممن اهتدى، أو اثر الردى ... فقد بين الله جل جلاله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن المعاندين إن «جادلوك بالأقاويل المزورة، والمغالطات فأسند أمرك إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ» » .
__________
(1) صحيح مسلم (2/ 110) .
(2) الجامع لأحكام القران (4/ 45) عند تأويل قوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ... (ال عمران: 20) .
(1/16)
________________________________________
تحديد نطاق وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
وإذا كان ما سبق هو إخبار للمخاطبين يبين مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويحصرها؛ فقد أكّد هذا الحصر بخطاب الله تعالى للرسول صلّى الله عليه وسلّم ذاته مباشرة بما يبين له نطاق مهمته ووظيفته صلّى الله عليه وسلّم قوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: 82) ، وعمم الأمر خطابا للرسول صلّى الله عليه وسلّم وغيره زيادة في الإيضاح والتأكيد في قوله سبحانه وتعالى: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (العنكبوت: 18) ، وهذه هي وظيفة الرسل عامة كما قال جل جلاله: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: 35) ، وقد أخذ هذا التحديد النظري طابعا تطبيقيا في إيضاح الرسل وظيفتهم لأقوامهم كما في قوله سبحانه وتعالى على لسان نوح وهود- عليهما السّلام- أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي (الأعراف: 62، 68) ، وعلى لسان صالح عليه السّلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي (الأعراف: 79) ، وشعيب عليه السّلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي (الأعراف: 93) ، ورسل صاحب يس: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ «1» (يس: 17) .

تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه رضي الله عنهم حدود مهمته:
وقد علم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه نطاق مهمته الرسالية، لما يترتب على ذلك من ضرورات منهجية ترجع إلى حفظ أصول الدين وقواعده، وتتلخص في عنصر واحد: أن يكونوا شهودا على ذلك في الدنيا والاخرة:
أما في الدنيا فحتى لا يفتري عليه أحد بكتمان، أو نقصان، ويعلم الثقلان أن ما بلغه هو الدين الكامل.
__________
(1) هذه إشارات، ويستعان لمزيد من التحليل ب: المعجم المفهرس لمعاني القران العظيم (1/ 225) .
(1/17)
________________________________________
وأما في الاخرة فحتى يشهدوا له عند الله جل جلاله.
من أجل ذلك بين لهم صلّى الله عليه وسلّم- غير ما تقدم- أن الله عزّ وجلّ أوجب عليه البلاغ لكل ما أوحى إليه من ربه عزّ وجلّ، وإن لم يفعل فما قام بوظيفته التي أرسل من أجلها، كما قال سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة: 67) ، كما قال الزهري في فقه هذه الاية:
«من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم» «1» ، ... فكل شيء سكت عنه صلّى الله عليه وسلّم فهو مما لم يؤمر بتبليغه- إن كان ثم شيء يبلّغ-، وقد علم الصحابة رضي الله عنهم بأنه لو كان ثم شيء يستحق البلاغ لأمر بتبليغه فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- قال إبراهيم: زاد أو نقص- فلمّا سلّم قيل له: يا رسول الله! أحدث في الصّلاة شيء؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا:
صلّيت كذا وكذا. قال: فثنى رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين ثمّ سلّم، ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال: «إنّه لو حدث في الصّلاة شيء أنبأتكم به» «2» .
استشهاده صلّى الله عليه وسلّم الخلق على قيامه بالبلاغ: وقد شهّد أمته على إبلاغه الرسالة، واستنطقهم بذلك في أعظم المجامع، كما في خطبته في حجة الوداع، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبة حجة الوداع: «أيها الناس! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول: اللهم اشهد» «3» .
__________
(1) صحيح البخاري (6/ 2738) .
(2) البخاري (1/ 156) ، مسلم (1/ 400) ، مرجعان سابقان.
(3) وورد مثل ذلك عن أبي بكرة عند البخاري (1/ 52) ، ومسلم (3/ 1305) ، وعن ابن عباس عند البخاري (2/ 619) ، وقد جاء مثل ذلك أيضا عن عدد من الصحابة في أكثر من موطن.. انظر: الأصل.
(1/18)
________________________________________
وشهد له الصحابة رضي الله عنهم بكمال البلاغ في الدنيا: فمنعوا بذلك أوهام المتخرصين أن يكون فرّط أو كتم أو خص بعض الناس بشيء من البيان العام الواجب تبليغه عليه صلّى الله عليه وسلّم، فعن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال له: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس، فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله سبحانه وتعالى قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «1» ، وعن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب وهو يقول يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «2» .

مادة البلاغ الأساسية:
ومادة البلاغ الأساسية هي القران الكريم كما قال جل جلاله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (الأنعام: 19) ، وقال عزّ وجلّ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (الأنعام: 92) أي:
«مكة ومن حولها من أحياء العرب وسائر طوائف بني ادم من عرب وعجم» «3» ، وقال جل جلاله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ (هود: 17) ، وقال سبحانه وتعالى:
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان: 1) .
ولأن مادة البلاغ الأساسية هي القران قال ابن عباس رضي الله عنها في قوله سبحانه وتعالى:
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة: 67) : «يعني إن كتمت اية مما أنزل
__________
(1) تفسير ابن كثير: (2/ 78) ، وقال عن هذا الحديث: «وهذا إسناد جيد» ، وتتمته: «والله ما ورثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوداء في بيضاء» .
(2) البخاري (6/ 2739) ، مرجع سابق.
(3) ابن كثير (2/ 157) ، مرجع سابق.
(1/19)
________________________________________
إليك من ربك لم تبلغ رسالته» «1» ، وقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً (الأنعام: 90) ، «أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القران أجرا أي أجرة ولا أريد منكم شيئا» «2» كما كان يبين أن هذا العلم الذي أوتيه، وأمر بتبليغه خير كثير كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «قد علمني الله عز وجل خيرا» «3» ، فتحددت وظيفة البلاغ بإيصال مادته الأساسية إلى هؤلاء الأحزاب باختلاف أمصارهم وأعصارهم.

الإبانة في البلاغ:
ونلحظ أن (الإبانة) صفة ضرورية ملازمة لوظيفة البلاغ، والإبانة نوعان:
1- إبانة لفظية: أي يجب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يكون لفظه بالبلاغ مبينا كما في قوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء: 195) .
2- وإبانة معنوية: أي يجب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يبين تأويل الكلام الذي أمر بتبليغه كما في قوله سبحانه وتعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (النحل: 44) ، فمما «يجب أن يعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بين لأصحابه رضي الله عنهم معاني القران، كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يتناول هذا وهذا» «4» .

الاتصال بين الإبانة اللفظية والإبانة المعنوية:
واللفظ والمعنى متصلان اتصالا وثيقا إلا أنه لا يمكن للمعنى الثبات مع اهتزاز لفظه أو تغييره في الكلام المعجز إذ أول أوجه إعجازه تتمثل في إعجازه في لفظه كما لخص الخطابي- رحمه الله تعالى- أركان إعجاز القران في: «اللفظ الحامل،
__________
(1) ابن كثير (2/ 79) ، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (2/ 157) ، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 368) ، وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 456) ، مرجع سابق: «وهذا إسناد صحيح» .
(4) مقدمة في أصول التفسير (ص 208) .
(1/20)
________________________________________
المعنى القائم به، الرباط الناظم لهما» «1» ، ولأن إعجاز القران يعتمد على حقيقة واحدة هي أن الله سبحانه وتعالى قاله، كان لا بد من بلوغ أقصى درجات الإبانة اللفظية في كلام الله جل جلاله تمهيدا للإبانة المعنوية؛ ولذا يظهر الاهتمام بألفاظ القران واضحا في القران، ومن ذلك قول الله عزّ وجلّ: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ «أي البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ؛ لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، ولهذا قال تعالى إِنَّا جَعَلْناهُ أي أنزلناه قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلغة العرب فصيحا واضحا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تفهمونه وتتدبرونه كما قال عزّ وجلّ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» «2» .
وصار الطلب الشرعي لضبط ألفاظ القران الكريم استحضارا واستظهارا وإتقانا للأداء بديهية شرعية في حياة الصحابة رضي الله عنهم، كما كان تعظيمه، وصونه باستظهار ألفاظه، والعمل على نشره كتابة وحفظا وتعليما من أبرز مقاصد التنزيل الحكيم: أي ليعظم عندهم بألفاظه، فيحافظ عليها، ويتبع معانيها: كما في قوله سبحانه وتعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف: 4) ف «بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض ... » «3» وكما قال تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) (الواقعة: 77- 80) وقال تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (عبس: 11- 16) فإذا كانت «الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القران في الملأ
__________
(1) بيان إعجاز القران (ص 26) .
(2) ابن كثير (4/ 123) ، مرجع سابق.
(3) ابن كثير (4/ 123) ، مرجع سابق.
(1/21)
________________________________________
الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى لأنه نزل عليهم وخطابه متوجه إليهم فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم لقوله جل جلاله:
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف: 4) » «1» .
وبايات الله التي تبلغ البحار، وما وراء البحار ... كان مستمسك العارفين ...
ولها كان تعظيم السادات من المؤمنين ... يعظمون ايات الله ... وهي حبل النجاة في يوم الهول المبين:
قرت بها عين قاريها فقلت له ... لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم
إن تتلها خيفة من حر نار لظى ... أطفأت نار لظى من وردها الشبم
كأنها الحوض تبيض الوجوه به ... من العصاة وقد جاؤه كالحمم
وكالصراط وكالميزان معدلة ... فالقسط من غيرها في الناس لم يقم

المطلب الثاني: تحليل دلالات الوظيفة الرسالية الإجمالية:
بعد أن استقر أن وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي (البلاغ) ، وعلمت مادته فيجب معرفة ماهيته؛ وسر اختيار هذا المصطلح للدلالة عليه.
فأصل البلاغ البلوغ وهو الوصول من بلغ يبلغ بلوغا «2» ، وتظهر من مفاهيم البلاغ الدلالات التالية:
1- أنه يجب وصول المبلّغ به ليتم البلاغ:
فعدم وصوله نقص في التبليغ، إذ بلغ الشيء يبلغ بلوغا وبلاغا: وصل وانتهى، والبلاغ: ما بلغك، وفي التنزيل العزيز: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ
__________
(1) ابن كثير (4/ 123) ، مرجع سابق.
(2) تفسير القرطبي (6/ 327) .
(1/22)
________________________________________
(الجن: 23) ، أي لا أحد منجى إلا أن أبلّغ عن الله ما أرسلت به، والإبلاغ:
الإيصال، وكذلك التّبليغ، والاسم منه البلاغ «1» ، وهذا يقتضي فعل الوسائل القولية والعملية لإيصال المبلغ به.
2- الكفاية بالمبلغ به كما في قوله جل جلاله: إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (الأنبياء: 106) ، وكما في قوله سبحانه وتعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ (إبراهيم: 52) والإشارة للقران الكريم كما في قوله عزّ وجلّ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (العنكبوت: 51) والبلاغ هنا الكفاية «أي كفاية لأنه يبلغ مقدار الحاجة» «2» ؛ ومنه قول الراجز:
تزجّ من دنياك بالبلاغ ... وباكر المعدة بالدّباغ
«3» ويظهر من هذه الايات أن المادة الأساسية للتبليغ هو القران الكريم.
3- أن القران المبلغ به هو السبيل الوحيد الذي يوصل إلى مطلوب الإنسان من السعادة، فالبلاغ ما يتبلّغ ويتوصّل به إلى الشيء المطلوب «4» ، وتبلّغ بالشيء:
وصل به إلى مراده «5» .
4- الاجتهاد في أداء الرسالة فقولك: «أراه من المبالغين في التبليغ، بالغ يبالغ مبالغة وبلاغا إذا اجتهد في الأمر» «6» .
__________
(1) لسان العرب (8/ 419) .
(2) القرطبي (6/ 327) ، مرجع سابق.
(3) معجم مقاييس اللغة (1/ 156) .
(4) النهاية في غريب الأثر (1/ 152) .
(5) انظر: لسان العرب (8/ 419) ، مرجع سابق.
(6) لسان العرب (8/ 419) ، مرجع سابق.
(1/23)
________________________________________
5- ويدل الوصف الشخصي للنبي صلّى الله عليه وسلّم ب (الرسول) ، والوصف الوظيفي له ب (البلاغ) على المصدر الإلهي لتعلم الأنبياء، وذكر هذا والتأكيد عليه هو دأب كل نبي ورسول يقولون: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ (الأحقاف: 23) أي لا أعلم من ذلك إلا ما علمني الله، وإنما أنا رسول إليكم من الله مبلغ أبلغكم عنه ما أرسلني به من الرسالة «1» ، فهذا قول هود عليه السّلام، ومثله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ (الكهف: 110) «أي قل يا محمد إنما أنا بشر مثلكم من بني ادم لا علم لي إلا ما علمني الله» «2» ومثله على لسان يوسف عليه السّلام: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي (يوسف: 37) ، وكان يبلغهم بالقران كمادة أساسية في منهاج التبليغ، فيحاولون إبعاده عن ذلك، وصرفه عنه فيقولون ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ (يونس: 15) ، فيكون رده هو التأكيد على هذه المصدرية كما في قوله تعالى قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي (يونس: 15) «وإنما هو رسول مبلّغ، ومأمور متبّع» «3» .
ونظرا لهذه المقتضيات يحاسب الرسل على ذلك كما في قوله عزّ وجلّ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ (الجن: 28) ، وكما في قوله جل جلاله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ (المائدة: 117) .
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (26/ 25) .
(2) الطبري (16/ 39) ، مرجع سابق.
(3) الطبري (11/ 95) ، مرجع سابق.
(1/24)
________________________________________
المطلب الثالث: تفصيل الوظيفة الرسالية للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
جاء تفصيل هذه الوظيفة (البلاغ) ، وبيان امتداداتها في ايات أخر؛ إذ ورد بيانها في أربع ايات من القران الكريم: في سورة البقرة موضعان، وموضع في سورة ال عمران، وموضع في سورة الجمعة، وترجع صيغها الإجمالية إلى قوله سبحانه وتعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: 151) وقوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (الجمعة: 2) ، وقد فرّعت هذه الايات وظيفة البلاغ إلى ثلاثة فروع:
[فروع وظيفة البلاغ]

الأول: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ:
وقدم تلاوة الايات على سائر الفروع الاخرى في كل الايات، بل قد انفردت هذه الوظيفة بالذكر في عدد من المواضع كقوله جل جلاله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (البينة: 2) ، وكذلك قوله عزّ وجلّ: رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ (الطلاق: 11) ، ويَتْلُوا هنا في موضع نصب نعت لرسول ومعناه يقرأ، والتلاوة القراءة، وآياتِ اللَّهِ يعني القران «1» فقوله سبحانه وتعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي يقرأ عليهم اي كتابه وتنزيله «2» .
__________
(1) انظر: القرطبي (18/ 92) ، مرجع سابق.
(2) انظر: الطبري (4/ 163) ، مرجع سابق.
(1/25)
________________________________________
الثاني: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ:
فالكتاب يعني القران، ويعني بالحكمة السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيانه له، وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط، وقال مالك بن أنس: الحكمة الفقه بالدين «1» ، ولخص بعضهم معاني الحكمة بقوله:
والحكمة العلم وقول الحق ... وفعله مقترنا بالصدق
«2» فالمراد أنه يعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه مقروا ومكتوبا، ويبين لهم تأويله ومعانيه «3» ، و (يعلمهم الكتاب والحكمة) صفة أيضا ل (رسولا) مترتبة في الوجود على التلاوة «4» ، وكذلك التزكية تترتب في الوجود على التلاوة ...
والفرعان الأولان هما مدار هذا الكتاب؛ إذ يتحدث الأول عن التلاوة، والاخر عن تعليم الكتاب تلاوة وكتابة ... وبذلك تعلم ألفاظ القران الكريم.

الثالث: وَيُزَكِّيهِمْ:
التزكية هي التطهير والزكاة النماء والزيادة فيكون معنى قوله جل جلاله وَيُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الشرك بالله، وعبادة الأوثان، ودنس الكفر والذنوب، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله»
، فالتطهير إنما يكون باتباعهم إياه، وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم «6» ، فيحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد
__________
(1) انظر: القرطبي (18/ 92) ، مرجع سابق.
(2) التيسير في علوم التفسير (ص 29) .
(3) وانظر: الطبري (4/ 163) ، مرجع سابق.
(4) انظر: روح المعاني (28/ 93) ، مرجع سابق.
(5) انظر: الطبري (1/ 558) ، مرجع سابق.
(6) انظر: الطبري 4/ 163، مرجع سابق.
(1/26)
________________________________________
والأعمال «1» ، وبذلك «يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان» كما قاله ابن عباس «2» ، وبين ابن كثير- رحمه الله تعالى- الوسيلة العملية لأداء عملية التزكية بقوله:
«يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم» «3» .
ومعنى الاية إجمالا: «يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من البينات، ويعلمهم القران، والحكمة وما يكمل به نفوسهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة» «4» .

من حكم ترتيب هذه الفروع في المواضع الأربعة «5» :
نلحظ أن التلاوة جاءت في الايات كلها في أول الفروع، ثم اختلف ترتيب الفرعين الاخرين حيث جاء التعليم للكتاب والحكمة أولا في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام في قوله عزّ وجلّ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة: 129) ، والدعاء من أساليب الطلب، وجاءت التزكية قبل التعليم في ايات الإخبار في الموضع الثاني من سورة (البقرة: 151) ، و (ال عمران: 16) ، و (الجمعة: 2) ، وقد تجلت من ذلك عدة حكم:
1- جاءت الفروع بهذه الهيئة في الترتيب مع أنها تعود لأمر واحد هو البلاغ المبين لأن المقام مقام تفصيل للنعم المطلوبة أو المرادة في العباد، ويدل على ذلك
__________
(1) انظر: روح المعاني (28/ 93) ، مرجع سابق.
(2) انظر: القرطبي (18/ 92) ، مرجع سابق.
(3) ابن كثير (1/ 425) ، مرجع سابق.
(4) تفسير أبي السعود (1/ 162) .
(5) يسمى هذا العلم (علم توجيه متشابه الكتاب) ، وهو فن مستقل من علوم القران ... انظر: في الكتب المؤلفة فيه في مقدمة (السخاوي) علم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي ت 643 هـ: كتاب هداية المرتاب وغاية الحفاظ والطلاب في تبيين متشابه الكتاب.
(1/27)
________________________________________
قوله عزّ وجلّ: وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: 151) فإن الموصول مع كونه عبارة عن الكتاب والحكمة قطعا قد عطف تعليمه على تعليمهما وما ذلك إلا لتفصيل فنون النعم في مقام يقتضيه كما في قوله تعالى وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (هود: 58) عقب قوله تعالى نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا (هود: 58) «والمراد بعدم علمهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالفكر والنظر وغير ذلك من طرق العلم لانحصار الطريق في الوحي» «1» .
2- رتّبت بهذا الشكل دلالة على ضرورتها وترتبها في الوجود، والمعلم البارز في الترتيب أن التلاوة جاءت أولا في كل الايات، وذلك لأنها أساس الفرعين الاخرين، إذ حقيقة التعليم للكتاب تلاوة متعدية بإقراء ألفاظه، وتحفيظها وتفهيمها ببيان أحكامه للاخرين، وقد كان معظم تبليغه وكلامه صلّى الله عليه وسلّم تلاوة القران لا يزيد عليه إلا الأقل منه، ويدل على أن ذلك هو أساس وظائفه قوله عزّ وجلّ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ (النمل: 91- 92) .
3- وجاءت وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ثانية في الدعاء: لأنها صفة أخرى مترتبة في الوجود على التلاوة، وأخر التزكية لأنها عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة «2» .
4- ويمكن النظر إلى الحكمة في الترتيب في كل سورة على حدة بالنظر إلى طبيعة وصف المخاطبين أو المتكلم عليهم: فلما كان ظاهر دعوته عليه السّلام أن البعث
__________
(1) انظر: تفسير أبي المسعود (1/ 178) ، روح المعاني (28/ 93) ، مرجعان سابقان.
(2) تفسير أبي السعود (1/ 178) ، مرجع سابق.
(1/28)
________________________________________
لأمة مسلمة كانوا إلى تعليم ما ذكر أحوج منهم إلى التزكية؛ فإن أصلها موجود بالإسلام، فأخر قوله وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهر قلوبهم بما أوتي من دقائق الحكمة فترتقي بصفائها ولطفها من ذروة الدين إلى محل يؤمن عليها فيه من أن ترتد على أدبارها، وتحرف كتابها كما فعل من تقدمها، والتزكية اكتساب الزكاة بما هو لها بمنزلة الغذاء للجسم، «ولما ذكر سبحانه في سورة الجمعة بعثه في الأميين عامة اقتضى المقام تقديم التزكية التي رأسها البراءة من الشرك الأكبر ليقبلوا ما جاءهم من العلم، وأما تقديمها في ال عمران مع ذكر البعث للمؤمنين فلاقتضاء الحال بالمعاتبة على الإقبال على الغنائم الذي كان سبب الهزيمة لكونها إقبالا على الدنيا التي هي أم الأدناس» «1» .
5- ومن حكم الترتيب أن التلاوة عامة لجميع الناس، والتزكية خاصة بمن استجاب للايات فامن بها، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعض المؤمنين «2» .
6- وفي هذا الترتيب يظهر لنا الفرق في عملية تعليم القران (علم القراءة) عن عملية تعليم الأحكام، فعلم القراءة طريقه (التلقي) الذي تشير إليه لفظة يَتْلُوا، وعلم الأحكام أعم من التلقي فقد يكون بالاستنباط مثلا كما تشير إليه لفظة وَيُعَلِّمُهُمُ فرتب «التعليم على التلاوة كما هو الواقع لأن التلاوة أول ما يقرع السمع، والتعليم الذي هو التفهم بعده» «3» .
__________
(1) (البقاعي) برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي ت 885 هـ: نظم الدرر في تناسب الايات والسور.
(2) أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16/ 185) إلى شيء يشبه هذا مع خلاف في جزئية من الفكرة.
(3) (السيوطي) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكرت 911 هـ: قطف الأزهار في كشف الأسرار، تحقيق د. أحمد بن محمد الحمادي، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- قطر، 1414 هـ- 1994 م.
(1/29)
________________________________________
7- ومن الحكم الظاهرة لهذا الترتيب: أن التلاوة للقران يجب أن تكون عامة للناس، وعامة في مجتمع المؤمنين ظاهرة لا يكون أحد من المؤمنين في المجتمع إلا سامعا أو قائما بها ... بالقدر الذي يجعل هجران القران المذكور في قول جل جلاله: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان: 30) ، منتف عنه.. أما التعليم للكتاب تعليما تفصيليا دقيقا ففرض كفاية يقوم به بعض المؤمنين عن المجتمع كله.
وهذا يقتضي منهجيا من الدولة المسلمة: العمل على إشاعة القران بالوسائل الإعلامية والتوجيهية المختلفة، ومواكبة تطور العصر في هذا السبيل.

علاقة البلاغ بالتلاوة والتعليم:
تقدم أن البلاغ هو الوصف المجمل لوظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويزاد هنا توضيح ذلك:
فالبلاغ هو غاية التلاوة وهو باعث التعليم كما في قوله تعالى بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (المائدة: 67) ، ولا يبلغه إلا إذا تلاه، ولا بد من الإبانة في محاور البلاغ الثلاثة: التلاوة، والتعليم، والتزكية ... وهذا البلاغ ينبغي أن يبقى متواصلا لكل الأجيال القادمة كما في قوله- تعالى ذكره-: «لأنذركم به ومن بلغ» ، فاقتضى هذا أمورا من حيث العملية التعليمية لألفاظ القران الكريم:
بقاء تلاوته بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ليحدث البلاغ.
أن تكون تلاوته بالطريقة ذاتها التي تلاه بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حيث أداء اللفظ الخارجي ومن حيث أداؤه الداخلي، وإن لم يكن هذا فما بلغت رسالة الله إلى العالمين.
أن يعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم صحابته طريقة تلاوته للقران الكريم وحفظه وأدائه ليتم ذلك البلاغ المتواصل، وأن يعلمهم صلّى الله عليه وسلّم طريقة التعليم ليعلموا من بعدهم حتى يبقى البلاغ متصلا.
(1/30)
________________________________________
.. وبذا مضى خليل الله الأكرم صلّى الله عليه وسلّم معلم الناس أكرم كلام ... وخير هدي ونظام ... مضى يجذب القلوب إليه وهو يجري من فمه الطاهر الزكي عسلا مصفى ... يتلو ... ولتلاوته مذاق لم يتغير طعمه أبد الدهر ... فأنى عن حبه يبتعد اللاهون؟ وبمن غيره تستشفي نظرات المتيمين؟
قلبي- وحبّك للقلوب شفاء- ... بهواك يخفق، والهوى استهداء
يا من بعثت مسددا ومؤيدا ... و «محمدا» ، وزكت بك الالاء
الوحي وحي الله أنت مكانه ... وبيانه، وصراطه الوضاء
قرانه يهدي لأقوم منهج ... في العالمين، وايه غراء
(1/31)
________________________________________
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة:
لما كانت تلاوة ألفاظ القران الكريم هي أساس الوظائف الاخرى ... فإن هذا يقتضي التوسع في شرح مفهوم التلاوة، وبيان أهميته، وحيزه الواقعي من وظيفة البلاغ ... ولتحقيق ذلك انقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب:

المطلب الأول: مدلول التلاوة:
المطلب الثاني: علاقة التلاوة بالتعليم: والمراد هنا هل التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها؟.
المطلب الثالث: المنهج المقرر للتلاوة والتعليم.
المطلب الرابع: قيامه صلّى الله عليه وسلّم بوظيفة تعليم القران على أوسع نطاق.
المطلب الأول: مدلول التلاوة:
اقترن هذا اللفظ (التلاوة) دون غيره من الألفاظ بقراءة القران الكريم لما له من دلالات تجعله دون غيره المعبر عن مراد الله عزّ وجلّ من القراءة، وأهم مدلولين لهذا اللفظ:

أولا: التلاوة
تعني القراءة: فتلوت القران تلاوة: قرأته، ومن ذلك قول الله جل جلاله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها (ال عمران: 93) «1» ، وعمّ به بعضهم كل كلام؛ كما في قوله جل جلاله: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (الصافات: 3) سواء كانوا هم الملائكة، أو غيرهم ممن يتلو ذكر الله تعالى، وكما في قوله سبحانه وتعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ (البقرة: 102) ؛ قال عطاء: على ما تحدّث
__________
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 510) .
(1/32)
________________________________________
وتقصّ، وقيل: ما تتكلم به كقولك فلان يتلو كتاب الله أي: يقرؤه ويتكلم به، ثم صارت التلاوة حقيقة عرفية في قراءة القران الكريم، وقد تكون قراءة لغيره لكن في النادر وعند التقييد بذلك «1» .
وسميت القراءة تلاوة لأن الايات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر، والتلو التبع «2» ، كما قال الثعالبي: «يقرؤنه حق قراءته، وهذا أيضا يتضمن الاتباع والامتثال» «3» ، «فاستعملت التلاوة في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه» «4» ، وفي قوله سبحانه وتعالى:
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ (يونس: 30) ، قرأ حمزة والكسائي تتلو «من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار» «5» ، والتلاوة بمعنى القراءة من أعظم خصائص القران الكريم فالكتب المتقدمة لا يجب فيها هذه التلاوة «6» .

ثانيا: الاتباع:
إذ «التاء واللام والواو أصل واحد، وهو الإتباع. يقال: تلوته إذا تبعته» «7» .
__________
(1) انظر: التبيان في تفسير غريب القران (ص 351) .
(2) التبيان في غريب القران (ص 82) ، مرجع سابق.
(3) (الثعالبي) عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري: الجواهر الحسان في تفسير القران (1/ 104) ، دار القلم، بيروت.
(4) انظر: القرطبي 1/ 369، مرجع سابق.
(5) تفسير البيضاوي المسمى بأنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 195) .
(6) (القاضي عبد الجبار) قاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد ت 415 هـ: تنزيه القران عن المطاعن، طبعت على نفقة: محمد سعيد الرافع- صاحب المكتبة الأزهرية- ط 1 1329 هـ- طبعت بمطبعة الجمالية بمصر.
(7) انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 181) ، مرجع سابق.
(1/33)
________________________________________
والمراد بالاتباع هنا أمران:

أ- الاتباع اللفظي:
بأن يتبع اللفظ اللفظ في قراءة القران الكريم على هيئة مخصوصة، فسميت قراءة القران تلاوة لأته يتبع اية بعد اية «1» ، ومنه جاءت الخيل تتاليا أي متتابعة «2» .

ب- الاتباع العملي:
ومنه تلا إذا اتّبع «3» فعلى قارئ القران يتبع في قراءته ما أنزله الله عز وجل، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبع ذلك إذا قرأه عليه جبريل عليه السّلام، ويقال: كان يتلو كتاب الله؛ هو الذي يقرؤه ويعمل بما فيه، فيكون تابعا له، والقران يكون سائقا له وقائدا «4» ، ومنه (فإذا قرأناه فاتبع قرانه) ، ويوضح ذلك قوله جل جلاله: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ (البقرة: 44) ففيه توبيخ عظيم لمن فهم، وتتلون تقرؤن الكتاب التوراة وكذا من فعل فعلهم وكان مثلهم، وفلان يتلو فلانا أي: يحكيه ويتبع فعله «5» ، واتباعه هنا يكون بامتثال الأمر والنهي، وروى سفيان الثوري في تفسيره عن أبي رزين في قوله سبحانه وتعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ (البقرة: 121) قال: «يتبعونه حق اتباعه، ويعملون به حق عمله» ، وقال قتادة:
«هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم آمنوا بكتاب الله، وعملوا بما فيه» «6» .
__________
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 181) ، مرجع سابق.
(2) مختار الصحاح (ص 23) ، لسان العرب (14/ 102) .
(3) لسان العرب (14/ 102) ، مرجع سابق.
(4) انظر: (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 هـ: جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 91) ، مرجع سابق.
(5) انظر: لسان العرب (14/ 104) ، مرجع سابق.
(6) فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 510) ، مرجع سابق.
(1/34)
________________________________________
وأما قول الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ (البقرة: 121) فشامل للمعنيين «1» ؛ إذ معناه يقرأونه حق قراءته ... ويعملون بما فيه فيتّبعونه حقّ اتّباعه «2» كما قال الغزالي: «وتلاوة القران حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار، والائتمار. فاللسان يرتل، والعقل يترجم، والقلب يتعظ» «3» .
ثالثا: أن تكون القراءة في التلاوة على هيئة مغنّاة مخصوصة أي مرتلة ترتيلا مع التغني، ف «العرب تسمي المراسل في الغناء والعمل المتالي، والمتالي الذي يراسل المغنّي بصوت رفيع؛ قال الأخطل:
صلت الجبين كأنّ رجع صهيله ... زجر المحاول، أو غناء متال»
«4» كما تظهر المحاكاة في التلاوة ومحاولة التقليد المقطعي والتنغيمي، ومنه قولهم:
فلان يتلو فلانا أي يحكيه ويتبع فعله «5» .
__________
(1) الصحيح أنه يجوز إرادة المعنيين بعبارة واحدة، وقد وضع الأصوليين بناء على ذلك أصولا، واستخرجوا للألفاظ دلالات، أشار المفسرون لذلك، وقد عقد الراغب الأصفهاني فصلا بعنوان: (فصل في جواز المعنيين المختلفين بعبارة واحدة) انظر: مقدمة التفسير (ص 425) .
(2) انظر: (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 هـ: جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 91) ، مرجع سابق.
(3) (الغزالي) أبو حامد محمد بن محمد ت 505 هـ: إحياء علوم الدين (1/ 287) ، دار المعرفة، بيروت.
(4) لسان العرب (14/ 102) ، مرجع سابق.
(5) انظر: لسان العرب (10/ 104) ، مرجع سابق.
(1/35)
________________________________________
العلاقة بين التلاوة والقراءة:
مما سبق يتبين أن العلاقة بين التلاوة القراءة علاقة عموم وخصوص وجهي، فكل منهما خاصة من وجه عامة من وجه اخر، فالتلاوة خاصة من الناحية العرفية بقراءة القران الكريم أو ما يماثله من الكتب المنزلة، عامة من حيث ضرورة اجتماع الاتباع اللفظي مع المعنوي، والقراءة عامة من حيث شمولها لكل مقروء كتابا منزلا أو غيره، خاصة في الأمر النظري دون المعنوي، وعلى هذا ينزل قول الراغب: «التلاوة الاتباع، وهي تقع بالجسم تارة، وتارة بالاقتداء في الحكم، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى، والتلاوة في عرف الشرع تختص باتباع كتب الله تعالى المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بامتثال ما فيه من أمر ونهي، وهي أعم من القراءة فكل قراءة تلاوة من غير عكس» «1» .

المطلب الثاني: علاقة التلاوة بالتعليم:
والمراد هنا هل التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها؟ وما خصائصها الدالة على ذلك؟.

التلاوة وظيفة تعليمية:
وذلك لأن مجرد إلقاء اللفظ القراني يتضمن الإشارة إلى السامع أن يؤمن به ويتعلمه من حيث هو قران، ويدعم هذه الحقيقة الواقعية من الناحية الشرعية قوله جل جلاله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها (الإسراء: 110) كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القران، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم القران حتى يأخذوه عنك» »
، وفي هذا إيضاح لطبيعة الوظيفة التعليمية لألفاظ القران الكريم، وإصرار على تثبيتها في نفوس الملأ على أنها أساس وظائفه، وجوهر تبليغه.
__________
(1) (الراغب) أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني ت 502 هـ: المفردات في غريب القران (ص 79) .
(2) ابن كثير (3/ 70) ، مرجع سابق، والحديث في صحيح ابن خزيمة (3/ 39) .
(1/36)
________________________________________
وإذا كان البلاغ أصل التعليم، فإن أول جزء في التعليم والبلاغ المبين هو إبانة لفظ القران الكريم تلاوة فردية على نفسه، ومتعدية بقراءته على الغير أو بتعليمه لهم.

من خصائص التلاوة التعليمية للقران الكريم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم:
1- ألزم صلّى الله عليه وسلّم برفع صوته رفعا معتدلا تبين معه الايات حتى يستبين لسامعه مع سرية الدعوة أو اشتداد الأذى عليها فيؤخذ عنه، كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2- التكرار لتلاوة ألفاظ القران الكريم: للناس عامة، ويدل له التكرار في الكلام على مواقف الكفار من القران الكريم، كما في قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (الانشقاق: 21) ، وقوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت: 26) ، فقد كانوا يشتطون في محاولة صرف الناس عن سماع كلام الله بالاستهزاء والسخرية حتى كان ذلك مبررا كافيا لرد اعتدائهم بالقتل فقد روى ابن جرير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله! أسيري؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه كان يقول في كتاب الله عزّ وجلّ ما يقول» فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله أسيري؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أغن المقداد من فضلك» فقال المقداد: هذا الذي أردت. وفيه أنزلت هذه الاية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (الأنفال: 31) «1» .
__________
(1) الطبري (9/ 231) ، مرجع سابق، ورواه أبو داود في المراسيل (ص 249) ، انظر: (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275 هـ: المراسيل، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1408 هـ.
(1/37)
________________________________________
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكثر من تلاوة القران الكريم على من يبلغهم عامة، فيصل إلى شغاف من أراد الله بهم خيرا، ويحجب عن غفلة القلوب فكانوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (الكهف: 101) ف «لعداوتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلو عليهم» «1» .
3- نقله صلّى الله عليه وسلّم الوظيفة لأصحابه رضي الله عنهم تعبدا لجعل نطاق المستمعين أكثر:
فقد قام الصحابة رضي الله عنهم بتلاوة القران الكريم على الناس منذ وقت مبكر فعن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة- وهو سيد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر:
أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج، ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك. فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق. فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه
__________
(1) (الواحدي) أبو الحسن علي بن أحمد ت 468 هـ: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 673) ، تحقيق: صفوان عدنان داودي، دار القلم- بيروت، ط 1، 1415 هـ.
(1/38)
________________________________________
في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القران، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى بن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك وأرضى بجواز الله. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بمكة «1» .
وهذا يدل على أن القراءة العامة كانت مذ كان الوحي، ولم تكن قاصرة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
4- زيادة التكرار على المؤمنين، ليحفظوها ويعوها كما قال سبحانه وتعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ (الأنعام: 51) ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (ق: 45) مع أنه ينذر به إنذارا عاما كما في قوله جل جلاله: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (الأعراف: 2) ، وكما في قوله عزّ وجلّ: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (الرعد: 30) .
__________
(1) . البخاري (2/ 803) ، مرجع سابق.
(1/39)
________________________________________
5- أمر بمداومة التلاوة والحرص عليها كما في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ (النمل: 91- 92) ، اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ (العنكبوت: 45) ، ف (اتل) هنا «أمر من التلاوة والدأب عليها» «1» .
6- كان يقرأ جميع القران في الصلاة وإن لم يرو حديثيا جزئيات تلك القراءة، لكن روي إجمالا ما يدل على ذلك فروى عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما قال: «ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤم بها الناس في الصلاة» «2» ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله صلّى الله عليه وسلّم المفصل بمكة، فكنا حججا نقرؤه لا ينزل غيره «3» .

وصف التلاوة في القران الكريم:
تكرر وصف مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بتلاوة القران وحصرها في ذلك كما في قوله تعالى ذكره وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا (القصص: 59) ، وعرف الصحابة أن هذه الوظيفة هي أساس وظائفه كما كان يؤديها بمقتضياتها كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع «4»
__________
(1) القرطبي 13/ 347، مرجع سابق.
(2) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 2/ 114.
(3) سنن سعيد بن منصور 2/ 388، وإسناده قوي كما في التعليق على شرح مشكل الاثار 4/ 397.
(4) البخاري 1/ 387 ابن كثير 3/ 460، مرجعان سابقان.
(1/40)
________________________________________
ولا شك في المراد التعليمي مع القصد التعبدي المحض في هذه القراءة كما يقول (سير وليم موير) الذي نقل رأيه صاحب كتاب (حياة محمد) : «كان الوحي المقدس أساس أركان الإسلام، فكانت تلاوة ما تيسر منه جزا جوهريا من الصلوات اليومية عامة أو خاصة، وكان القيام بهذه التلاوة فرضا وسنة يجزى من يؤديهما جزاء دينيا صالحا ... لذلك وعت القران ذاكرة كثرة المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعا. وقد يسرت عادات العرب هذا العمل. فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم ... ولما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد اعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم على صفحات قلوبهم، وبذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو ... وقد بلغ بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من قوة الذاكرة ودقتها، ومن التعلق بحفظ القران واستذكاره حدا استطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عرف منه إلى يوم كانوا يتلونه» «1» .

ملامح تعليمية في حياة المعلم القدوة صلّى الله عليه وسلّم:
1- ظهر التأكيد على التلاوة في الايات المدنية، فالايات الأربع التي ذكرت فيها وظائف النبي صلّى الله عليه وسلّم الثلاث كلها في سور مدنية دلالة على أهمية إيلاء هذا الجانب أشد الاهتمام بعد تأمين الدولة الإسلامية، وليس معنى ذلك عدم الاستنفار لأداء هذه الوظيفة في عهد قبل ذلك بل المراد توسيع دائرة التعليم في هذا العهد، وابتكار محاضن فردية ومؤسسية له بحسب نمو المجتمع مدنيا، واتساعه جغرافيا، ولذا ورد المن بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما أرسل لأجل ذلك كما قال جل جلاله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ (البقرة: 151) .
__________
(1) انظر: حياة محمد ليهكل بواسطة محمد طاهر عبد القادر الكردي المكي: تاريخ القران وغرائب رسمه وحكمه (ص 1) ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
(1/41)
________________________________________
2- أن هذه الوظيفة وظيفة مشتركة بين جميع الأنبياء، على أنه قد تميز بها النبي صلّى الله عليه وسلّم تميزا ظاهرا لتميزه بالقران ثم بالخاتمية، وقد حدد هذه الوظيفة ابتداء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام «1» .
3- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تأهل بالصفات التعليمية اللازمة للمعلم الكامل القدوة (النموذج) ، وعرف الصحابة عنه ذلك، ومما يؤشر في هذا السبيل: ما قاله معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: «فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني» «2» ، والمراد الإشارة إلى هذا المعلم من صفاته صلّى الله عليه وسلّم لا التفصيل.
4- كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجعل ذلك أول شيء يجب أن يتعلمه العبد عند إسلامه، وإن كان مقدار المحفوظ المعلّم يتفاوت بحسب الأهلية للتصدر معلّما دائما للإقراء، أو مسلما يجب عليه حفظ ورد معين ... ويوضح ذلك ما رواه سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: كنت فيمن أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الطائف، فخرجت من أهلي من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر فصاعدت في الجبل، ثم هبطت فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلمت، وعلمني قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (الإخلاص: 1) وإِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (الزلزلة: 1) وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال: «هن الباقيات الصالحات وفي رواية قل يا أيها الكافرون» «3» .
__________
(1) انظر: ابن كثير (1/ 184) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 381) ، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الكبير (6/ 51) ، الحديث في مجمع الزوائد (7/ 166) ، مرجع سابق، وانظر: الإصابة (3/ 49) .
(1/42)
________________________________________
ويتضح مما سبق أن تعليم القران الكريم على الهيئة التي كانت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأعمال: وقد أثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الحقيقة بقوله: «خيركم من تعلم القران وعلمه» «1» ، ولا شك أن أول ما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتعليمه إنما كان تعليم ألفاظ القران الكريم كما في صريح تلك الايات المتقدمة، وهو أول جزء من أجزاء وظيفة البلاغ الذي أمر به في رسالته، وقد سئل الثوري- رحمه الله تعالى- عن الجهاد وإقراء القران فرجح الثاني واحتج بهذا الحديث.
فإن اعترض على كون تعليم القران الكريم أفضل أنواع التعليم بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرؤون القران ويدعون الله، والاخرى يتعلمون ويعلّمون، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ على خير: هؤلاء يقرؤون القران ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلّمون وإنما بعثت معلما» فجلس معهم «2» ، فدل هذا بظاهره على تقديم تعليم غير القران من أمور الشرع.
فالجواب: ليس في الحديث ذكر لتعليم القران الكريم في الحلقة الأولى بل غاية ما فيه ذكر قراءتهم للقران لا تعليم ألفاظه، وليس هذا مدار المسألة، على أن ذكر التعليم في الحلقة الثانية منصرف أول ما ينصرف إلى تعليم القران الكريم، ولذا طلب الأوس والخزرج من يعلّمهم القران الكريم، كما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عندما طلب منه إرسال من يعلم القبائل كان يرسل معهم القراء، ويحمل على هذا الرواية الاخرى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر بمجلسين في
__________
(1) البخاري (4/ 1919) ، ابن حبان (1/ 324) ، الترمذي (5/ 173) ، مراجع سابقة.
(2) سنن ابن ماجه (1/ 83) .
(1/43)
________________________________________
مسجده فقال: «كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه: أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه والعلم، ويعلّمون الجاهل، فهم أفضل وإنما بعثت معلما» قال:
ثم جلس فيهم «1» ، وفي لفظ: دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم المسجد وقوم يذكرون الله عزّ وجلّ، وقوم يتذاكرون الفقه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلا المجلسين إلى خير، أما الذين يذكرون الله عز وجل ويسألون ربهم فان شاء أعطاهم وان شاء منعهم، وهؤلاء يعلّمون الناس ويتعلمون، وإنما بعثت معلما وهذا أفضل» فقعد معهم «2» .
وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على ذلك، وكانت له الحلقات الخاصة للقراءة والإقراء:
كما في قول الله- تعالى ذكره-: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ (الكهف: 28) ، فقد قال بعض المفسرين فيها: «كان ذلك تعلّمهم القران وقراءته» «3» ، ويدل لهذا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إني لجالس ذات يوم في عصابة من ضعفاء المهاجرين، ورجل منا يقرأ علينا القران ويدعو لنا، وإن بعضنا لمستتر ببعض من العري وجهد الحال؛ إذ خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما راه قارئنا أمسك عن القراءة، فجاء وجلس إلينا، فقال بيده، فاستدارت له حلقة القوم فقال: «ألم تكونوا ترادون حديثا بينكم» قالوا: بلى يا رسول الله صاحبنا يقرأ علينا القران ويدعو لنا. قال: «فعودوا في حديثكم» فقال الرجل: يا رسول الله اقرأ وأنت فينا؟ قال: «نعم» . ثم قال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن
__________
(1) (الدارمي) أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن 255 هـ: سنن الدارمي (1/ 111) ، تحقيق: أحمد فواز زمرلي، خالد السبع العلمي، 1407 هـ، دار الكتاب العربي- بيروت.
(2) (الطيالسي) أبو داود سليمان بن داود الفارسي البصري ت 204 هـ: مسند الطيالسي (ص 298) ، دار المعرفة، بيروت.
(3) الطبري (7/ 205) ، مرجع سابق.
(1/44)
________________________________________
أصبر نفسي معهم» .. «1» .، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إلى المسجد، فوجد أصحابه عزين يتذاكرون فنون العلم، فأول حلقة وقف عليها وجدهم يقرؤون القران وجلس إليهم، فقال: «بهذا أرسلني ربي» ثم قام إلى الثانية فوجدهم يتكلمون في الحلال والحرام وجلس إليهم ولم يقل شيئا ثم قام إلى الثالثة فوجدهم يذكرون توحيد الله عز وجل ونفي الأشباه والأمثال عنه وجلس إليهم كثيرا ثم قال: «بهذا أمرني ربي» قال جابر: لأن التوحيد معرفة الله عز وجل، ومن لا يعرف توحيد الله فليس بمؤمن «2» .

المطلب الثالث: المنهج المقرر للتلاوة والتعليم:
بعد تقرير أن التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها ولكن للألفاظ فقط كالتعليم للكتاب الذي يزيد عليها في تفهيم المعاني لا بد من الكلام على المنهج الذي اختاره الله جل جلاله للبلاغ تلاوة وتعليما، وحدوده اللفظية «3» ، غير أننا نشير هنا إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم أصحابه عمومية القران وعدم جعله مادة خاصة، لا يعلمها إلا المتخصصون «4» :
__________
(1) (الطبراني) مسند الدنيا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ت 360 هـ: المعجم الأوسط (8/ 357) ، مراجعة: محمود الطحان، 1405- 1985، مكتبة المعارف- الرياض.
(2) (الأزدي) الربيع بن جبيب بن عمر البصري: مسند الربيع (ص 32) ، تحقيق محمد إدريس وعاشور بن يوسف، دار الحكمة، بيروت، ط 1، 1415 هـ ... وإسناد هذا الحديث والذي قبله بحاجة إلى مزيد نظر.
(3) انظر في مناقشة تعريف القران الكريم: تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم (ص 289) للمؤلف.
(4) والحديث عن القران من حيث هو قران لا عن القراات.
(1/45)
________________________________________
الحدود اللفظية للقران الكريم:
كانت سور القران وآياته النازلة معلومة معروفة، ومن ثم فحدوده باتت بدهية عند جملة المسلمين، وسوره النازلة يتابعها كل مسلم يكون قريبا من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك للتالي:
1- لأنه مادة البلاغ الأساسية: فليس للنبي صلّى الله عليه وسلّم من همّ صباح مساء إلا تبليغه تلاوة وتعليما: بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم القران الكريم بخصوصه، وغيره من أنواع الوحي كالحديث النبوي تابع له إيضاحا وتفسيرا غالبا، فالقران هو أساس البلاغ كما هو منهاج التعليم فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان رسول صلّى الله عليه وسلّم يعرض نفسه على النّاس في الموقف فقال ألا رجل يحملني إلى قومه فإنّ قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربّي «1» ، ولذا اشتد اهتمامه بإقراء القران: فهو وسيلة إنذاره وإبلاغه رسالته هي القران فبه ينطق، وبه يتكلم، وبه يخبر عن ماهية رسالته عندما يريد البيان، وبه يجادل، وبه يجاهد كما قال جل جلاله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (الأنعام: 19) ، فمن بلغه هذا القران من عرب وعجم وأسود وأحمر وإنس وجان فهو نذير له ولهذا قال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ (هود: 17) ، ولا يكفرون به إلا بعد سماعه» «2» ، وهي في الدّلالة كقوله سبحانه وتعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان: 1) فصارت المهمة في المقام الأول إبلاغ القران، ولما جادل عتبة بن ربيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعد جواب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن قرأ صلّى الله عليه وسلّم على عتبة بن ربيعة أوائل سورة فصلت لما أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليه «3» .
__________
(1) أحمد (3/ 390) ، الترمذي (5/ 184) وقال: «هذا حديث غريب صحيح» .
(2) ابن كثير (1/ 3) ، مرجع سابق.
(3) في حديث طويل أخرجه الحاكم (2/ 278) ، مرجع سابق، وصححه.
(1/46)
________________________________________
وكما أن القران بلاغ فهو بيان لسائر المكلّفين من النّاس من عرف لغة العرب منهم ومن لم يعرف، «وإن كان من لا يعرف لغة العرب يحتاج إلى أن يعرف معناه بلغته وينقل إلى لسانه» كما في قوله سبحانه وتعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ (ال عمران: 138) ، وقال سبحانه وتعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (التكوير: 27) فلما كان يخبرهم عن القران إنما كان يخاطبهم به عنه حتى كأنه بدهية معروفة بينهم، يعلمونها، ويعلمون حدودها كما لو كانت أسماءهم «1» .
ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلّم انقطع الوحي كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الان بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة» «2» ... وانقطاعه يعني كمال المنزل، وضرورة إبلاغه للعالمين، فالانقطاع دليل الكمال.
2- تكرير ذكره في مقام الإيصاء: ويتضح ذلك بذكره له في مقام الإيصاء ...
فلا يوصيهم بمجهول فعن أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أبشروا وأبشروا أليس تشهدون ألاإله إلا الله وأني رسول الله؟» قالوا: نعم قال: «فإن هذا القران سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا» «3» ، وعن زيد بن أرقم قال:
قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة، فحمد الله،
__________
(1) أتى الباحث في هذا المقام باية مكية، واية مدنية اختصارا وللدلالة على المراد.
(2) البخاري (2/ 934) ، مرجع سابق، ووردت مثل هذه العبارة عن أم أيمن فيما رواه مسلم (4/ 1907) .
(3) ابن حبان بترتيب ابن بلبان (1/ 329) ، وصححه الألباني في: صحيح الجامع الصغير (1/ 69) .
(1/47)
________________________________________
وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» (هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال:
«وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» «1» ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاءه فقال: أوصني فقال: «سألت عما سألت عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبلك» فقال: «أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القران فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض» «2» .
وهو عندما يوصيهم بذلك، ويكرر، ويؤكد ... أفتراه يوصيهم بمجهول، غير معلوم الماهية أو الحدود عندهم؟ وقد حصر وصيته بالكتاب الشريف، وأخبر صلّى الله عليه وسلّم أن «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» «3» ليدل على عمومه وشيوعه، وصيرورته من العلم العام بينهم، فمن لم يحفظه عرف ماهيته الجملية وحدوده العامة، بخلاف الحديث النبوي الذي لا يعلمه إلا الخاصة غالبا، وقد يعترض معترض هاهنا بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القران فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ... » «4» ، فالحديث يدل على
__________
(1) مسلم (4/ 1873) ، مرجع سابق.
(2) مسند أحمد (3/ 82) ، مرجع سابق، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 498) ، مرجع سابق.
(3) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 125) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/ 826) .
(4) أبو داود (4/ 200) ، مرجع سابق.
(1/48)
________________________________________
حجية السنة، وهذا صحيح وليس تقرير الباحث حول ذلك؛ إنما التقرير حول شيوع القران وصيرورته من العلم العام بين المسلمين وغيرهم، على أن هناك فرقا ضروريا بين علم القران وعلم الحديث أن القران محدود معلوم ومعروف يتردد في المحاريب أما الأحاديث فيعلمها الخاصة دون غيرهم.
3- القران هو معجزته التي قامت مقام العصا عند موسى عليه السّلام وأربت عليها، وقامت مقام إحياء الموتى عند عيسى عليه السّلام وأربت عليها ... لذاك لا يعرض على الناس مسلمهم وكافرهم إلا القران ... فصار شيوع العلم به، وبماهيته وحدوده كالعلم بهذه المعجزات ... وقد ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك فقال: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله امن عليه البشر وإنّما كان الّذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1» .
4- حديث القران عن نفسه حديث يدل على شدة ظهوره بين الناس، كما في قوله هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ (إبراهيم: 52) ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت: 41- 42) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (الواقعة: 77- 78) وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) (الطور: 1- 3) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) (الشعراء: 196) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) (الأعلى: 18) ، وقال: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) (الزخرف: 1- 2) ، (الدخان: 1- 2) .
وقال الله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا (الأعراف: 204) وقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
__________
(1) البخاري (4/ 1905) ، مرجع سابق.
(1/49)
________________________________________
قالُوا أَنْصِتُوا (الأحقاف: 29) . وقال الله سبحانه وتعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (الجن: 1- 2) .
5- تحديده كتابيا بشكل دقيق: حدد النبي صلّى الله عليه وسلّم القران الكريم مكتوبا على صورة دقيقة؛ فكان القران- كلام الله المنزل- محصورا معلوما معروفا لا يعتريه ريب ولا التباس عند المسلمين واليهود والنصارى وباقي العالمين، وهو الموجود بين الدفتين عندنا فيما عدا ما هو معلوم من أسماء السور، والتحزيب، وقد ورد تحديد هذا المنهج على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه بين دفتين قبل أن يجمع بين دفتين فقد قدم أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المقدس ليصلي فيه، فلما انصرف خرجوا معه ليشيعوه، فلما أرد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقا أن أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلنا: هات رحمك الله قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، وفي لفظ: ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقلنا: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا؟ امنا بك واتبعناك.
قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهركم يأتيكم الوحي من السماء؟ بلى قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا» » .
__________
(1) مسند الروياني (2/ 513) ، الاحاد والمثاني (4/ 152) ، الطبراني في الكبير (4/ 23) . تنبيه: عظم الأجر لا يعني زيادة الفضل، إذ لا شك أن أجور من بعد الصحابة للصحابة مثلها إلى يوم القيامة كما ثبت في مسلم، فلا يبلغ أحد مد أحد الصحابة ولا نصيفه ... ولعل الأجر المذكور على احاد الأعمال لا على جملتها ...
(1/50)
________________________________________
وترى النبي صلّى الله عليه وسلّم انتقل من ذكر الكتاب وتحديده بأنه بين لوحين إلى ذكر الإيمان به والعمل دلالة على ظهوره، ولا شك أن العمل به لا يكون إلا عن معرفته أي معرفة ما فيه.
و (علم القران) هو المصطلح العلمي المعروف لعلوم القراات والتجويد عند السلف:
فقد قال أهل العلم في تقسيم العلم: «العلوم الاعتقادية إما متعلقة بالنقل، أو فهم المنقول وتقريره وتشييده بالأدلة، أو استخراج الأحكام المستنبطة، فالنقل إن كان مما أتى به الرسول صلّى الله عليه وسلّم بواسطة الوحي فهو علم القران ... » «1» ، وقد يطلق على علم القران علم القراءة كما يكثر هذا الاصطلاح في كشف الظنون «2» .
__________
(1) أبجد العلوم، الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم 1/ 98. تنبيه: استخدم الباحث هذا المصطلح العلمي- علم القران- بدلا من مصطلح علم القراءة لانصراف الذهن عند سماع هذا الأخير إلى علم القراات مع أن نقل القران يدخل فيه دخولا أوليا وانظر ورود مصطلح علم القران على ألسنة العلماء مثلا في: (الهروي) أبو عبيد القاسم بن سلام ت 224 هـ: غريب الحديث (2/ 12) ، تحقيق: د. محمد عبد المعيدخان، دار الكتاب العربي، بيروت، 1396 هـ، وكذلك في: (ابن الجوزي) أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي إبن عبيد الله بن حمادي بن أحمد بن جعفر ت 597 هـ: غريب الحديث (2/ 37) ، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1985 م، لسان العرب (9/ 41) ، مرجع سابق، وفي (11/ 130) قال ابن منظور تعليقا على حديث «إن من العلم جهلا» : «قيل وهو أن يتعلم ما لا يحتاج إليه كالنجوم وعلوم الأوائل ويدع ما يحتاج إليه في دينه من علم القران والسنة» ، وانظر: (ابن النديم) محمد بن إسحاق أبو الفرج ت 385 هـ: الفهرست (1/ 128، 1/ 326) ، دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ- 1978 م، وتكرر هذا المصطلح في أبجد العلوم كثيرا، انظر: (2/ 52، 2/ 106، 2/ 303 ... ) ، مرجع سابق.
(2) انظر: كشف الظنون (1/ 11، 1/ 15، 3/ 1317) ، مرجع سابق.
(1/51)
________________________________________
ويتضح أن (علم القران) هو أساس بقية العلوم:
في تقديم التلاوة على تعليم الكتاب والحكمة، فقد تكرر بذلك تعليم القران في التلاوة ثم في تعليم الكتاب لأن تعليم ألفاظ القران تدخل في ذلك دخولا أوليا، فهو أساس وظائف النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالتلاوة أساس التعليم، والتعليم أساس التزكية كما في قوله عزّ وجلّ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى إذ كان المطلوب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقرئ ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وكان علم نقل اللفظ القراني أساس العلوم الشرعية الاخرى وعليها تأسس بناؤها ثم شمخ واشمخر، فالألفاظ أساس التفسير، والمباني أوعية المعاني، ولذا عرفوا علم التفسير بما يفيد شمول نقل علم اللفظ القراني: فقالوا: «هو العلم الباحث عن أحوال ألفاظ كلام الله سبحانه وتعالى من حيث الدلالة على مراد الله تعالى» «1» ، ففي كل ذلك يكون علم القران في مقدمات مصادر علم التفسير.
وكون الإقراء هو الأساس بالنسبة إلى تعليم العلوم الاخرى:
مما عرفه السلف فقد سئل ابن محيريز عن مسألة فقال للسائل: ما تصنع بالمسائل؟ قال: لولا المسائل لذهب العلم قال: لا تقل ذهب العلم، إنّه لا يذهب العلم ما قرئ القران ولكن لو قلت يذهب الفقه، وعن الوليد بن مسلم قال: كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حدثا قال: يا غلام! قرأت القران؟ فإن قال: نعم قال: اقرأ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (النساء: 11) ، وإن قال: لا! قال: اذهب تعلم القران قبل أن تطلب العلم، وعن أبى هشام الرفاعي يقول:
كان يحيى بن يمان إذا جاءه غلام أمرد استقرأه رأس سبعين من الأعراف، ورأس سبعين من يوسف فإن قرأه حدّثه وإلا لم يحدثه «2» .
__________
(1) انظر: كشف الظنون (1/ 427) ، مرجع سابق.
(2) الجامع لأخلاق الراوي واداب السامع (1/ 80) .
(1/52)
________________________________________
ومجالس العلم التي كان يحييها الصحابة رضي الله عنهم تنصرف في الغالب للإقراء:
وغيره يأتي تبعا فقد قال بعض أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القران فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك.. «1» .، وعن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى يقرئنا يجلسنا حلقا حلقا عليه ثوبان أبيضان، فإذا قرأ هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) (العلق: 1) قال: «هذه الاية أول سورة أنزلت على محمد صلّى الله عليه وسلّم» «2» .
ومن ناحية عقلية:
فقد اجتمعت ثلاثة أمور توجب في الضرورة العقلية البدء بتعليم ألفاظ القران الكريم، وصرف الأوقات إليه:
أحدها «من جهة الموضوع فإن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة.
وثانيها من جهة الغرض فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى.
وثالثها من جهة شدة الحاجة فإن كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى» «3» ولأن ألفاظ القران الكريم تكون حقيقة (القران) وماهيته، فهي أول العلم بكتاب الله ودينه مما يجعل تحديده يظهر ظهورا عاما على مستويين إجمالي، وتفصيلي.
__________
(1) أحمد (1/ 398) ، مرجع سابق.
(2) مجمع الزوائد (7/ 139) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» .
(3) أبجد العلوم (1/ 175) ، مرجع سابق.
(1/53)
________________________________________
من جهة أخرى: تنقسم العلوم الشرعية إلى نقلية وعقلية «وأصناف العلوم النقلية كثيرة؛ لأن المكلف يجب عليه أن يعلم أحكام الله سبحانه وتعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق، فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولا، وهذه هي علوم أداء الألفاظ القرانية من تلقين وتجويد وإقراء.
ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء به من عند الله سبحانه وتعالى واختلاف روايات القراء في قراءته وهو علم القراات ... » «1» .

تعريف القران (المنهج التعليمي) :
وعلى هذا فكتاب الله سبحانه هو كلامه، وهو القران الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعترض على هذا بأن البعض قد ذهبوا إلى أن الكتاب غير القران، إذ هذا القول على غرابة فلسفته عن الدين، فهو مخالف لصريح القران الكريم؛ إذ يقول الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (الأحقاف: 29- 30) ، وقال فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (الجن: 1) فأخبر الله تعالى أنهم استمعوا القران وسموه قرانا وكتابا، وقال تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف: 1- 3) سماه قرانا وكتابا وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين وهو «ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلا متواترا، وقيدناه بالمصحف
__________
(1) وانظر: كشف الظنون (1/ 40) ، مرجع سابق، والكلام مأخوذ منه بتصرف وتغيير بما يوافق رؤية الباحث.
(1/54)
________________________________________
لأن الصحابة رضي الله عنهم بالغوا في نقله وتجريده عما سواه حتى كرهوا التعاشير والنقط كيلا يختلط بغيره فنعلم أن المكتوب في المصحف هو القران وما خرج عنه فليس منه؛ إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي عل حفظ القران أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه» «1» ، واحد أول القران واخره من بدهيات الإسلام، فالقران هو الكتاب، وهو قول الله، وهو «الذي أجمع المسلمون عليه من السور والايات في القران» «2» .

المطلب الرابع: قيامه بوظيفة تعليم القران على أوسع نطاق:
تقدمت الإشارة إلى أن التلاوة وظيفة تعليمية بحد ذاتها، أضيف لها وظيفة التعليم التفصيلي للكتاب والحكمة ... فصار ملخص ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما بعث معلما وهو ما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا» «3» ... ولذا قام بوظيفة تلاوة الكتاب وتعليمه على أوسع نطاق:

تلاوته صلّى الله عليه وسلّم على المشركين:
أما تلاوته صلّى الله عليه وسلّم القران على المشركين، فمن مؤشراته ما تقدم من ايات وأحاديث، وقد قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم سورة النجم على أهل مكة مسلمهم وكافرهم، فسجد فيها وسجد من معه «4» ...
__________
(1) (ابن قدامة) موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي ت 620 هـ: روضة الناظر وجنة المناظر (2/ 62) ، مكتبة المعارف- الرياض.
(2) (الجويني) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي إمام الحرمين ت 478 هـ: البرهان في أصول الفقه (1/ 366) ، تحقيق: د. عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء، المنصورة- مصر، 1418 هـ، ط 4.
(3) مسلم 2/ 1104، مرجع سابق.
(4) البخاري 1/ 363، مرجع سابق.
(1/55)
________________________________________
تعليمه صلّى الله عليه وسلّم القران للمسلمين:
وأما إقراؤه للمسلمين، فذلك دأبه ودينه، فكان يقرئ من استطاع من المسلمين بنفسه، وذلك ظاهر، وهو ما يشغل معظم يومه وليلته: فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر بمجلسين في مسجده، فقال: «كلاهما على خير وأحدهما أفضل من صاحبه أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وان شاء منعهم واما هؤلاء فيتعلمون الفقه والعلم ويعلمون الجاهل فهم أفضل وإنما بعثت معلما» قال ثم جلس فيهم «1» ، وقد سبق أن رأس التعليم الذي بعث له صلّى الله عليه وسلّم تعليم القران الكريم، وصرح النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك في قوله: «خيركم (وفي لفظ: إن أفضلكم) من تعلم القران وعلمه» «2» والتعليم ليس إلا الإقراء كما ثبت في الرواية الاخرى «خيركم من قرأ القران وأقرأه» «3» وكمثل تطبيقي على ذلك فإن سعد بن أبي وقاص روى أن رسول الله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خياركم من تعلم القران، وعلم القران» ثم قال الراوي عن سعد: فأخذ بيدي وأقعدني هذا المقعد أقري «4» .
وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى أبو طلحة أم سليم وهي أم أنس فقال: عندك يا أم سليم شىء؟ فإني مررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرا من الجوع ... الحديث «5» .
__________
(1) ابن ماجه (1/ 83) ، الدارمي (1/ 111) ، مرجعان سابقان.
(2) البخاري (4/ 1919) ، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الكبير (10/ 161) عن ابن مسعود.
(4) سنن سعيد بن منصور (1/ 102) ، مرجع سابق، الدارمي (2/ 529) ، مرجع سابق.
(5) الطبراني في الأوسط (3/ 267) ، مرجع سابق.
(1/56)
________________________________________
وقد كان جبريل عليه السّلام يقرئه الايات فيقرئ أصحابه من فوره ولئن سألوه عن المعنى لأحرى أن يستوثقوا من اللفظ قبل المعنى ومن ذلك ما ذكره أبو سعيد الخدري: لما نزلت وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ (الفجر: 23) تغير لون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرف في وجهه حتى أشتد على أصحابه ثم قال: أقرأني جبريل كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ (الفجر: 21- 23) .. «1» ..
وقد كان القراء والمقرئون أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ضجة في المسجد يقرؤون القران ويقرئونه فقال: طوبى لهؤلاء! هؤلاء كانوا أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» .

إرساله صلّى الله عليه وسلّم المقرئين لتأدية الوظيفة:
من لم يستطع صلّى الله عليه وسلّم أن يقرئه أرسل إليه المعلمين للقران الكريم إلى مختلف الأصقاع كوظيفة أساسية في بدء نشر الإسلام في أي منطقة: فعن أبي موسى رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن فأمرهما أن يعلّما النّاس القران «3» ، وإلى المدينة أرسل مصعب بن عميرو هو المقرئ الذي بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأنصار يقرئهم القران بالمدينة قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم معه خلق كثير «4» .
__________
(1) انظر: القرطبي (20/ 55) .
(2) رواه الطبراني في الأوسط (7/ 214) .
(3) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 256) .
(4) الحاكم (3/ 728) ، مرجع سابق.
(1/57)
________________________________________
وكذلك كان يفعل مع البلاد المفتوحة، ومن ذلك أنه لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة استخلف عليها عتاب بن أسيد يصلي بهم وخلف معاذا يقرئهم ويفقههم «1» .
وعن أنس رضي الله عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلّمنا كتاب ربّنا والسّنّة قال فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيد أبي عبيدة فدفعه إليهم وقال: «هذا أمين هذه الأمّة» «2» ، ويعني باليمن هنا أهل نجران.
داخل بيته صلّى الله عليه وسلّم: وقد قام بذلك خير قيام داخل بيته كما قام خارجه: فقد كان الوحي ينزل داخل بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقران يتلى كما قال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (الأحزاب: 34) ف آياتِ اللَّهِ القران ووَ الْحِكْمَةِ السنة «3» .

تعيينه صلّى الله عليه وسلّم عرفاء الإقراء:
وكان لضرورة إقرائه القران الكريم يدفع من قدم عليه إلى إمام من أئمة الإقراء فعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشغل فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القران، فدفع إليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا، وكان معي في البيت أعشّيه عشاء أهل البيت فكنت أقرئه القران ... » «4» ، وهذا يدل أيضا على مقدار اعتناء الصحابة بحفظ القران الكريم، وتعلمه وتعليمه.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (1/ 447) .
(2) الحاكم (3/ 299) ، مرجع سابق، وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بذكر القران» .
(3) تفسير الجلالين (ص 554) ، دار الحديث، القاهرة، ط 1، وانظر: القرطبي (14/ 182) ، الطبري (22/ 9) .
(4) أبو داود (3/ 265) ، الحاكم (3/ 401) ، أحمد (5/ 324) .
(1/58)
________________________________________
إقراؤه صلّى الله عليه وسلّم للجن:
حتى أقرأ الجن القران كما فعل مع الإنس فهو مرسل إلى الثقلين: فقد سئل علقمة تلميذ ابن مسعود: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن؟
قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا: إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم؟ فقال: «اتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القران» «1» ومعنى عدم حضوره الوارد في قوله: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووددت أني كنت معه «2» أي قربه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في المكان ذاته.
وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم أن داعي الجن جاءه فأمره الله بالإجابة كما في رواية لابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت الليلة أن أقرأ على الجن واقفا بالحجون» «3» .
وقد اهتم الجن لذلك وفرحوا به حتى كادوا يكونون عليه لبدا فعن ابن عباس رضي الله عنه في الاية قال: «لما سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يتلو القران كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه ودنوا منه ... وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه فقالوا: لقومهم لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
__________
(1) مسلم (1/ 332) ، مرجع سابق، وتتمته: قال: فانطلق بنا فأرانا اثارهم، واثار نيرانهم ... ) .
(2) مسلم (1/ 333) ، مرجع سابق.
(3) موارد الظمان إلى زوائد ابن حبان (1/ 438) .
(1/59)
________________________________________
كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (الجن: 19) » «1» ... ألا يكون الفرح في الإنس بكتاب الله أولى وأحرى.
ولم تكن قراءته صلّى الله عليه وسلّم عليهم لمرة واحدة بل تكررت فعن جابر رضي الله عنه قال:
خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى اخرها فسكتوا فقال: «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي الاء ربكما تكذبان قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» «2» ... فأين مردود الإنس- أخي- أين؟.

أمره صلّى الله عليه وسلّم للصحابة رضي الله عنه ومن بعدهم بتعليم القران وتبليغ الاي:
فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتعليم القران وحثنا عليه..
الحديث «3» ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلغوا عني ولو اية» » .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرض بعضهم القران على بعض، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف.. «5» ..
ونعى صلّى الله عليه وسلّم على قوم عدم قيامهم بواجب التعليم العام فكيف يذهب التصور بشأن التعليم القراني؟، فعن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه قال:
__________
(1) تفسير الشوكاني (5/ 313) ، دار الفكر، بيروت ... وهذا على أحد التفسيرين الواردين في الاية، وانظر: مفاتح فهم القران (ص 573) .
(2) الترمذي (5/ 399) .
(3) وقال في مجمع الزوائد (7/ 159) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني وفيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك وأثنى عليه هشيم خيرا وبقية رجاله ثقات» .
(4) البخاري (3/ 1275) ، مرجع سابق، وتتمته: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» .
(5) البخاري (6/ 2670) ، مرجع سابق.
(1/60)
________________________________________
«خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرا، ثم قال: «ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم؟ ولا يعلمونهم؟ ولا يفطنونهم؟ ولا يأمرونهم؟ ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم؟ ولا يتفقهون؟ ولا يتفطنون؟ والله ليعلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويفطنونهم، ويأمرونهم، وينهوهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم، ويتفقهون، ويتفطنون، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا» .
ثم نزل فدخل بيته، فقال قوم: من ترونه عني بهؤلاء؟ قالوا: نراه عنى الأشعريين، هم قوم فقهاء، ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب، فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، ذكرت قوما بخير، وذكرتنا بشر، فما بالنا؟
فقال: «ليفقهن قوم جيرانهم، وليفطننهم، وليأمرنهم، ولينهونهم، ولتيعلمن قوم من جيرانهم، ويتفطنون، ويتفقهون، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا» فقالوا:
«يا رسول الله أنفطن غيرنا؟» فأعاد قوله عليهم، فأعادوا قولهم: أنفطن غيرنا؟
فقال ذلك أيضا.
فقالوا: «أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة ليفقهوهم، ويعلموهم، ويفطنوهم» .
ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الاية: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (المائدة: 78- 79) «1» .
__________
(1) الحديث قال فيه الألباني: «ضعيف ... » ، انظر: (الألباني) محمد ناصر الدين: أحاديث المزارعة والمؤاجرة والرد على المفترين على الصحابة والتابعين والعلماء (ص 41) ضمن كتاب البرهان في رد البهتان والعدوان، وانظر: عبد الفتاح أبو غدة: الرسول المعلم وأساليبه في التعليم (ص 15) ، وقد
(1/61)
________________________________________
[حثه ص تعليم الأجيال الناشئة القرآن الكريم أولا]
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحث على أن تعلّم الأجيال الناشئة القران الكريم أول ما تعلّم:
فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعته يقول: «تعلموا البقرة ... وإن القران يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك فيقول: أنا صاحبك القران الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان:
عم كسينا هذا فيقال: بأخذ ولد كما القران، ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا» الحديث «1» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجيء القران يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني أنا الذي كنت أسهر ليلك وأظمئ هواجرك وإن كل تاجر من وراء تجارته وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا وما فيها فيقولان يا رب أنى لنا هذا فيقال لهما بتعليم ولد كما القران» «2» .
__________
قال في تخريجه: قال الحافظ ابن السكن: «إسناد هذا الحديث صالح» كما نقله في «كنز العمال» (3: 685) ، وقال الحافظ المنذري: رواه الطبراني في «الكبير» ، وقال الحافظ الهيثمي: «وفيه بكير بن معروف» ، قال البخاري: أرم به، ووثقه أحمد في رواية، وضعفه في أخرى، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به فعلى هذا يكون سند الحديث ضعيفا إن لم نعتد بالرواية عن أحمد في توثيقه، وإن اعتددنا بها فهو حديث حسن أو يقارب الحسن. وهذا الذي جزم به الحافظ المنذري في «الترغيب والترهيب» فإنه أورده بلفظ «عن علقمة ... » الرسول المعلم (ص 17) .
(1) الحاكم (1/ 756) ، الدارمي (2/ 543) ، مرجعان سابقان.
(2) روى الدارمي نحوه 2/ 543، أحمد 5/ 348.
(1/62)
________________________________________
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال سبحان الله العظيم نبت له غرس في الجنة، ومن قرأ القران فأكمله وعمل بما فيه ألبس والداه تاجا هو أحسن من ضوء الشمس في بيوت من بيوت الدنيا لو كانت فيه فما ظنكم بالذي عمل به» «1» ، وعن أبي هريرة يبلغ به النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من رجل يعلم ولده القران في الدنيا إلا توج أبوه يوم القيامة بتاج في الجنة يعرفه به أهل الجنة بتعليم ولده القران في الدنيا» «2» .
والأحاديث يعضد بعضها بعضا، وهي تدل بدلالة الإشارة على الحض الشديد للوالدين على تعليم أولادهم القران، وتحفيظهما إياه وما يستتبع ذلك من العمل به، وهذا يوحي بضرورة أن تكون مادة القران الكريم جزا مستقلا من التعليم العام والتعليم العالي، وأن تكون مادة ملزمة لسائر التخصصات، مع تفاوت الكمية المناسبة لكل بحسبه كلما أنتهي من جزء لفظي أو معنوي انتقل إلى غيره بحيث يبقى الجيل المسلم على صلة لا تنقطع بها.
ولذلك كله كان تعلم القران بدهية في حياة الصحابة رضي الله عنهم حتى صار مقياسا لغيره كما قال عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض واللحن والسنة كما تعلمون القران «3» .
__________
(1) أبو داود (2/ 170) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الأوسط (1/ 100) .
(3) سنن البيهقي الكبرى (6/ 209) .
(1/63)
________________________________________
من المقتضيات المنهجية التعليمية لذلك في خطط التنمية الأساسية في البلاد الإسلامية:
1- رسم خطط استراتيجية في مجالات التربية والتعليم والتوجيه والثقافية والعلاقات الخارجية تشمل كيفية تبليغ القران الكريم وتعليمه، والوصول إلى حد الاكتفاء من المتخصصين في جوانبه المختلفة، وفروعه الدقيقة.
2- متابعة بعث المتقنين من القراء إلى الافاق للتأكد من نشر القران ومعرفة الواجب منه على الأقل، ومن تسلسل المنهجية عند عمر رضي الله عنه في ذلك ما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه أنّه قال حين قدم البصرة: بعثني إليكم عمر بن الخطّاب أعلّمكم كتاب ربّكم، وسنّتكم، وأنظّف طرقكم «1» .
3- الاعتزاز والافتخار بوظيفة معلم القران الكريم، وعدم التصاغر من قبل القائم بها، وأن يقذف في وعي الأمة وإدراكها مقدار جلالة هذه الوظيفة، فتتغير النظرة السائدة الان على ضالة وظيفة معلم الصبيان.
4- أن تعطى هذه الوظيفة حقها من الرعاية والاهتمام سواء من حيث الرواتب الدائمة أو من حيث المحفزات المصاحبة، وحرصا عليها من الابتذال فيهتم بإعداد ملاكاتها التعليمية وفق بقية الصفات التي ستظهرها هذه الدراسة فتكون في مكانها اللائق.
هذا هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ... صارخ في برية التيه التي سيطرت على العالم: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ... أبلغه للصغير
__________
(1) الدارمي (1/ 149) ، مرجع سابق، وفي مجمع الزوائد (5/ 213) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» .
(1/64)
________________________________________
والكبير، والإنس والجن، والرجال والنساء، والأعراب والأعاجم ... لم يترك تبليغ القول الثقيل في ليل أو نهار ... فذا ميراثه.. فأين هم ورثته؟ أين ورثته؟ ... لكنّ النور الذي نزل عليك قد عمّ انتشر ... يا رسول الله ... ف:
كيف ترقى رقيك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
أمع الصبح للنجوم تجل ... أم مع الصبح للظلام بقاء
وإذا ما تلا كتابا من الله ... تلته كتيبة خضراء
حبذا عقد سؤدد وفخار ... أنت فيه اليتيمة العصماء
(1/65)
________________________________________
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه:
وبعد ما تقدم لا بد من الخوض بشيء من التفصيل الفقهي في حكم تعليم القران وتعلمه وذلك في الجهتين اللتين تكونان الأمة، وهاتان الجهتان تشكلان مطلبين:
المطلب الأول: على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
المطلب الثاني: على الأمة.

المطلب الأول: حكم تعلم القران على النبي صلّى الله عليه وسلّم:
بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم معلما، وكان أول أدب قراني أدبه ربه سبحانه وتعالى به هو قوله جل جلاله:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (العلق: 1) ، مع أنه ليس بقارئ ولا كاتب فيكون المراد بالقراءة التلاوة عن ظهر قلب ... وعلى هذا يكون تعلم القران الكريم وتعليمه جزا من حقيقة كونه نبيا، وهو يمثل ماهية رسالته ... فلا تتصور نبوته، ولا تتأتى حقيقة رسالته إلا بكونه متعلما للقران الكريم من جبريل عليه السّلام، معلما له للثقلين ...
وهذا من أعظم أدلة وجوب حفظ القران عليه، والحفظ يشكل أرقى صور تعلم كتاب الله تعالى، ولذا اشتد حرصه صلّى الله عليه وسلّم على استظهار القران وحفظه أنه كان يحرك لسانه فيه في أشد حالات حرجه وشدته حتى قال الله عزّ وجلّ فقال له في سورة القيامة لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
(القيامة: 16- 19) ، وقال جل جلاله له في سورة طه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) (طه: 114) ، «ومن هنا كان صلّى الله عليه وسلّم أول جامع للقران في قلبه الشريف، وسيد الحفاظ في عصره المنيف، ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القران
(1/66)
________________________________________
وعلوم القران، وكان صلّى الله عليه وسلّم يقرؤه على الناس على مكث كما أمره مولاه وكان يحيي به الليل، ويزين الصلاة، وكان جبريل عليه السّلام يعارضه إياه في كل عام مرة وعارضه إياه في العام الأخير مرتين» «1» .
وأما تفصيل ذلك فقد أشير إليه في كتاب تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم للمؤلف.

المطلب الثاني: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه على الأمة:
أول مسألة في هذا الموضوع تتعلق بحفظ القران: هل هو واجب على أمة النبي صلّى الله عليه وسلّم؟
الجواب: نعم! والأدلة ذاتها الواردة على وجوب حفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ظهر قلب ترد هنا لعالمية الرسالة الزمانية والمكانية، والأمة هي التي تحمل هذه الرسالة بعده صلّى الله عليه وسلّم.
[حقيقتان]
وأما قوله سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) ، وقوله جل جلاله لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ (الأنعام: 115) فخبر يدل على حقيقتين:

1- الحقيقة الخبرية:
حيث تكفل الله سبحانه وتعالى بالحفظ لكتابه فلا مبدل لكلماته، فتكفل الله بحفظه أي من كل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى أن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقولون له- أيا كان-: الصواب كذا «2» ، وأما التوراة فقال الله جل جلاله عن أحبارها بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ (المائدة: 44) «فجعل حفظه إليهم فضاع» كما قال
__________
(1) (الزرقاني) الشيخ محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القران (1/ 168) ، ط 3، 1943 هـ، دار إحياء الكتب العربية.
(2) انظر: روح المعاني (14/ 16) ، مرجع سابق.
(1/67)
________________________________________
سفيان بن عيينة «1» ، وأما القران فاستحفظه أهله مع تكفل الله بالحفظ، فإن يتول قوم من أهله عن ذلك استبدل الله بهم غيرهم، ولكن الاستحفاظ عام على الأمة جميعا، وهذا معنى ما قرره أهل العلم من أن جمع القران عن ظهر قلب فرض كفاية، مما سيأتي تفصيله بعد قليل- إن شاء الله تعالى-.

2- الحقيقة الإنشائية:
حيث أمر الله جل جلاله عباده بأن يحاولوا التشرف بالدخول في الأدوات الواقعية التي يحفظ الله بها كتابه، ومن هذا الباب فعل الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهم في الجمع الأول للمصحف بعد زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفعل عثمان رضي الله عنه في الجمع الثاني، ولم يقولوا قد تكفل الله بحفظه فلا شأن لنا.
وعلى هذا التقرير يكون «المختار أن حفظ القران وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عز وجل، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله عنهم لجمعه» «2» .

وتعلم القران الكريم وتعليمه على الأمة:
أمران مجتمعان لا ينفكان؛ إذ الجامع بين تعلم القران وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل الخلق كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خيركم من تعلم القران وعلمه» «3» ، وهو من جملة من يدخل في قوله جل جلاله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت: 33) «والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم
__________
(1) القرطبي (10/ 6) ، مرجع سابق.
(2) روح المعاني (14/ 16) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1919) ، ابن حبان (1/ 324) ، الترمذي (5/ 173) ، مراجع سابقة.
(1/68)
________________________________________
القران، وهو أشرف الجميع وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال سبحانه وتعالى:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها» «1» .
وثاني مسألة: ما هو المقدار الواجب حفظه على الأمة من القران الكريم؟
والجواب: هذه المسألة ذات جهتين:
الجهة الأولى: تعلم شيء من القران تؤدى به الصلوات:
فهذا فرض عين إجماعا قطعيا عند الأمة، وهو أمران: سورة الفاتحة، ثم أي قدر من القران يجزئ بعدها، فقد قرر أئمة الفقه أنه « (يجب) أن يحفظ (منه) أي القران (ما يجب في الصّلاة) أي الفاتحة على المشهور، أو الفاتحة وسورة على مقابله» «2» ، ومن أهم المؤشرات في هذا الموضوع أنه لا يوجد أحد من الأمة يسقط عنه ذلك إلا العاجز الذي ورد في مثله حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني لا أحسن من القران شيئا فعلمني شيئا يجزئني منه، فقال:
«قل سبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله والله أكبر» قال: هذا لربي فما لي؟
قال: «قل اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني وعافني» «3» ، وقول الرجل (إني لا أحسن) معناه لا أستطيع التعلم كما في قوله في الرواية الاخرى: يا رسول الله إني لا أستطيع أن أتعلم القران فعلمني ما يجزئني من القران «4» حتى أوجب بعض العلماء على من لم يتعلم القران إلا بعد زمن أن يعيد جميع صلواته التي صلاها قبل تعلمه إن وجد للتعلم سبيلا قبل ذلك فلم يتعلم، ففي حلية العلماء: «واتسع الزمان له
__________
(1) فتح الباري (9/ 76) ، مرجع سابق.
(2) كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 429) ، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 500) .
(3) ابن حبان (5/ 116) ، مرجع سابق.
(4) صحيح ابن حبان (9/ 76) ، مرجع سابق، ابن خزيمة (1/ 273) ، مرجع سابق، أبو داود (1/ 220) ، مرجع سابق.
(1/69)
________________________________________
ووجد من يعلمه فصلى بغير القراءة وجب عليه إعادة ما صلى إذا تعلم القران وفي قدر ما يعيده وجهان أصحهما أنه يعيد كل صلاة صلاها إلى أن تعلم» «1» ، كما أوجبوا على الحائض المتحيرة مراجعة القران خوف النسيان «2» ، وفي هذا قرر أهل العلم أن تعليم الواجب العيني من القران واجب عيني تحرم عليه الأجرة، واختلفوا فيما بعد ذلك.
الجهة الثانية: تعلم ما فوق ذلك وتعليمه:
ينبغي أن يشار هنا إلى أن مسألتي التعليم والتعلم مرتبطتان ارتباطا لا ينفك، فلا تفرد مسألة التعلم عن مسألة التعليم، وكل دليل لهذه هو دليل لأختها.
والصورة العليا لهذه الجهة: أن يتعلم المرء جميع ألفاظ القران وأن يحيط بجوانبها اللفظية المختلفة، إذ «المقصود من التّعليم للقران أن يكون حفظا وإتقانا لقوانينه من إخفاء وإظهار ونحوهما وتعليم مخارج الحروف» «3» ، فقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذا فرض كفاية على الأمة، ولكن ثم نوع من التلاوة التي تقتضي التعليم والتعلم هو واجب عيني على المكلفين وهو القراءة لأقل شيء لا يكون به القران مهجورا «4» ، ... وقرر ذلك السيوطي- رحمه الله تعالى- فقال: «اعلم أن حفظ القران فرض كفاية على الأمة صرح به الجرجاني في الشافي والعبادي وغيرهما ...
وتعليمه أيضا فرض كفاية» «5» وقال في كشف القناع: «وحفظه فرض كفاية
__________
(1) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء (2/ 92) .
(2) حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (التجريد لنفع العبيد) (1/ 140) ، المكتبة الإسلامية، ديار بكر- تركيا.
(3) (أطفيش) محمد بن يوسف بن عيسى أطفيش: شرح النيل وشفاء العليل (في الفقه الأباضي) (1/ 354) .
(4) وهل تكفي القراءة في الصلاة لئلا يكون القران مهجورا؟ فيه نظر.
(5) الإتقان في علوم القران (1/ 264) .
(1/70)
________________________________________
إجماعا» «1» ، وقال في حاشية البجيرمي: «تعلّم القران فرض كفاية بأن تحفظه على ظهر قلب» «2» ، وقرر الزركشي- رحمه الله تعالى- أنه «إذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القران أثموا بأسرهم» «3» ، وهذا الذي عناه ابن الجزري- رحمه الله تعالى- بقوله: «تعلم القراءة فرض كفاية فإن لم يكن من يصلح له إلا واحد تعين عليه، وأن كان جماعة يحصل المقصود ببعضهم فإن امتنعوا كلهم أثموا، وإن قام به بعضهم سقط الحرج عن الباقين» «4» ، ومن جملة شواهد تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم ذلك غير ما تقدم:
1- علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله سبحانه وتعالى يأمرهم بأن تكون حالة حفظ القران (تعلمه) وتعليمه هي صفتهم الدائمة كأمة في قوله سبحانه وتعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (ال عمران: 79) ، فقد قال الضحاك في هذه الاية: «لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القران جهده فإن الله سبحانه وتعالى يقول:
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» «5» .
2- علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله عزّ وجلّ يأمرهم بقراءة القران وذلك لا يكون دون تعليم وتعلم، وذلك في قوله جل جلاله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (المزمل: 20) ، فقد قيل في تأويلها: «إن المراد به قراءة القران في غير الصلاة» «6» ، والصحيح أن الأمر هنا فيه تفصيل فلا يقال بأنه للوجوب مطلقا ولا للاستحباب مطلقا بل هو للوجوب في حالتين:
__________
(1) كشف القناع عن متن الإقناع (1/ 235) مرجع سابق.
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب في الفقه الشافعي (تحفة ****** على شرح الخطيب) (1/ 229) .
(3) تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (8/ 150) .
(4) منجد المقرئين ومرشد الطالبين (ص 14) .
(5) تفسير القرطبي (4/ 122) ، مرجع سابق.
(6) تفسير القرطبي (19/ 58) ، مرجع سابق.
(1/71)
________________________________________
الأولى: لأقل ما لا يطلق عليه هجرا للقران الكريم، وهذا في حق جميع الأمة.
الثانية: وللوجوب له جميعا على من يؤدى بهم فرض الكفاية، وللاستحباب فيما عدا ذلك، وقد قيل بأنه للوجوب مطلقا لأن المراد قراءته ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه «لأن حفظ القران من القرب المستحبة دون الواجبة» «1» وهذا قريب من التفصيل المذكور إن لم يكن هو. وأما مقدار ما تضمنه هذا الأمر من القراءة فورد فيه خمسة أقوال: أحدها جميع القران لأن الله تعالى يسره على عباده قاله الضحاك، الثاني ثلث القران حكاه جويبر، الثالث مائتا اية قاله السدي الرابع مائة اية قاله ابن عباس الخامس ثلاث ايات كأقصر سورة قاله أبو خالد الكناني» «2» ، والظاهر أن القدر المطلوب هو ما لا يعد به عرفا هاجرا للقران، ولا مستهينا به، على أن الترك الذي يسمى هجرا لا يحتاج إلى استحضار نية، بل العمل فيه دليل عليه، وإن لم يقصد ... وسبب هذا الترجيح القرائن التي تتمثل بكل ما في هذا الكتاب من أدلة تبين عظمة القران ومكانته، وحرمة هجره.
3- وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان: 30) ، ومهجورا مفعول ثان أي صيروا القران مهجورا بإعراضهم عنه «3» بأن «تركوه وصدوا عنه وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «من تعلم القران وعلق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني
__________
(1) تفسير القرطبي (19/ 58) ، مرجع سابق.
(2) تفسير القرطبي (19/ 58) ، مرجع سابق.
(3) التبيان في إعراب القران (2/ 162) .
(1/72)
________________________________________
وبينه» «1» ، فإن هجر القران أنواع ومنها: هجر تعلمه ثم تلاوته، وسماعه والإيمان به، والإصغاء إليه «2» .
والاية توجب تعلم القران بطريق أسلوب الحكيم، حيث يظهر فيها التهديد على الهجر، وتسمية فاعله من المجرمين عند توضيح دعاء الرسول؛ إذ قال تعقيبا على دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء بصيغة شكوى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ (الفرقان: 31) ، فبين أن من هجر القران فهو من أعداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأن هذه العداوة أمر لابد منه ولا مفر عنه» «3» ، كما أن هذا الفعل فيه تشبه بالمشركين الذين هجروا القران وأعرضوا عنه ولم يسمعوا له فهم كما قال الله جل جلاله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ (الأنعام: 26) «4» ؛ ولذا جاء عن الأوزاعى قال: كان يعجبهم النظر في المصحف بعد القراءة هنيهة، قال بعضهم:
وينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم ايات يسيرة ولا يتركه مهجورا «5» .
ملحوظة: يتضح من الدليلين السابقين أن حفظ القران أو النظر الدوري فيه ملزم لكل أفراد الأمة حتى لا يحدث الهجر له، وحتى يقرأ ما تيسر منه امتثالا للأمر الذي تكرر مرتين في اية واحدة هي الاية الأخيرة من سورة المزمل ... دلالة على التأكيد والأهمية مع إعلام الله عزّ وجلّ للقوم أنه يعلم تشتت أحوالهم الدنيوية، وعلى الرغم من ذلك فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، وهذا أمر عام لكل قطاعات الأمة يتطلب بذل الوسائل المتاحة لتعميم التعليم القراني.
__________
(1) تفسير البيضاوي (4/ 215) ، مرجع سابق، والحديث المذكور ذكره البيضاوي ولم أعثر عليه.
(2) وانظر: الفوائد (ص 82) .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (4/ 106) .
(4) وانظر: الطبري (19/ 9) ، مرجع سابق.
(5) انظر: (الزركشي) : البرهان في علوم القران (1/ 463) .
(1/73)
________________________________________
4- الأمر الصريح بتعلم كتاب الله سبحانه وتعالى، مع إجماع الأمة على أن الوجوب كفائي: ومن هذه الأوامر: قوله «تعلموا القران، واقرؤه (وفي لفظ: فاقرؤوه، وفي لفظ للترمذي: وأقرئوه «1» » ... ) فقوله (تعلموا القران) «أي لفظه ومعناه» «2» ، والفاء في قوله (فاقرأوه) كحرف العطف (ثم) في قوله سبحانه وتعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ (هود: 3) ، أي تعلموا القران، وداوموا تلاوته، والعمل بمقتضاه يدل عليه، والدلالة في الحديث تصريحا وتشبيها واضحة على الأمر بتعلم القران وتعليمه، وإنما تترتب تلاوته وقراءته على ذلك.
5- أن ذلك التعلم والتعليم هو حقيقة الرسالة النبوية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، توجد بوجوده، وتنتفي بانتفائه.. وهو قد أرسل للعالمين نذيرا كما في قول الله سبحانه وتعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (الأنبياء: 107) ، والشيء الذي أمر بتبليغه والإنذار به هو القران كما في قوله جل جلاله: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان: 1) ، وما سبق من إيضاح لحقيقة وظيفة البلاغ للنبي صلّى الله عليه وسلّم يفصل هذا المعنى، ولأنه مات صلّى الله عليه وسلّم فلا يستطيع تجاوز حدود الزمان والمكان فإن أتباعه يدعون إلى سبيله قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف: 108) ، وهذا يدل على وجوب تعلم القران عليهم وتعليمه، ولذا خص الاية بذكر البلاغ في قوله (بلغوا عني ولو اية) مع أنه قد يبلغ غيرها من الأحاديث مثلا، وقد سبق أن تبليغ القران هو الأصل كما في قول الله جل جلاله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (الأنعام: 19) ، وسمى الله جل جلاله القران بلاغا هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ (إبراهيم: 52) .
__________
(1) الترمذي (5/ 156) ، مرجع سابق.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 150) ، مرجع سابق.
(1/74)
________________________________________
6- كل أصل عقدي، أو حكم فقهي، أو قاعدة شرعية ... يحتاج إلى القران، ويفتقر إليه، فأي دليل يساق على وجوب العلم، أو العمل بشيء من ذلك هو دليل على وجوب تعلم القران الكريم، وتعليمه، ولذا قال ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: «فإن إعانة المسلمين بأنفسهم وأموالهم على تعلم القران وقراءته وتعليمه من أفضل الأعمال» «1» .
7- أن ذلك من النصيحة المطلوبة لكتاب الله سبحانه وتعالى كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم» «2» ، كما قرر الطحاوي- رحمه الله تعالى-: «أنّ ذلك عندنا على تعليم كتابه ... » «3» .
8- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلموا القران وعلموه الناس ... » «4» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي بكرة نحوه «5» ورواه الدارقطني عن أبي سعيد أيضا ولكنه قال: «تعلموا العلم ... » بدلا من «القران» «6» ، وبقية الحديث مثل حديث ابن مسعود ... وهو يدل على ما هو معلوم من كون القران مصدر العلم والبصيرة والبيان.
9- وكتب معاوية إلى عبد الرحمن بن شبل أن علم الناس ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجمعهم فقال إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تعلموا القران
__________
(1) ابن تيمية (24/ 316) ، مرجع سابق.
(2) البخاري معلقا (1/ 30) ، مسلم (1/ 74) ، ابن حبان (10/ 435) ، الترمذي (4/ 324) ، مراجع سابقة.
(3) (الطحاوي) أحمد بن محمد بن سلامة مشكل الاثار (2/ 300) ، دار الكتب العلمية.
(4) رواه (النسائي) السنن الكبرى (4/ 63) .
(5) الطبراني في الأوسط (4/ 237) ، مرجع سابق.
(6) سنن الدارقطني (4/ 82) .
(1/75)
________________________________________
فإذا علمتموه فلا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به» فذكر الحديث «1» .
وقد كثر في الأحاديث تكرار الأمر (تعلموا القران، تعلم كتاب الله ... )
ونكتفي بما سبق.

معنى الكفائية في هذا الفرض:
أي «هل يشترط في كلّ ناحية، تعلّم واحد أو لا بدّ من جمع بحيث يظهر حفّاظه، أو لا بدّ في كلّ بلد من ذلك؟» «2» ، بين أهل العلم أن معنى فرض الكفاية هنا «ألا ينقطع عدد التواتر فيه فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف، فإن قام بذلك قوم يبلغون هذا العدد سقط عن الباقين وإلا أثم الكل، وتعليمه أيضا فرض كفاية» «3» ، بل ذكروا ضرورة الاحتياط بموت بعض هذا العدد أو نسيانهم؛ ومما قرروه هنا أنه ينبغي أن يكون حافظ القران كالقاضي والمفتي في لزوم وجودهما، وهذا مما يرفع من مكانة الحافظ، ويجعله شديد الاعتزاز بما عنده في غير غرور «4» .

تفريعات على هذه المسألة:
استنبط العلماء من الأدلة السابقة وأمثالها عدة أمور تعليمية في المنهجية النبوية في علم القراءة، منها:
__________
(1) أحمد (3/ 428) ، شرح معاني الاثار (3/ 18) ، مرجعان سابقان وقال في مجمع الزوائد (4/ 95) ، مرجع سابق: «رواه أحمد وأبو يعلي باختصار والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات» ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (260) ، مرجع سابق، وانظر: لمحات الأنوار رقم (507) ، مرجع سابق.
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 345) ، مرجع سابق.
(3) الإتقان (1/ 264) ، مرجع سابق.
(4) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 345) ، مرجع سابق.
(1/76)
________________________________________
1- قرروا أنه يجوز للحائض: «القراءة للتعلم لأن تعلم القران من فروض الكفايات وينبغي لها جواز مس المصحف وحمله إذا توقفت قراءتها عليهما» «1» .
2- أكدوا على تقديم حفظ القران على غيره من العلوم الكفائية فقد «سئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: أيّما طلب القران أو العلم أفضل؟ فأجاب: أمّا العلم الّذي يجب على الإنسان عينا كعلم ما أمر الله به، وما نهى الله عنه، فهو مقدّم على حفظ ما لا يجب من القران، فإنّ طلب العلم الأوّل واجب، وطلب الثّاني مستحبّ، والواجب مقدّم على المستحبّ. وأمّا طلب حفظ القران: فهو مقدّم على كثير ممّا تسمّيه النّاس علما: وهو إمّا باطل، أو قليل النّفع، وهو أيضا مقدّم في التّعلّم في حقّ من يريد أن يتعلّم علم الدّين من الأصول والفروع، فإنّ المشروع في حقّ مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القران، فإنّه أصل علوم الدّين» «2» .
3- ولكن لابد للباحث أن يكرر أن المراد بحفظ القران هنا هو على المنهجية النبوية التي يقوم هذا البحث بتوضيحها لا على المنهجية السائدة من بتر المحفوظ عن معانيه أو العمل به على ما سيأتي تفصيله في الفصول القادمة- إن شاء الله تعالى-.
4- كما قرروا أن «تعلّم بواقي القران أفضل من صلاة التّطوّع» «3» .

أثر ذلك في حياة الصحابة رضي الله عنهم:
ما سبق وأمثاله- وهو كثير «يحفز الهمم ويحرك العزائم إلى حفظ القران، واستظهاره والمداومة على تلاوته» «4» فضلا عن تعلم شيء منه.
__________
(1) انظر: حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (1/ 140) ، مرجع سابق.
(2) الفتاوى الكبرى (1/ 212) .
(3) بريقة محمودية (1/ 245) ، مرجع سابق.
(4) مناهل العرفان (1/ 207) ، مرجع سابق.
(1/77)
________________________________________
وكان تعلم القران هو الأصل، بل هو بدهية إسلامية في مجتمع المسلمين، ويظهر هذا من قول عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض واللحن والسنة كما تعلمون القران «1» ، فجعل تعلم القران هو الأصل الذي يتم بناء عليه القياس، فمن هنا هب الصحابة «هبة واحدة يحفظون القران ويفهمون القران ويعملون بالقران وينامون ويستيقظون على القران، نقرأ في القران الكريم قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (فاطر: 29- 30) ، فتأمل كيف قدم تلاوة القران على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة» «2» ، وكانوا يقلون من الحديث عن رسول الله رضي الله عنه، «وكأن ابن عمر اتبع رأي أبيه في ذلك فإنه كان يحض على قلة التحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لوجهين أحدهما خشية الاشتغال عن تعلم القران» «3» .

تسلسل المنهجية:
وكان هذا هو منهج أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم مع تلاميذهم حثا على تعلم القران وتلاوته فقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «تعلموا القران، واتلوه، تؤجروا بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» «4» ، وعنه رضي الله عنه قال: «يا أيها الناس تعلموا القران فإن أحدكم لا يدري متى يخيل إليه» ، وأتى بمصحف قد زيّن بذهب فقال رضي الله عنه: «إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق» «5» .
__________
(1) الدارمي (2/ 441) ، مرجع سابق، البيهقي في الكبرى (6/ 209) .
(2) مناهل العرفان (1/ 205) ، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (13/ 243) ، مرجع سابق.
(4) سعيد بن منصور في سننه (1/ 35) ، ابن أبي شيبة (6/ 118) ، مرجعان سابقان.
(5) مصنف عبد الرزاق (4/ 323) .
(1/78)
________________________________________
كما حث أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قراءة للقران يكون معها المرء غير هاجر لكتاب الله فقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «إذا فرغ الرجل من حاجته ثم رجع إلى أهله ليأت المصحف فليفتحه فليقرأ فيه فإن الله سيكتب له بكل حرف عشر حسنات أما أني لا أقول ألم ولكن الألف عشر واللام عشر والميم عشر» ، وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: «إن استطعت أن تقرب إلى الله عز وجل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه» «1» .
وبذا تتوافر أدوات الحفظ الواقعي المعجز للقران الكريم، وهذا جعل واحدا من المستشرقين المعاصرين يقول عن القران الكريم: «فبين أيدينا كتاب معاصر فريد في أصالته وفي سلامته لم يشك في صحته كما أنزل أي شك جدي، وهذا الكتاب هو القران، وهو اليوم كما كان يوم كتب لأول مرة تحت إشراف محمد، وعلى الرغم من أن الأفكار قد دونت في الرقاع وسعف النخل، والعظام في لحظات غريبة فالسور والايات الأصلية قد حفظت ... وهذا الكتاب ليس مجموعة أحاديث أو تقارير يفترض فيها أن محمدا قد قالها فهي نفس الايات التي أملاها بنفسه يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر خلال حياته ... والمهم هو أن القران هو العمل الوحيد الذي عاش أكثر من اثني عشر قرنا دون أن يبدل فيه، ولا يوجد شيء يمكن أن يقارن بهذا أدنى مقارنة في الديانة المسيحية» «2» .
__________
(1) الحاكم (2/ 494) ، مرجع سابق.
(2) هو المستشرق الأمريكي (ف. بودلي) . انظر: عماد الدين خليل (دكتور) : الإسلام والوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) (ص 50) ، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م.
(1/79)
________________________________________
الفصل الثاني: أصول تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه ألفاظ القران:
يناقش هذا الفصل أصول تعليم اللفظ القراني عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي تقوم على أربعة محاور:
تعليمهم كيف تعلم هو اللفظ القراني ليتم الاقتداء به في تلك الكيفية ما دامت في حدود الطاقة البشرية.
والوسائل التي اعتمد عليها مكانا وأسلوبا وطريقة إدارة ليتم التعليم.
ووسائل النشر لقيام هذا التعليم باتساع أفقي ورأسي.
والقواعد التربوية الضرورية المصاحبة لتعليم اللفظ القراني.
وبها تتضح الهيئة الإدارية للجامعة القرانية النبوية، كما تتضح بعض ملامح مفردات المنهج العلمي فيها ...
فهذه محاور أربعة في أربعة مباحث ... وإليها تشد رحال أهل العزم من حملة القران ومقرئيه المصطفين الأخيار:
(1/81)
________________________________________
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية تعلمه لكلام الله القراني:
وفيه ثلاثة مطالب:
يبين هذا المبحث دقة ضبط النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم لما يتعلق بألفاظ القران الكريم كما يبين تعلم الصحابة رضي الله عنهم ذلك من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه علمهم كيف تلقى القران الكريم عن جبريل عليه السّلام عن الله عزّ وجلّ، ليقتدوا به في حدود قدرتهم البشرية، ولذا انقسم المبحث إلى ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية نزول ألفاظ القران وتلقيها.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أماكن القراءة.
المطلب الثالث: مقتضيات ذلك: إلزامهم الاقتداء به في هيئة تلاوته لألفاظ القران الكريم.
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية نزول ألفاظ القران وتلقيها:
علّم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه رضي الله عنهم التفاصيل الدقيقة التي أحاطت بالنزول القراني من السماء إلى الأرض حيث بين لهم زمن النزول، ومدته، وسببه: فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «أنزل الله القران إلى السماء الدنيا (في رمضان) في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، أو أن يحدث منه في الأرض شيئا أحدثه» «1» ، ومثل هذا لا يقال بمحض الرأي فله حكم الرفع، فهو تعليم منه صلّى الله عليه وسلّم لأنه أضافه إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما هو مقرر في مواضعه «2» .
__________
(1) الحاكم (2/ 240) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .
(2) انظر في هذه المسألة في كتب أصول الحديث: مثل تدريب الراوي في تقريب النواوي (1/ 185) .
(1/82)
________________________________________
وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم اليوم والشهر الذي نزل فيه القران، فالشهر كما في قوله عزّ وجلّ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 185) واليوم وصفا كما في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ (الدخان: 3) وقول الله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) واليوم تاريخا كما في قول الله سبحانه وتعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ (الأنفال: 41) ، واليوم تحديدا كما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا قال له: يا رسول الله صوم يوم الاثنين؟ قال: «فيه ولدت، وفيه أنزل علي القران» «1» .
وعلمهم صلّى الله عليه وسلّم متى يكثر النزول: فقد تتابع الوحي قبل وفاته مثلا، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه: «أن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفي أكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله» «2» ، والمراد بالنسبة لما كان ينزل سابقا، فالأمر نسبي على ما هو معلوم.
كما علمهم صلّى الله عليه وسلّم متى يقل كما في حديث عائشة: «ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «3» ، وعائشة رضي الله عنها لم تشهد ذلك، فيكون علمها بذلك عن تعليم تلقيني.
وتعلموا أماكن النزول، وهو ما يسمى بعلم المكي والمدني، وهو علم مستقل، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القران في ثلاثة أمكنة مكة والمدينة والشام» «4» ، ولعله يعني بالشام- إن صح الحديث- أطراف الجزيرة حيث تبوك ... كما ضبطوا الليلي والنهاري، والصيفي والشتائي «5» .
__________
(1) مسلم (2/ 820) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (4/ 2312) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1894) ، مرجع سابق.
(4) مجمع الزوائد (7/ 157) ، مرجع سابق، وقال الهيثمي: «رواه الطبراني وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف» .
(5) انظر تفاصيل ذلك في: الإتقان (1/ 65) ، مرجع سابق.
(1/83)
________________________________________
وتعلموا كم بين نزول أول القران وبين اخره:
فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: «فكان بين أوله واخره عشرين سنة» ، بل ضبطوا كيفية النزول في السماء، ومقدار النازل منه، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «فصل القران من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السّلام ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم [يتلوه] يرتله ترتيلا» قال سفيان: خمس ايات ونحوها «1» ، وتعلموا مدة نزوله في كل مكان نزل فيه: فعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القران وبالمدينة عشرا» «2» .

وقد علمهم صلّى الله عليه وسلّم تفاصيل أدق من ذلك:
بعضها علموها من القران مباشرة، وبعضها منه صلّى الله عليه وسلّم حتى ضبطوا هيئة النزول: من حيث كمية المنزل الجملي إلى السماء الدنيا، والمنزل التفصيلي إلى الأرض، وعلامات نزوله (سبب النزول) ، ومن ذلك- مثلا- ما جاء عن ابن عباس قال: «أنزل القران جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة» وقرأ: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) الاية وفي رواية (فرّق في السنين) ، وفي أخرى: «وضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم» «3» ، وعنه في الله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) قال: «أنزل القران جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ونزله جبريل عليه السّلام على محمد صلّى الله عليه وسلّم بجواب كلام
__________
(1) الحاكم (2/ 667) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وكذلك رواه الضياء في المختارة (10/ 154) ، مرجع سابق.
(2) مسند الإمام الربيع بن حبيب (ص 284) .
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 4) ، مرجع سابق.
(1/84)
________________________________________
العباد وأعمالهم» «1» ، وعنه قال: نزل القران جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، وكان بموقع النجوم، وكان الله عزّ وجلّ ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعضه في أثر بعض فقالوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً (الفرقان: 32) «2» .
وعلمهم صلّى الله عليه وسلّم كيف علمه الله سبحانه وتعالى قراءة القران وإقرائه كما في قول الله جل جلاله:
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) ، وقوله لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) «3» .
وكان فقهاء الصحابة رضي الله عنهم يجمعون بين الأدلة وفق هذه القاعدة: فقد قال ابن عباس رضي الله عنه وسئل عن قوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) وقوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 185) وهو ينزل في غيره- فقال:
«نزل به جبريل عليه السّلام جملة واحدة ثم كان ينزل منه في الشهور» «4» .
وذكر الله عزّ وجلّ ذلك التنجيم في كتابه تعليما للصحابة رضي الله عنهم ثم لمن بعدهم في الإسراء والفرقان والواقعة، وقد صرح بذلك في الواقعة عدد من المفسرين «5» ، ويرجحه ذكر القران بعده وحفظه جملة في السماء «6» ، فقد جاء «عن عكرمة في قول الله عزّ وجلّ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (الواقعة: 75) قال: القران نزل جملة واحدة فوضع في مواقع النجوم فجعل جبريل عليه السّلام ينزل بالاية والايتين وقال غيره: بمواقع النجوم بمساقط نجوم القران كلها أوله واخره» ، ومن الحجة لهذا
__________
(1) الطبراني في الكبير (12/ 32) ، مرجع سابق.
(2) النسائي في الكبرى (6/ 519) ، مرجع سابق.
(3) وانظر تفصيل ذلك في كتاب التلقي كاملا، مرجع سابق.
(4) التمهيد (17/ 50) ، مرجع سابق.
(5) أكد على ذكرها للخلاف الوارد في تفسير معنى المواقع، والظاهر ألا مانع من إرادة المعنيين.
(6) ولا ينفي هذا المعنى الثاني.
(1/85)
________________________________________
القول قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (الواقعة: 76- 77) .
كمية المنزل: الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القران كان ينزل بحسب الحاجة خمس ايات وعشرا وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر ايات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر ايات من أول المؤمنون جملة، وصح نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (النساء: 95) ، واحدها وهي بعض اية، وكذا قوله جل جلاله:
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (التوبة: 28) نزلت بعد نزول أول الاية وذلك بعض اية، وأخرج ابن أشته في كتاب المصاحف عن عكرمة قال:
«أنزل الله القران نجوما ثلاث ايات وأربع ايات وخمس ايات» «1» .
وكل هذا تعليم منه صلّى الله عليه وسلّم لكيفية نزول ايات القران عليه.

تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية تلقيه للقران:
وتم تعليمهم هذا النوع تعليما تفصيليا، وقد بحث في رسالة ماجستير تحت عنوان تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم فيرجع إليه «2» ، وقد قالت أم سلمة:
كان جبريل عليه السّلام يملي على النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» ، أي يلقنه الحروف تلقينا بطيئا كهيئة المملي، وكما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتلقى من جبريل الحرف بعد الحرف، كذلك كان الصحابة منه صلّى الله عليه وسلّم.
والحكمة الواضحة من هذا كله متابعة التعلم على هيئة متدرجة تمكّن أكبر قدر منهم على حفظ المنزل الجديد من القران.
__________
(1) الإتقان (1/ 123) ، مرجع سابق.
(2) تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم، مرجع سابق.
(3) رواه الطبراني في الأوسط (7/ 197) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (7/ 157) ، مرجع سابق.
(1/86)
________________________________________
تسلسل المنهجية: وكذلك كان من بعدهم عنهم فقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: «قرأت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه القران كثيرا، وأمسكت عليه المصحف فقرأ علي، وأقرأت الحسن والحسين حتى قرا عليّ القران، وكانا يدرسان على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فربما أخذ على الحرف بعد الحرف» «1» .

المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أماكن القراءة:
مكان القراءة الأساس هو المسجد فهو المقر الرئيس للجامعة النبوية القرانية، فعن عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما ونحن في الصّفّة، فقال: «أيّكم يحبّ أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأتي كلّ يوم بناقتين كوماوين زهراوين فيأخذهما في غير إثم ولا قطع رحم؟ قال: قلنا: كلّنا يا رسول الله يحبّ ذلك قال: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلّم ايتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهنّ من الإبل» «2» .
وكان يحثهم على لزوم المسجد لذلك حثا شديدا:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من قوم يجتمعون في بيت من بيوت الله عزّ وجلّ يقرؤن ويتعلّمون كتاب الله عزّ وجلّ يتدارسونه بينهم إلا حفّت بهم الملائكة، وغشيتهم الرّحمة، وذكرهم الله فيمن عنده ... » «3» ، وكان صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم أن ذلك جزء من وظيفة المسجد: فقد قال صلّى الله عليه وسلّم لهم معلما: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة،
__________
(1) كتاب السبعة في القراات (ص 68) .
(2) مسلم (1/ 552) ، مرجع سابق.
(3) مسلم (4/ 2074) ، مرجع سابق.
(1/87)
________________________________________
وقراءة القران ... » الحديث «1» ، وهذا يقتضي منهجيا: أن تقوم خطط المؤسسات القرانية الرسمية وغيرها على جعل المسجد هو المكان النموذجي للإقراء، وفي حالة التوسع لا مانع من جعل دور القران دائرة حول المسجد أو ملتصقة به بطريقة أو بأخرى.

هل الإقراء منحصر في المسجد؟:
وكون المسجد هو المكان النموذجي لتعلم القران وتعليمه، لا يمنع ذلك من قراءة القران في أي مكان، وعلى أي حال، ويدل على ذلك حديث عبد الله ابن مغافل رضي الله عنه حيث قال: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة يقرأ وهو يرجع» «2» ، ففيه دليل على «ملازمته صلّى الله عليه وسلّم للعبادة لأنه حالة ركوبه الناقة وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة» «3» ، وقد بوب البخاري لذلك: «باب القراءة على الدابة» «4» أي لراكبها، «وكأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك» ، وقال ابن بطال: «إنما أراد بهذه الترجمة أن في القراءة على الدابة سنة موجودة، وأصل هذه السنة قوله سبحانه وتعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ (الزخرف: 13) » «5» ، فالأمر واسع في اتخاذ أماكن الإقراء، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن البيت الذي يقرأ فيه القران يكثر خيره والبيت الذي لا يقرأ فيه القران يقل خيره» «6» ، فالأصل أن كل مكان
__________
(1) مسلم (1/ 236) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1925) ، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (9/ 92) ، مرجع سابق.
(4) البخاري (4/ 1921) ، مرجع سابق.
(5) فتح الباري (9/ 83) ، مرجع سابق.
(6) عبد الرزاق (3/ 369) ، وله شواهد أخرجها صاحب لمحات الأنوار (1/ 280) ، برقم (353) وما بعده، مرجع سابق.
(1/88)
________________________________________
صالح لقراءة القران وإقرائه كما أن الأرض جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم مسجدا وطهورا إلا ما ورد النص بالمنع من الصلاة فيه، فيمنع فيه من قراءة القران كذلك.

هل المسجد مناسب لتعليم الصبيان القراءة؟:
ولا يرد على هذا التقرير تعليم الصبيان وما قد يجره من مفاسد تلويث المسجد والضوضاء والتشويش على المصلين؛ إذ قد يمنع من ذلك لعارض لا لذات الأمر، وقد سئل ابن تيمية: هل تعليم القران بالمسجد من حيث هو حرام أم لا؟
فأجاب: إقراء القران في المسجد قربة عظيمة ففي الحديث الصّحيح «إنّما بنيت المساجد لذكر الله والصّلاة وقراءة القران» قال تعالى: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (النور: 36) وهذا عامّ في إقراء البالغين وغيرهم بشرطهم الاتي، وأمّا ما راه مالك من كراهة القراءة في المصحف في المسجد، وأنّه بدعة أحدثها الحجّاج، وأن يقاموا إذا اجتمعوا للقراءة يوم الخميس أو غيره فهو رأي انفرد به ومن ثمّ قال الزّركشيّ: «هذا استحسان لا دليل عليه، والّذي عليه السّلف والخلف استحباب ذلك لما فيه من تعميرها بالذّكر وقراءة القران للحديث الصّحيح، أي الّذي قدّمناه هذا كلّه حيث كان المتعلّمون مميّزين يؤمن منهم تنجيس المسجد وتقذيره وعدم التّشويش على المصلّين، فإن كان فيهم غير مميّزين لا يؤمن تنجيسهم أو تقذيرهم له حرم على المعلّم إدخالهم وعلى الحاكم- وفّقه الله وسدّده- زجره وردعه عن إدخاله مثل هؤلاء، وكذلك عليه نهيه أيضا عن رفع الصّوت لإقامة صلاة فيه، والحاصل أنّه لا يجوز إخراجه من المسجد بالكلّيّة لأجل ذلك من أوّل وهلة، وإنّما يمنع أوّلا من تمكينه من تنجيس المسجد أو تقذيره بمن يدخل إليه فيه ... » «1» .
__________
(1) الفتاوى الكبرى (1/ 345) ، مرجع سابق.
(1/89)
________________________________________
المقاعد:
وقد كان صلى الله عليه وسلم يجلس ليتلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي من جبريل عليه السّلام في المسجد في مكان يدعى بمقاعد جبريل عليه السّلام فعن عائشة: أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص صلّى الله عليه وسلّم أرسل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه ثم أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد.. «1» .. وعن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه جبريل عليه السّلام جالس في المقاعد، فسلمت عليه، ثم أجزت فلما رجعت وانصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل رأيت الذي كان معي» قلت: نعم! قال: «فإنه جبريل وقد رد عليك السلام» «2» .
والمقاعد هي الدكاكين «3» التي كانت عند باب دار عثمان كانوا يجلسون عليها فسميت المقاعد «4» .
__________
(1) مسلم (2/ 688) ، مرجع سابق.
(2) رواه أحمد (5/ 433) ، مرجع سابق، ورواه الطبراني في الكبير (3/ 227) مرسلا، مرجع سابق، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 313) ، مرجع سابق: «ورجاله ثقات» ، وقال ابن حجر في الإصابة (1/ 618) : «وروى أحمد والطبراني من طريق الزهري أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة عن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه جبرائيل جالس في المقاعد، فسلمت عليه فلما رجعت قال: «هل رأيت الذي كان معي» قلت: نعم! قال: «فإنه جبريل وقد رد عليك السلام» وقال ابن حجر تعقيبا: «إسناده صحيح أيضا» ، انظر: (ابن حجر) أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي ت 852 هـ: الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 618) ، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 هـ- 1992 م..
(3) الدّكّان هو الذي يقعد عليه أي الدكة المبنية ... والدّكّان أيضا واحد الدّكاكين وهي الحوانيت فارسي معرب. انظر: مختار الصحاح (ص 87) ، النهاية (2/ 128) مرجعان سابقان.
(4) التمهيد (22/ 213) ، مرجع سابق.
(1/90)
________________________________________
وهي مصاطب حول المسجد «1» ، فهذه المقاعد عرفت بمقاعد جبريل عليه السّلام، وقد صرّح بذلك فيما رواه أنس رضي الله عنه قال: «صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الظهر يوما ثم انطلق حتى قعد على المقاعد التي كان يأتيه عليها جبريل فجاء بلال فناداه بالعصر» «2» .
وهذا يدل على أن التعلم يمكن أن يكون حول المسجد ملتصقا به على هيئة دور التحفيظ اليوم ... وهذه الأماكن بمثابة قاعات الكليات التي يتمم فيها ما قد يفوت في المسجد.

المطلب الثالث: إلزامهم الاقتداء به في هيئة تلاوته للفظ القراني:
والدليل الكلي الجامع لهذا: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب: 21) ؛ إذ إن معنى أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها» «3» ، ويدخل في ذلك تلاوته لألفاظ القران الكريم أصلا وأداء ف «الأسوة القدوة، والأسوة ما يتأسى به أي يقتدى به في جميع أفعاله، ويتعزى به في جميع أحواله» «4» ، وعلى رأس ذلك تلاوة القران الكريم، وعلى هذا فالاية «عامة في
__________
(1) (الزرقاني) محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ت 1122 هـ: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (1/ 98) ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 هـ، وهي- جمعا بين الأحاديث- غير الحجارة أو الدرج أو الدكاكين التي بقرب دار عثمان، وفي كل الأحوال فهي مواضع جرت العادة بالقعود فيها.
(2) مسند أحمد (3/ 139) ، مرجع سابق، وتتمته: «فقام كل من كان له بالمدينة أهل يقضي الحاجة ويصيب من الوضوء، وبقى رجال من المهاجرين ليس لهم أهالي بالمدينة فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقدح أروح فيه ماء فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفه في الإناء فما وسع الإناء كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلها فقال بهؤلاء الأربع في الإناء ثم قال: «ادنوا فتوضؤوا» ويده في الإناء فتوضؤوا حتى ما بقى منهم أحد إلا توضأ قال قلت: يا أبا حمزة! كم تراهم؟ قال: بين السبعين والثمانين» .
(3) البيضاوي (4/ 368) ، مرجع سابق.
(4) القرطبي (14/ 155) ، مرجع سابق.
(1/91)
________________________________________
كل أفعاله صلّى الله عليه وسلّم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته» «1» ، وبذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون بها في جميع أحوالهم، فقد قال بعض أصحاب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما له: رأيتك في السفر لا تصلي قبل الصلاة ولا بعدها؟ فقال: يا ابن أخي صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذا وكذا فلم أره يصلي قبل الصلاة ولا بعدها، ويقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «2» ، وعن ابن عمر أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟
فقال: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطاف بالبيت، وصلّى خلف المقام ركعتين، وسعى بين الصفا والمروة» ثم قرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «3» ... وإنما كان هذا الاستطراد في وجه الدلالة لئلا يقول قائل بأن السياق هنا يخصص المنساق ... كما ترد هنا جميع أدلة الاقتداء نحو فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (الأنعام: 90) .

حكمة تعليمه صلّى الله عليه وسلّم لهم ما سبق:
وإنما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم بما ذكر في القران، وبما يخبرهم به من حديثه الشريف عن كيفية تلقيه للفظ القران الكريم لأجل أن يقتدوا به في تلاوة القران الكريم وجمع ألفاظه تعلما وتعليما فيما كان في حدود طاقتهم البشرية ... وزاد عن ذلك بما كان يصنعه في حلقات الإقراء التي كان يؤدي فيها درسا يوميا لإقرائهم القران، بالإضافة إلى عرضه اليومي لشيء من القران في ست ركعات جهرية يومية من صلاته حيث كان إمامهم، فلا بد لهم من الاقتداء به في أركان الصلاة وهيئاتها التفصيلية، وكذلك في تلاوة لفظ القران الكريم أصلا وأداء، ومما يوضح
__________
(1) روح المعاني (21/ 167) ، مرجع سابق.
(2) (أبو عوانة) يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني ت 316 هـ: مسند أبي عوانة (2/ 337) .
(3) البخاري (1/ 154) ، مرجع سابق.
(1/92)
________________________________________
ذلك أكثر ما جاء عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى امرأة:
«انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا، أكلم الناس عليها» ، فعمل هذه الثلاث الدرجات عندما أمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعت هذا الموضع فهي من طرفاء الغابة، ولقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام عليه فكبر، وكبر الناس وراءه، وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقرى، حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من اخر صلاته ثم أقبل على الناس، فقال: «يا ايها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي» «1» .

التقعيد على ذلك: تأدية اللفظ كما سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ولقد كان من أهم القواعد التعليمية المصاحبة لعملية الإقراء: تأدية اللفظ كما سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلّم فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نضر الله امرأ سمع منا حديثا (فحفظه حتى يبلغه غيره) فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع، (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) » «2» ، ولا شك أن مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله (حديثا) يتسع ليتضمن القران أولا، أو ليدخل من باب قياس الأولى كما قال الله عزّ وجلّ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ (الطور: 34) ، فسمى القران حديثا.
وهذا الحديث بين أن من أهم الأهداف التعليمية التي أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تتحقق في الصحابة رضي الله عنهم:
الحث على البلاغ لما يسمعه الصحابي من النبي صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) مسلم (1/ 386) ، مرجع سابق.
(2) ابن حبان (1/ 268) ، مرجع سابق، وما بين القوسين عنده من رواية زيد بن ثابت.
(1/93)
________________________________________
وأن يكون المبلّغ كما سمع منه صلّى الله عليه وسلّم، ولذ قال ابن حبان تبويبا لهذا الحديث: «ذكر البيان بأن هذا الفضل إنما يكون لمن أدى ما وصفنا كما سمعه سواء من غير تغيير ولا تبديل» «1» . فهذه الأدلة العامة في مسألة الاقتداء في أداء اللفظ القراني.

ومن الأدلة الخاصة:
قول علي رضي الله عنه: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم أن تقرؤوا كما علمتم» «2» ، فهذا في أداء اللفظ، وويدل على الاقتداء به في الهيئة التي يكون عليها المرء عند أداء اللفظ ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضي حاجته فيقرأ القران، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه- وربما قال- يحجزه عن القران شيء ليس الجنابة» «3» ، ومن أجل هذا الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم فقد ظهر تعليمه صلّى الله عليه وسلّم في تعليم الصحابة رضي الله عنهم من تلاميذه، وتميّز أساليبهم وهي انعكاس صحيح لأسلوبه، وما ذكر من أخبارهم في ذلك حجة على ما لم قيام ما لم يذكر.
__________
(1) ابن حبان (1/ 271) ، مرجع سابق.
(2) ابن حبان (3/ 21) ، مرجع سابق.
(3) المختارة (2/ 215) ، أبو داود (1/ 59) ، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 38) ، مراجع سابقة.
(1/94)
________________________________________
المبحث الثاني: وسائل تعليم ألفاظ القران الكريم كما وضعها النبي صلّى الله عليه وسلّم:
يبين هذا المبحث وسائل التعليم القراني التي سلكها النبي صلّى الله عليه وسلّم مكانا وأسلوبا وطريقة إدارة ليتم التعليم، وهي ترجع إلى الحلقات القرانية، وإلى القراءة العامة (الجماعية) ، وإلى القراءة الفردية والإقراء الفردي، وإلى أسلوب التعلم الأساسي في ذلك هو التلقي، ويحاول المبحث تجلية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل من وسائل هذا التعليم تقسيمه إلى تعليم ملزم، وغير ملزم يشبه أن يكون ملزما، واستتبع هذا الكلام على أجرة التعليم؛ كما تحدث البحث عن ظهور التدرج في تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم ليتم الاستيعاب الكلي للقران الكريم، ولذا انقسم هذا المبحث إلى خمسة مطالب:
المطلب الأول: الحلقات القرانية.
المطلب الثاني: تعليمهم هيئة التعلم الواجبة لألفاظ القران الكريم (التلقي) .
المطلب الثالث: العرضة الأخيرة.
المطلب الرابع: التعليم القراني العام.
المطلب الخامس: التدرج في التعليم.
(1/95)
________________________________________
المطلب الأول: الحلقات القرانية:

الدلالة اللغوية للحلقة:
الحلقة بالتسكين: كلّ شيء استدار كحلقة الحديد والفضّة والذهب، وكذلك هو في الناس، فالحلقة فيهم هي الجماعة من الناس مستديرون، وتحلّق القوم جلسوا حلقة حلقة «1» ، والجمع حلق وحلقات وحلق «2» .
فيكون تعريف الحلقة من الناس: القوم الذين يجتمعون متراصين وذلك لاستفادة ما يلقيه شيخ الحلقة من العلوم، ويبثه من أحكام الشريعة، وتعليم الأمة ما ينفعهم في الدارين «3» .
ثانيا: المدلول النفسي لهذا الاجتماع: ولهذا النوع من الاجتماع مدلول نفسي بين المناسبة يبيّن سبب انتقائها كوسيلة تعليمية أساسية؛ إذ إن الحلقة تضرب مثلا للقوم إذا كانوا مجتمعين مؤتلفين كلمتهم وأيديهم واحدة لا يطمع عدوّهم فيهم ولا ينال منهم، ولذا يقال للسلاح والحديد حلقة لمناعته وبأسه ...

ورود (الحلقة) في الحديث بمعناها المصطلحي:
وردت كلمة الحلقة بمعناها العرفي في كثير من الأحاديث ومن ذلك ما جاء عند البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذهب واحد، فوقفا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة وجلس فيها، وأما الاخر فجلس خلفهم، وأما
__________
(1) انظر: مختار الصحاح ص 65، مرجع سابق.
(2) انظر: مختار الصحاح ص 65، مرجع سابق، لسان العرب (10/ 61) ، مرجع سابق.
(3) انظر: عبد الرؤوف المناوي: فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/ 120) ، وانظر: لسان العرب (10/ 61) ، مرجع سابق.
(1/96)
________________________________________
الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟: أما أحدهم فأوى إلى الله فاواه الله، وأما الاخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الاخر فأعرض فأعرض الله عنه» «1» ، كما كان صلّى الله عليه وسلّم يحضهم على الاجتماع على تلاوة القران، وتدارسه بينهم، وتكوين حلقات جانبية، ولو كانت دون إشرافه عليهم: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
« ... وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» «2» .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك فيجتمعون حلقا يذكرون الله جل جلاله أو يتدارسون القران:
والقران أعظم الذكر فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله! قال: الله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك! قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقل عنه حديثا مني وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: «الله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك! قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل عليه السّلام فأخبرني أن الله عزّ وجلّ يباهي بكم الملائكة» «3» .
__________
(1) البخاري (1/ 36) ، مسلم (4/ 1713) ، ابن حبان (1/ 286) ، الترمذي (5/ 73) ، مراجع سابقة.
(2) مسلم (4/ 2074) ، الترمذي (4/ 34) ، الدارمي (2/ 340) ، أبو داود (4/ 287) ، النسائي في الكبرى (4/ 309) ، أحمد (2/ 252) ، مراجع سابقة.
(3) مسلم (4/ 2075) ، مرجع سابق.
(1/97)
________________________________________
الأحكام العامة للحلقات (النظم الإدارية المنظمة للحلقات القرانية) :
صارت الحلقات العلمية التعليمية في المسجد مكانا تعليميا، ومرتعا تربويا له ادابه ونظمه التي أرشد لها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وباتت هذه النظم بمثابة لائحة تفصيلية، وتقنين دقيق للحلقات التعليمية، كما صار لها أحكامها المستقلة التي تنظم انعقادها، ووقته، وكيفيته، ومتى يجوز التعدد، ومتى يجتمعون في حلقة واحدة ...
وهذا يدل على شيوع هذه الوسيلة التعليمية، واعتيادها، وصيرورتها جزا من النظام التعليمي العام، والأحكام التعليمية للحلقات هي:

1- اعتيادها وكونها جزا من النسيج التعليمي:
فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس جلس إليه أصحابه حلقا حلقا «1» ، وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: كنت جالسا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحلقة إذ جاء رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى القوم.. «2» .، وكان رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم له بني صغير يأتيان النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن بنيّه هلك، فمنعه الحزن عليه أن يحضر الحلقة فلقيه النبي صلّى الله عليه وسلم فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك، فعزاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا فلان! أيما كان أحب إليك أن تمتاع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه ففتحه لك؟» قال: فقال: «يا نبي الله! لا بل يسبقني إلى أبواب الجنة أحب إلي» قال: «فذاك لك» قال: فقام رجل من الأنصار فقال: يا نبي الله! جعلني الله فداءك أهذا لهذا خاصة أو من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له؟
قال: «لا! بل من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له» «3» .
__________
(1) البزار (8/ 249) .
(2) ابن حبان (3/ 125) ، والحديث الأول في: المختارة (5/ 285) ، والنسائي في الكبرى (4/ 409) .
(3) النسائي (4/ 118) ، البيهقي في الكبرى (4/ 59) ، مرجعان سابقان.
(1/98)
________________________________________
2- نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن القعود وسط الحلقة:
وهذا ينظّم الهيكل العام للحلقة كما يجمل منظرها: فقد قعد رجل وسط حلقة فقال حذيفة رضي الله عنه: «ملعون على لسان محمد أو لعن الله على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم من قعد وسط الحلقة» «1» ، وذلك لأنه إذا جلس في وسطها استدبر بعضهم بظهره فيؤذيهم بذلك فيسبّونه ويلعنونه «2» ...
والنهي عن القعود وسط الحلقة يجعل منظرها العام شبيها إلى حد كبير بما يحاوله منظمو قاعات التعليم أو العرض بحيث يمكن للجميع مشاهدة مديري الحلقة.
ويستثنى من ذلك أن يرى الإمام أو المعلم المصلحة في بقاء أحدهم وسط الحلقة: فعن واثلة ابن الأسقع رضي الله عنه قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في نفر من أصحابه فجلست وسط الحلقة» فقال بعضهم: يا واثلة! قم من هذا المجلس فإنا قد نهينا عنه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوا واثلة فإني أعلم بالذي أخرجه من منزله» قلت: «يا رسول الله! وما الذي أخرجني من منزلي؟» قال:
«خرجت تسأل عن البر من الشك» قلت: «والذي بعثك بالحق ما أخرجني غيره» قال: «فإن البر ما استقر في النفس واطمأن في القلب، والشك ما لم يستقر في النفس، ولم يطمئن إليه القلب، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون» «3» .
__________
(1) الترمذي (5/ 90) ، وقال: «هذا حديث حسن صحيح، أحمد (5/ 384) .
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 426) .
(3) (الطبراني) : مسند الشاميين (1/ 117) .
(1/99)
________________________________________
3- كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ينظم كيفية تحلقهم بنفسه في حلقات الإقراء وغيرها:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنت في حلقة من الأنصار، وإن بعضنا ليستتر ببعض من العري، وقارئ لنا يقرأ علينا، فنحن نسمع إلى كتاب الله؛ إذ وقف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقعد فينا ليعد نفسه معهم، فكفّ القاري، فقال: ما كنتم تقولون؟ فقلنا: «يا رسول الله! كان قارئ لنا يقرأ علينا كتاب الله» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، وحلق بها يومي إليهم أن تحلقوا، فاستدارت الحلقة.. «1» ..

4- نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التحلق قبل صلاة الجمعة:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن البيع والابتياع، وأن ينشد الضوال، وعن تناشد الأشعار، وعن التحلق للحديث يوم الجمعة قبل الصلاة» يعني في المسجد «2» ، ولعل من حكم ذلك أن تكون «الجماعة كثيرة والمسجد صغيرا وكأن فيه منع المصلين عن الصلاة» «3» ، كذا ذكر البيهقي ولكن هذا عام في كل حلقة ... والظاهر أن المراد التهيؤ لخطبة الجمعة، والتفرغ قبلها للقران دون التشويش بمناقشة شيء قد يضر بخطبة الخطيب لقرب العهد فيبطلها عن دورها.
وربما تكون الحلق كثيرة فيما يمكن فيه الاجتماع في حلقة واحدة، ولا يظهر لتعدد الحلق إلا التشويش: فعن جابر بن سمرة قال: دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن حلق متفرقون فقال: «مالي أراكم عزين؟» «4» أي في حلق متفرقة.
__________
(1) أحمد (3/ 63) ، أبو يعلى (2/ 382) .
(2) ابن خزيمة (2/ 275) ، أبو داود (1/ 283) ، النسائي في الكبرى (1/ 262) ، النسائي في الصغرى (2/ 47) ، الطبراني في الأوسط (6/ 358) .
(3) البيهقي في الكبرى (3/ 234) ، مرجع سابق.
(4) مسلم (1/ 322) ، ابن حبان (4/ 534) ، المسند المستخرج على مسلم (2/ 54) ، أبو عوانة في مسنده (1/ 419) .
(1/100)
________________________________________
5- حق من كان في الحلقة في حماية مكانه، والعودة إليه إذا خرج لعارض قريب:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به» «1» ، ولو وضع ما يدل على رجوعه فهو أولى فعن أبي الدرداء رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس وجلسنا حوله، فقام فأراد الرجوع نزع نعليه أو بعض ما يكون عليه فيعرف ذلك أصحابه فيثبتون «2» .

6- حق أصحاب الحلقة في حماية حلقتهم فلهم رد من يريد السير من وسط الحلقة:
فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا حمى إلا في ثلاث ثلاثة: البئر ومربط الفرس وحلقة القوم» «3» ، أي لهم أن يحموها حتى لا يتخطّاهم أحد ولا يجلس وسطها «4» ... وهل يدل هذا على ما يسمى في عصرنا الحرم الجامعي؟ فيه نظر، ولكن لا شك أن لمكان كالجامعة حماها الخاص بها.

7- وكانوا يجلسون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم متحلقين معه حلقة دون حلقة:
أي كأنهم صفوف دائرية مرتبة بعضها خلف بعض على وجه لا يحجب المتأخر فيها بالمتقدم كما في القاعات الكبيرة اليوم، ولذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم، ففي حديث إسلام كعب ابن زهير الشاعر: « ... ثم دخل المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه مكان المائدة من
__________
(1) البيهقي في الكبرى (6/ 151) ، مرجع سابق.
(2) البيهقي الكبرى (6/ 151) ، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (4/ 389) ، وبعض الأحاديث وإن لم تثبت فهي مما تناقله أهل العلم من اداب الحلقات.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 426) ، مرجع سابق.
(1/101)
________________________________________
القوم متحلقون معه حلقة دون حلقة يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم ... » «1» . ولكن هذا التنظيم ليس توقيفيا بل يسلك المنظمون لها أقرب السبل لتتم الاستفادة الكاملة منها.

خامسا: أنواع الحلقات:
تنقسم الحلقات التعليمية إلى نوعين هما:

أولا: الحلق العامة الكبيرة:
1- فكان صلّى الله عليه وسلّم يعقد الحلق العامة الكبيرة للتلاوة كجزء من البلاغ للقران، وقد بدأها النبي صلّى الله عليه وسلّم منذ بدأ نزول الوحي كما جاء ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم النجم بمكة فسجد فيها، وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا فرأيته بعد ذلك قتل كافرا «2» ، واستمرت الحلقات العامة إلى أواخر نزول الوحي فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ عام الفتح سجدة فسجد الناس كلهم فمنهم الراكب والساجد في الأرض حتى أن الراكب ليسجد على يده «3» ، ولكن هذه الحلقة قد يستفيد منها المستمع البلاغ، وقد يزيد على ذلك فيعدها جزا من التعليم، فيحفظ ويتقن ما يستمعه ...
2- وقد تكون القراءة في الحلقة قراءة عرض بأن يقرأ أحدهم وهو صلّى الله عليه وسلّم يستمع، وهذا ما يحتمله حديث ابن عمر قال: كنا نقرأ السجدة عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فيسجد ونسجد معه.. «4» ..
__________
(1) الحاكم (3/ 671) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 363) ، مرجع سابق.
(3) ابن خزيمة (1/ 279) ، مرجع سابق.
(4) ابن خزيمة (1/ 279) ، مرجع سابق.
(1/102)
________________________________________
3- وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرف على الحلقات الاخرى التي لا يباشر فيها التعليم بنفسه: فعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: كنا في المسجد نتعلم القران، فدخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلم علينا، فرددنا عليه السلام فقال: «تعلموا القران واقتنوه وتغنوا ... » «1» ، ومما يدل على هذا الإشراف أيضا ما جاء عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إلى المسجد، فوجد أصحابه عزين يتذاكرون فنون العلم فأول حلقة وقف عليها وجدهم يقرؤون القران وجلس إليهم فقال: بهذا أرسلني ربي.. «2» ..
4- وعملية الإقراء منه صلّى الله عليه وسلّم دائمة فعن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرئنا القران على كل حال ما لم يكن جنبا» .

ثانيا: حلقات الإقراء الخاصة:
1- فقد كانت معروفة كأساس لشكل الملتقى التعليمي كما تقدم، وجاء عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه كان يتحرى موضع مكان المصحف يسبح فيه وذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتحرى ذلك المكان «3» .
2- وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرف على حلقات الإقراء الخاصة بنفسه أيضا: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إني لجالس ذات يوم في عصابة من ضعفاء المهاجرين ورجل منا يقرأ علينا القران ويدعو لنا، وإن بعضنا لمستتر ببعض من العري وجهد الحال، إذ خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما راه قارئنا أمسك عن القراءة، فجاء فجلس إلينا، فقال بيده فاستدارت له حلقة القوم ... الحديث «4» .
__________
(1) بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (2/ 734) .
(2) مسند الربيع ص 32، مرجع سابق.
(3) صحيح مسلم (1/ 364) ، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الأوسط (8/ 357) ، مرجع سابق.
(1/103)
________________________________________
3- وقد يكون الإقراء فيها أي تعلم القران وتعليمه ثنائيا، كما هو شائع في حلقات المسلمين اليوم: فقد دخل حذيفة رضي الله عنه المسجد فمر على قوم يقرئ بعضهم بعضا فقال: «إن تكونوا على الطريقة لقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن تدعوه فقد ضللتم» قال: ثم جلس إلى حلقة فقال: «إنا كنا قوما امنا قبل أن نقرأ وإن قوما سيقرأون قبل أن يؤمنوا» فقال رجل من القوم: تلك الفتنة؟ قال: «أجل قد أتتكم من أمامكم حيث تسوء وجوهكم، ثم لتأتينكم ديما ديما، إن الرجل ليرجع فيأتمر الأمرين أحدهما عجز والاخر فجور» «1» .
وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يعقدون حلقات الإقراء فعن أبي إسحاق قال:
رأيت رجلا سأل الأسود بن يزيد وهو يعلم القران في المسجد فقال: كيف تقرأ هذه الاية فهل من مدكر أدالا أم ذالا؟ قال: بل دالا سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: مدكر دالا «2» ، ووصف بعض تلاميذ أبي موسى الأشعري تعليم شيخهم رضي الله عنه لهم فقال: (تعلمنا القران في هذا المسجد يعني مسجد البصرة وكنا نجلس حلقا حلقا، وكأنما أنظر إليه بين ثوبين أبيضين وعنه أخذت هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (العلق: 1) قال:
وكانت أول سورة أنزلت على محمد صلّى الله عليه وسلّم «3» .
__________
(1) ابن أبي شيبة (7/ 451) ، مرجع سابق.
(2) صحيح مسلم (1/ 565) ، مرجع سابق.
(3) الحاكم (2/ 240) ، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم» .
(1/104)
________________________________________
المطلب الثاني: تعليمهم هيئة التعلم الواجبة للفظ القراني (التلقي) «1» :
صارت هيئة التعلم الواجبة للألفاظ القرانية (التلقي) بدهية من البدهيات في حياة المسلمين حتى لقّبوا من تعلم القران بهيئة تعليمية غيرها كالأخذ من المصحف (مصحفيا) فقالوا: «لا تحملوا العلم عن صحفي، ولا تأخذوا القران من مصحفي» «2» فلا مجال لإثبات القران الكريم بالكتابة واحدها، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الطريقة الواجبة في تعلم الألفاظ القران الكريم صراحة في قوله سبحانه وتعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (النمل: 6) مع قوله جل جلاله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (النجم: 5) إذ دل مجموع الايتين على أن تعلم النبي لألفاظ القران الكريم كان تعلما خاصا هو التلقي.
وقد أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتلقي فقال لهم: «خذوا القران من أربعة: من ابن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة» «3» ، وهذا «يدل على أن قراءة القران تؤخذ بالتلقي من أفواه المقرئين، أتدري من خاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «خذوا القران من أربعة» ؟ خاطب الصحابة رضي الله عنهم، وهم عرب فصحاء، بل هم أفصح الأمة، ومع ذلك لم يكلهم إلى فصاحتهم بل أمرهم بالتلقي، وما ذاك إلا لأن قراءة القران لها هيئة مخصوصة توقيفية» «4» .
__________
(1) ينظر في تعريف التلقي وبيان قواعده: تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم ص 127.
(2) الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري أبو أحمد ت 382 هـ: تصحيفات المحدثين ص 7، تحقيق: محمود أحمد ميرة المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، ط 1، 1402 هـ.
(3) البخاري (3/ 1385) ، مسلم (4/ 1913) ، الحاكم (3/ 250) ، الترمذي (5/ 674) ، مراجع سابقة.
(4) عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ (دكتور) : سنن القراء ومناهج المجودين ص 48، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1414 هـ.
(1/105)
________________________________________
ولذا كان الصحابة يظهرون طريقة تعلمهم لألفاظ القران الكريم عند إثبات أهليتهم ليصدر عنهم الناس في القراءة كما في قول ابن مسعود: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غار إذ نزلت عليه وَالْمُرْسَلاتِ (المرسلات: 1) فتلقيناها من فيه وإن فاه لرطب بها.. «1» .، وقال عندما غضب من تولية زيد ابن ثابت أمر نسخ المصاحف: «لقد أخذت من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي فلا أدع ما أخذت من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «2» .

وكان الصحابة رضي الله عنهم يجعلونه أسلوب تعلمهم للفظ القراني عند النزاع:
وكما كان التلقي من فم النبي صلّى الله عليه وسلّم (سماعا أو عرضا) هو الأداة الوحيدة لتعلم القران الكريم وتعليمه، فإنه كان أيضا الحكم بين المتخاصمين في القراءة فعن عاصم ابن أبي النجود عن زر- وهو شيخ عاصم في القران- عن ابن مسعود رضي الله عنه- وهو شيخ زر في القران- قال: أتيت المسجد فجلست إلى أناس وجلسوا إلي فاستقرأت رجلا منهم سورة ما هي إلا ثلاثون اية وهي حم الأحقاف «3» فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرأها فقلت من أقراك قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستقرأت الاخر فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرؤها أنا وصاحبي فقلت: من أقرأك؟ قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فانطلقنا إليه فأخذت بأيديهما حتى أتيت بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده رجل يعني عليا فقلت: يا رسول الله! إنا اختلفنا في قراءتنا قال: فتغير وجهه حين ذكرت الاختلاف فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف» فقال
__________
(1) البخاري (4/ 1879) ، مرجع سابق، وبقية الحديث: إذ خرجت حية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم اقتلوها» قال: فابتدرناها فسبقتنا قال: فقال: «وقيت شركم كما وقيتم شرها» .
(2) مسند أبي داود الطيالسي (1/ 54) ، مرجع سابق.
(3) سورة الأحقاف في عد الكوفيين خمس وثلاثون اية فيحمل قول ابن مسعود على عدم نزول بعض اياتها انذاك، أو اختلافهم في العدد، أو على عدم اعتبار الكسر كالمعتاد في خطاب العرب.
(1/106)
________________________________________
علي- فلا أدري أسر إليه ما لم أسمع أو علم الذي في نفسه فتكلم به-: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علّم» «1» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم «ليقرأ كل إنسان كما علّم كل حسن جميل» «2» ، وعن أبي الجهم رضي الله عنه أن رجلين اختلفا في اية من القران قال هذا: تلقنتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الاخر: تلقنتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «3» ، وعن بن عباس رضي الله عنهما قال: بينما أنا أقرأ اية من كتاب الله عز وجل وأنا أمشي في طريق من طرق المدينة، فإذا أنا برجل يناديني من بعدي:
أتبع ابن عباس، فإذا هو أمير المؤمنين عمر فقلت: أتبعك على أبي بن كعب، فقال: أهو أقرأكها كما سمعتك تقرأ؟ قلت: نعم! قال: فأرسل معي رسولا قال: اذهب معه إلى أبي بن كعب فانظر أيقرئ أبي كذلك؟ قال: فانطلقت أنا ورسوله إلى أبي ابن كعب قال: فقلت: يا أبي قرأت اية من كتاب الله فناداني من بعدي عمر ابن الخطاب اتبع ابن عباس فقلت: أتبعك على أبي بن كعب فأرسل معي رسوله أفأنت أقرأتنيها كما قرأت؟ قال أبي: نعم! قال: فرجع الرسول إليه، فانطلقت أنا إلى حاجتي، قال: فراح عمر إلى أبي فوجده قد فرغ من غسل رأسه، ووليدته تدري لحيته بمدراها فقال أبي: مرحبا يا أمير المؤمنين! أزائرا جئت أم طالب حاجة؟ فقال عمر: بل طالب حاجة.
قال: فجلس ومعه موليان له حتى فرغ من لحيته وأدرت جانبه الأيمن من لمته ثم ولاها جانبه الأيسر حتى إذا فرغ أقبل إلى عمر بوجهه، فقال: ما حاجة أمير المؤمنين؟ فقال عمر: يا أبي علام تقنط الناس؟ فقال أبي: يا أمير المؤمنين! إني تلقيت القران ممن تلقاه- وقال عفان ممن يتلقاه- من جبريل عليه السّلام وهو
__________
(1) أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ت 335 هـ: المسند للشاشي (2/ 105) .
(2) الطبراني في الكبير (5/ 198) ، مرجع سابق.
(3) مجمع الزوائد (7/ 151) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» .
(1/107)
________________________________________
رطب «1» وفي رواية فقال أبي: صدق تلقيتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عمر: أنت تلقيتها من رسول الله؟ قال: نعم أنا تلقيتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات كل ذلك يقوله وفي الثالثة وهو غضبان: نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل وأنزلها على محمد فلم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه. فخرج عمر وهو رافع يديه وهو يقول: الله أكبر الله أكبر «2» .

التلقي عند أبي رضي الله عنه:
وبمناسبة أنهم كانوا رضي الله عنهم يجعلون التلقي عمدة أدلتهم في إثبات القراءة، فإن البحث يشير إلى أن سيد القراء أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان يحتج بذلك، ولكن القراات الثابتة عنه قرائيا بل وفي كثير من روايات الحديث الثابتة لم تخرج عن القراات المتناقلة إلى اليوم إلا أن تكون تفسيرا فأما قرائيا: فإن معظم أسانيد القراء العشرة ترجع إليه رضي الله عنه.
وأما حديثيا فالأمثلة السابقة توضح رجوع ما نسب إليه إلى القراات المتناقلة إلى اليوم، ومن الروايات الحديثية ما جاء عن ابن عباس قال: أقرأني أبي ابن كعب كما أقرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ (الكهف: 86) مخففة «3» ، وهذا المثال جد حسن؛ إذ يوضح أن قراءة أبي التي يستغربها عمر إنما هي إحدى قراات من الأحرف السبعة، ولا تخرج عن ذلك، ومثاله أيضا في قراءة أبي ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلّم له: «أمرت أن أقرأ عليك القران» قال فقلت: وسماني لك
__________
(1) الحاكم (2/ 245) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ، ورواه الضياء في المختارة (3/ 415) .
(2) الحاكم (3/ 345) ، مرجع سابق.
(3) النسائي في الكبرى (4/ 34) ، مرجع سابق.
(1/108)
________________________________________
ربك؟ قال: «نعم» قال: فقرأ علي فقال أبي قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (يونس: 58) «1» قرأها بالتاء (فلتفرحوا) .. «2» .،
وهذه الأمثلة تدل على عدم خروج قراءة أبي عن المتناقل من القراات ... ومن احتج ببعض ما ذكر عنه من قراات مخالفة يقال له عمدتنا: هو التلقي الذي جعله أبي عمدته أيضا، ومنهج إثبات قرانية أو قرائية قراءة غير منهج إثبات حديث، على أن أبيا لم يثبت عنه حديثيا إلا ما وافق القراات المتناقلة، أو ما كان تفسيرا ظاهرا وقد ينسبه إلى القران تجوزا على أنه المراد من الاية، أو لأنه سمع فيه شيئا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

منهجية إثبات القراات غير منهجية إثبات الأحاديث:
وبما أن التلقي هو السبيل لإثبات القراءة فإن ما ثبت حديثيا على غير ما ثبت قرائيا- حال وجوده- لا يعول عليه في النسبة إلى القراء فقد تثبت اية قرائيا على غير ما وردت حديثيا كالذي روي عن نافع بن أبي نعيم- رحمه الله تعالى-:
فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ (البقرة: 283) ، قرأها (فرهن) ، ثم قال نافع: أقرأني خارجة بن زيد بن ثابت وقال: أقرأني زيد بن ثابت، وقال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ بغير ألف «3» ، فإن الثابت عن نافع قرائيا فرهان «4» وهو اختياره فلا يقرأ بالاخرى لعدم التلقي، وأما توجيه الرواية فلها محامل: إما الصحة سندا
__________
(1) انظر: الشاطبية عند قول الناظم: (وحق رهان ضم كسر وفتحة) من سورة البقرة ص 79، مرجع سابق.
(2) الحاكم (2/ 247) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .
(3) الحاكم (2/ 256) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .
(4) انظر: (الشاطبي) القاسم بن فيرة ت 590 هـ: حرز الأماني ووجه التهاني (متن الشاطبية) سورة البقرة وانظر: (ابن الجزري) محمد بن محمد بن محمد بن علي ت 833 هـ: طيبة النشر في القراات العشر- سورة البقرة.
(1/109)
________________________________________
ومتنا ولكن نافعا قرأ بالأمرين وبقي المتناقل عنه أحدهما، وإما بأن نافعا أراد إثبات صحة هذه القراءة ولكن لم يقرئ بها، وإما بالغلط في متن الرواية الحديثية.

كما أن التلقي هو المرجعية لتصويب كل قراءة:
تسلسل المنهجية: قال ابن مسعود رضي الله عنه: «فاقرأوا كما علمتم» «1» ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعلمون الناس القران بذلك، كما قال أنس رضي الله عنه: بعثني الأشعري إلى عمر رضي الله عنه فقال لي: كيف تركت الأشعري؟ قلت: تركته يعلم الناس القران، فقال: أما إنه كيس ولا تسمعها إياه «2» ... فكيف كان تعليمه القران للناس؟ كان تلقيا وتلقينا، فقد قال بعض تلاميذه واصفا هيئة تعليمه رضي الله عنه:
كان أبو موسى رضي الله عنه إذا صلّى الصبح استقبل الصفوف رجلا رجلا يقرئهم.. «3» ..

الحرص على التلقي من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو ممن تلقاه عنه:
وكان الصحابة رضي الله عنهم يأمرون غيرهم بأخذ القران عمن تلقاه مباشرة من النبي صلّى الله عليه وسلّم طلبا للإسناد العالي، وتثبتا في الحفظ فعن معدي كرب قال: أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال: ما هي معي ولكن عليكم من أخذها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبّاب بن الأرتّ قال: فأتينا خبّاب ابن الأرتّ فقرأها علينا «4» ... وهل كان هذا في حياته صلّى الله عليه وسلّم أو بعد مماته؟ احتمالان، وهل مراد ابن مسعود رضي الله عنه أنه لا يحفظ السورة أو أنه لم يتلقها مباشرة من النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ ...
المسألة محتملة، والثاني أرجح لأن سورة الشعراء مكية، وعن عقبة بن عامر قال:
__________
(1) النسائي في الصغرى (1/ 566) ، مرجع سابق.
(2) سير أعلام النبلاء (2/ 389) ، مرجع سابق.
(3) سير أعلام النبلاء (2/ 389) ، مرجع سابق.
(4) قال في مجمع الزوائد (7/ 84) ، مرجع سابق: «رواه أحمد ورجاله ثقات ورواه الطبراني» .
(1/110)
________________________________________
كنت أقود برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناقته في السفر فقال لي: «يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا فعلمني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (الفلق: 1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (الناس: 1) قال: فلم يرني سررت بهما جدا، فلما نزل لصلاة الصبح صلّى بهما صلاة الصبح للناس، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة التفت إلي فقال: «يا عقبة كيف رأيت» «1» ، وهذا من أقوى أنواع التلقي، وطلب العلو في الإسناد.

ولضرورة التلقي فقد انتشرت الحلق القرانية التي يحييها أئمة الإقراء:
ويتلقن فيها الناس ألفاظ القران الكريم: فصار لأبي حلقة، ولزيد بن ثابت أخرى، ولابن مسعود ثالثة ... كما قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة وأقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي ...

تكرار عرض القران:
ولأن عرض القران على الشيخ يمثل أسلوبا من أساليب التلقي؛ فقد تعلم الصحابة رضي الله عنهم من تكرار عرض النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على جبريل عليه السّلام في رمضان «2» ، تكرار عرض أصحابهم القران عليهم، وتسلسلت بذلك منهجية تكرار العرض، ومن أمثلته في أئمة الإقراء: ما رواه عاصم بن بهدلة وعطاء بن السائب ومحمد بن أبي أيوب وعبد الله بن عيسى أنهم قرؤوا على أبي عبد الرحمن السلمي وذكروا أنه أخبرهم أنه قرأ على عثمان عامة القران، وكان يسأله عن القران فيقول: إنك تشغلني عن أمر الناس فعليك بزيد بن ثابت فإنه يجلس للناس ويتفرغ لهم، ولست أخالفه في شيء من القران، وكنت ألقى عليا
__________
(1) أبو داود (2/ 73) ، مرجع سابق.
(2) رواه البخاري (1/ 6) ، مسلم (4/ 1802) ، مرجعان سابقان، وانظر: تلقي النبي ألفاظ القران الكريم ص 177، مرجع سابق.
(1/111)
________________________________________
فأسأله: فيخبرني، ويقول: عليك بزيد فأقبلت على زيد فقرأت عليه القران ثلاث عشرة مرة «1» .
وفي تكرار العرض تأكيد بليغ على: دقة المحافظة على النص القراني، ومقدار إتقان القراءة من القراء.

تعليمه صلّى الله عليه وسلّم طرق تحمل القران الكريم:
وفيما سبق ذكره يتضح لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علمهم طرق تحمل القران الكريم عنه صلّى الله عليه وسلّم «2» ، وأنهما طريقان لا غير: السماع من لفظ الشيخ أو السماع عليه بقراءة غيره، والعرض (القراءة) عليه، وعد أهل العلم من حكم قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم على أبي أن يسنّ «عرض القران على حفاظه البارعين فيه المجيدين لأدائه، وليسن التواضع في أخذ الانسان القران وغيره من العلوم الشرعية من أهلها وإن كانوا دونه في النسب والدين والفضيلة والمرتبة والشهرة وغير ذلك» «3» .
... وما بقي من الطرق المعروفة عند المحدثين من مناولة وإجازة (بالمعنى الحديثي) ... ونحوها «4» .
«فلا مكان لها في تحمل القران الكريم» «5» ، كما قال الناظم:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 270) ، مرجع سابق، وقال: «إسنادها ليس بالقائم» ، وهذه سنة أئمة الإقراء فقد قال ابن مجاهد- مثلا-: «فأما قراءة نافع بن أبي نعيم فإني قرأت بها على عبد الرحمن بن عبدوس من أول القران إلى خاتمته نحوا من عشرين مرة» انظر: السبعة ص 88.
(2) أشار إلى هذا الموضوع الإمام السيوطي في الإتقان (1/ 264) ، مرجع سابق.
(3) (النووي) أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي 676 هـ: صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 19) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 هـ.
(4) انظر في طرق تحمل الحديث: ألفية السيوطي في مصطلح الحديث بتعليق الشيخ شاكر ص 60.
(5) انظر: الإتقان (1/ 264) ، مرجع سابق.
(1/112)
________________________________________
ولا يجوز أخذها من الكتب ... كما به قد صرحوا، بل يجب
عليك أن تعرفها ممن يريك ... كيفية النطق بها فاه لفيك «1»
إلا أن الإجازة قد توجد بشرط أن تكون تابعة لهاتين الطريقتين بمعنى أنه تم سماع الطالب أو عرضه على شيخ اخر ثم أجيز بعد أن اختبره المجيز، ... أما المناولة ونحوها فلا مكان لها لأمرين أساسين يختلف في علوم القراءة عن علوم الحديث هما:
1- أن علوم القراءة لا تختلف إلا اختلافا محدودا في هيئة أداء اللفظ الداخلية غالبا أما الأحاديث فقد يوجد في هذا الكتاب ما لا يوجد عند ذاك من متن الحديث أو سنده ...
2- ولأن المقصود هنا كيفية الأداء وليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته بخلاف الحديث فإن المقصود فيه المعنى أو اللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القران، وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه نزل بلغتهم، دون حاجة كبيرة إلى العرض والمران على قواعد التجويد التي تمثل ظواهر لغوية، ويحكى أن الشيخ شمس الدين بن الجزري لما قدم القاهرة وازدحمت عليه الخلق لم يتسع وقته لقراءة الجميع فكان يقرأ عليهم الاية ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة فلم يكتف بقراءته.
ولكن المستعمل عند القراء سلفا وخلفا هو العرض بالقراءة على الشيخ وأما السماع من لفظ الشيخ فيحتمل أن يقال به هنا لأن الصحابة رضي الله عنهم إنما أخذوا القران من النبي صلّى الله عليه وسلّم لكن لم يأخذ به أحد من القراء، وقد يمنع منه؛ إذ ظن أنه لن يؤدي الغرض.
__________
(1) انظر: سنن القراء ص 15، مرجع سابق.
(1/113)
________________________________________
ومما يتنبه له: أنه تجوز القراءة على الشيخ ولو كان غيره يقرأ عليه في تلك الحالة إذا كان بحيث لا يخفى عليه حالهم وقد كان الشيخ علم الدين السخاوي يقرأ عليه اثنان وثلاثة في أماكن مختلفة ويرد على كل منهم، وكذا لو كان الشيخ مشتغلا بشغل اخر كنسخ ومطالعة، وأما القراءة من الحفظ فالظاهر أنها ليست بشرط بل يكفي ولو من المصحف.

المطلب الثالث: العرضة الأخيرة:

حقيقتها وإثبات وجودها:
العرضة من العرض، وهي مأخوذة من معارضة النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على جبريل عليه السّلام ومعارضة النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على أصحابه، والمعارضة هنا مفاعلة؛ لأنها ثبتت في حديث المعارضة «1» ... وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى اخر معارضة له مع جبريل عليه السّلام بقوله: «أن جبريل عليه السّلام كان يعارضني بالقران كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين ... » «2» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان يعرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم القران كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه «3» .
الهدف العام من معارضته صلّى الله عليه وسلّم له عليه السّلام بالقران كل سنة: لتتم مقابلة ما حفظه صلّى الله عليه وسلّم على ما أوحاه إليه جبريل عليه السّلام عن الله سبحانه وتعالى ليبقى ما بقي، ويذهب ما نسخ توكيدا واستثباتا وحفظا، ومراجعة للمحفوظ، ولتكون سنة رمضانية في الاتصال بالقران الكريم من جميع الأمة.
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في: تلقي النبي ألفاظ القران الكريم ص 177، مرجع سابق.
(2) صحيح البخاري (5/ 2317) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1911) ، مرجع سابق.
(1/114)
________________________________________
وبعد أن علمنا أن جبريل عليه السّلام كان يعارض النبي صلّى الله عليه وسلّم القران في ليل رمضان، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعارض أصحابه رضي الله عنهم وأئمة الإقراء منهم خاصة ما كان يعارضه جبريل عليه السّلام في وقت اخر ... فهو صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ الرسالة، وكيف يبلغها ولم يعلمهم ويتثبت من حفظهم؟ ومما يدل على إثبات هذه العرضة على أصحابه رضي الله عنهم ما جاء عن سمرة رضي الله عنه قال: عرض القران على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرضات فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة «1» ، ويدل له ما سيأتي من إثبات شهود ابن مسعود للعرضة الأخيرة، فهم كانوا يعارضون القران على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبذا تم التيقن من ثبوت كامل القران كتابة وحفظا عند أئمة الإقراء.
وأما معنى قول الزهري: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن الله سبحانه وتعالى تابع الوحي على رسوله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي، ثم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد. هذا لفظ البخاري؛ ولمسلم: إن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» ، فقال فيه أبو شامة: «يعني عام وفاته أو حين وفاته، يريد أيام مرضه كلها، كما يقال: يوم الجمل ويوم صفين، وكانت أياما» «3» ، والظاهر عند الباحث أن المراد من كلام أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما توفي حتى اكتمل الوحي، ولذا نزل كثير منه في الفترة التي سبقت وفاته، وقد تمتد لتكون أكثر من سنة، وعرض ذلك في رمضان إلا ايات قلائل محصورة هي التي قيل إنها اخر ما نزل من القران، فليس ما ذكره خارجا عن العرضة.
__________
(1) الحاكم (2/ 250) ، مرجع سابق، وقال ابن حجر في الفتح (9/ 44) ، مرجع سابق: «وإسناده حسن» .
(2) البخاري (4/ 1906) ، مسلم (4/ 2312) ، مرجع سابق.
(3) المرشد الوجيز ص 30، مرجع سابق.
(1/115)
________________________________________
ولكن لم يكن يشهد العرضة كل الناس، للاكتفاء بوجوب تبليغ بعضهم البعض:
فقد قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها-: كان فيما أنزل من القران عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهن فيما يقرأ من القران «1» فقولها (وهن فيما يقرأ) «أي يقرؤها بعض الناس لكونهم لم يبلغهم النسخ الواقع في العرضة الأخيرة لقرب عهداهم فلما بلغهم رجعوا وأجمعوا على أنه لا يتلى» «2» وهذا ما قرره بعض العلماء، وللفظ عائشة تقرير اخر عند الباحث- ربما كان أكثر وجاهة- هو أن يكون معنى قولها هذا على سبيل التأكيد البالغ على التحريم بالرضاع بهذا العدد دون نسخه، ولكن ذلك من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم وليس من قول الله جل جلاله، وأرادت التأكيد على الالتزام فعزته إلى القران- وهذا من خواص لغة الصحابة- كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله» قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القران فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فقال عبد الله:
وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عزّ وجلّ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر: 7) .. «3» .
ومن هذا الباب أيضا إطلاق لفظ اية أو نسبته إلى الله سبحانه وتعالى لزيادة التأكيد على ثبوته
__________
(1) مسلم (2/ 1075) ، مرجع سابق.
(2) (السيوطي) أبوالفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911 هـ: الديباج على صحيح مسلم (4/ 61) ، مراجعة: أبو إسحاق الحويني الأثري- دار ابن عفان- الخبر- السعودية.
(3) البخاري (4/ 1853) ، مسلم (3/ 1678) ، مرجع سابق.
(1/116)
________________________________________
بسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» حتى يظن بعضهم أنها من القران نحو ما جاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال: عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
إن الله قد بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه اية الرجم قرأناها، ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف «2» وينظر التعبير الوارد في اخر الحديث (فريضة أنزلها الله) ، وقوله (الرجم في كتاب الله حق) ... كقول ابن مسعود المتقدم.

وتناقل التابعون نبأ وجود هذه العرضة:
فعن ابن سيرين قال: كان جبريل عليه السّلام يعارض النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل شهر رمضان فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين. قال ابن سيرين: فيرجى أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة «3» ، واستنبط بعضهم من كتابة عثمان للمصاحف أنها إنما تمت وفق العرضة الأخيرة فعن ابن سيرين قال: جمع عثمان اثني عشر رجلا من قريش والأنصار منهم أبى بن كعب، وأرسل إلى الربعة «4»
__________
(1) وما زال- بعد هذا- يحتمل توجيها اخر هو أن يكون الحديث المذكور بلفظ يوهم أنه اية أن يكون حديثا قدسيا ... وقد يضطرب الأمر على صحابي أو تابعي فيحسبه قرانا، والأمر القاطع الذي يحسم هذه المسألة مرده إلى التواتر القراني الذي يزيل كل شبهة بإثبات أو نفي ... ولم أجد من أشار إلى هذه المسألة بهذا النوع من المعالجة.
(2) البخاري (6/ 2503) ، مسلم (3/ 1317) ، مرجعان سابقان.
(3) الضياء في المختارة (7/) ، سعيد بن منصور في سننه (1/ 237) ، مرجعان سابقان.
(4) الربعة: إناء مربع كأنه مغطى ملتف يشبه الصندوق ... انظر: النهاية (2/ 189) ، مرجع سابق.
(1/117)
________________________________________
التي في بيت عمر، قال فحدثني كثير بن أفلح- وكان ممن يكتب- قال فكانوا: إذا اختلفوا في الشيء أخروه قال ابن سيرين: «أظنه ليكتبوه على العرضة الأخيرة» «1» .

الجمع بين كتابة زيد للمصاحف في عهد عثمان وشهود ابن مسعود للعرضة:
والنصوص التي بين أيدينا تدل على شهود ابن مسعود للعرضة الأخيرة، وأنه تعلم من النبي صلّى الله عليه وسلّم القران بعد أن عرضه على جبريل عليه السّلام، ويدل لذلك ما رواه أبو ظبيان قال: قال لنا ابن عباس: أي القراءتين تقرؤون؟ قلنا قراءة عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض عليه القران في كل عام مرة وإنه عرض عليه العام الذي قبض فيه مرتين فشهد عبد الله ما نسخ «2» ، وفي لفظ عنه: قال ابن عباس: أي القراءتين تعدون القراءة الأولى؟ قالوا: قراءة عبد الله. قال: قراءتكم القراءة الأولى وقراءة عبد الله القراءة الاخرة! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض عليه القران كل رمضان عرضة، فلما كان العام الذي قبض فيه عرض عليه عرضتان فشهده عبد الله، وشهد ما نسخ منه وما بدل «فقراءة عبد الله الاخرة» «3» ، وورد عن زر بن حبيش الأسدي «4» ، وورد عن مجاهد «5» ، وقد بين في بعض ألفاظ هذا الحديث ماذا يعنون بالقراءة الاخرة، وأنها قراءة زيد فعن ابن عباس قال: أي
__________
(1) فتح الباري (9/ 19) ، مرجع سابق.
(2) الضياء في المختارة (9/ 542) ، مرجع سابق.
(3) النسائي في الكبرى (5/ 7) ، مرجع سابق، وقال ابن حجر في الفتح (9/ 45) ، مرجع سابق: «وإسناده صحيح» .
(4) الطبراني في الكبير (12/ 103) ، مرجع سابق.
(5) مسند أحمد (1/ 275) ، مرجع سابق، وفي مجمع الزوائد (9/ 288) ، مرجع سابق، قال: «رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح» .
(1/118)
________________________________________
القراءتين ترون كان اخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد. قال: لا! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض القران كل سنة على جبريل عليه السّلام فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عليه عرضتين فكانت قراءة ابن مسعود اخرهن «1» وقال: إنه لاخر حرف عرض به النبي صلّى الله عليه وسلّم على جبريل عليه السّلام «2» .
ومما تقدم من الروايات يظهر لنا أن ابن مسعود شهد العرضة الأخيرة بإثبات ابن عباس، وإثباته هو رضي الله عنه، فقد ورد صريحا عنه رضي الله عنه فقد قال رضي الله عنه متحدثا عن أخر عام عرض فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على جبريل عليه السّلام، وكان عرضه عرضتين-: فقرأت القران من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك العام، والله لو أني أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغينه الإبل لركبت إليه والله ما أعلمه «3» .
وتدل الروايات السابقة على أن عبد الله بن مسعود شهد العرضة الأخيرة، وهذا يدل على سماعه ما هو أكثر من اثنتين وسبعين سورة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك لأن النازل من سور القران الكريم حتى العرضة الأخيرة كان أكثر من ذلك قطعا، وإنما أثبت لنفسه هذه السور من فم النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن الظاهر من ذلك أنه تلقنها بمفرده مباشرة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذا جاء في رواية عنه: «فلقد أخذت من فيه صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة ما نازعني فيها بشر» «4» وأما العرضة فهي عامة، والظاهر من العرضة على الناس إنها سماع منهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم لا عرض، وقد ذكر أنه أتم الباقي على علي بن أبي طالب، فعنه رضي الله عنه قال: قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين
__________
(1) الحاكم (2/ 250) ، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (9/ 44) ، مرجع سابق.
(3) (ابن سعد) محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (168 هـ- ت 230 هـ) : الطبقات الكبرى (2/ 194) ، دار صادر بيروت.
(4) ابن حبان (14/ 433) ، أبو يعلى (8/ 403) ، مرجعان سابقان.
(1/119)
________________________________________
سورة وختمت القران على خير الناس علي بن أبي طالب «1» ... وفي كل الأحوال فزعم عدم ختمه قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يرقى إلى مستوى الرأي المطروح مع هذه القرائن الدالة على إتمامه المصحف، وسماعه كل ما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى اخر رمضان قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأقل، وهذا الزعم لو صح لكان كافيا للرد على ابن مسعود في تقديم زيد عليه، وماذا يقول من ينفي ختم ابن مسعود في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم بحديث: «خذوا القران من أربعة من بن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة» «2» ؟ فقرنه صلّى الله عليه وسلّم بكبار أئمة الإقراء، بل بسيد سادات القراء وهو أبي بن كعب، وقدمه عليهم.
وقد قرر مكي بن أبي طالب ذلك بما يشبه هذا- ضمن احتمالات وضعها-:
«وأما ابن مسعود فإنه قال: قرأت من لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة، وقد كنت أعلم أنه يعرض عليه القران في كل رمضان حتى كان عام قبض، فعرض عليه القران مرتين، قال: فكان إذا فرغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرأ عليه فيخبرني أني محسن، فأما ما بقي عليه فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقوم سماعه منه مقام قراءته عليه من القران ... » «3» ، وأما الاحتمالات الاخرى التي ذكرها مكي فيردها ما سبق. وما ورد مما ينافي حفظ ابن مسعود لبعض السور فضعيف، ويظهر منه أن تصوره كاف في إبطاله.. «4» ..
__________
(1) مجمع الزوائد (9/ 288) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني وفيه يحيى ابن سالم وهو ضعيف» والحديث بحاجة لزيادة تمحيص ليتم قبوله أو رده، والظاهر أنه إن صح فالمراد العرض مرة ثانية ... وإلا فما حاجة ابن مسعود لذلك وقد شهد العرضة الأخيرة؟.
(2) البخاري (3/ 1385) ، مسلم (4/ 1913) ، الحاكم (3/ 250) ، الترمذي (5/ 674) ، مراجع سابقة.
(3) (القيسي) مكي بن أبي طالب حموش القيسي 437 هـ: الإبانة عن معاني القراات ص 117، قدم له وحققه، وعلق عليه، وشرحه، وخرج قرااته: الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شبلي: المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة.
(4) انظر الأصل ففيه تفصيل حول تلك الروايات.
(1/120)
________________________________________
إثبات حفظ ابن مسعود للقران الكريم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم:
فثبت- بما سبق- إكمال ابن مسعود رضي الله عنه القران على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقائل بأن ابن مسعود لم يكمل القران أراد تبرير تقديم أبي بكر وعمر وعثمان لزيد، ولكن لا ينبغي أن يؤتى بمبرر خاطئ ينفي حقيقة حفظ ابن مسعود رضي الله عنه وجلالته في علم القران وعلم القراءة:
فأما ملازمة زيد للنبي ف فهي للكتابة أما الملازمة بغير ذلك فما أكثر ما لازمه ابن مسعود رضي الله عنه حتى كان يلقب ب «صاحب النعلين والطهور والوساد، والسواد وهو السرار» «1» ، وحتى كان أشبه الناس هديا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعن عبد الرحمن بن يزيد قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:
ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من ابن أم عبد «2» ، ومن شدة ملازمته رضي الله عنه ظنّ الناس أنه من ال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينا ما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» ، بل روى علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت مستخلفا أحدا عن غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد» «4» .
ومن الثناء البديع على ابن مسعود رضي الله عنه مما يمثل مؤهلا كبيرا له لنسخ المصاحف: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وكرهت
__________
(1) البخاري (1/ 69) ، و (3/ 1368) ، مرجعان سابقان.
(2) البخاري (3/ 1383) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (3/ 1383) ، مرجع سابق.
(4) ابن أبي شيبة (6/ 384) ، الطبراني في الأوسط (6/ 272) ، مرجعان سابقان.
(1/121)
________________________________________
لأمتي ما كره لها ابن أم عبد» «1» فقد رضي لها النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يرضاه ابن أم عبد في عامة أمورها، وأما في خصوص الإقراء فتقدم حديث: «خذوا القران من أربعة من بن أم عبد فبدأ به ... » .
ومضت منزلة ابن مسعود رفعة وقوة في حياة الأمة فروى حذيفة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما واهتدوا بهدي عمار بن ياسر وتمسكوا بعهد ابن أم عبد» «2» ، وشهادة حذيفة كافية في هذا الباب؛ إذ يقول: «لقد علم المحظوظون من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله وسيلة» «3» .
ومنزلة ابن أم عبد في القراءة هي منزلته حتى فاق في نظر بعض العلماء منزلة أبي كما قال بعض أهل العلم: «فإن قيل فهل لأحد من الصحابة من الرتبة في القران مثل ما لأبي منها؟ قلنا: لعبد الله بن مسعود زيادة على ما وجدناه لأبي ... » «4» ، وشهد الصحابة له بذلك فقد اجتمع بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار أبي موسى رضي الله عنه وهم ينظرون في مصحف فقام عبد الله، فقال أبو مسعود: ما أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترك بعده أحدا أعلم بما أنزل الله عز وجل من هذا القائم، فقال أبو موسى: أما لأن قلت ذاك لقد كان يشهد إذا غبنا ويؤذن له إذا حجبنا «5» ... فماذا بعد هذه المؤهلات العظيمة من أدلة تدل على تمام حفظ ابن
__________
(1) ابن أبي شيبة (6/ 384) ، والطبراني في الأوسط (7/ 70) ، مرجعان سابقان.
(2) ابن أبي شيبة (7/ 433) ، الطبراني في الأوسط (6/ 76) ، مرجعان سابقان.
(3) الطبراني في الأوسط (3/ 20) ، مرجع سابق.
(4) (أبو المحاسن) يوسف بن موسى الحنفي أبو المحاسن: المعتصر من المختصر من مشكل الاثار (2/ 361) ، عالم الكتب، مكتبة المتنبي، بيروت، القاهرة.
(5) مسلم (4/ 1912) المعجم الكبير (9/ 90) ، مرجع سابق.
(1/122)
________________________________________
مسعود وقوة أهليته في علم القران؟ ولذا كان يملي المصاحف في عهد عمر من حفظه بإقرار عمر رضي الله عنه ورضاه.
وأما رواية من روى عن ابن مسعود أنه سئل عن طسم فقال: «لا أحفظها سل خبابا عنها» «1» فدليل على ما قرره البحث؛ إذ ليس هكذا لفظها بل لفظها ما جاء عن معديكرب قال أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال:
ما هي معي ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبّاب بن الأرتّ قال:
«فأتينا خبّاب بن الأرتّ فقرأها علينا» «2» ، فترك إقراءها لا لعدم حفظه، بل لعدم تلقيها مباشرة من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأشار عليهم بالإسناد العالي.
وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في عبد الله بن مسعود: «من أحب أن يقرأ القران غضا كما أنزل فليقرأه على رواية ابن أم عبد» «3» «فمؤهل ظاهر له في علم القران ... ولا شك أن التحقيق العلمي يثير علامة استغراب حول ما تأوله بعضهم في معناه، وأن عبد الله بن مسعود كان يرتل القران فحض النبي صلّى الله عليه وسلّم على ترتيل مثل ترتيله لا غير» «4» ، فهذه المنقبة مالها استحالت مثلبة؟ وفي هذا التأويل نظر أيضا- إن اكتفي به-، بل مراده جودة الأداء، وإتقان الحفظ ... ، وهذا الذي فهمه عمر رضي الله عنه من الحديث أن المراد الحفظ مع إتقان الأداء فعن قيس بن مروان قال: أتى رجل عمر فقال: يا أمير المؤمنين! قد تركت بالعراق رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب.
فغضب عمر رضي الله عنه حتى احمر وجهه فقال له: عمر اعلم ما تقول! مرارا فقال:
__________
(1) انظر: الناسخ والمنسوخ ص 483، مرجع سابق.
(2) أحمد (1/ 419) ، المعجم الكبير (4/ 55) ، مرجعان سابقان، مجمع الزوائد (7/ 84) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد ورجاله ثقات ورواه الطبراني» .
(3) المختارة (1/ 93) ، مرجع سابق.
(4) انظر: الناسخ والمنسوخ ص 483، مرجع سابق.
(1/123)
________________________________________
ما أتيتك إلا بحقّ فقال عمر رضي الله عنه: من هو؟ قال: ابن أم عبد. فسكن حتى ذهب عنه الغضب ثم قال: ما أصبح على ظهر الأرض أحد أحق بذلك منه، وسأحدثكم عن ذلك: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمر في بيت أبي بكر رضي الله عنه ذات ليلة لبعض حاجته حتى أعتم، ثم رجع بيني وبين أبي بكر حتى انتهيت إلى المسجد إذا رجل من المهاجرين يصلي فقام فتسمع لقراءته ما أدري أنا وصاحبي من هو قال:
فلما قام ساعة قلت: يا رسول الله! رجل من المهاجرين يصلي لو رجعت وقد أعتمت قال: فغمزني وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يستمع لقراءته قال: فركع وسجد ثم قعد يدعو فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سل تعطه! سل تعطه!» ولا أدري أنا وصاحبي من هو، حتى سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سره أن يقرأ القران غضا كما أنزل فليقرأه كما يقرأ ابن أم عبد» قال: فذلك حين علمت أنا وصاحبي من هو، قال: فغدوت إلى عبد الله لأبشره فقال: قد سبقك أبو بكر، وأيم الله ما سابقت أبا بكر إلى خير إلا سبقني «1» ، ولكن مع أنهما بشراه إلا أنهما لم يولياه أمر المصحف في عهد أبي بكر لعلة ظاهرة تأتي الإشارة إليها. فقد اجتمع لابن أم عبد الجليل حديثان يأمران بالأخذ عنه حفظا وإتقانا للترتيل والأحكام ...

العرضة الأخيرة هي قراءة العامة:
يظهر أن الذي جمعه زيد في عهد عثمان هي قراءة العامة كما ورد هذا المصطلح في غير ما موضع من البخاري «2» كقوله: «قراءة العامة يُطِيقُونَهُ (البقرة: 184) » «3» .
__________
(1) المختارة (1/ 385) ، مرجع سابق، وقال في مجمع الزوائد (9/ 288) ، مرجع سابق: «رواه البزار وإسناده حسن» .
(2) انظر: البخاري (3/ 1216) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1638) ، مرجع سابق، وورد هذا المصطلح في المختارة (7/ 180) ، مرجع سابق.
(1/124)
________________________________________
وقراءة العامة لابد أن تكون العرضة الأخيرة قد اشتملت عليها لأنها العامة! ... وهذا الذي قاله عبيدة السلماني: «القراءة التي عرضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم» «1» .
وبعد سرد ما تقدم: يمكن أن يقرّر أن العرضة الأخيرة ليست حكرا على زيد ولا على ابن مسعود لأنها العامة أيضا، وإن لم يحضرها كل الصحابة فإنه لا ريب في حضور جمع كبير من أئمة الإقراء لها، لأنها العامة أيضا ...

اجتماع ابن مسعود وزيد في العرضة الأخيرة:
قرر ابن عباس أن الذي شهد العرضة الأخيرة هو ابن مسعود رضي الله عنه وهو ما صرح به ابن مسعود من قوله مع أن ابن عباس إنما تتلمذ على زيد وأبي في القراءة «2» ، وكان ابن عباس يجل زيدا ويعظمه، فليس يتجنى عندما يشهد لابن مسعود، والذي يثبت أن زيدا هو الذي شهد العرضة الأخيرة هم التابعون كأبي ظبيان ومجاهد وزرّ وجماعات ... ويردهم ابن عباس لكن بلفظ يثبت شهود العرضة الأخيرة لابن مسعود دون أن ينفي شهود زيد بن ثابت لها ... وقد يقال ها هنا: إن ابن عباس أراد نفي ما زعموه بشأن تغيب ابن مسعود عن العرضة الأخيرة لا إثبات تغيب زيد، وقد يسوغ عند هذا أن نقول بأن زيدا حضر هذه العرضة أيضا وهو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم «3» ، ويعضده أن زيدا هو كاتب
__________
(1) ابن أبي شيبة (6/ 154) ، مرجع سابق.
(2) انظر إثبات ذلك في ترجمة زيد بن ثابت عند: (القيسراني) محمد بن طاهر بن القيسراني ت 507 هـ: تذكرة الحفاظ (1/ 30) ، تحقيق: حمدي عبد المجيد إسماعيل السلفي، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1415 هـ، وكذلك في ترجمة ابن عباس في: يوسف بن الزكي عبد الرحمن أبو الحجاج المزي ت 742 هـ: تهذيب الكمال (ص 15/ 155) ، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400- 1980.
(3) انظر مثلا: سير أعلام النبلاء 1/ 488، مرجع سابق، مناهل العرفان 1/ 174، مرجع سابق.
(1/125)
________________________________________
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الملازم، وتقديم زيد أقوى لذلك، وهو الذي أجمع عليه الصحابة في عهد أبي بكر رضي الله عنه وهم الأكابر، على أن بعض الوحي قد نزل بعد رمضان، والكاتب المتلقن الملازم يقدم على الكاتب المتلقن غير الملازم.

السبب الحقيقي لتقديم زيد في جمع المصحف المصاحف ونسخه:
وبعد هذا البحث عن العرضة الأخيرة، وتقرير حضور ابن مسعود رضي الله عنه لها يمكن للباحث القول بأن البعض قد جانبه الصواب حينما جعل معيار تقديم زيد هو حضور العرضة الأخيرة «1» ، والذي نريد تقريره هنا لتتضح الصورة الكلية أن زيد بن ثابت رضي الله عنه ما تولى كتابة المصاحف في عهد عثمان إلا رئيسا للجنة قامت بهذا العمل، شارك فيها أبي- وكذلك في عهد أبي بكر-، وأما ابن مسعود فلم يكن في المدينة حيث كان العمل لنعلم أيعزل عنها كما قال هو أم لا، والأمر كان أعجل من أن يؤخر حتى يرسل إلى ابن مسعود ليأتي من الكوفة حيث المسافة ذهبا وإيابا تقرب من شهرين، مع وجود الأكفاء، ثم وجد الكاتب الإمام الذهبي يقرر هذا التقرير ذاته حيث قال: «إنما شق على ابن مسعود لكون عثمان ما قدمه على كتابة المصحف، وقدم في ذلك من يصلح أن يكون ولده وإنما عدل عنه عثمان لغيبته عنه بالكوفة ولان زيدا كان يكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو إمام في الرسم، وابن مسعود إمام في الأداء» «2» .
وأما أيام أبي بكر رضي الله عنه فإن المؤهل الذي قدم زيدا على ابن مسعود مع إجلال أبي بكر وعمر له- وهما راويا حديث «من أحب أن يقرأ القران غضا ... » -
__________
(1) انظر مثلا في: مختارات فصول الجاحظ- مخطوط مصور بدار الكتب رقم 24069، وعنه نقل (دكتور) عبد الصبور شاهين: تاريخ القران ص 123، دار القلم 1966 م، وعنه نقلا مؤلفا كتاب معجم القراات القرانية ص 9 معتبرين إجابة الجاحظ إجابة حكيمة واعية- وهي كذلك- لولا أنها مبنية على وهم.
(2) سير أعلام النبلاء (1/ 488) ، مرجع سابق.
(1/126)
________________________________________
أن ابن مسعود لم يكن في المدينة فيما يظهر، بل كان على النفل في اليرموك، وهذا يدل على أنه كان في حرب خارج المدينة ... هذا بالإضافة إلى أن زيدا كان الكاتب الملازم وهو سبب قوي ذكره الشيخان في محاورتهما لزيد وإقناعه بأن يتولى ذلك.
وثمة أسباب أخر ليس هذا ميدانها ولا مكان بسطها.

مشكل قراءة منسوبة لابن مسعود وأبي الدرداء:
عن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء فقال: أفيكم أحد يقرأ علي قراءة عبد الله؟ فقلت: نعم! أنا قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الاية وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قال: سمعته يقرأ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى والذَّكَرَ وَالْأُنْثى قال:
وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ وَما خَلَقَ فلا أتابعهم «1» فهذه القراءة المنسوبة للشيخين شاذة، وفي الحديث علة ظاهرة توجب إما التأويل وإما الاطّراح، وهي:
أولا: مخالفة رجال سند هذا الحديث لكل الأمة الإسلامية في هذه الرواية، وليست المخالفة لأربعة أو لخمسة من الثقات حتى تصير رواية الأقل شاذة لمخالفتها رواية الأكثر على ما هو مقرر في مصطلح الحديث.. وهذه علامة تعجب من بعض الذين يشذذون رواية في صحيح مسلم، ومع ذلك لا يشذذون ما ورد في هذا الحديث؟.
ولذا قال الشافعي: «من متناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القران وبين رد الزيادة التي ينفرد بعض الرواة الثقات مع العلم بأن سبيل إثبات القران أن ينقل استفاضة وتواترا» «2» .
__________
(1) البخاري (3/ 1368) ، مسلم (1/ 565) ، مرجعان سابقان.
(2) البرهان (1/ 426) ، مرجع سابق.
(1/127)
________________________________________
ثانيا: مخالفة رجال السند في هذا الحديث لأهل المصرين اللذين انتشرت فيهما قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء: الكوفة والشام، وقراءة علقمة لها يدل على أنها سادت في الكوفة ولو لفترة قريبة لكننا لم نسمع همسا في الكوفة فضلا عن الشام، وتعجب من ذلك ابن حجر فقال: «والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة وعن ابن مسعود وإليهما تنتهي القراءة بالكوفة، ثم لم يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام حملوا القراءة عن أبي الدرداء، ولم يقرأ أحد منهم بهذا فهذا مما يقوي أن التلاوة بها نسخت» «1» ، ولعل في القول بالنسخ نظرا؛ إذ ثم موازين دقيقة وضعها علماء الحديث كان ينبغي بحث هذا الحديث في ضوئها أيضا مثل القلب، والاضطراب، والشذوذ.
ومما يؤكد الرد السابق: أن ابن عامر القارئ الرابع من السبعة قرأ على أبي الدرداء اتفاقا مباشرة، وهو قارئ أهل الشام وقراءته إلى القرن الخامس الهجري كانت هي الغالبة على أهل الشام ... فما باله لم ينقل هذه القراءة؟ ولذا نؤكد على أن منهج إثبات القراءة هو التلقي، وليس البحث في السطور التي يعتريها الوهم، أو الشذوذ، ولا يؤمن فيها من الدس ...
أما تقرير من قال بأن العرضة الأخيرة كانت وفق قراءة زيد لأنه حضرها فقد بينا أن النصوص الموجودة تبين حضور ابن مسعود بصورة أصرح من حضور زيد (مع التأكيد على حضور زيد كما سبق) ، والفارق بين قراءة زيد وابن مسعود غير ظاهر، وقد نظّر بعض المحققين على من زعم أن قراءة زيد هي السائدة؛ إذ كان هدف نسخ المصاحف في عهد عثمان تعميم المصاحف، وإعطاء الشرعية للقراات، وابن مسعود لم بغضب لأنه سيجبر على قراءة زيد بل لتولية زيد دونه
__________
(1) فتح الباري (8/ 707) ، مرجع سابق.
(1/128)
________________________________________
مع كبر سن ابن مسعود وأهليته «وأيضا فمن المحال أن يكون عثمان أقرأ الخلفاء، وأقدمهم صحبة وكان يحفظ القران كله ظاهرا ويقوم به في ركعة ... ويترك قراءته التي أخذها من فم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويرجع إلى قراءة زيد وهو صبي من صبيانه» «1» .
ولذا فإن الذي يمكن استنتاجه مما سبق أن الفرق بين عرضات القران المتتابعة يسير- حتى مع القول بوجود النسخ- ولعل الفرق الظاهر الجلي بينها هو ما يزيد من القران مما نزل منه في السنة الجديدة.

المطلب الرابع: التعليم القراني العام:
يدرس هذا المطلب وجود الصبغة الإلزامية للتعليم القراني، وتعميمه على كافة فئات المجتمع، وجعله مادة أساسية للمسلمين دون استثناء، وتشجيعه برفده بما يجعل تعلم جزء من القران اختياريا له مبررات النمو، ولذا ينقسم الكلام فيه إلى: كيفية الإقراء، الكلام عن التعليم الإلزامي، والتعليم غير الإلزامي، واستتبع هذا الكلام عن أخذ الأجرة على تعليم القران الكريم، والقول الراجح فيها، وأثر ذلك على نشر التعليم القراني.

كيفية الإقراء:

الإقراء الجماعي العام، والإقراء الفردي الخاص:
التلقين للصحابة قد يأخذ الصبغة الخاصة بإقراء النبي صلّى الله عليه وسلّم لحلقة أو لصحابي معين للايات، وقد يأخذ الصبغة العامة بالقراءة على الجمع الكثير في المسجد وهم يتلقون الايات، مع بقاء الصبغة الخاصة: كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: لما نزلت الايات من
__________
(1) (ابن حزم) علي بن أحمد بن حزم الأندلسي أبو محمد ت 456 هـ: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 268) ، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1404 هـ.
(1/129)
________________________________________
اخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد فقرأهن على الناس ثم حرم التجارة في الخمر «1» .
وكانت المجامع العامة المعتادة فرصة لقراءة ايات جديدة نزلت، أو التذكير بايات أخرى فعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم فذكرنا أيام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال: متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلا الان؟ فأشار إليه: أن اسكت فلما انصرفوا قال:
سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني؟ فقال أبي: «ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت» فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر له وأخبره بالذي قال أبي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق أبي» «2» .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك أيضا فيما بينهم، فيقرأ قارئ منهم وهم يستمعون، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّهم كانوا جلوسا يقرؤن القران ويدعون.. «3» ..
وقد يقوم بالقراءة العامة أصحابه (تلاميذه) رضي الله عنهم فيقرؤون على الناس في المجامع العامة السورة بأكملها: فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه حتى إذا كان بالعرج ثوب بالصبح ثم استوى ليكبر فسمع الرغوة خلف ظهره فوقف على التكبير، فقال:
__________
(1) البخاري (2/ 743) ، مسلم (3/ 1206) ، المنتقى لابن الجارود (1/ 149) ، ابن حبان (11/ 318) ، مراجع سابقة.
(2) ابن ماجة (1/ 352) ، مرجع سابق، وفي مصباح الزجاجة (1/ 134) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» .
(3) أبو داود (3/ 323) ، أحمد (3/ 96) ، أبو يعلى (2/ 382) ، الطبراني في الأوسط (3/ 348) ، مراجع سابقة.
(1/130)
________________________________________
هذه رغوة ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد بدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحج فلعله أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنصلي معه فإذا علي عليها فقال له: أبو بكر أمير أم رسول؟
فقال: لا! بل رسول أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، فقدمنا مكة فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ، قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون فعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ براءة علي على الناس حتى ختمها «1» .

الإقراء الفردي:
ونظام الحلقات، والقراءة العامة لم يمنع من الإقراء الفردي، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستقرئون النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيقوم بإقرائهم: فعن ابن عباس في قوله جل جلاله: عَبَسَ وَتَوَلَّى (عبس: 1) قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وكان يتصدى لهم كثيرا ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له: عبد الله بن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم فجعل عبد الله يستقرىء النبي صلّى الله عليه وسلّم اية من القران وقال: يا رسول الله! علمني مما علمك الله فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبس في وجهه
__________
(1) النسائي في الكبرى (2/ 416) ، مرجع سابق.
(1/131)
________________________________________
وتولى وكره كلامه، وأقبل على الاخرين.. «1» .، وكما طلب ذلك منه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: تبعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما وهو راكب فوضعت يدي على يده فقلت: يا رسول الله! أقرئني من سورة هود ومن سورة يوسف.. «2» ..

والأصل أن يقوم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإقراء:
إلا أن يشغله شاغل فيحيل المستقرئ على أحد عرفاء الإقراء أو أئمته الذين قام بتأهيلهم صلّى الله عليه وسلّم، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشغل فإذا قدم الرجل مهاجرا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دفعه إلى رجل منا يعلمه القران.. «3» .،
وعن أبي سعيد رضي الله عنه وكان قرأ القران على أبي هريرة قال: ما قرأت القران إلا على أبي هريرة هو أقرأني «4» .
وقد استبان لنا من هيئة جلسة الصحابة بين يديه صلّى الله عليه وسلّم في القراءة الفردية:
الهيئة التي ذكرها ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القران التحيات لله.. «5» .، فالتشبيه يحتمل شمولاه لهيئة الجلوس مع التدقيق في الحفظ وإتقان الأداء.
__________
(1) الطبري (30/ 51) ، مرجع سابق، وأخرجه عن عائشة مختصرا ابن حبان (2/ 293) ، الترمذي (5/ 432) ، مرجعان سابقان.
(2) ابن حبان (3/ 75) ، النسائي في الكبرى (1/ 330) ، مرجع سابق.
(3) المختارة (8/ 266) ، مرجع سابق.
(4) الطبري (28/ 226) ، مرجع سابق.
(5) البخاري (5/ 2311) ، مسلم (1/ 302) ، مرجع سابق.
(1/132)
________________________________________
تعميم التعليم القراني:

أولا: التعليم القراني الإلزامي:
كان من أسس رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلزام المسلمين بالارتباط بالقران الكريم تلاوة وتعلما لأصل اللفظ ولأدائه يوميا، وتمثلت مظاهر هذا الإلزام في عدة أساليب تربوية:
1- ربط صحة أعظم عبادة يومية بإتقان شيء من القران الكريم: فاتحة كتاب أو ما يقوم مقامها، ولا بد من إخراج حروفها من مخارجها، وإعطائها حقها ومستحقها.
2- وسم من لم يقرأ عشر ايات في اليوم بالغافلة في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين» «1» .
3- الأمر بتلاوة الكتاب عموما، وهو أمر يقتضي الوجوب، ويصدق على أقل ما يسمى قرانا كما في قوله جل جلاله: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ (الكهف: 27) .
4- الإشارة إلى ذم من لم يتعلم سورا بعينها: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلموا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» «2» .
5- وجوب تعليمه على من علمه بدون أخذ أجرة في مقابله ما دام لم يتفرغ لذلك كليا أو جزئيا ... لأن منع تعليمه كتمان للعلم، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ
__________
(1) الحاكم (1/ 742) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» .
(2) مسلم (1/ 553) ، مرجع سابق..
(1/133)
________________________________________
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة: 159) ، وقد تقدم وجوب التبليغ ولو لاية واحدة.
وكتطبيق لهذا نرى النبي صلّى الله عليه وسلّم يرسل المقرئين إلى البلاد التي دخلها الإسلام:
كإرساله مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم إلى المدينة، وكذلك أرسل إلى البلاد التي ترغب بالدخول في الإسلام كإرساله السبعين مقرئا إلى قبائل نجد التي زعم أصحابها أنهم دخلوا في الإسلام:
فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه رعل وذكوان وبنو لحيان فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدوا على قومهم، فأمدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبعين رجلا من الأنصار كنا ندعوهم القراء كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، فلما بلغوا بئر معونة، غدروا بهم فقتلوهم، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقنت شهرا في صلاة الصبح يدعو عليهم «1» .
وهذا كله مقتض من الناحية المنهجية إنشاء المؤسسات الخاصة بتعليم القران الكريم، وإيجاد الاليات المناسبة لذلك، ويكون هذا من أهم واجبات الدولة، ولذا فلابد من أن يكون تعلم القران الكريم جزا من الحياة التعليمية للطالب المسلم في مرحلة التعليم العام، أو التعليم المتخصص الجامعي أيا كان تخصصه، ولا ينبغي أن تكون للرياضة وزارة خاصة ويقل القران عن أن تكون له الرعاية ذاتها، وإن كانت المقارنة هنا غير قائمة ... والمراد الاعتناء بالجوانب القرانية اللفظية الخاصة، وإلا فالأصل صدور كل تصرفات الأمة عن هدي القران.
__________
(1) مسلم (1/ 469) ، البخاري (1/ 340) ، أبو عوانة في مسنده (4/ 464) ، مراجع سابقة.
(1/134)
________________________________________
ثانيا: التعليم الذاتي: (التعليم غير الإلزامي) :
وتمثل هذا النوع في الحث الشديد لكل أفراد الأمة ليحصّلوا أكبر قدر ممكن من فرض الكفاية في تعلم اللفظ القراني سواء من حيث الكمية، أو من حيث الهيئات والظواهر الصوتية التي تتصل بالجوانب اللفظية للقران الكريم، ومن هذه المظاهر:
1- بيان الأجر العظيم لمن يعلم ولده القران: فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ القران وعمل بما فيه ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا فما ظنكم بالذي عمل بهذا» «1» .
2- بيان تميز حافظ القران، وغناه ولو بايات معدودة: فعن أنس ابن مالك صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل رجلا من صحابته فقال:
«أي فلان هل تزوجت؟» قال: لا! وليس عندي ما أتزوج به. قال: «أليس معك قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أليس معك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أليس معك إِذا زُلْزِلَتِ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أليس معك إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أليس معك اية الكرسي؟» قال: بلى! قال: «ربع القران» ، قال: «تزوج تزوج تزوج» «2» .
3- وكان هذا الحث يصل إلى حد الاستفزاز للفعل فعن عبد الله بن عمرو أن أبا أيوب الأنصاري كان في مجلس وهو يقول: ألا نستطيع أن نقوم بثلث القران
__________
(1) أبو داود (2/ 70) ، أحمد (3/ 440) ، مرجعان سابقان، وانظر: لمحات الأنوار رقم 57، مرجع سابق.
(2) رواه الترمذي (5/ 166) ، مرجع سابق، وقال: «حسن» ، وانظر: لمحات الأنوار رقم (1522) ، مرجع سابق.
(1/135)
________________________________________
كل ليلة؟ قالوا: وهل نستطيع ذلك؟ قال: فإن قل هو الله أحد ثلث القران، قال فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يسمع أبا أيوب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق أبو أيوب» «1» .
4- تسمية سور مخصوصة وربطها بالحوادث الدينية والكونية: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «ومن قرأ سورة الكهف كما أنزلت ثم أدرك الدجال لم يسلط عليه ولم يكن له عليه سبيل ومن قرأ خاتمة سورة الكهف أضاء نوره من حيث قرأها ما بينه وبين مكة» «2» ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: مات رجل فجاءته ملائكة العذاب فقعدوا عند رأسه فقال: لا سبيل لكم عليه قد كان يقرأ لي سورة الملك، فجلسوا عند رجليه، فقال لا سبيل لكم إنه كان يقوم علينا يقرأ سورة الملك، فجلسوا عند بطنه، فقال لا سبيل لكم عليه إنه أوعى في سورة الملك فسميت المانعة «3» .
5- ومن أساليب النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحث على حفظ السور، وتعظيم القران مما يؤدي إلى الحفظ الذاتي: الترغيب بأقوى الأساليب الصادقة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي بن كعب ... قال: «أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟» قلت: نعم أي رسول الله! قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأرجو ألاأخرج من هذا الباب حتى تعلمها» ، قال: فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث فلما دنونا من الباب، قلت: أي رسول الله ما
__________
(1) مجمع الزوائد (7/ 147) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف» .
(2) عبد الرزاق (3/ 378) ، مرجع سابق، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي ... انظر: لمحات الأنوار برقم 1018، مرجع سابق.
(3) رواه الحاكم (2/ 540) ، مرجع سابق، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: لمحات الأنوار برقم 1378، مرجع سابق.
(1/136)
________________________________________
السورة التي وعدتني؟ قال: ما تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأت عليه أم القران قال:
والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني «1» ، وعن عبد الله بن جابر الأنصاري رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القران؟» قلت: بلى يا رسول الله! قال: «اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها» «2» .
ونتيجة لذلك فقد انتشر حفظ القران بين كبار الصحابة وصغارهم رضي الله عنهم حتى كان البعض يتلقنه من أفواه المسافرين ويكفيه ذلك كعمرو بن سلمة، وساعد هذا أن الصحابة كانوا أمة يضرب بها المثل في الذكاء والألمعية وقوة الحافظة وصفاء الطبع وسيلان الذهن واحدة الخاطر حتى لقد كان الرجل منهم ربما يحفظ ما يسمعه لأول مرة مهما كثر وطال، وحسبك أن تعرف أن رؤوسهم كانت دواوين شعرهم، وأن صدورهم كانت سجل أنسابهم، وأن قلوبهم كانت كتاب وقائعهم، وأيامهم ثم جاء الإسلام فأرهف فيهم هذه القوى والمواهب، وزادهم من تلك المزايا والخصائص بما أفاد طبعهم من صقل ونفوسهم من طهر وعقولهم من سمو خصوصا إذا كانوا يسمعون لأصدق الحديث وهو كتاب الله «3» .

ثالثا: تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم في مسألة أخذ الأجرة على إقراء القران:
نهاهم النبي صلى الله عليه وسلّم أن يقبلوا أجرا على تعليم القران الكريم، وقال: «من يأخذ على تعليم القران قوسا قلده الله قوسا من نار» «4» ، وقد كثرت الأحاديث في هذا المعنى ... وبناء على هذا منع بعض أهل العلم أخذ الأجرة على تعليم القران
__________
(1) أحمد (2/ 412) ، مرجع سابق.
(2) الضياء في المختارة (9/ 130) ، مرجع سابق، وقال ابن كثير (1/ 11) : «هذا إسناد جيد» .
(3) انظر: مناهل العرفان (1/ 204) ، مرجع سابق.
(4) مجمع الزوائد (4/ 95) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني في الكبير» .
(1/137)
________________________________________
الكريم، وعلة التحريم عندهم هي وجوب هذا التعليم وتعينه على المسلم:
فالتعليم للقران واجب إلزامي عام يجب بذله لمن لم يطلبه فكيف بمن طلبه؟ «1» .
وذهب الجمهور كعطاء ومالك «2» والشافعي وأبي ثور إلى جواز الاستئجار على قراءة القران- بل ذهب إلى ذلك الأئمة الثلاثة، ونقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القران عن العلماء كافة إلا الحنفية- «3» ، وقال الحكم: لم أسمع أحدا كره أجر المعلم «4» ، وأجابوا عن أدلة المانعين، واستدلوا لمذهبهم بأدلة تعليمية صريحة في مشروعية حل الأجرة، ومن أبرز الأدلة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» «5» ، وهذا نص عام، وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصاب برقية باطل فقد أصبت برقية حق كل وأطعم أصحابك» «6» .
وفصّل بعض أهل العلم بالنظر إلى الواقع الحقيقي للمسلمين، فنظر إلى أن المسلمين يشغلون عن ذلك بمعائشهم، وليس فيهم من يقوم به ويكفي الأمة ثغرته، فقال: «أخذ الأجرة على تعليم القران له حالات: فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به حل له أخذ الأجرة عليه لأن فرض ذلك لا يتعين عليه، وإذا كان في حال أو في موضع لا يقوم به غيره لم تحل له الأجرة وعلى هذا يؤول اختلاف الأخبار فيه» «7» .
__________
(1) انظر: بداية المجتهد (2/ 168) ، مرجع سابق.
(2) انظر: الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي: المدونة الكبرى (1/ 62) ، دار صادر، بيروت.
(3) انظر: فتح الباري (9/ 213) ، شرح الزرقاني (3/ 169) ، مرجعان سابقان.
(4) البخاري (2/ 795) ، مرجع سابق.
(5) البخاري (5/ 2166) ، مرجع سابق.
(6) ابن حبان (13/ 474) ، الحاكم (1/ 747) ، والحديث في مجمع الزوائد (1/ 95) ، مرجع سابق، وتفصيل الموضوع في الأصل.
(7) انظر: عون المعبود (9/ 204) ، مرجع سابق.
(1/138)
________________________________________
وصفة الكلام هنا أن علة الاختلاف هي إلزامية تعليم القران، وأن القائلين بالإباحة يجدون الأجرة تعين على التفرغ، وهي أجرة على حق في مقابل من يأكله على باطل، وإن كانت الكمية الملزمة تختلف من فرض العين إلى فرض الكفاية- حتى كان من أجوبة من أباح الأجرة على أدلة من منعها: «أن تكون الاية- أي وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا (البقرة: 41) - فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذه عليه أجرا فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة» «1» ومن ثم فيجب على الإمام أن يعين المقرئين لإقامة الدين من بيت المال، وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال: ومن أين أنفق على عيالي؟
فردوه وفرضوا له كفايته «2» .
ورجح ابن تيمية أن الأجرة تباح «للمحتاج، ولهذا اتفق العلماء على أنه يرزق الحاكم وأمثاله عند الحاجة وتنازعوا في الرزق عند عدم الحاجة وأصل ذلك في كتاب الله في قوله سبحانه وتعالى في ولي اليتيم وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (النساء: 6) «3» .
والحاجة- فيما يظهر- ليس للشخص الذي لا بد من تفرغه، بل لسد ثغرة الدين الأعظم من كل الثغور، وهي تعليم أصل أصول الإسلام والمسلمين، وجعله عاما شائعا في حياة المسلمين ... والتفرغ في الغالب مطلوب لذلك لجسامة المهمة التي يقوم بها معلم القران، وضرورة تفرغه في الغالب لتبعاتها ...
__________
(1) القرطبي (1/ 336) ، مرجع سابق.
(2) القرطبي (1/ 336) ، مرجع سابق.
(3) ابن تيمية (30/ 193) ، مرجع سابق.
(1/139)
________________________________________
ولذلك فجواز الأجرة لمعلم القران كالإجماع، بل ذهب بعض المتأخرين إلى وجوبها، حتى أن فتوى الحنفية «اليوم على جواز الاستئجار لتعليم القران ...
استحسنوا ذلك وقالوا: بنى أصحابنا المتقدمون الجواب على ما شاهدوا من قلة الحفاظ، ورغبة الناس فيهم، ولأن الحفاظ والمعلمين كان لهم عطايا في بيت المال، وافتقادات من المتعلمين في مجازات التعليم من غير شرط وهذا الزمان قل ذلك، واشتغل الحفاظ بمعائشهم، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر لذهب القران فأفتوا بالجواز، والأحكام تختلف باختلاف الزمان وكان محمد بن الفضل يفتي بأن الأجرة تجب ويحبس عليها» «1» .
وينبغي التنبيه إلى أن هذا الخلاف إنما هو في أخذ الأجرة من المتعلم لا إذا كانت الأجرة من بيت مال المسلمين كما هو واضح من كلام أهل العلم فيما تقدم، والكلام المتقدم لأهل العلم يدل صريحا على أن ذلك من مسؤوليات الدولة المباشرة ... ولذا تنبغي المناداة بقيام وزارات لرعاية شؤون القران الكريم تكون رديفة لوزارات التعليم والتوجيه والمعارف، وتستقل للأهمية البالغة ...
وليست الرياضة بأحق في منحها وزارة مستقلة.
على أن الباحث يختم هه المسألة بضرورة التذكير بالإخلاص وابتغاء وجه الله عزّ وجلّ والتعفف عن أجر القران ما دام المرء في غنى عنه قدر الإمكان فذلك أدعى أن يبسط للمرء باب القبول في الدنيا والاخرة، وقد قال الحسن البصري: «قرأ القران ثلاثة: رجل أخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس، وقوم قرؤوا القران وحافظوا حروفه وضيعوا حدوده، واستنزلوا به الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم، فقد كثر هذا الضرب في حملة القران لا كثرهم الله، ورجل
__________
(1) البحر الرائق (8/ 22) ، مرجع سابق، وانظر: تحفة الأحوذي (6/ 191) ، مرجع سابق.
(1/140)
________________________________________
قرأ القران فتداوى بدواء القران فوضعه على داء قلبه فسهر ليله، وعملت عيناه، تسربلوا الحزن، وارتدوا بالخشوع» «1» .

المطلب الخامس: التدرج في التعليم:
نقف عند تأمل ما ورد في هذا الباب أمام جهاز تربوي عظيم له أساليبه المتعددة في التوجيه والتحضيض، والنشر والإعلام ...

ومن مظاهر هذا التدرج:
1- نزول القران الكريم منجما في ذاته على الرغم من أنه قد أنزل إلى بيت العزة من السماء الدنيا جملة: وفي هذا أعظم البيان على إرادة الله سبحانه وتعالى ثم رسوله المبلغ صلى الله عليه وسلّم أن يتدرج الصحابة رضي الله عنهم في حفظه ويستوعبوه بأيسر طريق، ولا يعترض على هذا بأن المراد بالتنجيم هنا نزوله على الحوادث، لعدم التنافي بين الأمرين من جهة، على أنه ليس كل ما في القران نزل بسبب أو بحادثة.
2- كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرئهم قليلا قليلا: ف «كان صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم خمسا خمسا، وعشرا عشرا» «2» ، ويتلقونها كذلك ... وهذا مقتضى تربوي ومنهجي من مقتضيات نزول القران منجما ...
3- كان صلى الله عليه وسلّم يحثهم على حفظ عدد معين من الايات كعشر، ويتدرج في الحث والإلزامية لذلك على نحوين:
__________
(1) (البيهقي) أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت 458 هـ: شعب الإيمان (2/ 531) ، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 هـ.
(2) شعب الإيمان (2/ 331) ، ابن أبي شيبة (6/ 117) مرجعان سابقان.
(1/141)
________________________________________
الأول: إخراج القارئ أو الحافظ القارئ لهذا القدر من حيز الغافلة كما في قوله صلى الله عليه وسلّم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين» «1» .
الثاني: بيان الربح الحسي العظيم عند حفظ هذا القدر: فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله! اشتريت مقسم بني فلان في تخت فيه كذا وكذا قال: «أفلا أنبئك بما هو أكثر منه ريحا» قال: وهل يوجد؟ قال:
«رجل تعلم عشر ايات» فذهب الرجل فتعلم عشر ايات، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره «2» ، ومثل هذا الربح ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من قرأ عشر ايات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربعا من أولها وأية الكرسي وايتان بعدها وثلاث خواتيمها أولها لله ما في السماوات» «3» . ويمثل البيان للفضل نوعا من التدرج ليحفظ المخاطب أكثر بغية الحصول على فضل أكثر أو فضل معين متميز.
4- التعلم الجزئي والجملي:
وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يحثهم على التعلم جمليا للقران كله تشويقا وتهييجا، ثم يعود صلى الله عليه وسلّم فيحثهم جزئيا ليتدرج بهم، ويقدح في خلدهم إمكانية فعل بعضها على الأقل ... فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«اقرأوا القران فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة ال عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو
__________
(1) الحاكم (1/ 742) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» .
(2) الحاكم (1/ 743) ، مرجع سابق، ورواه الضياء في المختارة (8/ 278) .
(3) الدارمي (2/ 541) ، مرجع سابق.
(1/142)
________________________________________
كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة» «1» .

أنموذج تطبيقي:
ولأن التدرج في الإقراء كان فعله صلّى الله عليه وسلّم فقد كانت طريقته التعليمية الإرشادية هي التي تستفز الصحابة رضي الله عنهم للحفظ والإتقان على هيئة متدرجة، ولذا فسنأخذ نموذجا تستبين فيه الطريقة العلمية التي كان يسلكها النبي صلّى الله عليه وسلّم لإلزام أصحابه بحفظ القران واستظهاره دون إلزام! مباشر، فقد روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ عشر ايات من الكهف عصم من فتنة الدجال» «2» ، دون تحديد لمكان العشر وهو تحضيض على حفظ أي عشر منها، وروى النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدجال فقال: «من راه منكم فليقرأ فواتح سورة الكهف» «3» دون تحديد لكمية هذه الفواتح، وحددت الفواتح بعشر فيما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعا: «من حفظ عشر ايات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» وفي لفظ عنده: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف» ، ورواية «العشر الأخيرة» تدرج اخر وحثّ فبقيت كل أجزاء السورة محفوظة بين الغالب الأعم من المسلمين، وإنما نوّع الكمية التي تحفظ ومكانها من السورة بغية الوصول بالمسلمين إلى حفظها كلها، أو إلى أن يحفظها معظم المسلمين
__________
(1) مسلم (1/ 553) ، مرجع سابق.
(2) ابن حبان (3/ 65) ، مرجع سابق، انظر: (النسائي) أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ت 303 هـ: فضائل القران ص 95، تحقيق: د. فارروق حمادة، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 2، 1992 م.
(3) مسلم (4/ 2252) ، الحاكم (4/ 538) ، الترمذي (4/ 510) ، أبو داود (4/ 117) ، النسائي في الكبرى (5/ 15) ، ابن ماجة (2/ 1356) ، مراجع سابقة.
(1/143)
________________________________________
ولو بالتوزيع بينهم، فقد يفضل البعض أولها، وقد يختار بعضهم اخرها، وقد يختار البعض ما بين ذلك، والعادة جارية بذلك كله ... هذا إن لم يقم الواحد منهم بحفظها مع أن التحضيض على ذلك شديد، وبذا جمع السيوطي بين الروايات المختلفة فقال: «وعلى هذا يجتمع رواية من روى أول سورة الكهف مع من روى من اخرها ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها» «1» ، وهذا أرجح وأملح من جعل بعض الروايات شاذة بالميزان الحديثي لأول وهلة؛ إذ الترجيح فرع التعارض، ولا تعارض مع الجمع.
وفي حال عدم الحفظ لهذه السورة- وهذا نادر مع هذا الحض الشديد والتهييج البالغ لحفظها- فقد حث النبي صلّى الله عليه وسلّم على قراءتها ولو نظرا فيما رواه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق» «2» وفي لفظ: «أضاء له النور ما بين الجمعتين» «3» .
وحفنا الله عزّ وجلّ بتنوع الأجر فيها زيادة في التحضيض على حفظها والتدرج على حفظها، فعن معاذ ابن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قرأ أول سورة الكهف واخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين الأرض إلى السماء» «4» ، على أنه- مع ذلك- أمر بإتقانها
__________
(1) نقله عنه صاحب عون المعبود (11/ 304) ، وصاحب تحفة الأحوذي (8/ 157) ، مرجعان سابقان.
(2) الدارمي (2/ 546) ، مرجع سابق، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 6471، مرجع سابق.
(3) الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 6470، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الكبير 20/ 197، مرجع سابق.
(1/144)
________________________________________
إتقانا بينا من حيث الأداء فيما رواه أبو سعيد الخدري أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورا من مقامه إلى مكة ومن قرأ بعشر ايات من اخرها فخرج الدجال لم يسلط عليه» «1» .
وهو هنا حثّ على حفظ الأصل اللفظي وقراءته كما حث على إتقان أداء اللفظ بأسلوب تعليمي متدرج كاد يشبه الإلزام التكليفي والفعلي ويظهر أنه فاق ذلك، ولكن بأسلوب فريد كم هو بحاجة وإلى تأمل وإعجاب.
وليس المراد من الحديث مجرد القراءة والحث بفضل مزيّف ... حاشا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، وقد أنكر ذلك العلماء فقد قال الغزالي: «وأما قوله عليه السّلام قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (الإخلاص) تعدل ثلث القران فما أراك أن تفهم وجه ذلك فتارة تقول هذا ذكره للترغيب في التلاوة وليس المعنى به التقدير وحاشا منصب النبوة عن ذلك» «2» ، بل هذا الذي ذكر ها هنا من إرادة الحفظ إنما دلت عليه دلالة التنبيه، وهي فوق دلالة الإشارة «3» .
__________
(1) النسائي في الكبرى (6/ 236) ، مرجع سابق.
(2) (الغزالي) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ت 505 هـ: جواهر القران ص 77، تحقيق: د. محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 1، 1985 م.
(3) انظر في دلالة التنبيه (الامدي) علي بن محمد الامدي أبو الحسن ت 631 هـ: الإحكام في أصول الأحكام (3/ 71) ، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1404 هـ.
(1/145)
________________________________________
المبحث الثالث: وسائل النشر التعليمية لألفاظ القران الكريم في عموم المجتمع المسلم كما قام بها النبي صلّى الله عليه وسلّم:
تقدم في الفصل الأول أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام بوظيفته على أوسع نطاق جغرافي وتاريخي، وظهر هناك ما قام به النبي صلّى الله عليه وسلّم لذلك، ويذكر هنا الوسائل التعميمية للقران الكريم، كما جعلت هذه الوسائل نشر القران مسألة ضرورية ذاتية لكون المسلمين مسلمين إجمالا، ولكون المجتمع المسلم مجتمعا مسلما، فلا يكتفي المسلم بمجرد مصحف معلّق في بيته- مع حسن ذلك-، ولأن هذه الوسائل تنقسم إلى وسائل عامة، ووسائل خاصة أكثر ظهورا في النشر، فإن البحث ينقسم إلى:
المطلب الأول: وسائل النشر العامة.
المطلب الثاني: (الصلاة) وسيلة لنشر القران وتعليمه.
المطلب الثالث: منح قراء القران الصدارة في الألقاب العلمية وقيادة الناس.
المطلب الرابع: تعليمهم تسمية السور وألقابها.

المطلب الأول: وسائل النشر العامة:
وهي تمثل عمل جهاز تعميمي للثقافة القرانية خارج نطاق الحيز المكاني للجامعة القرانية: وتنقسم إلى وسائل تطبيقية فيه شيء من شبه الإلزام، وإلى وسائل إغرائية دعائية ولكن بالحق، والصدق، وليس بمجرد الإغراء والدعاية:

أولا: وسائل تطبيقية شبه إلزامية وهي وسائل النشر العامة:
1- التعليم العام للقران الكريم: فقد أقرأ صلّى الله عليه وسلّم مبلغ جهده، وخصص مقرئين للافاق ...
(1/146)
________________________________________
2- ربط الحياة اليومية للمسلمين بايات القران الكريم: فالمسلم يستيقظ فيقرأ عشر ايات من اخر سورة ال عمران، ثم يقرأ اية الكرسي والمعوذات في مواضعها من يومه، ويختم ليلته بقراءة لسور الإسراء والزمر أو الملك أو أواخر البقرة على الأقل، ولا بد أن يقرأ عشر ايات في اليوم حتى لا يكون من الغافلين.
3- أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم بكتابة القران والتشديد في ذلك حتى منع من كتابة غيره معه في أول الأمر: كما قال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القران فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» «1» .
4- ربط الحرز اليومي، أو سد التقصير بالقران الكريم: فقد جاء عن عبد الرحمن بن يزيد قال: لقيت أبا مسعود عند البيت فقلت: حديث بلغني عنك في الايتين في سورة البقرة؟ فقال: نعم! قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الايتان من اخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه» «2» والمعنى: «أغنتاه عن قيام اللّيل وقيل أراد أنهما أقلّ ما يجزئ من القراءة في قيام الليل، وقيل تكفيان الشّرّ وتقيان من المكروه» «3» ، وكالمعوذات، والتحرز من الشيطان باية الكرسي ...
5- الأمر بتعلمه وجعله أول مادة دراسية في إطار منهج بناء الأمة: كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «هذا القران مأدبة الله فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل فإن أصغر البيوت من الخير الذي ليس فيه من كتاب الله شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن
__________
(1) مسلم (4/ 2298) ، ابن حبان (1/ 265) ، الحاكم (1/ 216) ، أحمد (3/ 12) ، مراجع سابقة.
(2) البخاري (4/ 1174) مسلم (1/ 554) ، مرجعان سابقان.
(3) النهاية (4/ 193) ، مرجع سابق.
(1/147)
________________________________________
الشيطان يخرج من البيت يسمع فيه سورة البقرة» «1» وظاهر أن الحديث له حكم الرفع فقوله: «فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل» ظاهر فيه الإلزام للتعلم، وتقدمت في الفصل الأول الأدلة الامرة بالتعلم ... ومع هذه الأدلة التي تعم الراعي والرعية فإن نفي الاستطاعة غير موجود في مؤسسات المجتمعات الإسلامية ويأمل المرء أن يجد مناهج كليات الطب والهندسة، والحاسوب ... ونحوها من الكليات الفنية غير خلية من هذه المادة العامة الأساسية، مع أنه يوجد المتفوقون والنابهون في الغالب، وقد تقرر عليهم محفوظات كثيرة، ولا يقرر عليهم حفظ شيء من القران مفسرا تفسيرا ميسرا «2» ، بالإضافة إلى الربط الإسلامي التربوي للمناهج المأخوذة في مثل هذه الكليات بالقران الكريم والمعتقدات الإسلامية، ولو بإشارات خفيفة قياما بالتذكير، ودرا للغافلة.
6- وكان صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم سماع القران إذا لم يريدوا تلاوته مباشرة لعارض كسل، أو لإرادة تدبر، أو غيره: كما سمع صلّى الله عليه وسلّم من ابن مسعود رضي الله عنه، ولذا بوب البخاري باب «من أحب أن يسمع القران من غيره» «3» .
7- صبغ الأجواء ومختلف الأمكنة بالقران: فيحثهم على قراءة القران في البيت، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن البيت يقرأ فيه القران يكثر خيره والبيت الذي لا يقرأ فيه القران يقل خيره» «4» ، ومن هذا الباب قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ... (ال عمران: 191)
__________
(1) الدارمي (2/ 521) ، عبد الرزاق (3/ 368) ، المعجم الكبير (9/ 129) مراجع سابقة.
(2) انظر: أحمد علي الإمام (دكتور) : مفاتح فهم القران: تفسير لغريبه، وتأويل لمشكله، دار المنى، دمشق، ط 1، 1421 هـ- 2000 م كمقترح لهذا التفسير الميسر، أو يعتمد تفسير الجلالين.
(3) البخاري (4/ 1925) ، مرجع سابق.
(4) رواه الدارقطني في الأفراد. انظر: مجمع الزوائد (7/ 171) .
(1/148)
________________________________________
والقران أعظم الذكر، ومن هذا الباب حديث عبد الله بن المغافل في قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على دابته ... ليصير الجو مصبوغا بصبغة الله جل جلاله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً (البقرة: 138) ، ويبلغ التفاعل مع القران وصبغ الأجواء به حدا أن يصبغ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بصبغة القران: فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شيبتني هود وأخواتها سورة الواقعة وسورة القيامة والمرسلات وإذا الشمس كورت وإذا السماء انشقت وإذا السماء انفطرت قال وأحسبه ذكر سورة هود» «1» .
8- ترديد القران في مواضع حياتهم اليومية: كقراءة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (الكافرون: 1) عند النوم، ومثلها اية الكرسي وأواخر سورة البقرة: فعن جبلة رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت علمني شيئا ينفعني، قال: «إذا أخذت مضجعك فاقرأ قل يا أيها الكافرون حتى تختمها فإنها براءة من الشرك» «2» ، وتكثر الايات التي تردد عقب الصلوات وقبل النوم وبعد الاستيقاظ منه ...
9- الأمر بقراءة أقل قدر مستطاع من القران الكريم خارج الفاتحة: ففي صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رسول الله! أقرئني القران. قال: «اقرأ ثلاثا من ذوات الر» قال الرجل: كبر سني، وثقل لساني، وغلظ قلبي. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ ثلاثا من ذوات حم» فقال الرجل مثل ذلك ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة فأقرأه رسول الله إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ (الزلزلة: 1) حتى بلغ من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره قال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أبالي ألاأزيد عليها حتى ألقى الله، ولكن أخبرني بما علي من العمل أعمل ما أطقت العمل.
__________
(1) الحاكم (2/ 374) ، الترمذي (5/ 402) ، سعيد بن منصور في سننه (5/ 370) ، مرجع سابق.
(2) النسائي في الكبرى (6/ 200) ، مرجع سابق.
(1/149)
________________________________________
قال: الصلوات الخمس، وصيام رمضان، وحج البيت، وأد زكاة مالك، ومر بالمعروف وانه عن المنكر «1» . ومراد الرجل أن يحفظ فلينظر كيف أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بحفظ هذه السور الطوال؟ ولذا فإن معنى قوله: «وغلظ قلبي» أي غلب عليه قلة الحفظ وكثرة النسيان و «ثقل لساني» أي ثقل بحيث لم يطاوعني في تعلم القران ولا تعلم السور الطوال» «2» .
10- قيام كتبة الوحي بتبليغ النازل من القران الكريم: فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقا شديدا مثل الجمان ثم سرى عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة فأكتب وهو يملي علي، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القران، حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت قال: «اقرأ» فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس «3» .
11- ومثله إقامة النواب عنه صلّى الله عليه وسلّم في الإقراء: فعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشغل فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القران ... » «4» .
12- جعله خير ما يتقرب به المتقربون: فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما وما تقرّب العباد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه يعني القران» «5» .
__________
(1) ابن حبان (3/ 50) ، أبو داود (2/ 57) ، النسائي في الكبرى (5/ 16) ، والصغرى (2/ 158) ، أحمد (4/ 149) ، مراجع سابقة.
(2) انظر: عون المعبود (4/ 192) ، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الأوسط (2/ 257) ، والكبير (5/ 142) ، مرجعان سابقان.
(4) المختارة (8/ 267) ، أحمد (5/ 324) ، مرجعان سابقان.
(5) الترمذي (5/ 176) ، أحمد (5/ 268) ، مرجعان سابقان.
(1/150)
________________________________________
13- التفضيل لبعض السور من باب التحضيض التنويعي على قراءتهن: مما يجعل النفس تتشوف إلى حفظها أو تلاوتها ... ولنأخذ سورة البقرة نموذجا لأنها أطول السبع الطول: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» «1» .
14- الترهيب من عدم القراءة: وفيه تعميم للقراءة فهي قراءة عامة تتوجه لكل الأمة: كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي تقدم قبل قليل في رقم (5) من هذه الفقرة.

ثانيا: وسائل إغرائية دعائية ولكن بالحق، والصدق، وليس بمجرد الإغراء والدعاية الباطلة:
فتلحظ من طريقة القران وأسلوب النبي صلّى الله عليه وسلّم في نشر القران وتعميم تعليمه منهجا تشويقيا إغرائيا يؤدي إلى تعظيم القران وتبجيله، وتعلمه- من بعد- ليصبغ جو المسلمين بالثقافة القرانية، وتمثل ذلك في عدة مظاهر:
كثرة الأسماء المعنوية، والصفات المختلفة للقران: فإن ذلك يجذب المرء إليه، ويجعله شديد التعظيم له، على أن مقاصد القران الكريم مختصرة في أسمائه، وهو إعجاز من نوع اخر ...
فمن أسمائه المذكورة في ثناياه: التنزيل، والذكر، والزبور، والسبع المثاني، والصحف، والفرقان، والكتاب، والنور، والبشرى، والبصيرة، والبلاغ، والحق، والحكيم، والذكرى، والرحمة، والشفاء، والعربي، والعزيز، والعظيم، والعلي، والكريم، والمبارك، والمبين، والمجيد ...
__________
(1) مسلم (1/ 539) ، وانظر ما جمعه الغافقي في لمحات الأنوار ابتداء من الحديث رقم 726 حول فضلها، وكيف تنوع أسلوب بيان الفضل عند النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(1/151)
________________________________________
نسبة التعليم فيه إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) (الرحمن: 1- 2) ، وهذا شبيه بنسبة فضل الصوم إليه في قوله جل جلاله «الصوم لي وأنا أجزي به» ، ولكن هذا ورد في الحديث والأول في القران، وفي ذلك إغراء شديد بتعلم ألفاظ القران الكريم.
الأمر بتلاوته وتفصيل ادابها في القران الكريم ذاته، وهو أمر لافت ... أن يختزل ذكر بعض الأحكام الفقهية اليومية كالوضوء والصلاة، فتذكر إجمالا في القران الكريم، ويذكر الأمر بالتلاوة وتفصل ادابها وفضائلها.
إخبار الله ونبيه صلّى الله عليه وسلّم عن الأجور العظيمة التي يهبها الله لمن يتقن القران أو بعضا منه مما يجعل المرء يقدس القران أعظم التقديس فمن ذلك فعن بريدة رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعته يقول: «تعلموا البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة، قال: ثم سكت ساعة ثم قال: تعلموا البقرة وال عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف وإن القران يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول هل تعرفني فيقول ما أعرفك فيقول أنا صاحبك القران الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان عم كسينا هذا فيقال بأخذ ولد كما القران ثم يقال اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا» «1» ، وكان التابعون من تلاميذ الصحابة رضي الله عنهم يذكرون هذا الحديث بأسلوبهم، فعن وهب الذّماريّ قال:
__________
(1) الدارمي (2/ 543) ، أحمد (5/ 348) ، مرجعان سابقان.
(1/152)
________________________________________
من اتاه الله القران فقام به اناء اللّيل واناء النّهار وعمل بما فيه ومات على الطّاعة بعثه الله يوم القيامة مع السّفرة والأحكام- قال سعيد السّفرة الملائكة والأحكام الأنبياء- قال: ومن كان حريصا وهو يتفلّت منه وهو لا يدعه أوتي أجره مرّتين، ومن كان عليه حريصا وهو يتفلّت منه ومات على الطّاعة فهو من أشرافهم، وفضّلوا على النّاس كما فضّلت النّسور على سائر الطّير، وكما فضّلت مرجة خضراء على ما حولها من البقاع فإذا كان يوم القيامة قيل: أين الّذين كانوا يتلون كتابي لم يلههم اتّباع الأنعام فيعطى الخلد والنّعيم فإن كان أبواه ماتا على الطّاعة جعل على رؤسهما تاج الملك فيقولان: ربّنا ما بلغت هذا أعمالنا؟ فيقول بلى إنّ ابنكما كان يتلو كتابي، ومن ذلك ما جاء عن كعب قال: عليكم بالقران فإنّه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالرّحمن عهدا وقال في التّوراة: يا محمّد إنّي منزّل عليك توراة حديثة تفتح فيها أعينا عميا واذانا صمّا وقلوبا غلفا «1» .
التشويق بالتشبيه بالمحسوسات: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مثل الذي يقرأ القران ولا يعمل به كمثل ريحانة ريحها طيب ولا طعم لها، ومثل الذي يعمل بالقران كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الذي يعمل بالقران ويقرؤه كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل الذي لا يقرأ القران ولا يعمل كمثل الحنظلة طعمها خبيث وريحها خبيث» «2» .
__________
(1) الدارمي (2/ 525) ، مرجع سابق.
(2) مجمع الزوائد (7/ 159) ، مرجع سابق، وقال: «روى ابن ماجه منه طرفا رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» .
(1/153)
________________________________________
المطلب الثاني: (الصلاة) وسيلة لنشر القران وتعليمه:

ربط العبادات الإسلامية بالقران الكريم:
ربطت العبادات الإسلامية بالقران الكريم سماعا وإسماعا، وقراءة وإقراء ...
سواء كانت هذه العبادات:
يومية (كالصلاة) ، أو قراءة ايات أو سور عند النوم، أو عند الاستيقاظ منه فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ في كل ليلة سورة بني إسرائيل والزمر «1» ، وفعله للاقتداء كما سبق.
أم كانت أسبوعية كيوم الجمعة كما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» «2» ، ومن ذلك قراءته التعليمية على المنبر في خطبة الجمعة حيث يجتمع أكبر قدر من المسلمين، حيث قد ثبتت هذه الناحية التعليمية لألفاظ القران في خطبة الجمعة بصفة عامة كما في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كانت له صلّى الله عليه وسلّم خطبتان يجلس بينهما: يقرأ القران ويذكر الناس «3» ، ومن أمثلة أثر هذا النوع من تعليم القران ما جاء عن أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد مكثنا سنة أو سنتين كان تنّورنا وتنّور النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة وما أخذت ق والقران المجيد إلّا على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها كلّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب النّاس وفي لفظ: كان يعلم الناس يقرأها كل جمعة على المنبر «4» .
__________
(1) الحاكم (2/ 472) ، النسائي في السنن الكبرى (6/ 444) ، الترمذي (5/ 475) ، مراجع سابقة.
(2) الحاكم (2/ 399) ، النسائي (1/ 372) ، مرجعان سابقان.
(3) مسلم (2/ 589) .
(4) مسلم (2/ 595) .
(1/154)
________________________________________
- أم كانت العبادات سنوية كما في رمضان وهو شهر القران حيث ينفر الناس خفافا وثقالا لتدارس القران وأقل المسلمين في الغالب الأعم من يختم مرة على الأقل.
أم كانت عمرية (الحج) .
وهذا الربط بالقران الكريم إما فهما وإما قراءة في معظم تفاصيل وجزيئات تلك العبادة ... وبذا لا يستطيع مسلم داخل في هذا المسمى (الإسلام) إلا أن يتعلم الواجب العيني من القران الكريم، وهذه نقطة جديرة بالنظر ...

الصلاة:
وإنما أفردناها بالذكر لأثرها البالغ فهي عبادة تؤدى خمس مرات يوميا، منها ست ركعات جهرية- على الأقل-، ولنذكر بشيء من التفصيل ربط الصلاة بالقران الكريم، والأثر التعليمي لذلك على مستوى ألفاظ القران الكريم عظيم؛ إذ أضحت هذه المفروضات اليومية وسيلة لنشر القران الكريم تحفيظا وإقراء، وصارت الصلاة بذلك مدار قراءته وتلقينه للايات «قارن هذه النقطة فقط بما عند أهل الكتابين فضلا عن غيرهم في حفظ كتاب الله عزّ وجلّ، أو جعله عاما» :
فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ معظم القران موزعا على ركعات الفريضة اليومية:
وذلك إن لم يكن يقرؤه كله، ويدل على هذا ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما من سورة من المفصل صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأها كلها في الصلاة «1» ، وكان صلّى الله عليه وسلّم يعدد الاي في الصلاة فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعدد الاي في الصلاة «2» ، وكان الصحابة رضي الله عنهم
__________
(1) الطبراني في الكبير (12/ 365) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (2/ 114) ، مرجع سابق.
(2) الحديث عزاه في مجمع الزوائد (2/ 114) إلى الطبراني، مرجع سابق، وانظر: البيهقي في الكبرى (2/ 253) ، أبو داود (2/ 253) ، مرجعان سابقان فقد بوبا لعد الاي في الصلاة.
(1/155)
________________________________________
يختمون القران في الصلاة، ولا يفعلون ذلك إلا عن اقتداء فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرؤن القران من أوله إلى اخره في الفرائض «1» ، وعن أبي العالية: قال أخبرني من سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لكل سورة حظها من الركوع والسجود» «2» ، وعن أبي برزة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الغداة من الستين إلى المائة «3» وفي هذا دلالة واضحة على متابعتهم الدقيقة له، حتى كانوا يعدون الايات؛ إذ لم تكن عدد الايات قد دونت بالصورة السهلة الموجودة في عهدنا، ثم استمر العلماء على استحباب ذلك القدر في الصلاة «4» ، وعن ابن عباس قال: إن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (المرسلات: 1) فقالت: يا بني! لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لاخر ما سمعت رسول الله يقرأ بها في المغرب «5» ، وروى ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الركعة الأولى من الفجر ب «ألم تنزيل السجدة» ، وفي الاخرى ب «هل أتى على الإنسان» «6» ، بل كان ذلك واضحا حتى قبل الصدع بالدعوة، فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر، والمشركون يسمعون «فبأى الاء ربكما تكذبان» «7» .
__________
(1) الطبراني في الأوسط 8/ 123، مرجع سابق.
(2) أحمد (5/ 59) ، مجمع الزوائد (2/ 114) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» .
(3) البخاري (1/ 202) ، مسلم (1/ 338) ، مرجعان سابقان.
(4) انظر مثلا: علاء الدين الكاساني ت 587 هـ: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 205) ، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1982.
(5) مسلم (1/ 338) ، مرجع سابق، (الشافعي) محمد بن إدريس أبو عبد الله ت 204 هـ: مسند الشافعي ص 215، دار الكتب العلمية، بيروت.
(6) البخاري (1/ 303) ، مسلم (2/ 599) ، الحاكم (2/ 554) ، أبو داود (1/ 282) ، ابن ماجه (1/ 269) ، مراجع سابقة.
(7) مجمع الزوائد (2/ 115) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام» .
(1/156)
________________________________________
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بالطوال كثيرا، ويكمل السورة غالبا، فعن زيد بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال «1» ، وقد يقرأ بغيرها لعارض كما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمع بكاء الصبي وهو في الصلاة مع أمه فيقرأ بالسورة الخفيفة أو السورة القصيرة «2» .
وتسلسلت هذه المنهجية فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ في الفجر سورة البقرة فلما فرغ قال له عمر: كادت الشمس تطلع يا خليفة رسول الله؟ فقال رضي الله عنه: لو طلعت لم تجدنا غافلين «3» ، وعن نافع قال: ربما أمنا ابن عمر رحمه الله بالسورتين والثلاث في الفريضة «4» .
ووصل الاعتناء بنشر القران الكريم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسمعهم الايات في الصلاة السرية أحيانا، وضبطوا السور التي كان يقرؤها في الصلاة السرية، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة، وكان يسمعنا أحيانا الاية وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية، وكان يقرأ في الركعتين الاخريين بفاتحة الكتاب في كل ركعة.
قيل: وكذلك في صلاة العصر؟ قال: وكذلك في صلاة العصر «5» ، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ في المغرب بالأعراف فرقها في الركعتين «6» ، وعن
__________
(1) مجمع الزوائد (2/ 118) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح» .
(2) أبو عوانة في مسنده (1/ 422) ، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (1/ 310) ، مرجع سابق، عبد الرزاق (2/ 113) ، مرجع سابق.
(4) مجمع الزوائد (2/ 114) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» .
(5) البخاري (1/ 270) ، مسلم (1/ 333) ، المنتقى (1/ 56) ، أبو عوانة في مسنده (1/ 474) ، مراجع سابقة.
(6) سنن النسائي الكبرى (1/ 340) .
(1/157)
________________________________________
أنس رضي الله عنه أم أهل بيته فصلّى بنا الظهر والعصر فقرأ قراءة همسا فقرأ بالمرسلات والنازعات وعم يستاءلون ونحوها من السور «1» ، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الظهر والعصر سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية «2» ، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى بهم الهاجرة فرفع صوته، فقرأ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (الشمس: 1) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (الليل: 1) فقال له أبي بن كعب: يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشيء؟ قال: «لا! ولكني أردت أن أوقت لكم» «3» .
كان صلّى الله عليه وسلّم يسمعهم قراءته في الغالب في نوافل الليل خاصة فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يوتر بتسع ركعات، فلما أسن وثقل أوتر بسبع، وصلّى ركعتين وهو جالس يقرأ فيهن بالرحمن والواقعة قال أنس: ونحن نقرأ بالسور القصار إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (الزلزلة: 1) وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (الكافرون: 1) ونحوهما «4» .
ومثل ذلك كان فعل الصحابة، فتسلسلت المنهجية بذلك عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلّى ابن مسعود العشاء الاخرة فاستفتح بسورة الأنفال حتى بلغ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الأنفال: 40) ركع، ثم قرأ في الركعة الثانية بسورتين من المفصل وفي رواية بسورة من المفصل «5» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدمت
__________
(1) الطبراني في الأوسط (3/ 147) ، وهو في مجمع الزوائد (2/ 116) ، مرجعان سابقان.
(2) مجمع الزوائد (2/ 116) ، مرجع سابق، وقال: «رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط» .
(3) الطبراني في الأوسط (9/ 106) ، والحديث في مجمع الزوائد (2/ 116) ، مرجعان سابقان.
(4) صحيح ابن خزيمة (2/ 143) ، مرجع سابق.
(5) البخاري (1/ 268) معلقا، ووصله الطبراني في الكبير (9/ 263) .
(1/158)
________________________________________
المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر ورجل من بني غفار يؤم الناس فقرأ في الركعة الأولي بسورة مريم، وفي الثانية ويل للمطففين أحسبه قال في صلاة الفجر «1» .
ووضع ابن عباس قاعدة عامة لحفظ السور من في النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة، فعن كريب قال: سألت ابن عباس عن جهر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة بالليل فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو شاء حافظ أن يتعلمها لفعل «2» .
بل كانت القراءة في الصلاة وسيلة بلاغ وإنذار فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بالطور في المغرب، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي «3» .
وربط الاجتهاد في النوافل بالقران الكريم: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قام بعشر ايات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة اية كتب من القانتين ومن قام بألف اية كتب من المقنطرين» «4» ، والمقنطرين أي من المالكين مالا كثيرا والمراد كثرة الأجر «5» .
__________
(1) شرح معاني الاثار (1/ 183) .
(2) شعب الإيمان (2/ 383) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1475) ، مسلم (1/ 338) ، مرجعان سابقان.
(4) أبو داود (2/ 57) ، ابن خزيمة (2/ 181) ، مرجعان سابقان.
(5) انظر: عون المعبود (4/ 172) ، مرجع سابق.
(1/159)
________________________________________
المطلب الثالث: منح قراء القران الصدارة في الألقاب العلمية وقيادة الناس:
وتمثل ذلك في التالي:

أولا: جعل حملة القران ممن يتلوه حق تلاوته هم المقدمون في إمامة الناس الدينية والدنيوية:
فأما الدينية فيكاد يكون هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، لذا بوب ابن خزيمة: «باب استحقاق الإمامة بالازدياد من حفظ القران وإن كان غيره أسن منه وأشرف» «1» ، ثم ذكر حديث أبي مسعود «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» «2» الحديث، ورواه الحاكم في مستدركه ولكن عوض قوله فأعلمهم بالسنة «فأفقههم فقها فإن كانوا في الفقه سواا فأكبرهم سنا» ، وقول بعضهم: إن الأقرأ زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان الأعلم صحيح، لكن قد ورد تخصيص القراءة من حيث هي قراءة، ولفظه: «يؤم القوم أكثرهم قرانا، فإن كانوا في القران واحدا فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة واحدا فأفقهم فقها، فإن كانوا في الفقه واحدا فأكبرهم سنا» «3» .
وعلى هذا: فلا يقدّم أي معيار اخر إلا مع التماثل في القراءة، فعن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنا وصاحب لي، فلما أردنا الإقفال قال لنا: «إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما» ، فقيل لأبي قلابة: فأين القراءة؟ قال: كانا متقاربين «4» .
__________
(1) ابن خزيمة (3/ 5) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 465) .
(3) الحاكم (1/ 370) ، مرجع سابق.
(4) مسلم (1/ 466) ، ابن خزيمة (1/ 206) ، أبو داود (1/ 161) ، مراجع سابقة.
(1/160)
________________________________________
وأما ما جاء عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لما أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم، وأسأل عن عواقبها، فقيل: تعلم القران. فقلت: إذا حفظته فما يكون اخره؟ قالوا: تجلس في المسجد فيقرأ عليك الأحداث، ثم لا يلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو مساويك فتذهب رئاستك ... فحكاية هشة لا يستسيغها اللسان لمكان أبي حنيفة، وقد قال الذهبي تعليقا عليها: «قلت: من طلب العلم للرئاسة قد يفكر في هذا وإلا فقد ثبت قول المصطفى صلوات الله عليه «أفضلكم من تعلم القران وعلمه» ، يا سبحان الله! وهل محل أفضل من المسجد؟
وهل نشر لعلم يقارب تعليم القران؟ كلا والله وهل طلبة خير من الصبيان الذين لم يعملوا الذنوب؟» «1» .

وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك تطبيقيا:
فجعل الحافظ (حامل القران) هو المقدم على أمور الناس الدينية والدنيوية ما دامت العوامل المساعدة الاخرى قد وجدت فيه، وقد جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن أبي العاص أمير الطائف «2» لما كان أكثرهم قرانا على الرغم من أنه أصغرهم سنا فعنه رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمّ قومك» . «3» .، وبيان قصة تأميره رضي الله عنه عليهم فيما جاء عنه قال: قدمت في وفد ثقيف حين قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلبسنا حللنا بباب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: من يمسك لنا رواحلنا؟ فكل القوم أحب الدخول على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكره التخلف عنه، قال عثمان- وكنت أصغرهم- فقلت: إن شئتم أمسكت لكم على أن عليكم عهد الله لتمسكن لي إذا خرجتم.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (6/ 396) ، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (13/ 241) ، مرجع سابق.
(3) أبو عوانة في مسنده (1/ 420) ، مرجع سابق.
(1/161)
________________________________________
قالوا: فذلك لك فدخلوا عليه، ثم خرجوا، فقالوا: انطلق بنا! قلت: أين؟
قالوا: إلى أهلك. فقلت: خرجت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبي صلّى الله عليه وسلّم أرجع، ولا أدخل عليه، وقد أعطيتموني ما قد علمتم. قالوا: فاعجل فإنا قد كفيناك المسألة فلم ندع شيئا إلا سألناه. فدخلت: فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يفقهني في الدين ويعلمني. قال: «ماذا قلت» ، فأعدت عليه القول فقال: «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أصحابك اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من يقدم عليك من قومك» فذكر الحديث «1» ، وفي رواية أخرى مختصرة قال: فيها فدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته مصحفا كان عنده فأعطانيه «2» ، وما سأل مصحفا إلا لأنه كان أحفظهم.
فصارت الإمامة الدنيوية استحقاقا واجبا من استحقاقات الحافظ (حامل القران) ، بل يقدم الصغير على الكبار إذا كان قارئا كما ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة قال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم: ما للناس ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه كذا أوحى إليه، كذا فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامها، فيقولون: أتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند نبي الله حقا. قال: «صلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرانا» فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرانا لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو
__________
(1) الطبراني في الكبير (9/ 50) .
(2) الاحاد والمثاني (3/ 191) .
(1/162)
________________________________________
سبع سنين، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي:
ألا تغطون عنا است قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشىء فرحي بذلك القميص «1» ، وهذا يردّ ما ذهب إليه بعضهم من أن الصحابة لم يكونوا يؤمون إلا لأنهم فقهاء حيث أسلموا على كبر.

تسلسل المنهجية:
لقي نافع بن عبد الحارث عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة فقال عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال:
استخلفت عليهم ابن أبزى. قال: ومن بن أبزى؟ قال: رجل من موالينا. قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى. قال: إنه قارئ لكتاب الله تعالى، عالم بالفرائض، قاض. قال عمر: أما إن نبيكم صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به اخرين» «2» .

ثانيا: جعل من تعلمه وعلمه في الذروة العليا من الخيرية:
فإذا كانت أمة النبي صلّى الله عليه وسلّم خير أمة أخرجت للناس، فإن خيرها هم من علم القران وعلمه، وقد ورد هذا في تعليمه صلّى الله عليه وسلّم للصحابة رضي الله عنهم أهمية ذلك من طريق عدد من الصحابة، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«خيركم من تعلم القران وعلمه» «3» ، ونحوه عن أنس ابن مالك رضي الله عنه، ومثله عن علي وعبد الله بن مسعود «4» ، وفي لفظ «خيركم من قرأ القران وأقرأه» «5» ، ومن هذا الحديث تستبين المعالم التالية:
__________
(1) البخاري (4/ 1564) ، مرجع سابق.
(2) ابن ماجة (1/ 79) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1919) ، ابن حبان (1/ 324) ، الترمذي (5/ 173) ، مراجع سابقة.
(4) انظر تخريجها في مجمع الزوائد (7/ 166) .
(5) الطبراني في الأوسط (3/ 252) .
(1/163)
________________________________________
الخيرية مطلقة هنا فهي على الناس أجمعين خلا الأنبياء؛ ولذا ورد عن عيسى عليه الصلاة والسلام: «من علم وعمل وعلم يدعى في الملكوت عظيما» ، والفرد الأكمل من هذا الجنس هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم الأشبه فالأشبه «1» ، ولكنه جعلهم خير الناس باعتبار التعلم والتعليم.
لابد أن يكون هذا الوصف قائما في المرء حق القيام لينال ثوابه ويقدم على غيره، فقوله (من تعلم القران) أي حق تعلمه (وعلمه) أي حق تعليمه «2» ...

ثالثا: بيان أنهم أحب الخلق إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم:
كيف لا يكون ذلك وهم ينشرون ما جاء هو لنشره صلّى الله عليه وسلّم؟ فقد سمع علي بن أبي طالب ضجة في المسجد، فقال: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء قوم يقرؤون القران ويقرئونه. فقال: طوبى لهؤلاء! هؤلاء كانوا أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «3» ، وبالجملة فإن «فضايل «4» أهل القران لا تحصى كما أن فضايل القران لا يحصى وكما فضله على ساير الكلام فضل حملته على ساير الأمم ومنحهم ما نالوا به الفخر في الدنيا والاخرة والذخر في العقبى» «5» .
وقد يعترض على هذا بأنه يلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجواب: حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، ولا بد
__________
(1) عون المعبود (4/ 229) ، مرجع سابق.
(2) عون المعبود (4/ 229) ، مرجع سابق.
(3) مجمع الزوائد (7/ 166) ، وانظر تخريجه في لمحات الأنوار رقم 6، مرجع سابق.
(4) كذا في كلام الهذلي فالهمزة عنده مخففة بإبدالها ياء..
(5) (الهذلي) أبو القاسم علي بن جبارة: الكامل ص 5 وجه أ، مصورة مخطوطة عند كاتب هذه الأسطر.
(1/164)
________________________________________
مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل منهم «1» ، وهذا يختلف زمانا ومكانا وشأنا، على أن لحفظ كلام الله جل جلاله مزية خاصة ظاهرة.

رابعا: النشر العام لفرض الكفاية من تعلم القران هو المقصد من ذكر الجوائز الحقيقية التحفيزية:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات سمان عظام؟» قال: قلنا: نعم! قال: «فثلاث ايات يقرؤهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات سمان عظام» «2» ، ونحوه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه «3» ، والمعنى: «فيتعلم ايتين من كتاب الله خير من ناقتين وثلاث لو تصدق بها» لأن فضل تعلم ايتين من كتاب الله أكبر من فضل ناقتين وعدادهن من الإبل لو تصدق بها؛ إذ محال أن يشبه من تعلم ايتين من كتاب الله في الأجر بمن نال بعض حطام الدنيا «4» .
وذكر الصحابيين أبي هريرة وعقبة رضي الله عنهما لهذا الحديث يدل على تكرار النبي صلّى الله عليه وسلّم له، كما أن ذكر الصلاة في الأول وعدم ذكرها في الثاني، وذكر المسجد للتعلم في الثاني دون ذكر الصلاة دال على حثه المطلق والعام لتتم القراءة في المسجد أو في غيره، وفي الصلاة أو في غيرها.

تسلسل المنهجية:
كان الصحابة رضي الله عنهم يرغبون تلاميذهم على نفس المنوال، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لو جعل لأحد خمس قلائص إن صلّى الغداة بالقرية لبات يقول لأهله لقد ان لي أن أنطلق، والله لا يقعد أحدكم فيتعلم
__________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 76) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 552) .
(3) مسلم (1/ 552) .
(4) انظر: ابن حبان (1/ 321) ، مرجع سابق.
(1/165)
________________________________________
خمس ايات من كتاب الله فلهن خير له من خمس قلائص وخمس قلائص» «1» ، وفي رواية تصف كيفية إقراء ابن مسعود، وتنشيطه لتلاميذه رضي الله عنه: كان إذا أصبح أتاه الناس في داره فيقول: على مكانكم، ثم يمر بالذين يقرئهم القران، فيقول: أيا فلان بأي سورة أتيت فيخبره في أي اية فيفتح عليه الاية التي تليها، ثم يقول: تعلمها فإنها خير لك مما بين السماء والأرض، قال: فنظر الرجل اية ليس في القران خير منها، ثم يمر بالاخرى فيقول اية مثل ذلك حتى يقول ذلك لكلهم «2» ، وعن أبي إسحاق قال: قال عبد الله بن مسعود: لو قيل لأحدكم لو غدوت إلى القرية كان لك أربع قلائص كان يقول لك قد أبى الله لي أن أغدو، وإن أحدكم غدا فتعلم اية من كتاب الله كانت خيرا له من أربع وأربع وأربع حتى عد شيئا كثيرا «3» .

خامسا: تكريم حفظة القران وإلزامهم بتعليمه في مقابل تيسير الأمور الدنيوية الهامة لهم، وتعميم التعليم على الرجال والنساء:
ففي قصة الواهبة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم طلبها بعض أصحابه، فلم يجد مهرا فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «ماذا معك من القران» قال: معي سورة كذا وسورة كذا عددها، فقال: «تقرؤهن عن ظهر قلبك؟» قال: نعم! قال: «اذهب فقد ملكتها بما معك من القران» «4» ، والسور المذكورة «سماها في فوائد تمام أنها سبع من المفصل، وفي رواية: سورة البقرة أو التي تليها بأو، وفي رواية البقرة وسورة من المفصل، وفي رواية قال: «قم فعلمها عشرين اية وهي امرأتك» وجمع بينها بأن كلا من الرواة
__________
(1) ابن أبي شيبة (6/ 132) ، مراجع سابق.
(2) مجمع الزوائد (7/ 167) ، مرجع سابق، وقال: «رواه كله الطبراني» .
(3) مصنف عبد الرزاق (3/ 366) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 135) .
(4) البخاري (4/ 1919) ، مسلم (2/ 1040) واللفظ له، مرجعان سابقان.
(1/166)
________________________________________
حفظ ما لم يحفظ الاخر «1» ، وفي رواية لمسلم: «اذهب فعلمها من القران» «2» ، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «وقد أنكحتكها على أن تقريها وتعلمها وإذا رزقك الله عوضتها» فتزوجها الرجل على ذلك «3» وسواء كان المهر هذا هو المهر أو لا- على الخلاف- فالمراد اشتراط ذلك دلالة على منزلة القارئ، ونشرا للقران.
وتنبني على هذا مسألة عقد المسابقات القرانية، ورصد الجوائز عليها:
فتشجيع الحفظ ونشر القران الكريم بالمسابقات القرانية ونحوه لا بأس به، ومن النصوص السابقة يظهر نوع إشارة من النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وقد حث بعض أهل العلم على أن يعمل على وضع المحفزات لحفظ القران، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: «وأما هذه الأوقاف على الترب ففيها من المصلحة بقاء حفظ القران وتلاوته هذه الأموال معونة على ذلك وحاضة عليه إذ قد يدرس حفظ القران بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسد أخر من حصول القراءة لغير الله، والتأكل بالقران، وقراءته على غير الوجه المشروع، واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة، فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك الفساد جاز والوجه النهي عن ذلك المنع، وإبطاله إن كان حصول مفسدة أكثر من ذلك» «4» ، وقال في موضع اخر: «والوقوف التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم فيها من الفائدة أنها تعين على حفظ القران، وأنها رزق لحافظ القران، وباعثة لهم على حفظه ودرسه وملازمته» «5» .
__________
(1) انظر: شرح الزرقاني (3/ 168) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (2/ 1041) ، مرجع سابق.
(3) شرح الزرقاني (3/ 168) ، مرجع سابق.
(4) الفتاوى الكبرى (4/ 447) ، مرجع سابق.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص 380.
(1/167)
________________________________________
وتعرض ابن القيم لهذه المسألة فقال: «المسابقة على حفظ القران والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة والإصابة في المسائل هل تجوز بعوض؟ منعه أصحاب مالك وأحمد والشافعي وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا وحكاه ابن عبد البر عن الشافعي، وهو أولى من الشباك والصراع والسباحة، فمن جوز المسابقة عليها بعوض فالمسابقة على العلم أولى بالجواز، وهي صورة مراهنة الصديق لكفار قريش على صحة ما أخبرهم به وثبوته، ولم يقم دليل شرعي على نسخه وأن الصديق أخذ رهنهم بعد تحريم القمار وأن الدين قيامه بالحجة والجهاد فإذا جازت المراهنة على الات الجهاد فهي في العلم أولى بالجواز» «1» ...
وهذا الحفاوة النبوية بحملة القران الكريم تقتضي- واقعا- أن تعقد لهم الاحتفالات في عصرنا، وتشهر أسماؤهم في وسائل الإعلام، ويعطون أعلى الأوسمة حال المسابقات، واللافت للنظر أن ما يحفل به الناس هذه الأيام من الفن والرياضة، لم يكن له هذا الرصيد من الحفاوة في العهد النبوي- وإن كان هذان الأمران قد يحترمان في بعض الجوانب الإيجابية، أو غير السيئة، وقد تعقد له دعاية معينة بحدودها في أوساط الأمة كما في سباق النبي صلّى الله عليه وسلّم للخيل المضمرة إلا أن الفرق شاسع بين الدعاية الحقة التي بثها النبي صلّى الله عليه وسلّم لحملة القران وبين هذين الصنفين.
ولكن يجب دراسة الأساليب التي تضبط نفوس المشاركين- قدر الإمكان- نحو الإخلاص، وطلب الدار الاخرة.
__________
(1) شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ت 751 هـ: الفروسية، تحقيق: مشهور بن حسن بن محمود بن سلمان، دار الأندلس، السعودية- حائل، ط 1، 1414 هـ- 1993 م.
(1/168)
________________________________________
المطلب الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم تسمية السور وألقابها:
وهذا مما علمه النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه رضي الله عنهم، وجعله أصلا من أصول التعليم لأنه ترتيب للايات بعلامات مميزة، وضبطها في طوائف معروفة هي السور، مما يجعل عملية الحفظ، والتعلم أسهل.
فعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم تسمية السور؛ إذ لا يظهر أن ذلك يخضع للاجتهاد بل هو توقيفي في الغالب، وتدل على ذلك دلائل منها ما يظهر من الروايات الواردة في هذا الشأن كحديث: «شيبتني هود وأخواتها سورة الواقعة وسورة القيامة والمرسلات وإذا الشمس كورت وإذا السماء انشقت وإذا السماء انفطرت قال وأحسبه ذكر سورة هود» «1» ، ومنها: إفراد السور بأسماء معينة مع أن في السورة ما يجعل غيرها بالتسمية أولى كما في سورة البقرة مثلا.
وقد تسمى مجموعة من السور باسم مميز فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة من ال حم يعني الأحقاف قال: وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين اية سميت ثلاثين «2» ، وفي التسمية يقال سورة كذا كما بوب البخاري: «باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا» «3» ، ومن ذلك حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الايتان من اخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه» ، وفيه ردّ على من كره ذلك معتمدا على ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة ال عمران ولا سورة النساء وكذا القران كله ولكن
__________
(1) الحاكم (2/ 374) ، الترمذي (5/ 402) ، أبو يعلى (1/ 102) ، مراجع سابقة.
(2) مجمع الزوائد (7/ 105) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما ثقات» .
(3) البخاري (4/ 1923) ، مرجع سابق.
(1/169)
________________________________________
قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والتي يذكر فيها ال عمران وكذا القران كله» «1» ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وعن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة «2» .
وفي خبر يوم حنين: «فانهزموا حتى لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث قال العباس: وكنت اخذا بلجام بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن يمينه وأبو سفيان اخذ بركابه عن يساره فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا عباس ناد في الناس: يا أصحاب السمرة يا أصحاب سورة البقرة- يذكرهم البيعة التي بايعوه تحت الشجرة والشجرة سمرة بايعوه تحتها على ألايفروا- قال العباس: فناديت فخلصت الدعوة إلى الأنصار إلى بني الحارث بن الخزرج، فأقبلوا ولهم حنين كحنين الإبل فقالوا: لبيك يا رسول الله! وسعديك ... » «3»
وعن هشام بن عروة عن أبيه: أن شعار أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم مسيلمة كان:
يا أصحاب سورة البقرة «4» ...
__________
(1) شعب الإيمان (2/ 519) ، مرجع سابق، وقال في مجمع الزوائد (7/ 157) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبيس بن ميمون وهو متروك» فلا يصح هذا الحديث مرفوعا ... وإنما صح من قول الحجاج بن يوسف النقفي رواه عنه مسلم (2/ 942) ، مرجع سابق، ونقل مسلم معه إنكار التابعين عليه.
(2) البخاري (2/ 622) ، مسلم (2/ 943) ، مرجعان سابقان.
(3) أبو عوانة في مسنده (4/ 279) ، مصنف ابن أبي شيبة (6/ 529) ، الطبراني في الأوسط، أحمد (1/ 207) ، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 180) ، مراجع سابقة.
(4) سعيد بن منصور في سننه (2/ 376) ، ابن أبي شيبة (6/ 547) ، مرجعان سابقان.
(1/170)
________________________________________
وقد يلقبون السورة بعلامة مميزة من حيث كمية اياتها، ولا يتحرجون:
نحو قول السورة القصيرة كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة أو الشيء في الصلاة فيقرأ السورة القصيرة «1» ، وفي لفظ بالسورة الخفيفة «2» .
وهذا يرد على من زعم أن من حرمة القران ألا يقال سورة صغيرة كأبي العالية فقد روي عنه أنه كره أن يقال سورة صغيرة أو كبيرة وقال: لمن سمعه قالها أنت أصغر منها وأما القران فكله عظيم «3» ، وقد تقدم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: «ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤم بها الناس في الصلاة» «4» .
ومن هذا الباب: زيادة التنويه ببعض الايات: فعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أي اية في كتاب الله أعظم؟» فقال: الله ورسوله أعلم. يكررها مرارا ثم قال أبي: اية الكرسي. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليهنك العلم أبا المنذر والذي نفسي بيده أن لها للسانا وشفتين تقدسان للملك عند ساق العرش» «5» .
__________
(1) (الكسي) أبو محمد عبد بن حميد بن نصر (ت 249 هـ) : المنتخب من مسند عبد بن حميد ص 404، مراجعة: صبحي البدري السامرائي- محمود محمد خليل الصعيدي، 1408 هـ- 1988 م، مكتبة السنة- القاهرة.
(2) أبو عوانة في مسنده (2/ 88) ، مرجع سابق، أبو يعلى (6/ 157) ، مرجع سابق.
(3) انظر: القرطبي (1/ 31) ، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الكبير (12/ 365) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (2/ 114) ، مرجع سابق.
(5) الحاكم (3/ 344) ، المسند المستخرج (2/ 406) ، النسائي في الصغرى (1/ 548) ، مراجع سابقة، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها في صحيح البخاري (2/ 812) ، مرجع سابق حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قراءتها عند النوم علمه ذلك شيطان فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صدقك وهو كذوب» ، فإن ضعّف الحديث السابق فهذا يغني عنه.
(1/171)
________________________________________
وهذا يدل على شيوع التسمية بينهم- رضي الله تعالى عنهم- سواء بتعليم من النبي صلّى الله عليه وسلّم أم غير ذلك فهو دال على سعة الأمر في ذلك ... ولكنه يرتبط بالعملية التعليمية لألفاظ القران الكريم من حيث شدة حفظ الصحابة لايات كل سورة وقدرتهم على تمييز كل سورة من الاخرى، وعلى الرغم من عدم شيوع العلامات الاصطلاحية للفصل بين الايات والسور إلا أن ما سبق يدل على قدرتهم على التمييز بينها بتلقائية، مما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يوضح لهم ذلك أتم إيضاح.
(1/172)
________________________________________
المبحث الرابع: القواعد التربوية والعلمية المصاحبة لعملية الإقراء (من حيث اللفظ) :
والمراد هنا الاداب اللازمة للقارئ كما وضعها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك ينحصر في أربعة مطالب:
المطلب الأول: الانفعال بالقران الكريم.
المطلب الثاني: لزوم أبجديات منهج التلقي.
المطلب الثالث: تعليمهم تعظيم القران
المطلب الرابع: تعليمهم الهيئة التي يكون عليها قارئ القران إذا أراد القراءة.

المطلب الأول: الانفعال بالقران الكريم:
وله مظاهر متعددة منها:

أولا: الخلق القراني:
فهو وسيلة لتثبيت الحفظ، وقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الخلق وكيفيته بتطبيقه مباشرة فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: «كان خلقه القران يغضب لغضبه ويرضى لرضاه «1» ، وسألها عن خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: ألست تقرأ القران؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله صلّى الله عليه وسلّم كان القران «2» ، وكون خلقه القران معناه أنه صلّى الله عليه وسلّم كان متمسكا بادابه وأوامره
__________
(1) الطبراني في الأوسط (1/ 30) ، أحمد (6/ 91) ، مرجعان سابقان.
(2) مسلم (1/ 513) ، ابن خزيمة (2/ 171) ، ابن حبان (6/ 191) ، مراجع سابقة.
(1/173)
________________________________________
ونواهيه ومحاسنه، فجميع ما قص الله تعالى في كتابه من مكارم الأخلاق مما قصه من نبي أو ولي أو حث عليه كان صلّى الله عليه وسلّم متخلقا به وكل ما نهى الله تعالى عنه فيه كان صلّى الله عليه وسلّم لا يحوم حوله» «1» ، ثم باتت هذه قاعدة مقررة لتثبيت الحفظ، لذا قالوا:
«كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل» «2» .

ثانيا: تحقيق للفاعلية الحركية للقران الكريم:
فهو ربط اللفظ بالاعتقاد والفكر، وربط الاعتقاد والفكر بالعمل والتطبيق ويشير إلى ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (الأنعام: 92) .
ومن هذه الفاعلية: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علمهم أن ينفعلوا بايات القران بحسب معانيها؛ فإذا مر باية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر باية عذاب تعوذ بالله من شر العذاب، أو سأل الله العافية، وإذا مر باية تنزيه نزه الله تعالى، سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها، مأموما وإماما ومنفردا «3» فعن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة ثم مضى فقلت:
يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح ال عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر باية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع ... الحديث «4» .
__________
(1) حاشية السندي على النسائي (3/ 200) .
(2) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 314) ، مرجع سابق.
(3) (النووي) أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي 676 هـ: التبيان في اداب حملة القران ص 46، الوكالة العامة للتوزيع، دمشق، ط 1.
(4) مسلم (1/ 536) ، مرجع سابق.
(1/174)
________________________________________
ومنها: أنه كان إذا مر باية سجود- وهو يعلمهم القران- علمهم مشروعية السجود عندها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلّمنا القران فإذا مرّ بسجود القران سجد وسجدنا معه «1» ، ولكنه جاء عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلّى الله عليه وسلّم والنجم فلم يسجد فيها «2» ... فذهب بعضهم إلى أنه لا يسجد حال التعليم لأنه يشق على الطالب والشيخ لكثرة الطلاب، وبذلك كان يأخذ الإمام أبو القاسم الشاطبي، ويعتمد على حديث زيد، والجمع بينهما عند المؤلف أن التعليم إن كان بالسماع فيسجد؛ إذ تنتفي المشقة، وكذلك هو واقع ما حكاه ابن عمر، وإن كان بالعرض فلا يسجد، وهو واقع حديث زيد، والله أعلم.
ومنها: أن يتفاعلوا مع الايات حسب معنى كل: فعن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ سورة الرحمن- أو قرئت عنده-، فقال: «مالي أسمع الجن أحسن جوابا لردها منكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ما أتيت على قول الله تعالى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (الرحمن: 13) إلا قالت الجن: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب» «3» .

ثالثا: تعليمهم لغتهم الاصطلاحية القرانية الخاصة:
فليس من لغتهم (نسيت اية كذا) ، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم الانفعال بلغة القران كالذي ورد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القران «4» أي يتأول قول الله جل جلاله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ (النصر: 3) ،
__________
(1) أحمد (2/ 157) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 364) ، مرجع سابق.
(3) زوائد تاريخ بغداد على الكتب السنة (4/ 68) ، وقد حسّن المؤلف الحديث.
(4) البخاري (1/ 274) ، مسلم (1/ 350) ، مرجعان سابقان.
(1/175)
________________________________________
والظاهر أن هذا يقاس عليه ما دام دعاء في حدود ضوابطه المقررة- اجتهادا من الباحث-، فيقول مثلا: رب انشر لي من رحمتك وهيئ لي من أمري مرفقا، أخذا من قوله سبحانه وتعالى: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (الكهف: 16) ، ونحو ذلك.

رابعا: البكاء مع قراءة اللفظ:
وقد علمهم صلّى الله عليه وسلّم ذلك قولا وتطبيقا فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن القران نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا» «1» ، وعن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفر من أصحابه: «إني قارئ عليكم ايات من اخر الزمر فمن بكى منكم وجبت له الجنة» فقرأها من عند وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (الزمر: 67) إلى اخر السورة فمنا من بكى، ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا: يا رسول الله! لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك فقال: «إني سأقرأها عليكم فمن لم يبك فليتباك» «2» ، وذاك صدى الجواب لقول الله عزّ وجلّ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ (الزمر: 22) ، وقوله جل جلاله: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (النجم: 59- 60) ، وكان صلّى الله عليه وسلّم يبكي سواء قرأ هو الايات أو قرئت عليه كما في قراءة ابن مسعود عليه من سورة النساء «3» ، وكانوا يشاهدون هذا من حاله صلّى الله عليه وسلّم فعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء «4» والأزيز بزايين: صوت الرعد وغليان القدر.
__________
(1) ذكر هذا الحديث الغزالي في الإحياء (1/ 277) ، وعلق عليه العراقي: «أخرجه أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف» .
(2) الطبراني في الكبير (2/ 348) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1673) ، مسلم (1/ 551) ، ابن خزيمة (2/ 354) ، مراجع سابقة.
(4) ابن خزيمة (2/ 53) ، ابن حبان (2/ 439) ، الحاكم (1/ 396) ، المختارة (9/ 463) ، مراجع سابقة.
(1/176)
________________________________________
وقد وصفت أسماء حال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند سماع القران دلالة على نجاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغرس صفة الانفعال الصادق بالقران فيهم، مع عدم المبالغة المتكلفة، فعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء: كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ إذا قرأوا القران؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قلت: فان ناسا هاهنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان «1» .
تسلسل المنهجية: وعلم الأصحاب رضي الله عنهم تلاميذهم ذلك فعن عبد الرحمن ابن السائب قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقد كف بصره فسلمت عليه، فقال: من أنت فأخبرته فقال: مرحبا بابن أخي! بلغني أنك حسن الصوت بالقران سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن هذا القران نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا» «2» .

خامسا: التشنيع العاطفي الحساس مما يشير إلى النسيان:
وذلك بالتنفير من الألفاظ الشكلية فضلا المعاني الجوهرية وصولا إلى كمال المحاربة الشعورية والظاهرية للنسيان الفردي للقران الكريم فلا يتطرق إليه الترك الجماعي كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بئسما لأحدهم يقول نسيت اية كيت وكيت بل هو نسّي «3» » «4» .
__________
(1) سعيد بن منصور في سننه (2/ 330) ، مرجع سابق.
(2) ابن ماجة (1/ 424) ، وقال العراقي في المغني (1/ 234) : «أخرجه ابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص بإسناد جيد» .
(3) قال النووي: «ضبطناه بتشديد السين وقال القاضي ضبطناه بالتشديد والتخفيف» . انظر: شرح مسلم (6/ 323) ، مرجع سابق.
(4) البخاري (4/ 1923) ، مسلم (1/ 544) ، مرجعان سابقان.
(1/177)
________________________________________
المطلب الثاني: لزوم أبجديات منهج التلقي:
ولأن القران تلق من الشفاه كما سبق بيانه فإنه يترتب على ذلك قواعد أساسية بينها النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه، ورباهم عليها، وهي:
أولا: القراءة كما تلقى الإنسان دون تغيير:
ثانيا: قبول القراءة من أي صحابي ما دام يعزوها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بحسب منهجية التلقي، وتحسينها:
ثالثا: المراء في القران كفر:
ويأتي الكلام عن ذلك في الفصل الخامس- إن شاء الله تعالى-، إنما أحببنا الإشارة إلى أن هذا من القواعد العلمية والتربوية التي ربى النبي صلّى الله عليه وسلّم عليها أصحابه رضي الله عنهم.

المطلب الثالث: تعليمهم تعظيم القران «1» :
ولذلك مظاهر متعددة منها:

أولا: تعليمهم الاستغناء بالقران عن غيره:
فقد علمه ربه جل جلاله أن يستغني بالقران عما سواه في قوله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (الحجر: 87) فالله جل جلاله يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: «كما اتيناك القران العظيم فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه فلا تغبطهم بما هم فيه» «2» ، «ولا تطمح ببصرك طموح راغب إلى ما متعنا به أزواجا منهم أصنافا من الكفار فإنه
__________
(1) وانظر في الاداب المعظمة له: القرطبي (1/ 29) ، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (2/ 552) ، مرجع سابق.
(1/178)
________________________________________
مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات، مفض إلى دوام اللذات» «1» «فاستغن بما اتاك من القران العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية» «2» .
وعن معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعملوا بالقران أحلوا حلاله وحرموا حرامه واقتدوا به ولا تكفروا بشيء منه وما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كما يخبروكم وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وما أوتي النبيون من ربهم وليسعكم القران وما فيه من البيان فإنه شافع مشفع وما حل مصدق ألا ولكل اية نور يوم القيامة وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه وطواسين والحواميم من ألواح موسى وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش» «3» .
وبذلك رجح من رجح أن المراد بالتغني الوارد في حديث «ليس منا من لم يتغن بالقران» فهو الاستغناء به- عندهم- عن سائر الأشياء سواه «4» .
تفسير الاستغناء: وهذا الغنى يحتمل غنى النفس بمعنى أنهم يرون أن ما منحوه من تيسير حفظه هو الغنى الحقيقي، وأن غنى بالمال في جنب ذلك لا عبرة به لأنه غاد ورائح، ويحتمل أن حفظه والعمل به ي*** الغنى بالمال «5» ، «وقد روى ابن عساكر في تاريخه عن أنس رضي الله عنه: أغنى الناس حفظة القران، والمراد بهم من جعله الله تعالى في جوفه أي سهل له حفظه عن ظهر قلب مع العمل به كما تقرر ...
__________
(1) القرطبي (10/ 55) ، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (2/ 552) ، مرجع سابق.
(3) البيهقي في الكبرى (10/ 9) ، مرجع سابق، ولأكثر فقراته شواهد معلومة.
(4) شرح مشكل الاثار (4/ 353) .
(5) فيض القدير (2/ 19) ، مرجع سابق.
(1/179)
________________________________________
قال أبو إسحاق الدمشقي: كنت أمشي بالبادية واحدي فإذا أعييت رفعت صوتي بالقران فحمل عني ألم الجوع حتى قطعت مراحل كثيرة» «1» .

ومن أهم مظاهر الاستغناء به:
نبذ كل ما خالفه وجعله المهيمن في كل الأمور، وقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ (المائدة: 48) .
وعن أنس بن مالك أنّه سمع عمر الغد حين بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشهّد قبل أبي بكر فقال أمّا بعد فاختار الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم الّذي عنده على الّذي عندكم وهذا الكتاب الّذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا وإنّما هدى الله به رسوله «2» ، وكذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين ينادون يا عبد الله هذا الطريق فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القران «3» .

ثانيا: تعليمهم الاعتزاز بحفظ القران: ومن مظاهره:
1- تعليمهم إحكام القران بسلامته من الاختلاف: كما في قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء: 82) ، فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه:
اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الاخر، واختلاف تفاوت وهو أن يكون بعضه بليغا وبعضه مرذولا ساقطا وهذان الضربان من الاختلاف
__________
(1) فيض القدير (2/ 20) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (6/ 2653) ، ابن حبان (14/ 590) ، مرجعان سابقان.
(3) الدارمي (2/ 524) ، الطبراني في الكبير (9/ 212) ، مرجعان سابقان.
(1/180)
________________________________________
منفيان عن القران، والثالث: اختلاف التلاؤم هو أن يكون الجميع متلائما في الحسن كاختلاف وجوه القراات ومقادير الايات» «1» .
1- تعليمهم الاكتفاء به في بيان منهج التلقي والاستدلال، والنجاة الدنيوية والاخروية: فقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله جل جلاله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (العنكبوت: 51) ، وعلمهم أنه لا مجال للخسارة والتلجلج والاضطراب بعد أن يوهب المرء الكتاب حفظا إلا لمن لا عقل له وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أن القران جعل في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» «2» ، وفسره بعض الرواة بأن من جمع القران ثم دخل النار فهو شر من الخنزير، وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه الداعي إلى النجاة، ودستور الفلاح فعن النّوّاس بن سمعان الأنصاريّ رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصّراط سوران فيهما أبواب مفتّحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصّراط داع يقول أيّها النّاس ادخلوا الصّراط جميعا ولا تتفرّجوا وداع يدعو من جوف الصّراط فإذا أراد يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنّك إن تفتحه تلجه والصّراط الإسلام والسّوران حدود الله تعالى والأبواب المفتّحة محارم الله تعالى وذلك
__________
(1) أحكام القران للجصاص (3/ 182) .
(2) الدارمي (2/ 522) ، أحمد (4/ 151) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 5266، وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 200 في معناه: «حدثني يزيد بن عمرو قال: سألت الأصمعي عن هذا الحديث فقال: يعني لو جعل القران في إنسان ثم ألقي في النار ما احترق، وأراد الأصمعي أن من علمه الله تعالى القران من المسلمين وحفظه إياه لم تحرقه النار يوم القيامة إن ألقي فيها بالذنوب كما قال أبو أمامة احافظوا القران أو اقرؤا القران ولا تغرنكم هذه المصاحف فإن الله تعالى لا يعذب بالنار قلبا وعى القران وجعل الجسم ظرفا للقران كالإهاب والإهاب الجلد الذي لم يدبغ ... » انظر: (ابن قتيبة) : تأويل مختلف الحديث ص 200.
(1/181)
________________________________________
الدّاعي على رأس الصّراط كتاب الله عزّ وجلّ والدّاعي فوق الصّراط واعظ الله في قلب كلّ مسلم» «1» .
2- نعت حملة القران بأعظم النعوت، وأجلها: مثل أهل الله وخاصته، خيركم، القراء على الإطلاق ... ومن مقتضى هذا الإطلاق: الإشارة إلى أن غيرهم أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وكأن عدم إتقان ألفاظ القران وحفظها أمية غير لائقة بالمديح حتى لو كان صاحبها متقنا لكل علم غير ذلك ... ، وذكر رجل عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخير فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أولم تروه يتعلّم القران» «2» ، وقد حاد عن المنهجية من يمتهن ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يعظمونه.
3- ولتعليمهم الاعتزاز بحفظ القران الكريم أمرهم بالفرح به في قوله سبحانه وتعالى:
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا (يونس: 58) فقد قال ابن عباس فيها: «بكتاب الله وبالإسلام خير مما يجمعون» «3» ، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ القران وَبِرَحْمَتِهِ أن جعلكم من أهله «4» .
4- أوجب عليهم تطبيقه وهيمنته على كل أمور الحياة الفردية والجماعية، فيكون الإنسان محاطا به في يقظته ومنامه، وأكله وجوعه، وذهابه وإيابه، وارتباطه الفردي والجماعي.
__________
(1) أحمد (4/ 182) ، مرجع سابق.
(2) أحمد (5/ 284) ، مرجع سابق.
(3) سعيد بن منصور (5/ 314) ، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الأوسط (5/ 347) ، مرجع سابق، وقال في مجمع الزوائد (7/ 36) ، مرجع سابق: «وفيه عطية العوفي وهو ضعيف» وانظر في شواهده: لمحات الأنوار (1/ 34) برقم 18، مرجع سابق.
(1/182)
________________________________________
5- التشديد على من ذكره في حلف أو قسم كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف بسورة من القران فعليه بكل اية كفارة إن شاء بر وإن شاء فجر» «1» .
6- وكنتيجة لهذا الاعتزاز بالقران فقد كان من اعتزازهم بالقران يطردون البطالين فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن بطالا أقبل إليهم فقال ابن مسعود اطردوه بالقران، ثم أمر غلاما أن يقرأ سورة في المصحف فلما سمع البطال القران ذهب «2» ، وفي المقابل فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم أن يشجع المقرئ القارئ فيقول المقرئ للقارئ أحسنت أو نحوها من العبارات: فعن عبد الله ابن مسعود قال:
بينا أنا بالشام بحمص فقيل لي: اقرأ سورة يوسف، فقرأتها فقال رجل: ما كذا أنزلت! فقلت: والله لقد قرأتها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أحسنت فبينا أنا أكلمه إذ وجدت ريح الخمر، قلت: أتكذب بكتاب الله وتشرب الخمر؟ والله لا تبرح حتى أجلدك الحد «3» .
ومن تسلسل المنهجية في تعليم الاعتزاز بالقران ما جاء عن عطاء بن السائب قال أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القران، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القران، قال: قد أخذت علم الله، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ قوله أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (النساء: 166) «4» .
__________
(1) البيهقي في سننه الكبرى (10/ 43) ، مرجع سابق.
(2) (أبو يوسف) القاضي يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ت 182 هـ: الاثار ص 53، دار الكتب العلمية، بيروت، 1355 هـ، والبطال يطلق على الساحر، ويطلق على اللعاب العابث.
(3) النسائي في السنن الكبرى (5/ 29) ، مرجع سابق.
(4) ابن كثير (1/ 590) ، مرجع سابق.
(1/183)
________________________________________
المطلب الرابع: تعليمهم صلّى الله عليه وسلّم الهيئة التي يكون عليها قارئ القران إذا أراد القراءة «1» :

أولا: علمهم صلّى الله عليه وسلّم ألا يمس المصحف إلا طاهر من كل حدث أصغر أو أكبر «2» :
فقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك فيما رواه عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم: «ألايمس القران إلا طاهر» «3» وقال الإمام مالك تفصيلا وبيانا للعلة: «ولا يحمل أحد المصحف بعلاقته ولا على وسادة إلا وهو طاهر ولو جاز ذلك لحمل في خبيئته ولم يكره ذلك لأن يكون في يدي الذي يحمله شيء يدنس به المصحف ولكن إنما كره ذلك لمن يحمله وهو غير طاهر إكراما للقران وتعظيما له» «4» ، وأما قوله جل جلاله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (الواقعة: 79) ، فلا يدل على المسألة على الراجح كما قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الاية لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) إنما هي بمنزلة هذه الاية التي في عبس وتولى قول الله تبارك وتعالى كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (عبس: 11- 16) «5» ، وقد استنبط العلماء ذلك التعظيم للمصحف من
__________
(1) وانظر: القرطبي (1/ 27) ، شعب الإيمان (2/ 319) ، الفردوس بمأثور الخطاب (3/ 538) ، مرجعان سابقان.
(2) انظر تفصيل هذه المسألة في: تفسير القرطبي (17/ 227) ، مرجع سابق.
(3) انظر في الكلام على صحة كتاب عمرو بن حزم: التمهيد (17/ 397) ، مرجع سابق، (ابن رشد الحفيد) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي أبو الوليد ت 595 هـ: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/ 30) ، دار الفكر، بيروت.
(4) موطأ الإمام مالك (1/ 199) ، مرجع سابق.
(5) موطأ الإمام مالك (1/ 199) ، مرجع سابق.
(1/184)
________________________________________
ايات الواقعة وعبس، ولكن بطريق اخر «لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القران في الملأ الأعلى فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى لأنه نزل عليهم وخطابه متوجه إليهم فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم والانقياد له بالقبول والتسليم» «1» ، وقد علم الصحابة أصحابهم ذلك.
وذكر ابن عبد البر رواية تؤكد إرادة معنى الوضوء هي (ألايمس القران إلا على طهور) ، ولذا لم يختلف فقهاء الأمصار بالمدينة والعراق والشام أن المصحف لا يمسه إلا الطاهر على وضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهواه وأبي ثور وأبي عبيد وهؤلاء أئمة الفقه والحديث في أعصارهم «2» .

تسلسل المنهجية:
وحرص الصحابة على ذلك فعن مصعب بن سعد أنه قال: كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص فاحتككت فقال سعد:
لعلك مسست ذكرك فقلت: نعم فقال قم فتوضأ فقمت فتوضأت ثم رجعت «3» ، وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا مع سلمان فخرج فقضى حاجته، ثم جاء فقلت: يا أبا عبد الله لو توضأت لعلنا أن نسألك عن ايات قال: إني لست أمسه إنما لا يمسه إلا المطهرون فقرأ علينا ما شئنا «4» .

ثانيا: علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه يجوز القراءة على كل حال ما لم يكن جنبا:
فعدم المس لا يعني اطّراح القراءة، بل القراءة مطلوبة على كل حال ما لم يكن المرء جنبا، وذلك ما علمه الصحابة رضي الله عنهم لمن بعدهم كما تعلموه من النبي صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) ابن كثير (4/ 123) ، مرجع سابق.
(2) انظر: التمهيد (17/ 397) ، مرجع سابق.
(3) البيهقي في الكبرى (1/ 88) ، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (1/ 88) ، مرجع سابق.
(1/185)
________________________________________
فعن عبد الله بن سلمة قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنا ورجلان رجل من قومي ورجل أحسبه من بني أسد فبعثهما وجها وقال إنكما علجان فعالجا عن دينكما ثم دخل المخرج فقضى حاجته ثم خرج فأخذ حفنة من ماء فمسح بها ثم جعل يقرأ القران قال فكأنه رأى أنا أنكرنا ذلك فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضي حاجته فيقرأ القران ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه وربما قال يحجزه عن القران شيء ليس الجنابة «1» ، وبات ذلك قولا لعلي رضي الله عنه، إذ ورد عنه أنه قال: لا بأس أن تقرأ القران وأنت على غير وضوء فأما وأنت جنب فلا ولا حرفا «2» .
وإنما أخذ الصحابة ذلك تعليما من النبي صلّى الله عليه وسلّم في عدة وقائع، منها ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة أم المؤمنين وهي خالته، قال فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهله في طولها فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا نتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الايات الخواتم من سورة ال عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام فصلّى وذكر باقي الحديث «3» .
وأخذ ذلك ابن عباس رضي الله عنه وأفتى به فعن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر وابن عباس يقولان: إنا لنقرأ الجزء من القران بعد الحدث «4» .
__________
(1) المنتقى (1/ 34) ، ابن خزيمة (1/ 104) ، الحاكم (1/ 253) ، المختارة (2/ 215) ، أبو داود (1/ 59) ، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 38) .
(2) مصنف عبد الرزاق (1/ 336) ، البيهقي في الكبرى (1/ 90) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (1/ 78) ، مسلم (1/ 526) ، ابن حبان (6/ 317) ، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (1/ 38) ، مرجع سابق.
(1/186)
________________________________________
وهذا لبيان الجواز في قراءة غير الجنب دون مس للمصحف خشية الحجب الكثير عن القراءة تلاوة وحفظا ومراجعة، وإلا فالأكمل ألايذكر الله على غير طهارة لما رواه المهاجر بن قنفذ بن عمر بن جدعان أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» أو قال: «على طهارة» «1» .

وأما قراءة الجنب والحائض للقران:
فلأهل العلم في ذلك ثلاثة أقوال:
قيل يجوز لهذا ولهذا وهو مذهب أبي حنيفة، والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد. وذهب البعض إلى أن الحائض لا تمس المصحف ولا تقرأ القران «2» ، وقال الأوزاعي سئل الزهري عن الجنب والنفساء والحائض فقال: لم يرخص لهم أن يقرؤوا من القران شيئا «3» .
وقيل لا يجوز للجنب ويجوز للحائض إما مطلقا أو إذا خافت النسيان وهو مذهب مالك وقول في مذهب أحمد وغيره، فقد غلب المحققون جانب قراءة القران فأجازوا للحائض القراءة تغليبا لهذا الأصل استحسانا لطول مقامها حائضا وهو مذهب مالك «4» ، بل ذهب البعض إلى أنه إذا ظنت نسيانه وجبت «5» ، فإن قراءة الحائض القران لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه شيء غير: «لا تقرأ الحائض ولا
__________
(1) ابن خزيمة (1/ 103) ، ابن حبان (3/ 82) ، الحاكم (1/ 272) ، مرجع سابق.
(2) انظر: البيهقي في الكبرى (1/ 309) ، الترمذي (1/ 236) ، مرجع سابق.
(3) البيهقي (1/ 309) ، مرجع سابق.
(4) انظر: بداية المجتهد (1/ 35) ، مرجع سابق.
(5) انظر: المبدع في شرح المقنع (1/ 260) ، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل (1/ 243 و 1/ 337) .
(1/187)
________________________________________
الجنب من القران شيئا» «1» ، وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله ولم يكن ينههن عن قراءة القران كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد فيكبرن بتكبير المسلمين وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت تلبي وهي حائض وكذلك بمزدلفة ومنى وغير ذلك من المشاعر، وأما الجنب فلم يأمره أن يشهد العيد ولا يصلي ولا أن يقضي شيئا من المناسك لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له فيترك الطهارة بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر لكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر الله ودعائه مع كراهة ذلك للجنب فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه لأجل العذر، وإن كانت عدتها أغلظ، وليست القراءة كالصلاة وكان النبي يضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها وهي حائض، وفي صحيح مسلم أيضا يقول الله عز وجل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا» فتجوز القراءة قائما وقاعدا وماشيا ومضطجعا وراكبا «2» .

ثالثا: لا يمكن الكافر من لمس المصحف:
وذلك لئلا يتمكن من الاستهانة به، فقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك فيما رواه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسافروا بالقران فإني لا امن أن يناله العدو» «3» .
__________
(1) الترمذي (1/ 236) ، البيهقي في الكبرى (1/ 309) ، مصنف ابن أبي شيبة (1/ 98) .
(2) انظر الكلام بطوله لابن تيمية (21/ 460) ، مرجع سابق.
(3) مسلم (3/ 1490) ، أحمد (2/ 76) ، مرجعان سابقان، ولعل الخوف المذكور مخافة أن يناله العدو فيغير فيه في وقت نزوله مع قلة المصاحف ... فيحدث ذلك بلبلة في المجتمع المسلم ... فإن صحت هذه علة فقد تنتفي أحيانا ...
(1/188)
________________________________________
وأما ترجمة معاني القران وإهداؤها أو بيعها لمن يؤمل فيه الهداية فالظاهر الجواز مطلقا ولا يدخل في الخلاف، فيشرع مس الكتاب الذي فيه معاني القران ككتب التفسير والفقه ونحوها مما يؤمل معه أن يسلم، أو يتعرف إلى الإسلام كما أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم كتابه إلى هرقل.
وقد اشتد المسلمون في تنفيذ ذلك حتى منعوا منه أولي القوة من المشركين فقد قال عمر لأخته قبل أن يسلم: أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرأ- وكان عمر يقرأ الكتاب- فقالت أخته: إنك رجس، وإنه لا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ قال فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ طه ولهذا الحديث شواهد كثيرة وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة «1» ، ولكن رخص مالك للصبيان في مس المصحف على غير طهر لأنهم غير مكلفين «2» .

رابعا: استعمال السواك عند القراءة:
والراوي لهذا إنما هو شيخ القراء أبو عبد الرحمن السلمي عن علي قال:
أمرنا بالسواك وقال إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك فقام خلفه يستمع القران ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو حتى يضع فاه على فيه فلا يقرأ اية إلا كانت في جوف الملك «3» فيطيّب فاه إذ هو طريق القران كما جاء في حديث علي: «إن أفواهكم طرق للقران فطهروها بالسواك» «4» ، بل ذكر بعض العلماء أن من فمه نجس يحتمل المنع من قراءة القران وأنه أولى «5» .
__________
(1) البيهقي في الكبرى (1/ 38) ، مرجع سابق.
(2) انظر: بداية المجتهد (1/ 30) ، مرجع سابق.
(3) البيهقي في الكبرى (1/ 38) ، مرجع سابق.
(4) رواه أبو نعيم في الحلية (4/ 296) ، مرجع سابق، وانظر تخريجه في تلخيص الحبير (1/ 70) ، مرجع سابق.
(5) المبدع (1/ 186) ، مرجع سابق.
(1/189)
________________________________________
خامسا: وعلمهم من تعظيمه أن يستقبل القبلة لقراءته:
ومن النصوص التعليمية الواردة في استقبال القبلة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل شيء سيدا وإن سيد المجالس قبالة القبلة» «1» ، وذلك يشير إلى أن كل حركة وسكون من العبد على نظام العبودية بحسب نيته في يقظته ومنامه وقعوده وقيامه وشرابه وطعامه تشرف حالته بذلك فيتحرى القبلة في مجلسه ويستشعر هيئتها، فلا يعبث فيسن المحافظة على استقبالها ما أمكن حتى للمدرس على الأصح، وإنما سن استدبار الخطيب للقبلة لأن المنبر يسن كونه بصدر المجلس فلو استقبل خرج عن مقاصد الخطاب، لأنه يخاطب حينئذ من هو خلف ظهره وقد يفعل كما كان يصنع شيخ الإسلام الشرف المناوي يجلس لإلقاء الدرس مستدبرها، والقوم أمامه قياسا على الخطبة ويعلله بما ذكر من أن ترك استقبال واحد أسهل من تركه لخلق كثير «2» .

سادسا: تعليمهم الحالة التي يكون عليها قارئ القران أثناء القراءة:
1- أن يتمضمض كلما تنخع روى شعبة بن أبي حمزة عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه كان يكون بين يديه تور إذا تنخع مضمض ثم أخذ في الذكر وكان كلما تنخع مضمض «3» . وهذا ليس على إطلاقه كما في تحليل أدلة ذلك كله، فإن من مقاصد الشرع أن يجعل الذكر حياة المؤمن فيذكر الله قائما وقاعدا وعلى جنب، لا يحجبه عن الذكر شيء ما لم يكن الجنابة، وفيه إبقاء لنوع التميز للذكر وقراءة القران.
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط (3/ 25) ، مرجع سابق، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 59) ، مرجع سابق،: «وإسناده حسن» .
(2) انظر: فيض القدير (2/ 512) ، مرجع سابق.
(3) القرطبي (1/ 27) ، مرجع سابق.
(1/190)
________________________________________
2- الخشوع عند قراءة القران: فعن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرّحمن كيف تقرأ هذا الحرف ألفا تجده أم ياء من ماء غير اسن أو من ماء غير ياسن قال فقال عبد الله: وكلّ القران قد أحصيت غير هذا قال إنّي لأقرأ المفصّل في ركعة فقال عبد الله هذا كهذّ الشّعر إنّ أقواما يقرؤن القران لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع «1» .
3- إذا تثاءب أن يمسك عن القراءة: لأنه إذا قرأ فهو مخاطب ربه ومناج والتثاؤب من الشيطان، وعن مجاهد قال: إذا تثاءبت وأنت تقرا فامسك عن القراءة حتى يذهب عنك «2» ، يريد أن في ذلك الفعل إجلالا للقران «3» .
4- إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الادميين من غير ضرورة.
5- أن يقرأه بالترتيل.
6- أن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به، كما في قوله جل جلاله:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (ص: 29) كما قال الغزالي: «ولا يعرفه إلا من طال في تدبر كلماته فكره وصفا له فهمه حتى تشهد له كل كلمة منه بأنه كلام جبار قهار وأنه خارج عن حد استطاعة البشر» «4» .
7- أن يقف على اية الوعد فيرغب إلى الله تعالى ويسأله من فضله وأن يقف على اية الوعيد فيستجير بالله منه: كما تقدم في الفاعلية الحركية.
__________
(1) مسلم (1/ 563) ، المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 415) ، ابن أبي شيبة (2/ 256) ، مراجع سابقة.
(2) سعيد بن منصور في سننه (2/ 342) ، مرجع سابق، وقال المعلق: «سنده صحيح» .
(3) القرطبي (1/ 27) ، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (1/ 558) ، مرجع سابق.
(1/191)
________________________________________
8- يمنع رفع الصوت واللغط عند قراءة القران: فعن أبي عبد الرحمن قال:
القران وحشى ولا يصلح مع اللغط «1» ، والمراد يحتاج ليكون واحده في السماع والقلب دون أن يزاحمه غيره، وعن قيس بن عبادة قال كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرهون رفع الصوت عند الذكر «2» أي من غير الذاكرين أو منهم على وجه مناف للخشوع.
فأما منهج الحلقات، وهيئة القراءة كما علمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه رضي الله عنهم فقد بسط لها الفصل الثالث كاملا.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 143) ، مرجع سابق.
(2) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 143) ، مرجع سابق.
(1/192)
________________________________________
الفصل الثالث: جماع منهجية النبي صلّى الله عليه وسلّم في تحفيظ الألفاظ وترتيلها:
هذا الفصل معقود لبيان كيفية تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم اللفظ القراني في اتجاهين:
تقسيم معالم التدريس في الحقل القراني إلى معالم أساسية سواء كانت في الوقت الرسمي للحلقات القرانية أو في غيره.
وبيان كيفية تلقينه صلّى الله عليه وسلّم لهم اللفظ القراني، وذلك اقتضى بيان التأصيل الشرعي للتجويد، والملحقات به ...
ولتحقيق البيان الكامل حول هذين الاتجاهين انقسم هذا الفصل إلى ستة مباحث هي:
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أساسات الدرس القراني (منهج الحلقات القرانية) .
المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم ماهية التجويد وحكمه.
المبحث الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أهمية التجويد وضوابطه الشرعية.
المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم ترتيل ألفاظ القران الكريم.
المبحث الخامس: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم مراتب الأداء الأعلى من التجويد.
المبحث السادس: تعليمه صلّى الله عليه وسلم الملحقات بأحكام التجويد.
(1/193)
________________________________________
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أساسات الدرس القراني «منهج الحلقات القرانية» :
ويتحدث هذا المبحث عن أساسات التعليم القراني عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويبين أنها الأساسات ذاتها التي يسير عليها معلمو القران الكريم في عصرنا سواء كان ذلك في وقت الحلقات القرانية أو بعدها مما تستلزمه الدراسة ... ولبيان ذلك انقسم المبحث إلى أربعة مطالب، تمثل أساسات الدرس القراني:
المطلب الأول: القراءة نظرا من المصحف.
المطلب الثاني: القراءة عن ظهر قلب.
المطلب الثالث: التعاهد (المراجعة) .
المطلب الرابع: تعليمهم مقدار الورد (الحزب) اليومي.

المطلب الأول: القراءة نظرا من المصحف:
كان صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم القراءة من المصحف نظرا بالإضافة إلى استظهاره عن ظهر قلب فهو يقول لأصحابه: «من سره أن يحب الله ورسوله؛ فليقرأ في المصحف» «1» ، ولعله صلّى الله عليه وسلّم كان يملي عليهم القران ليكتبوه عند موضع يقال له موضع المصحف فعن سلمة بن الأكوع أنه رضي الله عنه كان يتحرى موضع مكان المصحف فكان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي عند المصحف. «2» .، ووقع عند مسلم بلفظ: (يصلي وراء الصندوق) ، وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع
__________
(1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 209) ، 1405 هـ.
(2) البخاري (1/ 189) ، مسلم (1/ 364) ، مرجعان سابقان.
(1/194)
________________________________________
فيه «1» ، وقيل في مسجده صلّى الله عليه وسلّم موضع خاص للمصحف كان ثمة من عهد عثمان «2» .
والحث على القراءة نظرا من المصحف ليتحقق أمران منهجيان أساسان في نقل اللفظ القراني:
1- وجود القران مكتوبا على أوسع نطاق في الأمة، فلكل أسرة على الأقل مصحف مما يجعل مسألة التشكيك فيه ضربا من الهذيان، وهذا من مقتضيات تسمية القران بالكتاب.
2- تعضيد القراءة بالكتابة، وتثبيت الكتابة بالقراءة ... ولذا كان أشهر اسمين للقران هما (القران والكتاب) ، ومن الفوائد غير ذلك:
أن يثبت في ذهن المؤمنين وغيرهم أن الكتاب الذي يستحق وصف الكتاب بإطلاق هو القران، كما قال الله عزّ وجلّ: ذلِكَ الْكِتابُ (البقرة: 2) .
فيه مواساة لمن لا يحفظ لبقاء اتصاله بالقران ولو لم يكن من حملة القران بالمعنى الخاص.
نشر الكتابة في الأمة على أوسع نطاق بربطه بما ينبغي نشره على أوسع نطاق وهو المصحف، مما يجعلها تأخذ بنواصي التقدم العلمي دائما.
التدبر: فإن النظر في المصحف يعين على ذلك: قال صلّى الله عليه وسلّم: «أعطوا أعينكم حظها من العبادة قيل: يا رسول الله ما حظها من العبادة؟ قال: النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه» «3» .
__________
(1) فتح الباري (1/ 577) ، مرجع سابق.
(2) شرح سنن ابن ماجه ص 103.
(3) العظمة (5/ 225) .
(1/195)
________________________________________
وأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بتملك المصاحف: كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلّموا كتاب الله تعالى وتعاهدوه واقتنوه وتغنّوا به فو الّذي نفسي بيده لهو أشدّ تفلّتا من المخاض في العقل» «1» ؛ إذ إن قوله «اقتنوه» يفيد التملك أو اللزوم ... وكلاهما يدل على مصاحبة المصحف للمرء.
وقد اهتم الصحابة بتملك المصاحف، وصار المصحف قطعة من فؤادهم:
حتى جعلوه مقياسا للجمال عندهم لكثرة نظرهم فيه فعن أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي لهم في وجع النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم.. «2» .، فقوله (كأن وجهه ورقة مصحف) عبارة عن الجمال البارع، وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته «3» .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يتابعون النظر في المصحف ولو كانوا حفظة فعن الحسن البصري قال: دخلوا على عثمان والمصحف في حجره «4» ، وعثمان رضي الله عنه هو القائل رضي الله عنه: (لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف) «5» ، وما مات رضي الله عنه حتى خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه «6» ، وعن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله عنه وهو
__________
(1) ابن حبان (1/ 325) ، أحمد (4/ 153) ، وقال في مجمع الزوائد (7/ 169) ، مراجع سابقة: «ورجال أحمد رجال الصحيح» .
(2) البخاري (1/ 240) ، مرجع سابق.
(3) شرح النووي (4/ 142) ، مرجع سابق.
(4) ابن أبي شيبة (2/ 241) ، مرجع سابق.
(5) انظر: شعب الإيمان (2/ 409) ، مرجع سابق.
(6) انظر: شعب الإيمان (2/ 409) ، مرجع سابق.
(1/196)
________________________________________
يقرأ في المصحف قبل أن يذهب بصره وهو يبكي.. «1» .، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحثون الناس على القراءة من المصحف فقد أتى قوم واثلة بن الأسقع فقالوا:
حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس فيه زيادة ولا نقصان، فغضب وقال: «إن مصحف أحدكم معلق في بيته وهو يزيد وينقص ... » «2» أي لا يتقن حفظ القران ويسأل عن حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن ثابت قال: كان عبد الرحمن بن أبي ليلى إذا صلّى الصبح قرأ المصحف حتى تطلع الشمس قال وكان ثابت يفعله «3» ، وعن عبد الله بن عمرو قال: انتهيت إليه وهو ينظر في المصحف قال قلت أي شيء تقرأ في المصحف قال: حزبي الذي أقوم به الليلة «4» وعن يونس قال: كان خلق الأولين النظر في المصاحف قال: وكان الأحنف بن قيس إذا خلا نظر في المصحف «5» .

المطلب الثاني: القراءة عن ظهر قلب:
علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أهمية الحفظ (عن ظهر قلب) ... وورد هذا التعبير في الدلالة على استظهار القران في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا عدها قال: «أتقرؤهن عن ظهر قلبك» قال: نعم! «6» ، وبوب البخاري لذلك: «باب القراءة عن ظهر قلب» «7» .
__________
(1) الحاكم (2/ 352) ، مرجع سابق.
(2) الحاكم (2/ 230) ، مرجع سابق.
(3) سنن الدارمي (2/ 532) ، مرجع سابق.
(4) ابن أبي شيبة (2/ 124) ، مرجع سابق.
(5) ابن أبي شيبة (2/ 124) ، مرجع سابق.
(6) البخاري (4/ 1920) .
(7) وانظر بحثا تحليليا وافيا عن (الحفظ) في كتاب الباحث: تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم ص 232، مرجع سابق.
(1/197)
________________________________________
المفاضلة بين القراءة نظرا وبين القراءة عن ظهر قلب:
دل سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم له بقوله: أتقرأهن عن ظهر قلبك؟ على فضل القراءة عن ظهر قلب لأنها أمكن في التوصل إلى التعليم، «والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والاشخاص» «1» لمن كان قد حفظ عن ظهر قلب ... أما التفضيل بين حافظ وغير حافظ فظاهر، وقد قال أبو أمامة في تفضيل الحفظ عن ظهر قلب: «اقرأوا القران ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة فإن الله لا يعذب قلبا وعى القران» «2» ، ويناسب هذا الحديث الموقوف حديث عقبة ابن عامر المرفوع ...
قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو جعل القران في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» «3» ، وكان مصطلح القراء أو قرأة القران يرد في الحافظ له عن ظهر قلب، ومثله مصطلح حملة القران، وأهل القران، وصاحب القران.

القراءة (السماع) نظرا هي المطلوبة حال عرض التلاميذ:
لا شك أن القراءة نظرا أكثر تثبيتا، وأدعى للطمأنينة على المحفوظ وأسلم من الغلط، وهي المطلوبة للمقرئ حال عرض الاخرين عليه كما في حديث قيس ابن مروان قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفة فقال: يا أمير المؤمنين جئت من الكوفة وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب قال: فغضب عمر وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل. فقال: ويحك! من هو؟ فقال: عبد الله بن مسعود فما زال عمر يطفئ ويسري عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التي كان عليها.
__________
(1) فتح الباري (9/ 80) ، مرجع سابق.
(2) أخرجه ابن أبي داود بإسناد صحيح كما في فتح الباري (9/ 80) ، مرجع سابق.
(3) الدارمي (2/ 522) ، أبو يعلى (3/ 284) ، الطبراني في الكبير (6/ 172) ، مراجع سابقة، وانظر: مجمع الزوائد (7/ 158) ، مرجع سابق.
(1/198)
________________________________________
فقال: ويحك والله ما أعلمه بقي أحد من الناس هو أحق بذلك منه ... وذكر الحديث «1» ، ولكن الحديث دال أيضا عن منزلة القراءة عن ظهر قلب، ومكانتها وأفضليتها، ولذا لا يقدر على القيام بها حق القيام إلا الخاصة، فتفضيل القراءة نظرا على القراءة عن ظهر قلب إنما هو لمن حفظ ابتداء، ولذا لم يخل أحد من الحفاظ من مصحف يقرأ فيه القران نظرا فقد كان لأبي موسى رضي الله عنه مصحف وكان يسميه لباب الفؤاد، وكان لعائشة رحمة الله عليها مصحف وكانت تسميه المجيد «2» ، وكان لعلي مصحف، وكذلك لأبي وابن مسعود وابن عمر «3» ....

تعاضد القراءة عن ظهر قلب والقراءة من المصحف على حفظ القران الكريم:
على أن الأمرين مطلوبان فقد كانت وسيلتا الحفظ للكتاب الكريم هما الحفظ في الصدور والحفظ في السطور، ولذا لن يرفع القران حتى يرفع من هذين الأمرين فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لينتزعن هذا القران من بين أظهركم» قلت: يا أبا عبد الرحمن! كيف ينتزع وقد أثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يسري عليه في ليلة فلا يبقى في قلب عبد ولا مصحف منه شيء ويصبح الناس فقراء كالبهائم ثم قرأ عبد
__________
(1) رواه النسائي في السنن الكبرى (5/ 71) .
(2) (ابن أبي عاصم) أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني أبو بكر ت 287 هـ: الزهد ص 387، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، دار الريان للتراث، القاهرة، 1408 هـ، ط 2.
(3) والمصاحف مصاحف! يعرف كل من يسمع هذه اللفظة (مصاحف) أنها نسخ لكتاب واحد، حتى لو اختلف فيها ترتيب السور ... فكيف استحالت إلى قرائين مختلفة؟ كما يقرر ذلك صاحب كتاب (حقيقة مصحف فاطمة) ؟ وكيف استحالت جريمة اختلاق مصحف مختلف عن القران الكريم لفاطمة الزهراء منقبة عظيمة، ووجود نسخ من القران عند الصحابة مثلبة؟ إلا بعسف القول، وسوء النتيجة المبيتة مسبقا ... انظر للاطلاع على كلام المذكور: أكرم بركات العاملي: حقيقة مصحف فاطمة عند الشيعة، دار الصفوى، بيروت، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م-.
(1/199)
________________________________________
الله وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (الإسراء: 86) «1» .

من حكم نسيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند القراءة:
كان صلّى الله عليه وسلّم ينسّى بعد التبليغ ليطمأنّ إلى حفظ الصحابة رضي الله عنهم، واستظهارهم لما بلغهم به من القران، ويشجعهم على الفتح عليه فعن المسور بن يزيد المالكي قال: شهدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الصلاة فترك شيئا لم يقرأه فقال له رجل: يا رسول الله؟ تركت اية كذا وكذا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلا أذكر تنيها» «2» ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي: «أصليت معنا؟» قال: نعم! قال: فما منعك؟ «3» وأما ما روي عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة» «4» فضعيف.

الحث على استظهار أقل فرض الكفاية:
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحثهم على حفظ أقل قدر عن ظهر قلب، ويرمز إلى من تقاصر عند ذلك بالذم ما دام مستطيعا فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
صلّى الله عليه وسلّم: «إن الذي ليس في جوفه شيء من القران كالبيت الخرب» «5» .
__________
(1) الطبراني في الكبير (9/ 141) ، مرجع سابق.
(2) أبو داود (1/ 238) ، مرجع سابق.
(3) أبو داود (1/ 238) ، مرجع سابق.
(4) أبو داود (1/ 239) ، مرجع سابق، وفيه: «قال أبو داود أبو إسحاق لم يسمع من الحرث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها» .
(5) الترمذي (5/ 177) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث حسن صحيح» .
(1/200)
________________________________________
وكان الصحابة رضي الله عنهم يتفاضلون في مقدار أخذهم للقران، وحفظهم له غيبا فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقران فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» ، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم «1» ، وفي رواية: «فكان يقول: انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقران فاجعلوه أمام أصحابه» .

القراءة عن ظهر قلب من خصائص الأمة، تتميز بها عن أهل الكتاب:
ولذا طرح أهل العلم مسألة مهمة في هذا الباب، وهي: هل تجوز القراءة من المصحف حال الصلاة؟ والجواب جاءت الكراهة عن البعض كإبراهيم النخعي، ومجاهد، وحماد الشعبي لا لذاته بل كراهة أن يتشبهوا بأهل الكتاب «2» .
وعن قتادة عن الحسن أنه كرهه وقال: هكذا تفعل النصارى «3» ، والصحيح جوازها ولذا بوب البخاري: «باب إمامة العبد والمولى وكانت عائشة يؤمها عبد ها ذكوان من المصحف» «4» ، وعن القاسم قال: كان يؤم عائشة عبد يقرأ في المصحف «5» ، وذكر أبو بكر بن أبي مليكة أن عائشة أعتقت غلاما لها عن دبر فكان يؤمها في رمضان في المصحف، والترخيص فيه جاء عن الحكم والحسن ومحمد وعطاء، وعن الحسن قال لا بأس أن يؤم في المصحف إذا لم يجد يعني من يقرأ ظاهرا، وعن ثابت البناني قال: كان أنس يصلي وغلامه يمسك المصحف
__________
(1) البخاري (1/ 450) ، مرجع سابق.
(2) انظر القائلين بذلك في ابن أبي شيبة (2/ 124، 123) ، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (2/ 124) ، مرجع سابق.
(4) صحيح البخاري (1/ 245) ، مرجع سابق.
(5) ابن أبي شيبة (2/ 123) ، مرجع سابق.
(1/201)
________________________________________
خلفه فإذا تعايا في اية فتح عليه «1» ، وإنما ذكرنا هذه المسألة لتستبين منزلة القراءة عن ظهر قلب.

المطلب الثالث: التعاهد (المراجعة) :
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم ضرورة مراجعة المحفوظ من القران الكريم، وتعاهده ويشتد في ذلك حتى يضرب لهم الأمثال، ويحددلهم الوقت النموذجي المناسب للمراجعة الحقيقية للفظ القران الكريم، ويتجلى ذلك فيما يلي:

أولا: أمرهم بتعاهده ومراجعته مطلقا ليلا أو نهارا:
1- فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعلّموا كتاب الله تعالى وتعاهدوه واقتنوه وتغنّوا به فو الّذي نفسي بيده لهو أشدّ تفلّتا من المخاض في العقل» «2» ... وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المراجعة في الحديث بقوله (تعاهدوه) بعد قوله (تعلموا) ؛ إذ لولا ذلك لرجح أن يكون معناها مجرد النظر فيه، وعدم الانقطاع عنه «فيقول لهم (تعاهدوا القران) أي داوموا على تكراره ودرسه لئلا تنسوه، فتعاهد الشيء محافظته، وتجديد العهد به والمراد منه الأمر بالمواظبة على تلاوته والمداومة على تكراره ودرسه» «3» ، ثم أكد أن المراد هو مراجعته بعد حفظه فقال: «فو الذي نفسي بيده» أي بقدرته وتصرفه «لهو أشد تفصيا» أي أسرع تفصيا وتخلصا وذهابا وانقلابا وخروجا من قلوب الرجال يعني حفظته «من الإبل من عقلها» جمع عقال أي لهو أشد ذهابا من الإبل إذا تخلصت
__________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 123) ، مرجع سابق.
(2) ابن حبان (1/ 325) ، أحمد (4/ 153) ، أبو عوانة (1/ 515) ، الدارمي (2/ 531) ، النسائي في الكبرى (5/ 18) .
(3) فيض القدير (3/ 249) ، مرجع سابق.
(1/202)
________________________________________
من العقال فإنها تفلت حتى لا تكاد تلحق ... شبه القران وكونه محفوظا على ظهر قلب بالإبل الابدة النافرة وقد عقل عقلها وشد بذراعيها بالحبل المتين، وذلك أن القران ليس من كلام البشر بل من كلام خالق القوى والقدر، وليس بينه وبين البشر مناسبة قريبة، والله سبحانه بلطفه العميم منحهم هذه النعم العظيمة ويسرها لهم فينبغي تعاهده بالحفظ «1» .
وكان عقبة بن عامر يأمر بمقتضى هذا الحديث حفظة كتاب الله من المسلمين، وسائر المسلمين كأنه من أمره ومن نتاج تجربته لأهميته فكان يقول هذا الحديث موقوفا «2» ... وذلك كما أنه أحيانا كان يرفعه.
وقد انتشر هذا الحديث فأضحى معلما من معالم حفظ القران البدهية حيث جاء هذا الحديث عن غير عقبة بن عامر- خاصة عن أئمة الإقراء- فعن أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعاهدوا القران فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من صدور الرجال من الإبل المعقلة إلى أعطانها» «3» ومثله عن أبي موسى «4» ، وعن شقيق قال: قال عبد الله بن مسعود: تعاهدوا هذه المصاحف وربّما قال القران فلهو أشدّ تفصّيا من صدور الرّجال من النّعم من عقله قال وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقل أحدكم نسيت اية كيت وكيت بل هو نسّي» «5» ، وفي رواية: «تعاهدوا القران فإنه وحشي» «6» ، وقد رفعه ووقفه كعقبة بن عامر.
__________
(1) فيض القدير (3/ 249) ، مرجع سابق.
(2) فيض القدير (3/ 249) ، مرجع سابق.
(3) المختارة (5/ 251) .
(4) البخاري (4/ 1921) .
(5) أحمد (1/ 423) ، سعيد بن منصور (1/ 76) .
(6) الحاكم (1/ 739) ، عبد الرزاق (3/ 359) ، مرجعان سابقان.
(1/203)
________________________________________
ثانيا: ضرب لهم الأمثال المحسوسة لتدلهم على ضرورة المراجعة:
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثل صاحب القران كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت» «1» .
فذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم مراجعة القران وقرنها بلفظ المصاحبة بين القران وبين حامله «ليبين ضرورة وجود ألفة دائمة بينهما، ينتفي فيها الهجران، لأن الصاحب هو الذي ألفه كما تقدم في تحرير المصطلح» ، وقوله: «المعقلة بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد القاف أي المشدودة بالعقال وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير» «2» ، فشبه درس القران واستمرار تلاوته، وديمومة مراجعته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد فما زال التعاهد موجودا فالحفظ موجود كما أن البعير ما دام مشدودا بالعقال فهو محفوظ، وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورا وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة قوله أن عاهد عليها أمسكها أي استمر إمساكه لها وفي رواية أيوب عن نافع عند مسلم: «فإن عقلها حفظها وأن أطلقها ذهبت» أي انفلتت «3» .

ثالثا: منعهم من الألفاظ التي تكون نفسية متساهلة مع عدم مراجعة القران:
فكره لهم قول نسيت اية كذا وعلمهم جواز قول أنسيتها، وأسقطتها فعن عبد الله قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت اية كيت وكيت بل نسّي واستذكروا القران فإنّه أشدّ تفصّيا من صدور الرّجال من النّعم» «4» ،
__________
(1) البخاري (4/ 1920) ، مسلم (1/ 543) ، مرجعان سابقان.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 80) ، مرجع سابق.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 80) ، مرجع سابق.
(4) مسلم 1/ 544، النسائي في الكبرى (1/ 327) ، أحمد (1/ 417) ، مراجع سابقة.
(1/204)
________________________________________
وعن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال: «يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا اية كنت أسقطتها» ولفظ البخاري «أنسيتها من سورة كذا وكذا» «1» ، ففي هذه التعاليم المتقدمة «كراهة قول نسيت اية كذا وهي كراهة تنزيه، وأنه لا يكره قول أنسيتها، وإنما نهي عن نسيتها لأنه يتضمن التساهل فيها والتغافل عنها، وقد قال سبحانه وتعالى: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها (طه: 126) ، واللغة ليست أداة للتعبير بل هي وعاء للتفكير أيضا «2» ، وقال القاضي عياض: «أولى ما يتأول عليه الحديث أن معناه ذم الحال لا ذم القول أي نسيت الحالة حالة من حفظ القران فغافل عنه حتى نسيه» «3» .

رابعا: رهبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من نسيانه «4» :
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أمير عشرة إلا جيء به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يطلقه الحق أو يوثقه ومن تعلم القران ثم نسيه لقي الله تعالى وهو أجذم» «5» .

خامسا: جعل الشرع قلة تعاهده ومراجعته جفاء، وهجرا:
فالهجر كما قال جل جلاله: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان: 30) ، وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ذلك منهي عنه في قوله: «اقرؤوا القران، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه ... » ، والمراد تعاهدوه
__________
(1) البخاري (4/ 1929) ، مسلم (1/ 543) واللفظ له، مرجعان سابقان.
(2) انظر: نحو تقويم جديد للكتابة العربية (المقدمة) ، كتاب الأمة رقم 69.
(3) نقل هذا القول عنه النووي في شرح مسلم (6/ 76) ، والمباركفوري في تحفة الأحوذي (8/ 76) ، مرجعان سابقان.
(4) أشار الؤلف لهذا البند إشارة؛ اكتفاء بما ذكره في إثبات قبول هذه الأحاديث، ومدلولها في كتاب تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ص 245، مرجع سابق، وخشية من التكرار.
(5) مجمع الزوائد (7/ 166) ، مرجع سابق، وقال: «رواه عبد الله بن أحمد ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف» .
(1/205)
________________________________________
ولا تبعدوا عن تلاوته بأن تتركوا قراءته وتشتغلوا بتفسيره وتأويله، ولذا قيل:
«اشتغل بالعلم بحيث لا يمنعك عن العمل، واشتغل بالعمل بحيث لا يمنعك عن العلم وحاصله: أن كلا من طرفي الإفراط والتفريط مذموم، والمحمود هو الوسط العدل المطابق لحاله» «1» .

سادسا: علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم كيفية مراجعته:
بأن يقرأه بالليل والنهار فقال: «إذا قام صاحب القران فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه» «2» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «مثل القران إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه باللّيل والنّهار كمثل رجل له إبل فإن عقلها حفظها وإن أطلق عقلها ذهبت فكذلك صاحب القران» «3» ، وبيان هذه الكيفية: أن يراجع حزبه بالنهار، ويقوم به في صلاة الليل كما طبق ذلك الصحابة رضي الله عنهم، فعن خيثمة قال:
انتهيت إليه- أي عبد الله بن عمرو- وهو يقرأ في المصحف فقال: هذا حزبي الذي أريد أن أقوم به الليلة «4» .

سابعا: الوقت النموذجي للمراجعة:
حدد صلّى الله عليه وسلّم لهم الوقت النموذجي للمراجعة وهو الليل، وأفضل ذاك أن يقوم الإنسان الليل بما حفظه، أو بما قرأه نظرا في نهاره كما في قوله تعالى:
__________
(1) عون المعبود (13/ 32) ، مرجع سابق.
(2) رواه مسلم (1/ 536) ، وللضرورة أنقل ما ذكر في كتاب التلقي في هذا الموضع: «وقوله (لم يقم به) تحتمل معنى قيام الليل، وتحتمل معنى العمل به» ، وقد قال المباركفوري في معنى قول الصحابي يخاطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ألاأقوم بها) : كما في تحفة الأحوذي (8/ 150) ، مرجع سابق: «أي في صلاة الليل» .
(3) البخاري (4/ 1920) ، مسلم (1/ 543) ، ابن حبان (3/ 42) ، مراجع سابقة.
(4) ابن أبي شيبة (2/ 240) ، مرجع سابق.
(1/206)
________________________________________
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (المزمل: 6- 7) ... فتحديد هذا الوقت هو تسلسل لمنهجية الإقراء فقد أمره الله سبحانه وتعالى بهذا الوقت للمراجعة ورغبه فيه، ثم أمر هو أصحابه به، ورغبهم فيه فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلّموا القران واقرؤه وارقدوا فإنّ مثل القران ومن تعلّمه فقام به كمثل جراب محشوّ مسكا يفوح ريحه كلّ مكان ومثل من تعلّمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أو كي على مسك» «1» .
وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم للمراجعة والتعاهد في هذا الحديث بقوله: «واقرؤه» بعد قوله «تعلموا القران» فلا يكون معنى الأمر بالقراءة بعد الأمر بالتعلم إلا معنى المراجعة.
وهذه المراجعة من اللوازم في حياة المسلم بحيث لا ينبغي لحافظ القران قبل إن يراجع القران أن ينام، فقوله «فقام به» أي تشمر لأداء حقه قراءة وعملا، ثم شبه المراجع للقران في وقته النموذجي، وهو قيام الليل بما يرفعه وينفعه، وهو قوله «كمثل جراب محشوّ مسكا يفوح ريحه كلّ مكان» لكأن حافظ القران المراجع له في قيام الليل وعاء مملوء بالمسك الفواح ...
وفي ذلك إيماء إلى أن بركات القران وبصائره ونوره لا تنال إلا بذلك ... وإلا فلم التعنّي؟ وأما من رقد أي غفل ونام «كمثل جراب أوكي على مسك» ، والمعنى أنه ملأه مسكا وربط فمه على المسك أي لأجله ...
وهذا مثال على البله وسفه العقل، فإنما يراد المسك لتشم الرائحة الطيبة من صاحبه، وهذا منعها أن تفوح.
__________
(1) ابن ماجة 1/ 73، مرجع سابق.
(1/207)
________________________________________
وبذا تحدد أن الوقت النموذجي للمراجعة هو ناشئة الليل:
وناشئة الليل هي «أوقاته وساعاته لأن أوقاته تنشأ أولا فأولا» «1» ، فالوقت النموذجي للمراجعة من الحفظ هو الليل، وأحسن ذلك أن يكون في قيام الليل، ويمكن أن يكون من أول الليل أي يبدأ بما بعد المغرب فقد كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: «هذا ناشئة الليل» «2» ، وإن كان أول الليل يفضل لمن لا يوقن من نفسه القيام في اخره، كما قال ابن عباس: «كانت صلاتهم أول الليل، وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ» «3» . ولذا كان من دلائل هذه الاية أن الله جل جلاله بين فيها «فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر وأ*** للثواب» «4» .

حكمة اختيار هذا الوقت:
ظهرت في الاية حكمة اختيار هذا الوقت ليكون أنسب لمراجعة القران الكريم، وهي:
1- أنه أشد وطأ: أي أن العمل فيه يكون أثقل على النفس «من قولك اشتدت على القوم وطأة سلطانهم» أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن، وإذا ثقل العمل في هذا الوقت، فإنه يكون وقتا نموذجيا لمجاهدة النفس ومعاركتها، فإذا دربت سهل قيادها، ولذا فلا ينافي هذا ما قاله عكرمة: «عبادة الليل أتم نشاطا، وأتم إخلاصا، وأكثر بركة» ، لأن عكرمة رحمه الله أراد باعتبار المال، وهذا على قراءة وطأ «5» .
__________
(1) تفسير القرطبي (19/ 39) ، مرجع سابق.
(2) تفسير القرطبي (19/ 40) ، مرجع سابق، وانظر: مختار الصحاح ص 274، مرجع سابق.
(3) تفسير القرطبي (19/ 40) ، مرجع سابق.
(4) تفسير القرطبي (19/ 40) ، مرجع سابق.
(5) فيها قراءتان متناقلتان: وطاء لابن عامر وأبي عمرو، وطا لبقية السبعة ... انظر: الشاطبية ص 144، مرجع سابق عند قول الناظم: ووطأ وطاء فاكسروه كما حكوا ... من سورة المزمل.
(1/208)
________________________________________
2- أنه أشد موافقة بين القلب والسمع واللسان: لانقطاع الأصوات والحركات، وهذا على قراءة من مد فهو مصدر واطأت وطاء، فيواطىء السمع القلب في الليل، ومنه قول الله جل جلاله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ (التوبة: 37) أي ليوافقوا، وفائدة ذلك من جهة اللفظ: رسوخ اللفظ وثبوته، واستقامة الحفظ فلا يزيغ وذلك أنه لا يعرض له حوائج «1» ، وكذا إن قرأ نظرا في النهار ثم أعاده في الليل: فيتواطأ (يتوافق) عند ذلك البصر والسمع والقلب فعن مجاهد قال: تواطؤ سمعك وبصرك وقلبك، فهي أجدر أن يتواطأ لك فيها سمعك وبصرك «2» ، ثم أكد على شدة الاشتغال في النهار فقال: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (المزمل: 7) أي تصرفا في حوائجك وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا «3» ..
3- كما أن العمل بالليل «أشد ثباتا من النهار» «4» ، فإن مراجعة القران تحتاج إلى الديمومة والتعاهد، وهذا في الليل أسهل منه في النهار" فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل، وأنفى لما يلهي ويشغل القلب فأشد وطئا أي أشد نشاطا للمصلي، وأثبت للقراءة، وهذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى: وَأَقْوَمُ قِيلًا (المزمل: 6) أي أصوب للقراءة، وأثبت للقول لأنه زمان التفهم، أو أشد استقامة لفراغ البال بالليل، أو أجدر أن يتفقه في القران «5» .
__________
(1) تفسير الطبري (29/ 130) ، مرجع سابق.
(2) تفسير الطبري (29/ 130) ، مرجع سابق.
(3) تفسير القرطبي (19/ 42) ، مرجع سابق، وانظر: الجلالين ص 773، مرجع سابق.
(4) تفسير القرطبي (19/ 41) ، مرجع سابق.
(5) انظر: تفسير القرطبي (19/ 41) ، مرجع سابق.
(1/209)
________________________________________
قضاء الحزب الليلي:
إذا فات الورد الليلي فينبغي له أن يقضيه في النهار؛ إذ قد ذهب البعض إلى أن معنى «السبح الفراغ أي إن لك فراغا طويلا للحاجات بالنهار» ومنه قال الزجاج: «إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ الاستدراك» «1» ، وكذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم أصحابه: فعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل» «2» ، وكذلك كانت سنته العملية فعن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا عمل عملا أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة» «3» .

وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يضبطوا هيئات التعامل مع النفس الإنسانية المتغيرة:
بحيث لا تخل بالحفظ اليومي: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لهذا القران شرة، وللناس عنه فترة، فمن كانت فترته إلى القصد فنعما هي، ومن كانت فترته إلى الأرض فأولئك هم قوم بور» «4» ، وعنه رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القران على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع» «5» ، ولا ينبغي أن يحول شيء بين المرء وبين إكمال حزبه
__________
(1) تفسير القرطبي (19/ 42) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 515) ، مرجع سابق.
(3) مسلم (1/ 515) ، مرجع سابق.
(4) قال في مجمع الزوائد (7/ 168) ، مرجع سابق: «أبو يعلى وفيه أبو معشر نجيح وهو ضعيف يعتبر بحديثه» .
(5) مسلم (1/ 543) ، مرجع سابق.
(1/210)
________________________________________
فيقرؤه ولو مضطجعا كما قال جل جلاله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ (ال عمران: 191) ، والقران أعظم الذكر، وعن الأسود عن عائشة قالت: «إني لأقرأ حزبي أو عامة حزبي وأنا مضطجعة على فراشي» «1» .
وقد علّموا كيفية السؤال عن اية نسيت فعن ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا سأل أحدكم صاحبه كيف يقرأ اية كذا وكذا فليسأله عما قبلها» «2» .

المطلب الرابع: تعليمهم مقدار الورد اليومي:
علم النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم مقدار الورد اليومي سواء كان هذا الورد حفظا أو مراجعة أو كان قراءة من المصحف فلا يتخلف عنه الإنسان، كما حدد أقل المطلوب وأكثر المطلوب ...

ورد الحفظ الجديد عن ظهر قلب:
فكانوا يتعلمون القران من النبي صلّى الله عليه وسلّم حفظا عن ظهر قلب خمسا خمسا كمقتضى تلقائي من مقتضيات التنزيل المفرق، فقد قال عمر رضي الله عنه: تعلموا القران خمسا خمسا فإن جبريل عليه السّلام نزل بالقران على النبي صلّى الله عليه وسلّم خمسا خمسا، وقد قال بعض أهل العلم: من تعلم خمسا خمسا لم ينسه «3» ، وعن أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يعلمنا القران خمس ايات بالغداة، وخمس ايات بالعشي ويخبر أن جبريل عليه السّلام نزل بالقران خمس ايات خمس ايات «4»
__________
(1) ابن أبي شيبة 2/ 124، مرجع سابق.
(2) عبد الرزاق 3/ 365، مرجع سابق.
(3) شعب الإيمان 2/ 331، مرجع سابق.
(4) الإتقان 1/ 124، مرجع سابق.
(1/211)
________________________________________
وأخذه النبي صلّى الله عليه وسلّم خمسا خمسا «أي تلقنه منه» «1» ، وروي مرسلا من قول أبي العالية: تعلموا القران خمس ايات خمس ايات فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذه خمسا خمسا، وكان أبو عبد الرحمن السلمي يعلم خمسا خمسا «2» . وقد تكون كمية المتعلّم عشرا عشرا، ويسمى (المعشر) كما جاء عن أبي عبد الرّحمن قال:
حدّثنا من كان يقرئنا من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّهم كانوا يقترئون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر ايات فلا يأخذون في العشر الاخرى حتّى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا: فعلمنا العلم والعمل «3» ، وعن شريك أنه قال: كنا نعلم ما أنزل في هذا العشر من العلم «4» .
ويحمل الفرق بين الكميتين على اختلاف الأشخاص، أو على اختلاف الأحوال.
و (العشرة) من المناسب الملائم الذي يعتبر فيه نوع الوصف وهو تحديد العشرة في نوع الحكم وهو حفظ القران «5» :
فقد ورد كثيرا في مجال حفظ القران الكريم باعتباره المتوسط الذي يراعي الفروق الفردية، وباعتبار أمر اخر هو مواكبة العمل والعلم بالمعاني للمحفوظ فقد ورد هذا العدد في الذي يحفظه الإنسان من سورة الكهف اتقاء للدجال فعن أبي الدّرداء أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حفظ عشر ايات من أوّل سورة الكهف عصم من الدّجّال» «6» ، والايات التي نزلت في عائشة عشر «7» .
__________
(1) فيض القدير (5/ 193) ، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (6/ 117) ، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 410) ، مرجع سابق.
(4) شعب الإيمان (2/ 331) ، مرجع سابق.
(5) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص 369.
(6) مسلم (1/ 555) ، الحاكم (2/ 399) ، أبو داود (4/ 117) ، مراجع سابقة.
(7) البخاري 4/ 1729، مسلم 4/ 2136، ابن حبان 10/ 20، مراجع سابقة.
(1/212)
________________________________________
وكانت الايات تنزل عليه في الغالب بهذا المقدار فيتلقفها الصحابة يحفظونها فعن عبد الرّحمن بن عبد القاريّ قال: سمعت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقول: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النّحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرّي عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: «اللهمّ زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنّا وأعطنا ولا تحرمنا واثرنا ولا تؤثر علينا وارضنا وارض عنّا» ثمّ قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل عليّ عشر ايات من أقامهنّ دخل الجنّة ثمّ قرأ قد أفلح المؤمنون حتّى ختم عشر ايات» «1» ، فالعشر هي عادة النزول، ويبلغ بها صلّى الله عليه وسلّم الناس فيتلقاها الناس حفظا وهو الغالب لقلة عدد الكتبة مقارنة بالحفظة.

التعشير:
ولأنهم كانوا يحفظون القران في الغالب عشرا عشرا فقد سموا ذلك التعشير، وسموا الورد اليومي منه المعشر، ثم إنهم صاروا يضعون علامة يدلون بها على المعشر السابق أو اللاحق في التعلم أو القراءة ... ولأن طريقة تعليم الصحابة رضي الله عنهم لمن بعدهم أخذت الطابع ذاته، ولأن كمية الايات قد استقرت في المصحف بانقضاء الوحي، وجمع الصحابة القران في موضع واحد فقد ذهب بعض تلاميذ الصحابة إلى وضع علامات تدل على المعشر، أي إلى تمييز الأعشار، وتسمى عند البعض (بالمأشر) ، وقد ألّفت مؤلفات في أعشار القران فأقدم من ألف فيه قتادة بن دعامة السدسي ت 118 هـ في كتاب سماه (أعشار القران) ... وألف مكي بن أبي طالب حموش كتاب (الاختلاف) في عدد الأعشار «2» .
__________
(1) الحاكم (1/ 717) ، المختارة (1/ 342) ، الترمذي (5/ 326) ، النسائي في الكبرى (1/ 450) ، أحمد (1/ 34) ، مراجع سابقة.
(2) انظر: ابتسام مرهوان لصفار (دكتورة) : معجم الدراسات القرانية ص 27، ساعدت جامعة بغداد على نشره رقم تسلسل التعضيد 4 لسنة 83- 1984 م.
(1/213)
________________________________________
ولكن هذا التحديد بالعشر لا يعني التزامه بدقة بل من أكثر فالله أكثر «1» ، وكذا تحمل رواية خمسا؛ إذ الأصل أن هذا طاعة، فالطلبة فيه بحسب وسعهم، وحمل البعض الخمس والعشر على حالة التلقين «2» ، والصحيح أن ذلك يختلف من شخص لاخر.

كمية المراجعة:
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجعل العشر ايات أقل ما ينبغي أن يقرأه المسلم في مراجعته في الليل فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قام بعشر ايات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة اية كتب من القانتين ومن قام بألف اية كتب من المقنطرين» «3» ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يذكرون هذه الأحاديث موقوفة- مع أن لها حكم الرفع- دلالة على بدهية رفعها لأهميتها فعن تميم الدّاريّ رضي الله عنه قال: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين» «4» ، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم حثهم على المزيد، ورتب الشارع الحكيم على ذلك الأجور العظيمة كل بقدر مشقته، ليرد كل أناس مشربهم فعن تميم الدّاريّ وفضالة بن عبيد قالا:
__________
(1) إشارة إلى حديث عبادة بن الصّامت حدّثهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا اتاه الله إيّاها أو صرف عنه من السّوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر» رواه الترمذي (5/ 566) ، مرجع سابق، وقال: «وهذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه» .
(2) (النويري) أبو القاسم محمد بن محمد بن محمد: شرح طيبة النشر في القراات العشر (2/ 47) ، تحقيق وتعليق: عبد الفتاح السيد سليمان أبو سنه خبير التحقيق بمجمع البحوث الإسلامية، مراجعة لجنة إحياء التراث الإسلامي، بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1406 هـ- 1986 م.
(3) أبو داود (2/ 57) ، ابن خزيمة (2/ 181) ، مرجعان سابقان.
(4) الدارمي (2/ 554) ، مرجع سابق.
(1/214)
________________________________________
من قرأ بعشر ايات في ليلة كتب من المصلّين «1» ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «من قرأ في ليلة عشر ايات لم يكتب من الغافلين ومن قرأ في ليلة بمائة اية كتب من القانتين ومن قرأ بمائتي اية كتب من الفائزين» «2» وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: «من قرأ في ليلة عشر ايات كتب من الذّاكرين، ومن قرأ بمائة اية كتب من القانتين، ومن قرأ بخمس مائة اية إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر قيل وما القنطار قال ملء مسك الثّور ذهبا» «3» ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة اية كتب له قنوت ليلة، ومن قرأ مائتي اية كتب من القانتين، ومن قرأ أربعمائة اية كتب من العابدين، ومن قرأ خمسمائة اية كتب من الحافظين، ومن قرأ ستمائة اية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثمانمائة اية كتب من المخبتين، ومن قرأ ألف اية أصبح له قنطار، والقنطار ألف ومائتا أوقية خير مما بين السماء والأرض قال خير مما طلعت عليه الشمس ومن قرأ ألفي اية كان من الموجبين» «4» ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مثله «5» .
ونلحظ أن من دلالة الإشارة للتفريق بين الايات هنا أن قد رسخ في ذهن الحفاظ وغيرهم كمال السورة ومقدارها ومواضع الايات، فيستبينون أنها طويلة أو قصيرة ... ولا شك أن لهذا دلالته في حفظ القران الكريم.
__________
(1) الدارمي (2/ 555) ، مرجع سابق.
(2) الدارمي (2/ 555) ، مرجع سابق.
(3) الدارمي (2/ 557) ، مرجع سابق.
(4) مسند الشاميين (2/ 44) ، الطبراني في الكبير (8/ 180) ، مرجعان سابقان، وقال في مجمع الزوائد (2/ 267) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني في الكبير وفيه يحيى بن عقبة بن أبي العيزار وهو ضعيف» .
(5) المختارة 8/ 278، مرجع سابق.
(1/215)
________________________________________
المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم ماهية التجويد وحكمه:
يناقش هذا المبحث حقيقة التجويد، ومدى تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم له، والمصطلحات التي كانت تطلق عليه في العهد النبوي والقرون المفضلة، ويصل من ذلك إلى حكمه الشرعي، ومدى تطبيق المسلمين على مختلف الأعصر لهذا الحكم..
ولتحقيق مقصد المبحث فقد انقسم إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأصول الشرعية لعلم التجويد.
المطلب الثاني: مكونات علم التجويد- كما علمها النبي صلّى الله عليه وسلّم-.
المطلب الثالث: حكم تعلم أحكام التجويد كما علمه النبي صلّى الله عليه وسلّم.

المطلب الأول: الأصول الشرعية لعلم التجويد:
دل على التجويد في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مصطلحات أخرى غير هذا المصطلح (التجويد) مثل: الترتيل، والتحسين، والتزيين، والتحبير، والترجيع.
وهذه المصطلحات- كما سنرى من كيفية تعليمها من النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه إن شاء الله عزّ وجلّ- تستخدم في وصف القراءة إذا جمعت مرتبتين في النطق: الإعراب للكلام (تبيينه وإظهاره في نطقه العربي الفصيح) ، والزينة في الأداء باستخدام قواعد التزيين الصوتية العربية.
ولم يرد من هذه الكلمات الخمس في القران الكريم سوى كلمة الترتيل «1» ، والبقية وردت في السنة النبوية، فقد كانت هذه الأصول هي المكونة لعلم التجويد التطبيقي.
__________
(1) قال الله سبحانه وتعالى: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (الفرقان: 32) ، وقال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) .
(1/216)
________________________________________
ومرد التقعيدات النظرية والتطبيقية في علم التجويد:
إلى أمرين يشكلان الأصلين الشرعيين لعلم التجويد في صورته التامة:
النصوص الشرعية، وقواعد اللغة العربية من حيث كون اللسان الذي نزل به القران عربيا، ومن حيث رجوع تلك القواعد إلى ما اختاره النقل الشرعي منها، أو يقال أخذت مادة علم التجويد الوضعي والتطبيقي من علمين: علم القراءة (المشافهة) ، وعلم اللغة العربية، ولنأخذ في تفصيل ذلك:

الأصل الأول لعلم التجويد:
تعليمهم اللفظ القراني من حيث كونه نزل بلسان عربي مبين:
فيقرأ القران باللفظ العربي «1» المنقول في أصل لفظه أو في كيفية التصويت به ولكن على الصورة المنقولة بالمشافهة، إذ القراءة والأداء أمران يتعلقان باللفظ ويبنيان على وجوه اللغة.
وأول أجزاء المعاني التي منها يلتئم النطق هو الصوت ثم الصوت بتقطيع الهواء يصير حرفا، ثم عند جمع الحروف يصير كلمة ثم عند تعيين بعض الحروف المجتمعة على هيئة مخصوصة يصير لغة عربية، ثم بكيفية تقطيع الحروف يصير معربا، ثم بتعيين بعض وجوه الإعراب يصير قراءة منسوبة إلى الأحرف السبعة، ثم إذا صار كلمة عربية صحيحة معربة صارت دالة على معنى من المعاني فتتقاضى للتفسير الظاهر «2» .
__________
(1) لا نتناول ها هنا تفاصيل هذا الموضوع، من أنواع اللغات (اللهجات) العربية في القران فقد أفردوه بالتصنيف، قال أبو بكر الواسطي في كتابه الإرشاد في القراات العشر: «في القران من اللغات العربية خمسون لغة» ، وانظر فيه: كتاب لغات القبائل الواردة في القران الكريم لأبي عبيد، وقد عدها السيوطي في الإتقان (2/ 476) ، وحسب البحث تقرير الحقائق التعليمية في هذا الموضوع.
(2) انظر: جواهر القران ص 36، مرجع سابق.
(1/217)
________________________________________
فقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن القران نزل بلسان عربي مبين: كما قال وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء: 192- 195) فعربية القران: كالحوالة من الشارع لاستخدام قوانين العربية في تلاوة القران وكتابته من إعراب وبناء وتصريف وإظهار وإدغام وإمالة وتغليظ وتفخيم وترقيق وفتح وإسكان وتخفيف وتحقيق ...
لا من حيث العموم بل في إطار المتناقل.
وعلى هذا فالعربية أصل النطق بألفاظ القران الكريم، كما «هي أصل فهم القران ومجموعها متواتر، وفي أهميتها لإدراك كيفية قواعد التلفظ والتفهم قيل:
حفظ اللغات علينا ... فرض كفرض الصلاة
فليس يضبط دين ... إلا بحفظ اللغات»
«1» وقد كان لفظ القران الكريم ميسرا بلسانه صلّى الله عليه وسلّم سهلا مذللا لتتم وظيفة التبليغ:
ودون ذلك التيسير لا يتم أداء هذه الوظيفة كما قال جل جلاله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ (مريم: 97) ، وكما قال سبحانه وتعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (الدخان: 58) ، فقد كان يعلمهم كلاما عربيا بينا مظهرا باللسان، لا كلاما خفيا، فإن مدلول كلمة لسان يظهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم أصحابه هيئة أداء اللفظ الداخلي والخارجي: فلا بد من أن تكون مبينة واضحة كما قال جل جلاله: رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ (الطلاق: 11) «أي في حال كونها بينة واضحة جلية» «2» ، وهذا يشمل اللفظ الخارجي والداخلي من الهيئات الصوتية الموغلة في الجزئية.
__________
(1) نقل كلام الفارابي والبيتين الإمام السيوطي في المزهر (1/ 302) .
(2) ابن كثير (4/ 385) ، مرجع سابق.
(1/218)
________________________________________
ولهذا أثره العظيم في بيان كيفية تلاوة القران الكريم في جهتين:
1- جهة صيرورة موافقة اللغة العربية ركنا من أركان القراءة المقبولة.
2- جهة خضوع أداء ألفاظ القران الكريم لأحوال اللسان العربي الأدائية من إظهار وإدغام، وفتح وإمالة، وتخفيف وتثقيل، وتحريك وإسكان، وحذف وإثبات، ومد وقصر ...
وإذا كان هذا هو الأساس الأول لعلم التجويد وتقعيداته فلا يبحث في حكم التجويد بهذا المعنى- عند غالب المصنفين القدماء- لأنه أصل الكلام ... وتواتره بمعنى ثبوته يقينا قطعيا لا ارتياب فيه بدهي لأن التجويد هنا مخارج الحروف وصفاتها وهي التي تتكون منها ماهية الكلام العربي الفصيح ... مع ملحوظتين:
الأولى: أن المختلف فيه بين القراء في التجويد يرجع إلى أصول النطق العربي الفصيح أيضا مما فيه سعة كاختلاف كلمة بين الإظهار والإدغام.
الثانية: أن الزيادة على أصول الكلام العربي الفصيح في التجويد إنما هو في الترتيل والتزيين والتحسين الذي أمرنا به في القراءة، فأصول علم التجويد وقواعده إذن كانت موجودة في الكلام العربي يحرص عليها القراء ويعتمدون عليها في قراءتهم وإقرائهم، وإن لم تكن مدونة، شأنها في ذلك شأن قواعد النحو والصرف التي استنبطها علماء العربية في وقت لاحق.
ولذا فإن اختلاف القراء في إثبات بعض فروع علم التجويد الدقيقة:
مثل حكم الميم الساكنة عند الباء: هل هو الإخفاء أو الإظهار- على ثلاثة أقوال كما هو معلوم في مظانه «1» - يعزى إلى علم العربية، وذلك إذا كان ضمن
__________
(1) انظر ذلك في: المفيد في شرح عمدة المجيد ص 134 عند قول الناظم: لكن مع البافي إبانتها وفي إخفائها رأيان مختلفان.
(1/219)
________________________________________
القياس الجائز في علم القراءة لا الممنوع، وهو ما يتعلق بهيئة الأداء الداخلية في مواضع محدودة.

الأصل الثاني لعلم التجويد: علم القراءة:
حيث كان هذا العلم هو الذي يحوي علم التجويد من الناحية التطبيقية.

كيفية تشكل علم التجويد من علم القراءة:
1- إن متعلم قراءة القران يقوم يقرأ على الشيخ فيلقنه الشيخ كيفية القراءة مطلقا أي ما تعلق منها بأصل اللفظ أو ما تعلق بأدائه، أو ما تعلق بتحسين صوته فيها وفق القواعد المتلقاة، فيأمره بالمد أو بالغنة أو بالإدغام..
وهكذا ... ويلحظ الشيخ الخطأ في القراءة كما كانوا- تماما- يلحظون الخطأ النحوي فيردونه على صاحبه طبيعة، على الرغم من عدم وجود مؤلفات في النحو ... ثم إنهم نظروا إلى هذه الأحكام المتلقاة شفاها فدونوها أشباها ونظائر بالاستقراء ... ثم جعلوها قواعد مسطرة، وضوابط مبثوثة في الكتب فاستقام منها علم القراءة مدونا مكتوبا في كتبه، واحتوى فيما احتوى على أكثر علم التجويد من إدغام وإمالة ومد وقصر وتسهيل للهمز وغنة ومخارج للحروف والصفات ... ولكن بصورة أوسع شملت ما كان مقتضى تلقائي من مقتضيات النطق الفصيح للغة العربية، ثم جمّل بما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم وأمر به من التحسين والتزيين والترتيل كمد المتصل فإن النطق العربي الفصيح يقتضيه، وقواعد الصرف توجبه وترتضيه، ولا بد من زيادة حسنه طلبا لترتيله وتزيينه وتحسينه ...
وهكذا بقية الأحكام.
2- ثم بدأ علم التجويد ينفرد بالتأليف ليكون علما مستقلا يحتوي على ما يدل على النطق العربي الصحيح مما كان مختصا بالمتفق عليه بين القراء وحال
(1/220)
________________________________________
الاختلاف يذكر ما يتعلق برواية واحدة فقط ... فانفرد كما انفرد علم أسباب النزول عن التفسير، وعلم عدد الاي عن علم القراءة.

الفرق بين علم التجويد وبين علم القراءة:
1- علم القراات علم يعرف فيه اختلاف أئمة الأمصار في نفس حروف القران أو في صفاته، فإذا ذكر فيه شيء من ماهية صفات الحروف فهو تتميم؛ إذ لا يتعلق الغرض به، وأما علم التجويد فالغرض منه معرفة ماهيات صفات الحروف، فإذا ذكر فيه شىء من اختلاف الأئمة فهو تتميم، فالتجويد يناقش حق الحرف ومستحقه، والقراات يناقش بعد أن يكون حق الحرف ومستحقه قد صار من المسلمات.
2- القراات علم رواية واختلاف الألفاظ، والتجويد علم دراية فهو أداء تلك الألفاظ «1» .
ومما ينبغي التنبيه له أن علم القراءة وعلم التفسير كانا متلازمين:
لم يستقل أحدهما عن الاخر، ولذا ذكروا أن القراات جزء من علم التفسير، ويبين هذا قول مجاهد- رحمه الله تعالى-: «عرضت القران على ابن عباس ثلاث عرضات أوقفه على كل اية أسأله فيما نزلت وكيف كانت» «2» ، وكما أن مجاهد كان إمام المفسرين فقد كان شيخ القراء كذلك وهو شيخ الإمام المكي ابن كثير الداري.
__________
(1) انظر: الدراسات الصوتية عند علماء التجويد ص 20، مرجع سابق.
(2) الحاكم (2/ 307) ، الدارمي (1/ 273) ، ابن أبي شيبة (6/ 154) ، مراجع سابقة.
(1/221)
________________________________________
هل لتأخر التأليف في علم التجويد أثر سلبي؟:
لا يعني تأخر ظهور التأليف في علم التجويد أن القراء كانوا ينطقون القران قبل ذلك على غير أصل واضح، كما لا يعني أن علماء التجويد اختلقوا هذه الأصول أو ابتدعوها.
ف «تجويد القران قد يحصله الطالب بمشافهة الشيخ المجود، بدون معرفة مسائل هذا العلم، بل المشافهة هي العمدة في تحصيله، لكن بذلك العلم يسهل الأخذ بالمشافهة، وتزيد المهارة، ويصان به المأخوذ عن طريان الشك والتحريف» «1» ، فكانت أجيال المسلمين تجود القران بالمشافهة منذ عصر الصحابة حتى ظهرت المؤلفات التي تعني بالتجويد، وظلت المشافهة والتلقي عن الشيخ المتقن هي الأساس في قراءة القران وإتقان اللفظ بحروفه.

المطلب الثاني: مكونات علم التجويد- كما علمها النبي صلّى الله عليه وسلم-:
تمت صياغة مادة علم التجويد النظرية من المصدرين السابقين العملي والنظري، ثم واصل المتخصصون في علم التجويد أبحاثهم الصوتية وغيرها مستندين إلى تلك المادة، وأضافوا إليها خلاصة جهداهم حتى بلغ علم التجويد منزلة عالية من التقدم في دراسة الأصوات اللغوية.
ومن ثم فمن الجنف الشديد عند الكلام على حكم التجويد علما وعملا أن يتكلّم عنه بعيدا عن تصور مادته وماهيته وتصور أصوله الشرعية والنظرية، فتعليم النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه تجويد القران هو تعليم لمراتبه وأصوله الشرعية- بعد تقرير حداثة هذا المصطلح-، فيجب معرفة أصوله الشرعية حتى يتم الحكم
__________
(1) الدراسات الصوتية عند علماء التجويد ص 20، مرجع سابق نقلا عن محمد المرعشس الملقب ساجقلي زاده ت 1150 هـ.
(1/222)
________________________________________
عليها ... شأنه في ذلك شأن البيوع المحدثة لا بد من ردها إلى أصولها الشرعية للنظر في أحكامها تحليلا وتحريما.

وتجويد الشيء في اللغة «1» :
هو إحكامه وإتقانه يقال جوّد فلان الشيء وأجاده إذا أحكم صنعته، وأتقن وضعه، وبلغ به الغاية في الإحسان والكمال سواء كان ذلك الشيء من نوع القول، أو من نوع الفعل «2» .

وأما اصطلاحا:
له إطلاقان في اصطلاح علماء القراءة «3» :

التجويد العلمي:
معرفة القواعد والضوابط التي وضعها علماء التجويد ودونها أئمة القراءة من المخارج والصفات وأحكام النون الساكنة، والوقف والابتداء.
التجويد العملي: هو إحكام حروف القران وإتقان النطق بكلماته وبلوغ الغاية في تحسين ألفاظه والإتيان بها معربة بشرط النقل (التلقي) .
ويقال: يجود فلان القران تجويدا: «إذا أتى بالقراءة مجودة الألفاظ، بريئة من الجور في النطق بها، لم تهجنها الزيادة، ولم يشنها النقصان» «4» .
ولا يتحقق الإعراب والإتقان للكلمات إلا بإعطاء الحروف حقها ومستحقها، ولذا ذهب بعضهم في تعريفه على أنه: إخراج كل حرف من مخرجه مع إعطائه حقه ومستحقه «5» .
__________
(1) انظر في تعريف التجويد: التحديد في الإتقان والتجويد ص 70، التمهيد ص 59، نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 11.
(2) لسان العرب (3/ 135) ، مرجع سابق.
(3) انظر: أحكام قراءة القران الكريم ص 20.
(4) جمال القراء وكمال الإقراء (2/ 526) ، مرجع سابق.
(5) انظر مثلا: نهاية القول المفيد ص 12، أحكام تلاوة القران للحصري ص 15، مرجعان سابقان.
(1/223)
________________________________________
وحق الحرف هو: صفاته الذاتية اللازمة له فلا تنفك عنه كالجهر والشدة والاستعلاء، وكالإعراب النحوي ... فإن انفكت عنه فإن الانفكاك يغير ذات الحرف فإن عصى ومحظور إذا لم يعط الصاد والظاء حقهما من الاستعلاء والإطباق يصيران عسى ومحذور.
ومستحقه هو: صفاته العارضة الناشئة عن الصفات الذاتية كالتفخيم فإنه ناشئ عن الاستعلاء والتكرير، والترقيق فإنه ناشئ عن الاستفال ... والكسر والتفخيم متضادان لأن الأول يستدعي انخفاض اللسان والثاني يستدعي ارتفاعه ... وهذا على سبيل الإجمال، وإلا فالتفصيل أن التفخيم لا ينشأ دائما عن الاستعلاء ... وكالإظهار والقلب والإخفاء فإنها ناشئة إما عن التماثل وإما عن التقارب وإما عن التباعد، وإما عن التجانس، وهذه من الصفات الذاتية التركيبية.. كما هو مبسوط في محاله.
ولأن التجويد يعتمد على التلقي فما زال العلماء يكثرون من التنبيه أن إتقان التجويد لا بد فيه من رياضة الألسن والتكرار للفظ المتلقى كما قال الداني: «ليس بين التجويد وبين تركه إلا رياضة لمن تدبره بفكه» «1» ؛ إذ تنشأ في حال التركيب أحكام غيرها حال الإفراد «فمن أحكم صحة التلفظ حالة التركيب حصّل حقيقة التجويد بالإتقان والتدريب» «2» ، وقال صاحب كشف الظنون عن هذا العلم:
«وهو كالموسيقي من جهة أن العلم لا يكفي فيه بل هو عبارة عن ملكة حاصلة من تمرن امرئ بفكه وتدربه بالتلقف عن أفواه معلميه» «3» والناس في ذلك بين محسن مأجور، ومسيء اثم أو معذور كما قال ابن الجزري «4» .
__________
(1) التحديد ص 60، مرجع سابق.
(2) التمهيد ص 65، مرجع سابق.
(3) كشف الظنون (1/ 353) ، مرجع سابق.
(4) كشف الظنون (1/ 353) ، مرجع سابق.
(1/224)
________________________________________
وجميع ما عليه القراء من القراءة تجويد وتحقيق، وحسن أداء، فقراءة ابن كثير مع تسهيله كقراءة حمزة في التجويد، لأن المراد بالتجويد: إعطاء الحروف حفها، وإخراجها من مخارجها، واجتناب اللحن الخفي، وذلك لا يختلف بحدر ولا بتأن «1» .

فأركان التجويد العملي ثلاثة هي:

أولا: إحكام حروف القران، وإتقان النطق بكلماته، والإتيان بها معربة بإعطاء الحرف حقه:
وهذا الركن راجع إلى كون القران نزل بلسان عربي مبين ... فالعمل به واجب قطعي لا ريب فيه، ولولا ما تقتضيه الضرورة البحثية لكفت البديهة في تصور دليله.
ولعل من أهم أسباب تأخر ظهور علم التجويد مدونا مستقلا غير اندماجه الظاهر في علم القراء: اعتماده الشديد على التلقي من الأفواه، وهذا مما يوضح أن الصحابة تعلموه من النبي صلّى الله عليه وسلم تلقائيا، لم يحتج إلى نص تفصيلي، لأنه جزء من البلاغ المبين للفظ القران الكريم، ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القران وإقامة حدوده هم متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراء المتصلة بالحضرة النبوية.
والموضوعات التي تتعلق بهذا الركن من علم التجويد مخارج الحروف وصفاتها الأصلية، والإدغام الواجب المتفق عليه، والمد الواجب من لازم ومتصل بغض النظر عن مراتبه....
__________
(1) (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 هـ: جمال القراء وكمال الإقراء (2/ 526) ، مرجع سابق.
(1/225)
________________________________________
ثانيا: إحكام حروف القران، وإتقان النطق بكلماته بإعطاء الحرف مستحقه:
مستحق الحرف هو صفاته العرضية الناشئة عن الصفات الذاتية، وهذا الركن كالأول، غير أن الفارق بينهما أن صفة الحرف هنا لا تغير من ذاته في الغالب، فإن الترقيق لا يغير من ذات الراء المفخمة، إنما يغير صفة الكمال فيها، والإشمام أو الروم لا يغير من ذات النون مثلا.
ويتعلق بهذا الركن موضوعات التجويد الاخرى مثل الصفات الفرعية من تفخيم وترقيق (دروس الراات واللامات وحروف الإطباق) ، وأبواب كيفية الوقف على أواخر الكلم ...

ثالثا: تحسين التلفظ بالحروف:
وهذا الركن هو ما يتميز به نطق الكلمات القرانية عن نطق سائر الكلمات العربية، ولذا فالجمهور لا يدخلون العمل بالتجويد في الحديث النبوي، وهذا الركن هو الذي عبر عنه العلماء بقولهم: «هو حلية التلاوة وزينة القراءة» «1» من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف، ومن أبرز من تميز به من الصحابة ابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وسالم مولى أبي حذيفة.
فالركنان الأولان هما التلاوة، وهما القراءة ... ولا يتصور أداء اللفظ إلا بالأول، وينفر من أدائه دون الثاني في الفصيح، وأما الثالث فهو تحسينهما وتجميلهما.
وتظهر الأركان الثلاثة في تعريف صاحب كشف الظنون لعلم التجويد بأنه «علم باحث عن تحسين تلاوة القران العظيم من جهة مخارج الحروف وصفاتها،
__________
(1) الكامل للهذلي ص 19 وجه ب، مصورة مخطوطة عند الباحث. ملحوظة: وردت مصطلحات التلاوة والأداء والقراءة في هذا الموضوع: «والفرق بين الثلاثة أن التلاوة: قراءة القران متتابعا، كالأوراد والأسباع والدراسة، والأداء: الأخذ عن المشايخ، والقراءة: تطلق عليهما، فهي أعم منهما» انظر: الدقائق المحكمة في شرح المقدمة.
(1/226)
________________________________________
وترتيل النظم المبين بإعطاء الحروف حقها من الوصل والوقف والمد والقصر والإدغام والإظهار ... » «1» . فتعبير العلماء عن التجويد بالتحسين مع أنه الركن الثالث؛ لأن الركنين الأولين دخلا ضمنا، فلا يتصور تحسين للفظ بغيرهما.

المطلب الثالث: حكم التجويد كما علمه النبي صلّى الله عليه وسلم:
أما الركنان الأولان من التجويد فلا يرتاب أحد في أن النبي صلّى الله عليه وسلم قد علمهما أصحابه رضي الله عنهم لن ذلك من مقتضيات نزول القران بلسان عربي مبين، إذ أصل أصول هيئة الأداء: عربية اللسان، وكل دليل للركن الثالث هو دليل للركنين السابقين.

ودليل تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه الركن الثالث:
1- أمر الله عزّ وجلّ النبي صلّى الله عليه وسلم بتجويد القران: والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما تلقاه مرتلا من جبريل عليه السّلام كما في اية الفرقان وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (الفرقان: 32) ، وأمر بأن يقرأه كما سمعه من جبريل عليه السّلام كما في اية المزمل وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) ، واية القيامة فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(القيامة: 18) ، ووقع ذلك منه عمليا كما في حديث المعالجة «2» ، ولا شك أننا مأمورون بالاقتداء به صلّى الله عليه وسلم.
2- قوله سبحانه وتعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ (البقرة: 121) : أي يقرؤونه حق قراءته، وهي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى، وحق الأمر والنهي.
وإعطاء اللفظ حقه في التلاوة: تظهر ضرورته الشرعية من هذه الاية وهذا هو التجويد؛ إذ عرّف العلماء (التجويد) بأنه إعطاء الحرف حقه ومستحقه،
__________
(1) كشف الظنون (1/ 353) ، وانظر: أبجد العلوم (2/ 144) ، مرجعان سابقان.
(2) وتفصيل ذلك في كتاب تلقي النبي صلّى الله عليه وسلم ألفاظ القران الكريم ص 113، مرجع سابق.
(1/227)
________________________________________
فالتجويد من حق تلاوة الكتاب العزيز، وقد روى الطبري أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: «إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، وأن يقرأه كما أنزله الله عزّ وجلّ، ولا يحرفه عن مواضعه» «1» ، وعن قتادة قال في معنى الاية: «يتبعونه حق اتباعه- قال- اتباعه يحلون حلاله ويحرمون حرامه ويقرؤنه كما أنزل» .
3- قوله جل جلاله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) .
4- أحاديث التحسين للقران، والتزيين لتلاوته، والتغني به، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القران وتغنوا به..» ، وقال صلّى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يتغن بالقران» ...
5- واشتد اهتمام النبي صلّى الله عليه وسلم بتعليمهم قواعد تجويد القران تلقينا كقوله صلّى الله عليه وسلم:
«الماهر بالقران مع السفرة الكرام البررة» ، «والمهارة في القران جودة التلاوة بجودة الحفظ فلا يتلعثم ولا يتشكك وتكون قراءته سهلة بتيسير الله تعالى كما يسره على الكرام البررة، فالماهر بالقران هو الحافظ له مع حسن الصوت به، والجهر به بصوت مطرب بحيث يلتذ سامعه» «2» .
6- وأعظم أدلة وجوب التجويد العملي هو التلقي القراني المتواتر تواترا ضروريا.
ويشير إلى ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرؤوا كما علمتم» «3» ، وحدد لهم بعض المعلمين فقال: «خذوا القران من أربعة من بن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة» «4» ، وهذا هو معنى قول الجزري في المقدمة:
__________
(1) الطبري (1/ 519) ، مرجع سابق، تفسير الجلالين ص 25، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (13/ 519) ، مرجع سابق.
(3) ابن حبان (3/ 21) ، مرجع سابق.
(4) البخاري (3/ 1385) ، مسلم (4/ 1913) ، الحاكم (3/ 250) ، الترمذي (5/ 674) ، مراجع سابقة.
(1/228)
________________________________________
والأخذ بالتجويد حتم لازم ... من لم يجود القران اثم
لأنه به الإله أنزلا ... وهكذا منه إلينا وصلا
«أي أن القراءة بالتجويد واجبة لأن الله أنزل القران به، فتجويد القران وصلنا من الله بسلسلة الإسناد الجليلة هذه، إذ إن المقصود الاصطلاحي بتجويد القران:
قراءته على الصفة التي قرأه بها النبي صلّى الله عليه وسلم وأداؤه بالهيئة التي أداه بها» «1» .
فعلم التجويد بأركانه «هو عبارة عن وصف اصطلاحي لما ثبتت الرواية به من صفة قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم، وإلا فالمقصود هو تلك الهيئة التي نزل بها الوحي، وتلقاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جبريل مشافهة، عرضا وسماعا، كما سبق بيانه، وأقرأ بها عددا من أصحابه» «2» .
فهذه النصوص واضحة الدلالة على أن القراءة توقيفية، فلا يجوز أن يقرأ أحد إلا بالهيئة التوقيفية المتلقاة من الحضرة النبوية، والتي يتعلمها مشافهة من المقرئين، وقد عين النبي صلّى الله عليه وسلم لجيل الصحابة رضي الله عنه هؤلاء المقرئين ليتعلموا منهم القراءة، ويتلقوا منهم نص القران، وذكرهم ليس على سبيل الحصر، فقد نوه النبي صلّى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى بقراء اخرين من الصحابة رضي الله عنه «3» .
وأكد النبي صلّى الله عليه وسلم على تجميل الصوت وتحليته عند قراءة القران الكريم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لكل شيء حلية وحلية القران حسن الصوت» «4» ، وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «زينوا القران
__________
(1) انظر: سنن القراء ص 28، مرجع سابق، وانظر تفصيل ذلك في كتاب التلقي الفصل الثالث كاملا.
(2) انظر: سنن القراء ص 110، مرجع سابق.
(3) انظر: سنن القراء ص 110، مرجع سابق.
(4) المختارة (7/ 88) ، مرجع سابق، ونحوه ذكره في مجمع الزوائد (7/ 171) ، مرجع سابق.
(1/229)
________________________________________
بأصوآتاكم فإن الصوت الحسن يزيد القران حسنا» «1» ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن حسن الصوت يزين القران» «2» ، وتسلسلت المنهجية: فعن علقمة أنه قرأ على بن مسعود رضي الله عنه فقال: «رتل فداك أبي أمي فإنه زينة القران» «3» ، وفي رواية عنه قال: كنت رجلا قد أعطاني الله حسن الصوت، وكان ابن مسعود يرسل إلي فأقرأ عليه القران فكنت إذا فرغت من قراءتي قال: زدنا من هذا فداك أبي وأمي فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «حسن الصوت زينة للقران» «4» .

المسلمون في أغلبهم الأعم يقومون بالأركان الثلاثة:
وحتى لا يبادر البعض بالإنكار على وجوب ما سبق فإنه يجب تقرير حقيقة واقعة في حياة المسلمين هي: أن المرتبة الثالثة حقيقة ملموسة واقعية فلا تجد صغيرا ولا كبيرا ولا رجلا ولا امرأة ولا شابا ولا هرما إلا غير نبرة تصويته عند قراءة القران الكريم إلى هيئة فيها تغن ظاهر كل حسب قدرته وطاقته الصوتية.

وعلى هذا يحفظ هذا الكتاب المجيد من جميع الجهات:
فثم غاية لقراءة القران هي التدبر أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (النساء: 82) ، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (ص: 29) سواء كانت اللام أن تكون للتعليل أو للعاقبة.
__________
(1) الحاكم (1/ 768) ، مرجع سابق.
(2) الشاشي في مسنده (1/ 339) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (7/ 171) ، مرجع سابق.
(3) ابن الجعد (1/ 496) ، الطبراني في الكبير (10/ 82) ، الفردوس بمأثور الخطاب (2/ 141) ، مراجع سابقة.
(4) الطبراني في الكبير (10/ 82) ، مرجع سابق.
(1/230)
________________________________________
وثم مقتضى يوجبه التدبر هو الخشوع اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (الزمر: 23) .
وثم طريقة لقراءة هذا الكلام هي التلاوة بالترتيل وتحسين التصويت به، فليست قراءة القران كمعتاد الكلام، أو إلقاء الشعر.
فتحصل بمجموع ذلك كله: وجوب ترتيل (تجويد) القران كما تلقي وسمع مع المنع من غثاثة الإفراط في التغني للتوقيفية التعبدية المحضة.

فالواجب الشرعي في التجويد:
وهو ما أجمع عليه القراء كالإخفاء والإدغام والإظهار والقلب وترك المد فيما أجمع على قصره وترك القصر فيما أجمع على مده وغيره ذلك مع أن الواجب من المد هو القدر المجمع عليه مما ليس فيه خلاف، وتزيين القراءة بحيث تختلف عن سجية معتاد الكلام حال التلاوة، فهذا هو الواجب الشرعي؛ إذ يمثل الترتيل المأور به، ويبقى العذر بالجهل مانعا من وقوع العامي في الإثم، ولكن أي عذر لمتعلم جامعي في أرقى التخصصات الفنية ألا يعرف كيفية قراءة كتاب الله الكريم أكثر من العامي أو الأمي؟.

وحقيقة الوجوب هنا قائمة على ركائز:
توفر الحد الأدنى من أحكام التجويد مما هو مجمع عليه بين القراء، فليس من الواجب تحقيق المد تماما وإنما المجيء بأصله الذي يسمى به مدا، وكذلك الغن، ولا يكون ذلك إلا بتحقيق مخرج الحرف وصفته ... ولذا ذكر قالون عن نافع أنه كان يمد ويحقق القراءة، ولا يشدد، ويقرب بين المدود وغير المدود، قال ابن
(1/231)
________________________________________
مجاهد: وكذلك مذهب ابن كثير وأبي عمرو «1» ، وقال حمزة: ترك الهمز في المحاريب من الأستاذية «2» ، والمراد ترك الكمال في ذلك كله.
تحسين الصوت تغنيا وتزيينا بالمستطاع: والمراد تغيير نغمة الصوت عند التلاوة على هيئة مميزة للقران الكريم.
أن الأركان الثلاثة تتفاوت في وجوبها، فالأول لا تسمى القراءة قراءة إلا به، والثاني يخل بعرف القراءة وقد يخل بالمعنى، ووجوبه في درجة أدنى، والثالث يخل بعرف تلاوة القران ووجوبه أقل مما سبقه، والتساهل فيه كائن، والله أعلم.
__________
(1) (الداني) أبو عمرو عثمان بن سعيد الأندلسي ت 444 هـ: التحديد في الإتقان والتجويد ص 87، مرجع سابق.
(2) (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 هـ: جمال القراء وكمال الإقراء (2/ 471) ، مرجع سابق، ويراجع كلام السخاوي القيم في الدفاع عن ابن عامر وحمزة.
(1/232)
________________________________________
المبحث الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أهمية التجويد وضوابطه الشرعية:
بعد معرفة الأصول الشرعية للتجويد وتصور ماهيته، وحكم تعلمه، لا بد من الإشارة إلى وسائل النبي صلّى الله عليه وسلم في بيان أهميته، واجتناب ما يضاده، وبيان حدوده، وهو ما يتحدث عنه هذا المبحث، ولذا انقسم إلى ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أهمية التجويد.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم اجتناب اللحن.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ضوابط التجويد.
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أهمية التجويد:
علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أهمية التجويد من وقت مبكر من البعثة حيث نزلت سورة المزمل ... ومن معالم تعليمه صلّى الله عليه وسلم للصحابة أهمية التجويد:

1- كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمهم القران حرفا حرفا:
وهذا إنما يكون بالتلقين القراني للحروف مصحوبة بالترتيل حتى قال عبد الله بن مسعود في وصف تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لهم التشهد «كما يعلمنا السورة من القران» «1» ، ومثله حديث ابن عباس، وجابر في تعلم الاستخارة «2» ، فيحتمل أن يكون وجه الشبه هو التكرار، ويحتمل دقة التلقين، والاهتمام بدقة الحفظ والأظهر أن ذلك شمل الأمرين معا، ويدل على ذلك وعلى تسلسل هذه المنهجية أيضا أن إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي والأسود بن يزيد بن قيس النخعي رويا
__________
(1) صحيح ابن خزيمة (1/ 349) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 391) ، مرجع سابق.
(1/233)
________________________________________
عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم علمه التشهد في الصلاة فقالا: «كنا تحفظه عن عبد الله بن مسعود كما نحفظ حروف القران الواو والألف» «1» ، وقد شدد ابن مسعود رضي الله عنه في ذلك «حتى أخذ على أصحابه الواو والألف فيه كي يوافقوا لفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم» «2» .
ويدل قوله «الواو والألف» : على تحري الحروف وعدم إبدالها بغيرها، ويحتمل أن يكون المعنى إتقان نطق الحرف، والتشديد على ما يخل به الإنسان عادة كالحركات (التي تسمى في علم الأصوات: الألفونات والمصوتات) التي قد تتعرض إلى البتر إذا كانت طويلة، أو إلى المط إذا كانت قصيرة ... فيحمل على العموم، وذكر الألف والواو يدل على مقدار الإتقان في الحفظ والأداء معا كما قال مجاهد:
«صليت خلف مسلمة بن مخلد فافتتح البقرة فما أخطأ فيها واو ولا ألفا» «3» .

2- جعل الترتيل (التجويد) القراني مقياسا لدقة الترتيل في غيره:
ولذا كانوا يشبهون دقة تعليم أي شيء اخر بتعلم ألفاظ القران كالتشهد والاستفتاح والاستخارة، والأذان الذي يؤدى مرتلا مغنى به.

3- وقد كان صلّى الله عليه وسلم يعلمهم مد الصوت في الأذان فكيف تراه في تعليم القران؟:
فعن أبي محذورة رضي الله عنه قال: ألقى علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم التأذين «حرفا حرفا» هو بنفسه فقال قل الله أكبر ... قال: ثم أرجع فمد من صوتك ... الحديث «4» . فالمراد بمد الصوت هنا رفع الصوت وإطالة المد بنداوة.
__________
(1) صحيح ابن خزيمة (1/ 438) ، ابن أبي شيبة (1/ 262) ، مرجعان سابقان.
(2) شرح معاني الاثار (1/ 265) .
(3) ابن أبي شيبة (6/ 139) ، الحاكم (3/ 565) ، مرجعان سابقان، ومسلمة المذكور هو الأنصاري الزرقي صحابي معروف ولد في السنة الأولى للهجرة، كان أميرا لمصر ومات وهو وال عليها سنة 62 هـ، انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (3/ 125) ، المعين في طبقات المحدثين ص 26، مشاهير علماء الأمصار ص 56.
(4) أبو داود 1/ 137، مرجع سابق.
(1/234)
________________________________________
4- ديمومة الإقراء لهم بالترتيل ليصير عادة قرانية في التلاوة:
فكانوا يسمعون القران منه صلّى الله عليه وسلم مرارا، فيكون ذلك مراسا لهم على الحفظ وإتقان الأداء على ما هو معلوم من صلاته الجهرية، وحلقاته القرانية وإقرائه الفردي وتبليغه العام.

5- تقديم الأقرأ في أهم العبادات وهي الصلاة:
وقد أمر أن يؤمّ باقوم الأقرأ، وهذا يدل على اهتمامه بتعليمهم ما يتفاضلون فيه في القراءة، والأقرأ «محتمل لشيئين أحدهما أن يكون المراد به أحفظهم للقران، وهو المتبادر الثاني: أحسنهم تلاوة للقران باعتبار تجويد قراءته وترتيلها» «1» ، ولا شك أن الأكثر قراءة هو الذي جمع بين الأمرين وعليه عمل عامة المسلمين إلى اليوم.

6- تقسيم قرأة القران إلى قسمين: الماهر، والمتعتع:
فعن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الماهر بالقران مع السّفرة الكرام البررة والّذي يقرأ القران ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ وفي لفظ: والّذي يقرأ وهو يشتدّ عليه له أجران له أجران» «2» .
والماهر بالقران: أصل المهارة الحذق بالسباحة، والمراد بالمهارة بالقران جودة الحفظ وجودة التلاوة من غير تردد فيه «3» ، فالماهر هو «الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة بجودة حفظه وإتقانه» «4» ، ولذا ففي رواية البخاري: «مثل الذي يقرأ القران وهو حافظ له» «5» فالماهر من اجتمع فيه
__________
(1) البحر الرائق (1/ 368) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1882) ، مسلم (1/ 549) .
(3) انظر: فتح الباري (13/ 519) ، مرجع سابق.
(4) انظر: شرح النووي (6/ 84) ، مرجع سابق.
(5) البخاري (4/ 1882) ، مرجع سابق.
(1/235)
________________________________________
شرطان: جودة الحفظ، إتقان الأداء «فالمهارة في القران بهذا جودة التلاوة بجودة الحفظ فلا يتلعثم ولا يتشكك وتكون قراءته سهلة ... » «1» .
«وثواب الماهر أن يكون مع الملائكة أو الرسل وياله من حظ وشرف، وسبب ذلك أن الله تعالى يسره الله تعالى عليه كما يسره على الملائكة فكان مثلها في الحفظ والدرجة» «2» ، «ويحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الاخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة السفرة؛ لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى، ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم» «3» .
وأما التتعتع فهو «التردد في الكلام عيا وصعوبة» «4» والذي يتتعتع فيه هو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه، أو لصعوبة أدائه وإتقانه وقوله «وهو شديد عليه» أي يصيبه شدة ومشقة، والشدة والمشقة قد تكون في حفظه، وقد تكون في أدائه، وقوله «له أجران» : أجر بالقراءة، وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقته «5» .
وليس معنى الحديث أن الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجرا؛ «لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره» «6» كما يقال أيضا: «درجات الماهر فوق ذلك كله لأنه قد كان القران متعتعا عليه ثم ترقى عن ذلك إلى أن شبه بالملائكة» «7» .
__________
(1) انظر: فتح الباري (13/ 519) ، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (13/ 519) ، مرجع سابق.
(3) انظر: شرح النووي (6/ 84) ، مرجع سابق.
(4) انظر: القرطبي (1/ 7) ، مرجع سابق.
(5) انظر: شرح النووي (6/ 84) ، مرجع سابق.
(6) انظر: شرح النووي (6/ 84) ، مرجع سابق.
(7) انظر: القرطبي (1/ 7) ، مرجع سابق.
(1/236)
________________________________________
7- فرضية أداء المستطاع في تلاوة القران الكريم من الترتيل:
كما دل عليه الحديث السابق.

8- وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يجعل ميادين تجويد القران مختلفة ليرسخ بأكثر من أسلوب:
وذلك كالصلاة الجهرية الجماعة، وحلقة التعليم، والتعليم الفردي، والصلاة الفردية، والقراءة الفردية فكان يرفع الصوت بالقراءة، ولا شك أن من المقاصد الشرعية لذلك سماع القران لفظا وكيفية (أداء) فعن أم هانئ قالت: كنت أسمع قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم وأنا على عريشي «1» .
وتسلسلت هذه المنهجية فقد علم الصحابة رضي الله عنهم تلاميذهم ذلك كما تعلموه من النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبروهم أن من أعظم واجبات حامل القران تلاوته بالحق أي بأحكامه ليس التلاوة المجردة فعن شقيق قال: أتى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بمصحف قد زين فقال: إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق «2» .

وقد نبه الصحابة رضي الله عنهم تلاميذهم إلى ضرورة التزام التجويد:
وذموا تاركه فعن حذيفة رضي الله عنه: «إنّ من أقرأ الناس للقران منافقا لا يدع منه واوا ولا ألفا، يلفته بلسانه كما تلفت البقرة الخلى بلسانها» «3» ، فقد وسم من لا يعطي الحروف حقها بالنفاق وذلك أن اللفت هنا من قولهم: الرّاعي يلفت الماشية بالعصا، أي يضربها بها، لا يبالي أيها أصاب، والمعنى: «يقرؤه من غير رويّة ولا
__________
(1) ابن ماجة (1/ 429) ، وقال في مصباح الزجاجة (1/ 159) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» .
(2) سعيد بن منصور في سننه (2/ 485) ، مرجع سابق، وقال المحقق: «سنده صحيح» .
(3) ابن أبي شيبة (6/ 127) ، مرجع سابق، صفة المنافق ص 59 للفريابي.
(1/237)
________________________________________
تبصّر بمخارج الحروف، وتعمّد للمأمور به من الترتيل والترسّل في التلاوة، غير مبال بمتلوّه كيف جاء؛ كما تفعل البقرة بالحشيش إذا أكلته، وأصل اللّفت ليّ الشيء عن الطريق المستقيمة» «1» ، وقد يحتمل عند الباحث أن يكون المعنى:
اهتمام المنافق بالقراءة حتى لا يترك منه ألفا ولا واوا إلا أتقنه ليفتن الناس بذلك.
ومن ذلك ما جاء عن أبي جمرة قال قلت لابن عباس: إني (رجل) سريع القراءة، إني أهذ القران «وربما قرأت القران في ليلة مرة أو مرتين» . فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة البقرة فأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القران كله «فإني كنت فاعلا لابد فاقرأه قراة تسمع أذنيك ويعيه قلبك» «2» ... وهذا الأخير هو حدّ الحدر الاصطلاحي ...
وصيغة التفضيل (أحب) في قول ابن عباس لا تدل على جواز قراءة القران بغير ترتيل بل تدل على الاستبداد، وتشبه في ذلك قوله سبحانه وتعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الصف: 11) ، أو يكون من باب الترتيل الذي بمعنى التأني والتؤدة (يطابق التحقيق الاصطلاحي) ، والمفاضلة بينه وبين الهذ وهو الإسراع (يطابق الحدر الاصطلاحي) مع بقاء الأحكام الواجبة في كل منهما، كما سيأتي في مراتب الترتيل- إن شاء الله عزّ وجلّ- في المبحث القادم.
ومن أهم معالم تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لهم أهمية التجويد: تعليمه اجتناب اللحن، وهو ما يأتي في الفصل التالي.
__________
(1) انظر: الفائق في غريب الحديث (3/ 224) .
(2) البيهقي في الكبرى (3/ 13) ، مرجع سابق.
(1/238)
________________________________________
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم اجتناب اللحن «1» :

الدلالة اللغوية والاصطلاحية للحن:
ذكر بعضهم للحن ستة معان: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة والتّعريض والمعنى «2» ومنه قول الشاعر:
منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا
وأما اللحن في اصطلاح القراء فهو: هو الميل عن الصواب فهو خطأ يطرأ على القراءة فيخل بعرف القراءة وبمعناها وهو الجلي، أو يخل بالعرف دون المعنى وهو الخفي.
وقد جعل النسفي «الخطأ في القراءة ستة أنواع أحدها: في الاية والثاني في الكلمة والثالث في الحروف والرابع في الإعراب والخامس في قطع الكلمة والسادس في الوقف والابتداء» ثم جعل للثلاثة الأولى ستة أوجه «وهي الزيادة والنقصان والتقديم والتأخير والإبدال والتكرار ... وجعل الضابط في فساد الصلاة في الغالب هو تغير المعنى عند أبي حنيفة ومحمد وأما أبو يوسف فيشترط اللفظ» «3» ، وعلى هذا الجماهير أن الخطأ اللفظي لا يغتفر في فساد الصلاة لقادر على التعلم.
__________
(1) انظر في مناقشة موضوع اللحن من زاوية تجويدية: التمهيد ص 76، مرجع سابق، نهاية القول المفيد ص 22، مرجع سابق.
(2) انظر: لسان العرب (13/ 379 و 13/ 381) ، مختار الصحاح (1/ 248) ، مرجعان سابقان.
(3) من مصورة مخطوطة للشيخ أبي حفص عمر بن محمد بن أحمد النسفي ورقة 1 وجه أفي ملك الباحث، والصورة مست***ة من مخطوطات كتب خانة بالهند.
(1/239)
________________________________________
ومن معالم أمر النبي صلّى الله عليه وسلم باجتناب اللحن وتصحيحه:

1- الأمر بإعراب القران:
وذلك كائن بإعطاء كل حرف حقه ومستحقه، وهو معنى التجويد، والأمر بإعراب القران إبعاد للركن الأساسي من أركان اللحن الجلي، وقد «جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم رضوان الله عليهم من تفضيل إعراب القران، والحض على تعليمه، وذم اللحن وكراهيته ما وجب به على قراء القران أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه» «1» كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعربوا القران والتمسوا غرائبه» «2» ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعربوا القران فإن من قرأ القران فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات وكفارة عشر سيئات ورفع عشر درجات» «3» ، ومعنى إعراب القران كما قال الحليمي: «شيئان أحدها أن يحافظ على الحركات التي بها يتميز لسان العرب على لسان العجم، والاخر أن يحافظ على أعيان الحركات ولا يبدل شيئا منه بغير لأن ذلك ربما أوقع اللحن أو غير المعنى» «4» ، وكذلك أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماما، وإنما تكون دقائق العربية بتطبيق دقائق التجويد لأن حقيقة التجويد البحث عن أحوال الحروف ودقائق النطق بها «5» .
__________
(1) تفسير القرطبي (1/ 23) ، مرجع سابق وقد نقل ذلك عن أبي بكر الأنباري.
(2) الحاكم (2/ 477) ، مرجع سابق وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد على مذهب جماعة من أئمتنا ولم يخرجاه» ، وفي مجمع الزوائد (7/ 163) : «رواه أبو يعلى وفيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو متروك» ، وهو في ابن أبي شيبة (6/ 116) ، وانظر: خالدون الأحدب (دكتور) : زوائد تاريخ بغداد على الكتب السنة (6/ 216) ، دار القلم- دمشق ط 1، 1996 م- 1417 هـ، وقال في إسناده عند الخطيب: «إسناده ضعيف جدا» .
(3) الطبراني في الأوسط (7/ 307) ، مرجع سابق، مجمع الزوائد (7/ 163) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني في الأوسط وفيه نهشل وهو متروك» .
(4) شعب الإيمان (2/ 429) ، مرجع سابق.
(5) انظر: لسان العرب (1/ 590) ، مرجع سابق.
(1/240)
________________________________________
وتسلسلت المنهجية فقال ابن مسعود رضي الله عنه: «أعربوا القران فإنه عربي وسيكون بعدكم أقوام يثقفونه وليسوا بخياركم» «1» ، والظاهر أن معنى يثقفونه أي يلتقطون كلامه التقاطا كأنهم لا يبالون بإعرابه، أو يسردونه دون مبالاة ببيانه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «أعربوا القران فإنه عربي، وتفقهوا في السنة، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وإذا قص أحدكم على أخيه فليقل اللهم إن كان خيرا فلنا وان كان شرا فعلى عدونا» «2» .

2- الأمر الصريح باجتناب اللحن عموما وتصحيحه لمن وقع فيه:
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا قرأ فلحن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرشدوا أخاكم» «3» وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تعلموا القران» «4» ، وعن أبي بن كعب قال: «تعلموا اللحن في القران كما تعلمون القران» «5» . وأما ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: «إذا قرأ القارئ فأخطأ أو لحن أو كان أعجميا كتبه الملك كما نزل» «6» فالمراد به- إن صح- كأن يبدل «حرفا بحرف لفقد معلم أو عجز أو لحن فيه بأن
__________
(1) سعيد بن منصور (1/ 146) ، الطبراني في الكبير (9/ 139) ، شعب الإيمان (2/ 429) ، مراجع سابقة، وقال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 163) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني من طرق وفيها ليث بن أبي سليم وفيه ضعف وبقية رجال أحد الطرق رجال الصحيح» ، ومعنى يثقفونه كما قال البيهقي في شعب الإيمان (2/ 541) ، مرجع سابق: «يعني يسردونه» ، وجاء الجزء الأول منه «أعربوا القران» مرفوعا وموقوفا في المعجم الكبير للطبراني (9/ 139) ، مرجع سابق.
(2) سعيد بن منصور (2/ 267) ، مرجع سابق.
(3) الحاكم (2/ 477) ، مرجع سابق، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .
(4) شعب الإيمان (2/ 429) ، مرجع سابق.
(5) شعب الإيمان (2/ 429) ، مرجع سابق.
(6) الفردوس (1/ 289) ، مرجع سابق.
(1/241)
________________________________________
حرفه أو غير إعرابه» «1» ، وليس معنى هذا الحديث إلا معنى الاخر (الماهر بالقران) ففي هذا الحديث «أن القارئ يكتب له ثواب قراءته، وإن أخطأ ولحن لكن محله إذا لم يتعمد ولم يقصر في التعلم وإلا فلا يؤجر بل يؤزر» «2» .
والتجويد معرفة الصواب في القراءة واجتناب الخطأ، فمعرفة اللحن هي الركن الثاني من ركني الإتقان في هذا الباب، وقد أشار إلى ذلك الخاقاني بقوله:
فأول علم الذكر إتقان حفظه ... ومعرفة باللحن من فيك إذ جرى
فكن عارفا باللحن كيما تزيله ... وما للذي لا يعرف اللحن من عذر
«3» ملحوظة: ظهر أن أكثر ما ورد من أحاديث واثار في هذا المطلب ضعيفة ضعفا غير منجبر لكن الباحث ذكرها محاولة للإحاطة بما ورد في الباب، ولأن أصل الموضوع قائم في التلقي ذاته ... إذ عملية الإقراء والتلقين قائمة على سماع الصواب وتسميعه في اللفظ والأداء، ونفي الخطأ المنع منه في اللفظ والأداء أيضا.

المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ضوابط التجويد:
وكما أن النبي صلّى الله عليه وسلم علمهم التجويد وأهميته، ونفرهم من اللحن فقد علمهم الضوابط التي تضبط طريقة أداء اللفظ القراني لئلا يحدث البغي في ترتيل ألفاظ القران، وهيئات التصويت بحروفه بحيث لا يغالى في تجويد القران، ولا يوغل في التغني به حتى يخرج عن كونه قرانا معظّم اللفظ والمعنى إلى جعله كلاما مغنى اللفظ متروك المعنى، ومن معالم تعليمه في ذلك:
__________
(1) فيض القدير (1/ 416) ، مرجع سابق، وقال: «وفيه هشيم بن بشير قال الذهبي حافظ حجة مدلس عن أبي بشر مجهول» .
(2) فيض القدير (1/ 416) ، مرجع سابق.
(3) محمد مكي نصر: نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 22، طبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر: راجع هذه النسخة وصححها على محمد الضباع ربيع الثاني 1349 هـ.
(1/242)
________________________________________
1- المنع من الغلو في ترتيل لفظ القران:
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ... حامل القران غير الغالي فيه والجافي عنه ... » «1» ، والغلو هو المبالغة في التجويد، أو الإسراع في القراءة بحيث يمنعه عن تدبر المعنى، والتشديد ومجاوزة الحد في العمل به، وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه، وأما قوله «ولا الجافي عنه» أي وغير المتباعد عنه المعرض عن تلاوته وإحكام قراءته وإتقان معانيه والعمل بما فيه «2» ، ولذا نبه أهل العلم على ضرورة ألايخرج التغني بالقران عن حده المعلوم، فالأمر بالتجويد وما يتبعه من تغن: «إذا لم يخرجه التغني عن التجويد، ولم يصرفه عن مراعاة النظم في الكلمات والحروف، فإن انتهى إلى ذلك عاد الاستحباب كراهة» «3» .

2- التخفيف في المطالبة بالدقة البالغة لأحكام التجويد خاصة للعامة:
كما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القران وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: «اقرؤا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه» «4» ، وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما ونحن نقترئ فقال: «الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود اقرؤه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله» «5» .
__________
(1) أبو داود (4/ 261) ، مرجع سابق.
(2) انظر: عون المعبود (13/ 32) ، مرجع سابق.
(3) فيض القدير (4/ 68) ، مرجع سابق.
(4) سنن أبي داود (1/ 220) ، مرجع سابق.
(5) سنن أبي داود (1/ 220) ، مرجع سابق.
(1/243)
________________________________________
فقوله: «اقرؤا فكل حسن» : أي فكل واحدة من قراءتكم حسنة مرجوة للثوب، ولا عليكم ألاتقيموا ألسنتكم إقامة القدح وهو السهم قبل أن يراش «وسيجيء أقوام يقيمونه» : أي يصلحون ألفاظه وكلماته ويتكلفون في مراعاة مخارجه وصفاته (كما يقام القدح) : أي يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة لأجل الرياء والسمعة والمباهاة والشهرة، وقال الطيبي- رحمه الله تعالى-: «وفي الحديث رفع الحرج وبناء الأمر على المساهلة في الظاهر، وتحري الحسبة والإخلاص في العمل، والتفكر في معاني القران» «1» ، وهذا يعطي سعة في عدم التعمق في إتقان التجويد، والتساهل في ذلك ما دامت أصول القواعد ظاهرة وذلك مثل وجود الحد الأدنى من المدود الفرعية فيغض النظر عن توفر الكمال فيها، وجاء رجل إلى نافع فقال:
تأخذ عليّ الحدر، فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها، أسمعنا. قال: فقرأ الرجل، فقال نافع: الحدر، أو قال حدرنا، ألانسقط الإعراب، ولا ننفي الحروف، ولا نخفف مشددا، «ولا نشدد مخففا» ، ولا نقصر ممدودا، ولا نمد مقصورا، قراءتنا قراءة أكابر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم سهل جزل، لا نمضغ، ولا نلوك «2» .
وقد أشار إلى بعض ذلك الإمام السخاوي في منظومه بقوله:
لا تحسب التجويد مدا مفرطا ... أو مد ما لا مد فيه لوان
أو أن تشدد بعد مدّ همزة ... أو أن تلوك الحرف كالسكران
أو أن تفوه بهمزة متهوعا ... فيفر سامعها من الغثيان
للحرف ميزان فلا تك طاغيا ... فيه ولا تك مخسر الميزان
«3»
__________
(1) عون المعبود (3/ 42) ، مرجع سابق.
(2) (الداني) أبو عمرو عثمان بن سعيد الأندلسي ت 444 هـ: التحديد في الإتقان والتجويد هامش ص 93، مرجع سابق.
(3) (ابن أم قاسم) الحسن بن قاسم المرادي ت 749 هـ: المفيد في شرح عمدة المجيد في النظم والتجويد ص 15، تحقيق: د. علي حسين البواب، مكتبة المنار، 1407 هـ- 1987 م، الزرقاء- الأردن.
(1/244)
________________________________________
3- ألا تؤدي أحكام الترتيل إلى إلغاء الغاية من التلاوة وهي التدبر:
فتصبح القراءة بذلك مجرد مثار للطرب: كما قال سبحانه وتعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (ص: 29) ، ولذا قيل في قول أنس رضي الله عنه: «يمد صوته مدا» «أي يطيل الحروف الصالحة للإطالة يستعين بها على التدبر والتفكر وتذكير من يتذكر» «1» وليس الإطالة للتطريب المجرد.
وهذا الوصف هو الذي يتأتى منه الغرض من التلاوة وهو التدبر والتأمل كما في قوله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (النساء: 82) ، كما أنه هو الوصف الذي يتأتى معه الغرض من خشوع القلب كما في قوله جل جلاله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ (الزمر: 23) ولا تتأثر به الجلود والقلوب إلا إذا كان مرتلا، فإذا هذا كالشعر أو الكلام العادي لما فهم، وإذا كان مطربا كالأغاني لما أثر، فوجب الترتيل كما بين «2» .
وتسلسلت المنهجية فنقل الصحابة ذلك الهم فعلموه تلاميذهم فعن حذيفة قال: «ليقرأن القران أقوام يقيمونه كما يقام القدح لا يدعون منه ألفا ولا يجاوز إيمانهم حناجرهم» «3» .

4- عدم التدافع المعنوي واللفظي في القران:
فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن أن يخطئ بعضهم بعضا فيما كان الأمر فيه واسعا في تأدية الألفاظ أو في دلالاتها، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوما يتدارؤن في القران فقال: «إنما هلك من كان قبلكم
__________
(1) حاشية السندي (2/ 179) ، مرجع سابق.
(2) انظر: أضواء البيان (8/ 610) ، مرجع سابق.
(3) سعيد بن منصور في سننه (1/ 249) ، مرجع سابق.
(1/245)
________________________________________
بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوه، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه» «1» .
__________
(1) أحمد (2/ 185) ، مرجع سابق، الجامع لمعمر بن راشد (11/ 216) ، مرجع سابق.
(1/246)
________________________________________
المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ترتيل ألفاظ القران الكريم:
وفيه ثلاثة مطالب:
التجويد- كمصطلح- استحدث ليعبّر عن الترتيل ونحوه من المصطلحات الشرعية، فلا بد من بسط مفهوم الترتيل لنرى كيف علمه النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم، واقتضى ذلك أن ينقسم المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الترتيل وأركانه.
المطلب الثاني: مثال على فروع الترتيل التي علمها النبي صلّى الله عليه وسلم.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم مراتب الترتيل.

المطلب الأول: الترتيل وأركانه:

الترتيل في الوضع اللغوي:
يفهم من دلالات الوضع اللغوي للترتيل أنه الذي يجمع عدة دلائل «1» :

1- حسن التنسيق والتنضيد للشيء المرتل:
ومنه «ثغر رتل ورتل: حسن التنضيد مستوي النبات» والرتل: حسن تناسق الشيء.

2- حسن التنسيق بين أجزاء الشيء المرتل مع شدة البيان
والظهور لها بحيث يتميز بعضها عن بعض: ومنه يقال «ثغر رتل وهو المفلّج الذي بين أسنانه فروج لا يركب بعضها بعضا، ورتّل الكلام: أحسن تأليفه وأبانه وتمهّل فيه» ، وهذا لا يكون إلا إذا ميز كل حرف عن الاخر، وأبان كل حركة من الاخرى.
__________
(1) انظر: لسان العرب (11/ 265) ، مرجع سابق.
(1/247)
________________________________________
3- أن يكون حسنه على تؤدة:
ومنه كلام رتل أي مرتّل إذا كان «حسنا على تؤدة» .

4- أن يكون التبيين والتمهل والتؤدة بغير بغي
يخرجه عن سنن الكلام المرتل، ويضبط هذا في ترتيل لفظ القران الكريم التلقي.

5- وهذا المعنى اللغوي للترتيل هو الذي يستلزم السكينة والوقار
فلا يكون التنسيق والتنضيد للكلام القراني، والإبانة والتأني ... مخرجا له عن الكلام القراني إلى الغناء المتخلع لما هو غير قران ...
واجتمع هذا كله في تأويل قوله سبحانه وتعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) ؛ فقد قال بعض اللغويين فيها: «ما أعلم الترتيل إلّا التحقيق والتبيين والتمكين» ، أراد في قراءة القران؛ وترتيل القراءة: التأني فيها والتمهّل وتبيين الحروف والحركات «1» ، ولذا ففي صفة قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم كان يرتّل اية اية «2» .
وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلم كما قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها-: يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه لم يكن يسرد كسردكم وفي لفظ إنما كان حديث رسول الله فصلا تفهمه القلوب «3» ... فكيف به في ترتيل لفظ القران؟، وإذا كانت عائشة- رضي الله تعالى عنها- قد حفظت عنه ذلك في كلامه الشريف فكيف تراها تعلمت منه ترتيل لفظ القران الكريم، والله جل جلاله يقول: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (الأحزاب: 34) ، ولذا حفظ عنه ترتيله للفظ القران الكريم بدقة بالغة أزواجه صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) لسان العرب (11/ 265) ، مرجع سابق.
(2) نص حديث حذيفة مرفوعا: (فقرأ قراءة حسنة يرتل فيها يسمعنا ... ) أخرجه الإمام أحمد (5/ 401) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (3/ 1307) ، مسلم (4/ 2298) ، أبو داود (3/ 320) ، مراجع سابقة.
(1/248)
________________________________________
مواضع ذكر كلمة الترتيل في القران الكريم:
وردت كلمة الترتيل في موضعين في القران الكريم:
الأول: جاء على سبيل الإخبار عن كيفية قراءة الملك الذي أقرأ النبي صلّى الله عليه وسلم حال تعليمه له صلّى الله عليه وسلم وهو قوله سبحانه وتعالى: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (الفرقان: 32) ، فقد كان جبريل عليه السّلام إذا نزل بالعشر من القران أو نحوها نزل به مرتلا، وإسناد الفعل إلى الله سبحانه وتعالى من باب إسناد ما هو للمأمور للامر زيادة في التأكيد على أن ما أداه جبريل عليه السّلام هو ما أمر بتأديته حرفيا، وعن ابن عباس في هذه الاية قال: «فصل القران من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلم يرتل ترتيلا» ، وفي لفظ: «فجعل جبريل ينزله على النبي صلّى الله عليه وسلم يرتله ترتيلا» قال سفيان: خمس ايات ونحوها «1» هكذا (يرتله ترتيلا) والفعل المضارع دال على أن الجملة حالية يراد به الكيفية المعروفة.
الثاني: في سورة المزمل على سبيل الأمر، وهو قوله سبحانه وتعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) .

أركان الترتيل:
اجتمع لنا من خلال السابق أن متضمنات الترتيل وأركانه ستة هي:

أولا: تبيين الكلام المرتل:
وذلك يكون بتبيين الحروف والحركات المكونة للكلام، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزّ وجلّ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) ؛ قال: «بيّنه تبيينا» «2» ،
__________
(1) الضياء في المختارة (10/ 154) ، مرجع سابق.
(2) لسان العرب (11/ 265) .
(1/249)
________________________________________
وقد أكّد الأمر بالترتيل والإخبار عنه في ايتي الفرقان والمزمل بالمصدر، وذلك لما لأنه: «يدل على المبالغة على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض، ولا ينتقص من النطق من مخرجه المعلوم مع استيفاء حركته المعتبرة» «1» .
وهذا التبيين في قراءة المرتّل يجب أن يكون بحيث يتميز كل حرف عن الاخر، ولا يتميز عن الاخر إلا إذا عرف حق الحرف ومستحقه (التجويد) ، ولا يكون ذلك بالضرورة بالتوصيف العلمي الذي درج عليه المتأخرون، بل بالتطبيق العملي، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمهم هذا على هيئة دقيقة، وكانوا يتعلمون منه الحروف وحقوقها عمليا، على أن معظم أحكام التجويد كان معروفا عند العرب بسليقتهم اللغوية، حتى استدل العلماء على جواز نطق الضاد ظاء بأدلة ليس منها- فقط- ما ذكره «ابن جني في كتاب التنبيه وغيره أن من العرب من يجعل الضاد ظاء مطلقا في جميع كلامهم وهذا قريب وفيه توسع للعامة» «2» ، بل ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره من أن «المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة ويدل عليه أن المشابهة حاصلة فيهما جدا والتميز عسير فوجب أن يسقط التكليف بالفرق وبيان المشابهة، وإذا ثبت هذا فنقول لو كان الفرق معتبرا لوقع السؤال عنه في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي أزمنة الصحابة لا سيما عند دخول العجم فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذا البتة علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف» «3» .
__________
(1) انظر: معاني القران للزجاج.
(2) (شعلة) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين الموصلي ت 656 هـ: شرح شعلة على الشاطبية المسمى كنز المعاني شرح حرز الأماني ص 28، المكتبة الأزهرية للتراث.
(3) انظر: تفسير الرازي.
(1/250)
________________________________________
ثانيا: التؤدة والتمهل في النطق بأجزاء الكلام المرتل:
سواء كانت حركات وحروفا، حتى كأن الناطق به يقرؤه حرفا حرفا، فمعنى (رتل) أي: «انبذه حرفا حرفا» ، والصورة التطبيقية من تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لصحابته رضي الله عنهم ما تعلمته أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- من كيفية ترتيل القران الكريم فقد سأل يعلى بن مملك أم سلمة عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصلاته فقالت: وما لكم وصلاته؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح ونعتت له قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا «1» .
فقوله في الرواية (ثم نعتت) أي وصفت قراءة مفسرة أي مبينة حرفا حرفا أي كان يقرأ بحيث يمكن عد حروف ما يقرأ، قال الطيبي: «يحتمل وجهين الأول أن تقول كانت قراءته كيت وكيت والثاني أن تقرأ مرتلة كقراءة النبي صلّى الله عليه وسلم» «2» ، و «المراد حسن الترتيل والتلاوة على نعت التجويد» «3» .
ومن أقوى أدلة التأني والتؤدة قوله جل جلاله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) ، وقد استدل البخاري بهذه الاية على الترتيل «4» ، وعن كريب قال: سألت ابن عباس عن جهر النبي صلّى الله عليه وسلم بالقراءة بالليل. فقال:
«كان يقرأ في حجرته قراءة لو شاء حافظ أن يتعلمها لتعلمها» «5» .

تسلسل المنهجية:
فقد أنكر ابن مسعود رضي الله عنه على تلاميذه الهذ في القراءة فعن أبي وائل قال غدونا على عبد الله فقال رجل: قرأت المفصل البارحة. فقال:
__________
(1) صحيح ابن خزيمة (2/ 188) ، مرجع سابق.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 194) ، مرجع سابق.
(3) تحفة الأحوذي (8/ 194) ، مرجع سابق.
(4) البخاري (4/ 1924) ، مرجع سابق.
(5) شعب الإيمان (2/ 383) ، مرجع سابق.
(1/251)
________________________________________
«هذا كهذ الشعر؟! إنا قد سمعنا القراءة وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلّى الله عليه وسلم ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من ال حم» «1» .
ومثل ذلك ما قاله أبو الدرداء رضي الله عنه: «إياكم والذين يحرفون القران وإياكم والهذاذين بالقران الذين يهذون القران ويسرعون بقراءته فإنما مثل ذلك كمثل الأكمة لا أمسكت ماء ولا أنبتت كلأ» «2» . وليس معنى ذلك أن يبطّأ في إخراج الحرف الاخر حتى يخرجه ذلك عن سنن الكلام المعتاد، بل المراد التمهل الزائد عن الكلام المعتاد مع إبقاء الحرف منسجما ككلام، ولذا قال مجاهد في قوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) : «بعضه على أثر بعض» ، وقال الشافعي رحمه الله: «أقل الترتيل ترك العجلة في القران عن الإبانة» «3» .
وكذلك مما يستشهد به على تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لهم التأني وتبيين الحروف ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بت عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فزعا فاستقى ماء فتوضأ ثم قرأ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (ال عمران: 190) إلى اخر السورة، ثم افتتح البقرة فقرأها حرفا حرفا حتى ختمها.. «4» ..

ثالثا: إشباع الحروف والحركات:
بحيث تأخذ حقها دون شطط، وهذا ما نطلق عليه (التمكين) حيث يتم «بأن يبيّن جميع الحروف ويوفّيها حقها من الإشباع» «5» ، وقال ابن حجر في معنى اية
__________
(1) البخاري (4/ 1924) ، مرجع سابق.
(2) شعب الإيمان (2/ 541) ، مرجع سابق.
(3) (البيهقي) أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر ت 458 هـ: السنن الصغرى (1/ 556) ، د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1410- 1989.
(4) الطبراني في الكبير (12/ 20) ، مرجع سابق.
(5) لسان العرب (11/ 265) ، مرجع سابق.
(1/252)
________________________________________
المزمل: «اقرأه مترسلا بتبيين الحروف وإشباع الحركات» ، حتى يكاد المرء يعد الحروف الخارجة من فم القارئ، وأخرج العسكري في المواعظ عن علي: «بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل، ولا تهذه هذ الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم اخر السورة» «1» .

رابعا: حسن التنسيق والتنضيد:
والمراد التنضيد لعلاقة كل حرف بالاخر، وهذا ما نطلق عليه تحقيق الحروف، ولذا جعل الزجاج أصل الترتيل: «التفنين والتنسيق وحسن النظام» ، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القران.

خامسا: أن يكون ذلك كله بغير بغي:
فلا يتولد من الحرف اخر، ولا من الحركة حرفا، فالتّرتيل في القراءة «الترسل فيها والتبيين بغير بغي» «2» .
وسلك الباحث هذا السبيل في الجمع بين الأقوال لأن عادة السلف أن يفسروا الشيء ببعض معناه، «إذ المراد من هذا الأمر التبيين والإفصاح والتحسين، حتى يؤدي القران على أكمل وجه، فيظهر حسنه، ويبدو رونقه، وذلك لا يتم إلا بالتجويد» «3» .

سادسا: أن يكون ذلك على نحو مستملح مستطاب:
في حدود التلقي الذي ضبط وحدّد بقواعد موزونة، وهو الذي أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «زينوا أصوآتاكم بالقران» كما سيأتي إن شاء الله عزّ وجلّ.
__________
(1) روح المعاني (29/ 104) ، مرجع سابق.
(2) مختار الصحاح (11/ 98) ، مرجع سابق.
(3) انظر: سنن القراء ص 68، مرجع سابق.
(1/253)
________________________________________
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمهم ذلك عمليا في حلقات الإقراء:
أو في التبليغ العام، أو في الصلوات الجهرية من فرائض وتطوع، وحسبك أن تكون ثلاث صلوات يعلمهم فيها أداء القران تلقينا.
ومن ذلك ما جاء عن حذيفة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة لأصلى بصلاته فافتتح فقرأ قراءة ليست بالخفية ولا بالرفيعة قراءة حسنة يرتل فيها يسمعنا.. «1» ..
وتستلزم هذه الستة ركنا سابعا هو: السكينة والوقار:
إذ لا بد منه في الترتيل لتضبطه «وهو ضابط من ضوابط التجويد والتغني» .

زمن القراءة حال الترتيل:
لا شك أن الترتيل بهذه الأركان يقتضي أن تكون القراءة أطول من المقروء وهذا سمت النبي صلّى الله عليه وسلم في ترتيله فعن حفصة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سبحته قاعدا قط حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي قاعدا ويقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها «2» . وهذا هو المعمول به عند المسلمين في قراءة القران، وإن تفاوت زمن القراءة عندهم.
وقد تعلم الصحابة رضي الله عنهم كيفية ترتيله حتى النساء، كما في السؤال الذي سئلته أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوصفتها له بالأداء التطبيقي كما سبق.
__________
(1) أحمد (5/ 401) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 507) ، ابن خزيمة (2/ 238) ، ابن حبان (6/ 253) ، أبو عوانة (1/ 532) ، مراجع سابقة.
(1/254)
________________________________________
والترتيل مطلوب من القارئ في الدنيا والاخرة:
وقد روى هذا سلسلة القراء فعن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القران اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عن اخر اية تقرؤها» «1» ، فقوله «ورتل» أي: «اقرأ بالترتيل ولا تستعجل بالقراءة كما كنت ترتل في الدنيا من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف» «2» .

العلاقة بين الترتيل والتجويد:
ومما سبق، وبمقارنة ما فصلناه من أركان الترتيل السبعة بأركان التجويد الثلاثة، وبالمقارنة التي تضمنها الكلام التفصيلي عن أركان الترتيل بتعريف التجويد نصل إلى حقيقة ظاهرة في العلاقة بين الترتيل والتجويد: فالعلاقة بينهما هي المثلية، فترتيل القران هو التجويد، إلا أنه اصطلاح حادث، ثم صار يطلق أكثر على التوصيف العلمي الدقيق منه على المطلوب العملي.

المطلب الثاني: مثال على فروع الترتيل التي علمها النبي صلّى الله عليه وسلم (المد) :
يمثل المد أساس هيئة التغني الواضحة المميزة للقران من أحكام التجويد (الترتيل) ، فكان لا بد من الكلام على ما يدل على تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه هذا الحكم، وقد اعتنى العلماء بإيضاح ذلك حتى بوب أهل العلم له أبوابا مستقلة، ومنهم الإمام البخاري «3» مع أن التلقي كاف في الإثبات لذلك، لكن نذكر هذا التفصيل لزيادة البيان والإيضاح:
__________
(1) السنن الكبرى للنسائي (5/ 22) ، مرجع سابق.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 187) ، مرجع سابق.
(3) انظر: البخاري (4/ 1924) ، مرجع سابق، وانظر: أصوات القران ص 20، مرجع سابق.
(1/255)
________________________________________
1- فقد كانت يظهر في قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم المد فقد قال قتادة: سألت أنسا كيف كانت قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «كانت مدا» «1» ، وفي لفظ: «كان يمد مدا» «2» ، وفي لفظ «كان يمد صوته مدا» «3» ، أي كانت ذات مد «4» ، فيطيل الحروف الصالحة للإطالة يستعين بها على التدبر وتذكير من يتذكر «5» .
2- ومثّل أنس لهذا النوع من المد فقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم (الفاتحة: 1) يمد بِسْمِ اللَّهِ ويمد ب الرَّحْمنِ ويمد ب الرَّحِيمِ «6» .
وهذا التمثيل يدل على غاية التحقيق في الترتيل فإن مد الكلمات الثلاث (الله، الرحمن، الرحيم) والمراد مد اللام التي قبل الهاء من الجلالة، والميم التي قبل النون من الرحمن، والحاء من الرحيم في غير الوقف عليها هو من نوع الأصلي، ومعلوم أن المد الأصلي مقداره حركتان فهو مد طبيعي، وأجاز بعض علماء التجويد مده ثلاث حركات عند الأخذ بوجه التحقيق ... وهذا ما ينطبق على هذه الرواية ولذا رجح العلماء أن «المراد من الترجمة الضرب الأول» «7» ، وفي هذا إثبات للمد الفرعي من باب الأولى، وقد قال الداني في حديث أنس رضي الله عنه:
«ويمد (الرحمن) ، ويمد (الرحيم) ، وهو أصل في تحقيق القراءة، وتجويد الألفاظ،
__________
(1) البخاري (4/ 1925) ، مرجع سابق، وانظر: (الترمذي) أبو عيسى محمد بن سؤرة الترمذي ت 279 هـ: مختصر الشمائل المحمدية، اختصره وصححه: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط 4، 1413 هـ.
(2) البخاري (4/ 1924) ، مرجع سابق.
(3) السنن الكبرى للنسائي (1/ 347) ، صحيح ابن حبان (14/ 222) ، مرجعان سابقان.
(4) فتح الباري (9/ 91) ، مرجع سابق.
(5) (السندي) أبو الحسن نور الدين بن عبد الهادي (1138 هـ) : حاشية السندي على النسائي (2/ 179) ، مراجعة: عبد الفتاح أبو غدة 1406 هـ- 1986 م، مكتبة المطبوعات الإسلامية- حلب.
(6) البخاري (4/ 1925) ، مرجع سابق.
(7) فتح الباري (9/ 91) ، مرجع سابق.
(1/256)
________________________________________
وإخراج الحروف من مواضعها، والنطق بها على مراتبها، وإيفائها صيغتها، وكل حق هو لها، من تبيين ومد وتمكين وإطباق وتفش وصفير وغنة وتكرير واستطالة وغير ذلك، على مقدار الصيغة وطبع الخلقة، من غير زيادة ولا نقصان» «1» .
3- وأخرج ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ في الفجر (ق) فمر بهذا الحرف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (ق: 10) فمد نضيد «2» ، والمد في نَضِيدٌ من نوع العارض للوقف؛ إذ عادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوقف على رؤوس الاي. وهذا المد في قراءته صلّى الله عليه وسلم دائم سواء كان في الصلاة وغيرها.
4- ولا تنبغي المماراة في مده صلّى الله عليه وسلم لما يمد من الحروف في قراءة القران فقد كان كذلك ديدنه فيما يردده من شعر مرتجز يشبه الحداء في أماكنه فعن البراء بن عازب يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل من التراب يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
قال: ثم يمد صوته باخرها «3» ولا يعترض على هذا بأن المراد هو رفع الصوت لا إطالته لأن المقام مقام ارتجاز مسموع على ما هو معتاد معلوم، ومد الصوت يناسب الألف تماما في أبينا وتدل عليه الأحوال المعتادة في مثل هذا.
__________
(1) التحديد في الإتقان والتجويد ص 79، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 91) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1507) ، مرجع سابق.
(1/257)
________________________________________
وقد يمد المدود غير الواجبة مما هو جائز المد في قراءة التحقيق مثل ما اصطلح على تلقيبه بمد البدل كمده لكلمة (امين) فعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قال أمين رفع بها صوته، وفي رواية: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قال: وَلَا الضَّالِّينَ (الفاتحة: 7) قال: امين رفع بها صوته في الصلاة، وقال رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (الفاتحة: 7) قال امين يمد بها صوته «1» ، ف «رفع صوته بامين وطول بها» «2» حتى يسمعها الصف الأول فيرتج بها المسجد «3» ، ومد الصوت يأتي للمعنيين: إطالة الحرف، والجهر به «4» .
5- وفي قول عبد الله بن مغافل رضي الله عنه يحكي ترجيع النبي صلّى الله عليه وسلم ابمد الهمزة والسكوت «دلالة على أنه صلّى الله عليه وسلم كان يراعي في قراءته المد والوقف» «5» .
وتسلسلت المنهجية: فعن مسعود بن يزيد الكندي قال: كان ابن مسعود يقرئ رجلا فقرأ الرجل إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ (التوبة: 60) مرسلة، فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: كيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أقرأنيها إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ فمددوها «6» .
هل اختلاف أهل الأداء والمجودين من علماء القراءة في بعض الفروع الصغيرة مؤثر على التواتر القراني؟:
__________
(1) البيهقي في الكبرى (2/ 57) ، مرجع سابق.
(2) البيهقي في الكبرى (2/ 57) ، مرجع سابق.
(3) ابن ماجة (1/ 278) ، مرجع سابق.
(4) انظر: تحفة الأحوذي (2/ 59) ، مرجع سابق.
(5) فتح الباري (13/ 515) ، مرجع سابق.
(6) مجمع الزوائد (7/ 155) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» .
(1/258)
________________________________________
الجواب: كل الاختلافات الأدائية التجويدية تعود إلى الترجيح اللغوي في بعض الفروع الموغلة في الدقة من حيث الأداء نحو المد المتصل هل يكون ثلاث حركات أو أكثر، والميم الساكنة هل تخفى عند الباء أم تظهر، ولا ضير من ذلك كله، كما هو واضح.

ملحوظات هامة:
1- لا يخفى أن الواجب من المد قراءة لا رواية هو القدر المجمع عليه من المد؛ إذ هو أصل المد الذي لا تستقيم الكلمة بدونه وأما الزيادة على ذلك مما اختلف فيه القراء فواجب صناعي لا شرعي، كالوجوب في أداء الرواية.
2- اختلف أهل العلم في تقدير المراتب للقراء بالألفات في ما زاد على المد الطبيعي من أنواع المدود، وهذا الاختلاف «لا تحقيق وراءه بل يرجع إلى أن يكون لفظيا وذلك أن المرتبة الدنيا وهي القصر إذا زيد عليها أدنى زيادة صارت ثانية، ثم كذلك حتى تنتهي إلى القصوى وهذه الزيادة بعينها إن قدرت بألف أو بنصف ألف هي واحدة فالمقدر غير محقق، والمحقق إنما هو الزيادة، وهذا ما تحكمه المشافهة، وتوضحه الحكاية، ويبينه الاختبار، ويكشفه الحسن قال الحافظ أبو عمرو رحمه الله: وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف، وتخليص السواكن، وتحقيق القراءة وحدرها وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافا يخرج عن المتعارف عليه في اللغة، والمتعالم في القراءة بل ذلك قريب بعضه من بعض، والمشافهة توضح حقيقة ذلك، والحكاية تبين كيفيته» «1» ، وإنما يزادي ذلك للمبتدئ ليتقن كما قال حمزة يقول: إنما أزيد على الغلام في المد ليأتي بالمعنى «2» .
__________
(1) النشر في القراات العشر (1/ 326) ، مرجع سابق.
(2) النشر في القراات العشر (1/ 326) ، مرجع سابق.
(1/259)
________________________________________
وبذا يستبين أن الوجوب المذكور في حكم التجويد يراد به أصول هذه الأركان من الناحية العملية، وليس التفاصيل الموغلة في الأداء من غير المجمع عليه بين القراء إظهارا وإدغاما، وغنا ومدا، وتفخيما وترقيقا ... وأما المختلف فيه إظهارا وإدغاما مثلا فالسعة في القراءة بأيهما قائمة ما لم يسند ذلك إلى الرواية ... ومثل ذلك حسن الأداء، والتزيين، والتحسين؛ إذ يراد منها ليس الوجوب على كل بحسب القدرة بقدر ما يراد أن يغير تصويته بالقران إلى هيئة مغناة مزينة، وهو ما يفعله كل المسلمين على تفاوت بينهم في مقدار حسن ذلك.

تواتر أركان التجويد (الترتيل) :
بعد هذا العرض يتضح أن عمل المسلمين في التلاوة المقبولة بينهم يجعل التواتر لهذا العلم- عمليا- بينهم أمرا قطعيا لا يحتاج إلى أسانيد أصلا؛ إذ هو عمل الأمة بأسرها: خاصتها وعامتها ... فبعضه جزء من صميم لسانها الذي نزل القران به (وهو المخارج والصفات على التفصيل السابق) وبعضه هو المميز لتلاوة القران الكريم عن قراءة أي كتاب اخر ... والمراد المجمع عليه مما يمثل الحد الأدنى المطلوب في الوجوب الشرعي.

المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم مراتب الترتيل:

ملحوظة في معنى الترتيل:
سبق معنى الترتيل ودلالته اللغوية والشرعية، ولكن علماء القراءة يستعملون الترتيل في معنيين:
أحدهما عام وهو ما تقدم.
(1/260)
________________________________________
والثاني: أن هذا الترتيل العام من حيث مدى التؤدة والتأني ينقسم إلى مراتب هي المراتب المعروفة في علم القراءة والتجويد للقراءة، وهذا يعني أن الترتيل هنا يأتي بالمعنى العام الشامل للحدر والتدوير والمرتبة الثالثة التي قد تدعى بالترتيل، وقد تدعى بالتحقيق، وقد يستعمل هذا المصطلح في معنى خاص هو ما توفرت فيه الأركان السابقة مع أعلى مراتب التؤدة اللائقة بقراءة القران وهو الذي اصطلح عليه بعض علماء القراءة ب (التحقيق) «1» .

مراتب الترتيل:
وعلى هذا فإن مراتب الترتيل بالمعنى العام ثلاثة: ومحور تقسيمها وحيثيته هو مدى التأني والتؤدة، مع بقاء الأركان الاخرى للترتيل كما هي، فللتأني وللطمأنينة المقبولة في علم القراءة أعلى وأوسط وأدنى، فالأعلى اصطلح عليه بالتحقيق أو بالترتيل (بالمعنى الخاص) والأوسط يدعى بالتدوير، والأدنى يدعى بالحدر ... ولكنها تشترك في جميع أركان الترتيل (بالمعنى العام) ، وتتفاوت في ركن واحد هو التأني والتؤدة ... كما أنها تتفق جميعا في الركنيين الأولين من أركان التجويد العملي، وتتفاوت في مدى الإشباع الجائز للحركات والحروف والصفات العارضة التي تتعلق بالركن الثالث من التجويد العملي، ولذا قال العلماء في الفرق بين مراتب الترتيل- بعد أن جعلوها كيفيات جائزة للقراءة-:
__________
(1) ممن اصطلح عليه بالتحقيق: الإمام السيوطي في الإتقان (1/ 265) ، وذهب بعضهم مذهبا مغايرا فجعل مراتب القراءة أربعة يجمعها الترتيل بالمعنى العام، وأعلاها التحقيق وبعده الترتيل وجعل الفرق بين الترتيل وبين التحقيق فيما ذكره بعضهم أن التحقيق يكون للرياضة والتعليم والتمرين والترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط فكل تحقيق ترتيل وليس كل ترتيل تحقيقا. انظر: الإتقان (1/ 265) ، مرجع سابق.
(1/261)
________________________________________
الأولى: التحقيق «1» :
وهو إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد، وتحقيق الهمزة، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار والتشديدات، وبيان الحروف وتفكيكها، وإخراج بعضها من بعض بالسكت والترتيل والتؤدة، وملاحظة الجائز من الوقوف بلا قصر ولا اختلاس ولا إسكان محرك ولا إدغامه، وهو يكون لرياضة الألسن وتقويم الألفاظ، ويستحب الأخذ به على المتعلمين من غير أن يتجاوز فيه إلى حد الإفراط بتوليد الحروف من الحركات، وتكرير الراات ... كما قال حمزة لمن سمعه يبالغ في ذلك: أما علمت أن ما فوق البياض برص، وما فوق الجعودة قطط وما فوق القراءة ليس بقراءة، وكذا يحترز من الفصل بين حروف الكلمة كمن يقف على التاء من نستعين وقفة لطيفة مدعيا أنه يرتل، وهذا النوع من القراءة يظهر في بعض طرق الإمام حمزة وورش بصورة جلية «2» .
__________
(1) لم يستقر- حتى الان- الفرق المصطلحي بين الترتيل والتحقيق، فقد ذهب البعض إلى عد مراتب القراءة أربعة مراتب منها التحقيق والترتيل والتدوير والحدر كما فعل ذلك الشيخ محمد مكي نصر في نهاية القول المفيد ص 14، وذهب البعض إلى جعلها ثلاثة مراتب هي الترتيل والحدر والتوسط كما فعل ابن أم قاسم في المفيد ص 38، وذهب القدماء إلى جعل المراتب ثلاثة هي التحقيق والترتيل والحدر كما فعل الداني في التحديد ص 70، والجزري في التمهيد ص 62 ... وقد ألف هذا الكتاب وهو في التاسعة عشرة من عمره كما ذكر في اخره، وفي هذه الحالة فإن هذه المراتب- اصطلاحا- هي المراتب الثلاث عند البعض: التحقيق (كما هو) ، والتدوير (هو الذي أطلقوا عليه الترتيل) ، والحدر (كما هو) ، وهو الذي ارتضاه الباحث ... وذلك أن المتقدمين يجعلون التحقيق للتعلم، والترتيل لطريقة التلاوة كالحدر ... ولكن التحقيق مستعمل واقعا في التلاوة كالترتيل من جهة، ومن جهة أخرى فإن جعل الترتيل مرتبة مع الحدر والتحقيق يوهم خروجهما من المعنى العام للترتيل الوارد في سورة المزمل، وليس كذلك؛ إذ الترتيل يشمل كل المراتب بمعناه العام وخروجا من هذا اللبس ارتضى الباحث تقسيم المراتب إلى ثلاثة تنضوي تحت الترتيل هي: التحقيق، والتدوير، والحدر، وهو ما قرره ابن الجزري، ورجع إليه في اخر أمره حيث ذكر ذلك في النشر الذي ألفه في سنة 799 هـ، أي وعمره تسع وأربعون سنة، فقسم في النشر (1/ 205) المراتب إلى تحقيق، وتدوير، وحدر، وقال عن التحقيق: «هو نوع من الترتيل» .
(2) انظر: الإتقان (1/ 265) ، مرجع سابق.
(1/262)
________________________________________
وقد صرّح بمصطلح التحقيق في حديث عزيز أسنده الداني مما يدل على تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم هذا الأمر بدقة بالغة، فأسند الداني إلى ورش التحقيق، قال:
قرأ على نافع التحقيق، قال نافع: إنه قرأ على الخمسة (ذكر خمسة من مشايخه) التحقيق، قال: وأخبرني الخمسة أنهم قرأوا على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة التحقيق، وأخبرهم عبد الله أنه قرأ على أبي بن كعب رضي الله عنه التحقيق، وأخبره أنه قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم التحقيق، قال: وقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي التحقيق، ثم قال أبو عمرو: هذا الخبر الوارد بتوقيف قراءة التحقيق من الأخبار الغريبة والسنن العزيزة التي لا توجد روايته إلا عند المكثرين الباحثين، ولا يكتب إلا عند الحفاظ الماهرين، وهو أصل كبير في استعمال قراءة التحقيق وتعلم الاتقان والتجويد، لاتصال سنده وعدالة نقلته، ولا أعلمه يأتي متصلا إلا من هذا الوجه «1» .

الثانية: الحدر:
هو إدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها بالقصر والتسكين والاختلاس والبدل والإدغام الكبير وتخفيف الهمزة ونحو ذلك مما صحت به الرواية مع مراعاة إقامة الإعراب، وتقويم اللفظ، وتمكن الحروف بدون بتر حروف المد، واختلاس أكثر الحركات، وذهاب صوت الغنة، والتفريط إلى غاية لا تصح بها القراءة، ولا توصف بها التلاوة، وهذا النوع يظهر بصورة جلية في بعض طرق مذهب ابن كثير وأبي جعفر ومن قصر المنفصل كأبي عمرو ويعقوب «2» .
__________
(1) التحديد في الإتقان والتجويد ص 79، مرجع سابق.
(2) انظر: الإتقان (1/ 265) ، مرجع سابق، وانظر وصفا لطبيعة القراات السبع من حيث مراتب القراءة في: التحديد ص 94، مرجع سابق.
(1/263)
________________________________________
ويظهر الفرق جليا بين الترتيل والحدر:
يما يسمعه الناس من الأذان والإقامة فإن الترتيل يكون في الأذان، والحدر يكون في الإقامة فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمرنا أن نرتل الأذان ونحدر الإقامة «1» ، ومثله من فعل ابن عمر «2» ، ومعنى التّرتيل كأنه يقطع الكلام بعضه عن بعض، والحدر هو الإسراع من الحدور ضد الصعود «3» فالترتيل هنا بالمعنى الخاص هو المبالغة في التأني ... وعلى المرتبتين لا بد من إعطاء الحروف حقوقها كما قال الخاقاني:
فذو الحذق معطر للحروف حقوقها ... إذا رتل القران أو كان ذا حدر

الثالثة: التدوير:
وهو التوسط بين المقامين من التحقيق والحدر، وهو الذي ورد عن أكثر الأئمة، وهو مذهب سائر القراء، وهو المختار عند أكثر أهل الأداء «4» .
وكل هذه المراتب يصحبها الترتيل إلا أنها تختلف في مدى التؤدة والتأني، ولذلك أشار بعضهم فقال:
حدود حروف الذكر في لفظ قارئ ... بحدر وتحقيق ودور مرتلا
فإني رأيت البعض يتلو القران لا ... يراعي حدود الحرف وزنا ومنزلا «5» .
__________
(1) الدارقطني (1/ 238) ، مرجع سابق، وانظر: تلخيص الحبير (1/ 200) .
(2) مسند ابن الجعد ص 318.
(3) النهاية في غريب الأثر (2/ 16) ، مرجع سابق.
(4) انظر: الإتقان (1/ 266) ، مرجع سابق.
(5) نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 19، مرجع سابق.
(1/264)
________________________________________
أي مراتب الترتيل هي الأفضل؟
وعلاقة هذا السؤال بالبحث تستبين بأن يقال بصيغة أخرى:
هل علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم القراء بالتحقيق أم بغيره؟
الجواب: الظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلم علمهم القراءة بمراتبها المختلفة، وإن لم تكن التسمية الاصطلاحية سائدة لكن الغالب على قراءته وأصحابه التحقيق المتوسط (يقرب من التدوير) لما تقدم من حديث حفصة تصف قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها «1» ، ولا يكون ذلك إلا بالتحقيق (الترتيل بمعناه الخاص) أو بالتدوير، وحديث حذيفة قال: صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلم ليلة ... فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر باية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع ... الحديث «2» .
وقد تعلم منه الصحابة رضي الله عنهم التحقيق وأمروا به تلاميذهم ونفروهم من الهذ الذي يتجاوز الحدر ولذا قال البخاري- رحمه الله تعالى-: «باب الترتيل في القراءة وقوله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) وقوله وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) وما يكره أن يهذ كهذ الشعر» «3» وبوب النووي في مسلم: «باب ترتيل القراءة واجتناب الهذ وهو الإفراط في السرعة» ، وجاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله، فقال: يا أبا عبد الرحمن! كيف تقرأ هذا الحرف ألفا تجده أم ياء من اسن أو من ياسن؟ قال فقال:
عبد الله وكل القران قد هذا قال إني لأقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله: هذا
__________
(1) مسلم (1/ 507) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 536) ، أبو عوانة (1/ 460) ، مرجعان سابقان.
(3) البخاري (4/ 1924) ، مرجع سابق.
(1/265)
________________________________________
كهذ الشعر؟ إن أقواما يقرؤون القران لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع إن أفضل الصلاة الركوع والسجود.. «1» ..
وهذا كله يدل على أن الغالب على قراءته التحقيق.

وقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم الفرق بين الهذ وبين الحدر:
فالهذ هو السرعة المفرطة التي تخل بقواعد التلاوة، والحدر هو الهذ المعتدل الملتزم بأركان الترتيل بمعناه العام: ويدل لهذا قول النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه عبد الله بن بريدة عن أبيه- قال: كنت جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلم فسمعته يقول: « ... ثم يقال له اقرا واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا» «2» ، وفي رواية «فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا» «3» ، فقوله «هذا كان أو ترتيلا» يدل على أن المراد مدى السرعة في تتابع الصوت لا على ترك الأحكام، فالترتيل هنا بمعناه الخاص لا العام الشامل للحدر التدوير والتحقيق «4» ، ويدل على هذا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القران اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عن اخر اية تقرؤها» «5» ، فإن هذا الحديث يبين معنى التخيير في الحديث الأول بأنه تخيير بين أنواع الترتيل بالمعنى العام الشامل لجميع مراتب الترتيل فلذا قال له هنا «ورتل كما كنت ترتل في الدنيا» أي بأحد أنواع الترتيل
__________
(1) البخاري (1/ 269) ، مسلم (1/ 563) ، مرجعان سابقان.
(2) الدارمي (2/ 543) ، مرجعان سابقان.
(3) وقال في مجمع الزوائد (7/ 159) ، مرجع سابق: «روى ابن ماجة منه طرفا رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» .
(4) ويحتمل أن للقارئ ذلك حتى لو لم يقرأه على الطريقة الواجبة رحمة من الله وفضلا ... وهذا الاحتمال ضعيف.
(5) النسائي في الكبرى (5/ 22) ، مرجع سابق.
(1/266)
________________________________________
التي كان غالب قراءتك ترجع إليها، كما يبين هذا الحديث أن كلمة ترتيل في الحديث الأول هي بالمعنى الخاص التي ترادف التحقيق، أو يكون من باب الترتيل الذي بمعنى التأني والتؤدة «يطابق التحقيق الاصطلاحي» .
وقد علم الصحابة رضي الله عنهم تلاميذهم الحرص على الترتيل واجتناب الهذ والسرعة المفرطة: فقد فعن أبي جمرة قلت لابن عباس رضي الله عنهما: إني رجل سريع القراءة إني لأقرأ القران في ليلة فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لأن اقرأ سورة أحب إلىّ، فإن كنت لا بد فاعلا فأقرأ قراءة تسمعها أذنيك ويوعها قلبك «1» ، وهذا الأخير هو الحدر الاصطلاحي، وسئل مجاهد- رحمه الله تعالى- عن رجل قرأ البقرة وال عمران ورجل قرأ البقرة فقط قيامهما واحد ركوعهما واحد وسجودهما واحد فقال: الذي قرأ البقرة فقط أفضل ثم تلا وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) «2» .
وعلى الرغم من أن الغالب على قراءة الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو التحقيق إلا أنه صلّى الله عليه وسلم لا ريب قد قرأ لهم بالحدر فإن حديث قراءته بطولى الطوليين في المغرب يدل على ذلك استنباطا.
ولذا ذكر الحنفية استعمال الحدر في تهجد الليل فقيد الحنفية القراءة بالليل بالإسراع في القراءة، ولعل «وجه التقيد به أن عادة المتهجدين كثرة القراءة في تهجدهم فلهم الإسراع ليحصلوا وردهم من القراءة» «3» ، ولكن كل الفقهاء يجعلون الإتيان بأقل الواجب الشرعي للتجويد أمر لا بد منه لصحة الصلاة،
__________
(1) البيهقي في الكبرى (3/ 13) ، مرجع سابق.
(2) أبو عبيد في الفضائل ص 158، مرجع سابق.
(3) حاشية ابن عابدين (1/ 541) ، مرجع سابق.
(1/267)
________________________________________
ونصوا في هذا على المد الواجب فقالوا وهم يتكلمون عن الحدر: «أن يمد أقل مد قال به القراء وإلا حرم لترك الترتيل المأمور به شرعا» «1» .
والصحيح في هذا الباب التفصيل، فالقران العزيز «يقرأ للتعلم، فالواجب التقليل والتكرير، ويقرأ للتدبر، فالواجب الترتيل والتوقف، ويقرأ لتحصيل الأجر بكثرة القراءة، فله أن يقرأ ما استطاع» «2» ، ومعنى هذا أنه يستحب لكل إنسان ما يوافقه طبعه ويخف عليه فربما يكلف غير ذلك مما يخالف طبعه فيشق عليه ويقطعه ذلك عن القراءة أو الإكثار أما من تساوى عند الأمران فالترتيل أولى ...
وأشار الخاقاني إلى ذلك بقوله:
وترتيلنا القران أفضل للذي ... أمرنا به من لبثنا فيه والفكر
ومهما حدرنا درسنا فمرخص ... لنا فيه إذ دين العباد إلى اليسر
وكان الناس منذ العهد الأول قد تعلموا ذلك من النبي صلّى الله عليه وسلم:
فصاروا يستعملون كل مرتبة في مواضعها فعن أبي عثمان النهدي قال: دعا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بثلاثة قراء فاستقرأهم فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ الناس ثلاثين اية، وأمر أوسطهم أن يقرأ خمسا وعشرين وأمر أبطأهم أن يقرا للناس عشرين اية «3» ، وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج قال: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان- قال- فكان القارئ يقوم بسورة البقرة في ثمان ركعات فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف «4» .
__________
(1) حاشية ابن عابدين (1/ 541) ، مرجع سابق.
(2) جمال القراء وكمال الإقراء (2/ 547) ، مرجع سابق.
(3) البيهقي في الكبرى (2/ 497) ، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (2/ 497) ، مرجع سابق.
(1/268)
________________________________________
المبحث الخامس: تعليمه صلّى الله عليه وسلم مراتب الأداء الأعلى من التجويد:
إذا كان الترتيل هو أساس التجويد، فإن ثمّ أسسا أخرى في علم القراءة تطلب شرعا من القارئ، فعقد هذا المبحث لدراستها، ولتحقيق هذه الغاية انقسم المبحث على أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعليمهم تزيين التصويت بألفاظ القران الكريم.
المطلب الثاني: تعليمهم التغني بألفاظ القران الكريم.
المطلب الثالث: تعليمهم الترجيع لألفاظ القران الكريم.
المطلب الرابع: القراءة بالألحان.

المطلب الأول: تعليمهم تزيين التصويت بألفاظ القران الكريم:
علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم ضرورة تزيين القران بالأصوات في عدة أحاديث كالذي رواه البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «زينوا القران بأصوآتاكم» «1» ، ولكن في مستدرك الحاكم ورد بلفظ: «زينوا أصوآتاكم بالقران» «2» ، أي بتقديم الأصوات على القران، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «زينوا أصوآتاكم بالقران» وفي رواية: «أحسنوا أصوآتاكم بالقران» «3» ، وقال البخاري بعد ذكر أحاديث تحسين وتزيين القران: «وعامة هذه الأخبار مستفيضة عند أهل العلم» «4» .
__________
(1) أبو داود (2/ 74) ، النسائي في الكبرى (1/ 384) .
(2) مستدرك الحاكم (1/ 762) ، عبد الرزاق (2/ 485) ، مرجعان سابقان، وانظر: مجمع الزوائد (7/ 170) ، مرجع سابق.
(3) الطبراني في المعجم الكبير (11/ 81) .
(4) خلق أفعال العباد ص 69.
(1/269)
________________________________________
معنى التزيين:
تدور معاني زين على: الملاحة والغاية في الحسن؛ إذ الزاي والياء والنون أصل صحيح يدل على حسن الشيء وتحسينه «1» .

معنى الحديث:
اختلف العلماء في معناه حتى ذكر القرطبي ست تأويلات في معناه «2» ، والبحث يذكر أشهرها مما يتعلق بموضوعنا:
التأويل الأول: معناه اللهج بقراءته، وكثرة ترداده حتى يصير زينة الصوت، وحليته في الكلام أي أشغلوا أصوآتاكم بالقران، والهجوا بقراءته، واتخذوه زينة وشعارا «3» : فعلى هذا «هو مقلوب أي زيّنوا أصوآتاكم بالقران، والمعنى الهجوا بقراءته وتزينوا به وليس ذلك على تطريب القول والتحزين» «4» ، وقالوا: «فالزينة للصوت لا للقران» «5» ، وبين أصحاب هذا المذهب أنهم اضطروا إلى هذا التأويل اضطرارا لأنه: لا يجوز على القران- في نظرهم- وهو كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق بل هو بالتزيين لغيره والتحسين له أولى «6» ، ولذا فقد توقى هذه الرواية قوم، وأسند الخطابي عن شعبة قال: نهاني أيوب أن أحدث «زينوا القران بأصوآتاكم» ، وقالوا: لم يرد تطريب الصوت به والتحزين له؛ إذ ليس «هذا في وسع كل أحد فلعل من الناس من إذا أراد التزيين له أفضى به إلى التهجين» «7» ،
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (1/ 341) .
(2) انظر: تفسير القرطبي (1/ 11) ، مرجع سابق.
(3) انظر: الغريب للخطابي (1/ 357) ، حاشية السندي (2/ 179) ، مرجعان سابقان.
(4) النهاية (2/ 325) ، مرجع سابق.
(5) فيض القدير (4/ 68) ، مرجع سابق.
(6) انظر: الغريب للخطابي (1/ 356) ، مرجع سابق.
(7) انظر: الغريب للخطابي (1/ 357) ، مرجع سابق.
(1/270)
________________________________________
كما استدل القرطبي على ذلك بأن المراد بالتغني الجهر به كما ثبت ذلك في حديث أبي هريرة «1» ، ولكن الظاهر أن هذا اللفظ (يجهر) يدل على تحسين الصوت وهو ما جعل الإمام السيوطي يستدل بقوله (يجهر به) على تحسين الصوت «2» .
التأويل الثاني: وقيل هو تزيين القران بجمال الصوت:
فإن القران قد يخرج بصوت جاف فظّ يلقيه قارئه ولا يبالي بتجميله فلا تلتفت إليه القلوب لا لأنه كلام الله بل لأن المتلفظ به ما أبان البلاغ، ولا أجمل الأداء وعلى هذا فلا «حاجة إلى القلب وإنما معناه الحثّ على التّرتيل الذي أمر به في قوله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» «3» فحقيقة الحديث: أنه يحث على ترتيل القران «ورعاية إعرابه وتحسين الصوت به وتنبيه على التحرز من اللحن والتصحيف فإنه إذا قرئ كذلك كان أوقع في القلب وأشد تأثيرا وأرق لسامعه» «4» ، والرواية الاخرى- إن ثبتت- فهي تتميم لها ف «زينوا أصوآتاكم بالقران» أي الهجوا بقراءته واشغلوا أصوآتاكم به، واتخذوه شعارا وزينة لأصوآتاكم «5» ، كما ينبغي لكم أن تخرجوه بأحسن لفظ وأجمل أداء.

توجيه الزينة في الحديث:
ويكون للحديث على هذا توجيه حسن جدا؛ إذ تكون «الزّينة للمرتّل لا للقران كما يقال ويل للشّعر من راوية السّوء فهو راجع إلى الرّاوي لا للشّعر» «6» ،
__________
(1) البخاري (4/ 1918) ، مسلم (1/ 545) ، مرجعان سابقان.
(2) الديباج على صحيح مسلم (2/ 393) ، مرجع سابق.
(3) النهاية (2/ 325) ، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (4/ 68) ، مرجع سابق.
(5) فيض القدير (4/ 68) ، مرجع سابق.
(6) النهاية (2/ 325) ، مرجع سابق.
(1/271)
________________________________________
وسماه تزيينا «لأنه تزيين للفظ والمعنى فإن الصوت الحسن يزيد القران حسنا، وفي أدائه بحسن الصوت، وجودة الأداء بعث للقلوب على استماعه، وتدبره، والإصغاء إليه» «1» .
ويؤيد هذا المعنى للحديث الأحاديث المستفيضة الاخرى التي تحض على التحبير والترتيل والتحسين والتحزين مما هو في مستوى العلمي الضروري، كما يؤيد هذا المعنى رواية «أحسنوا أصوآتاكم بالقران» «2» والمعنى: «رتلوه واجهروا به» «3» ولذا «قال الطيبي: هذا الحديث لا يحتمل القلب لتعليله بقوله فإن الصوت الحسن يزيد القران حسنا» «4» ، ويشهد لصحة هذا التأويل حديث أبي موسى رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم استمع إلى قراءته فقال: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير ال داود فقال لو علمت أنك تستمع لحبّرته لك تحبيرا» أي حسّنت قراءته وزينتها، ويؤيدّ ذلك تأييدا لا شبهة فيه حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لكلّ شيء حلية وحلية القران حسن الصوت» «5» .

والكاتب يؤيد الجمع بين هذه المعاني:
فالنبي صلّى الله عليه وسلم قد علمهم تحسين الصوت بالقران، وتحسين القران بالصوت بعد أن وجدنا الروايات تذكر ذلك ولا شذوذ يظهر لنا ولذا فلا وجه لقول البعض
__________
(1) فيض القدير (4/ 68) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني في المعجم الكبير (11/ 81) .
(3) فيض القدير (3/ 387) ، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (3/ 387) ، مرجع سابق، ولا ينبغي أن يستدل بهذا الحديث على جواز الغناء كما ذهب إليه القشيري حيث قال: «هذا دليل على فضيلة الصوت الحسن فالسماع لا بأس به وتعقبه ابن تيمية بأنه إنما يدل على فضل الصوت الحسن بكتاب الله لا بالغناء فمن شبه هذا بهذا فقد شبه الحق بالباطل» .
(5) النهاية (3/ 326) ، مرجع سابق.
(1/272)
________________________________________
«القلب لا وجه له» «1» ، والقول الثاني لا ينفي الأول أما الأول فنفى أصحابه الثاني، وقولهم مقبول لكن نفيهم مردود، فالتزيين لكلام الله عزّ وجلّ لأن الصوت صوت القاري، وإن كان الكلام كلام الباري.
وواقع المسلمين بشيبهم وشبابهم وذكورهم وإناثهم، وكبارهم وصغارهم شاهد على ذلك فإنك تجد كل واحد منهم لو كان أميا إن أراد أن يقرأ غير صوته على هيئة تتشابه بينهم جميعا، وإن كانت تتفاوت في حسنها، وانضباط قواعدها في تظاهرة عجيبة تدل على مقدار الحفظ الإلهي للقران الكريم.
ويبقى- بعد ذلك- الاختلاف في الأصوات البشرية مسألة طبعية:
كما قال الإمام البخاري: «فبين النبي صلّى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق وقرااتهم ودراستهم وتعليمهم وألسنتهم مختلفة بعضها أحسن وأزين وأحلى وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخف وأغض وأخشع وقال وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (طه: 108) وأجهر وأخفى وأمهر وأمد وألين وأخفض من بعض» «2» .
وهنا نلحظ معلما هاما هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم علمهم تقديم حسن الصوت في الأذان فأحرى أن يكون ذاك في القران: فعن عبد الله بن زيد قال: لما أصبحنا أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته بالرؤيا فقال: «إن هذه الرؤيا حق فقم مع بلال فإنه أندى أو أمد صوتا منك فألق عليه ما قيل لك فينادي بذلك» «3» .
__________
(1) النهاية (3/ 326) ، مرجع سابق.
(2) خلق أفعال العباد ص 73، مرجع سابق.
(3) اللفظ المذكور لابن خزيمة (1/ 189) ، وابن حبان (4/ 573) ، والضياء في المختارة (9/ 374) ، ورواه الترمذي (1/ 359) ، مراجع سابقة، وهو عند أبي داود (1/ 135) ، مرجع سابق بلفظ (أندى) ، وفي تلخيص الحبير (1/ 197) ، مرجع سابق.
(1/273)
________________________________________
و (أندى) أصله «من الندى أي الرطوبة يقال صوت ندي أي رفيع واستعارة النداء للصوت من حيث أن من تكثر رطوبة فمه حسن كلامه» «1» ، فأندى: «أي أرفع وأعلى، وقيل أحسن وأعذب، وقيل أبعد» «2» فالأحسن أن يراد بأندى «ههنا أحسن وأعذب وإلا لكان في ذكر قوله أمد بعده تكرار» «3» ، وعلى هذا ففي الحديث «دليل على اتخاذ المؤذن حسن الصوت» «4» .
وفي حديث أبي محذورة قال: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حنين خرجت عاشر عشرة من أهل مكة نطلبهم فسمعناهم يؤذنون بالصلاة فقمنا نؤذن لنستهزىء بهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت» ، فأرسل إلينا فأذنا رجل رجل وكنت اخرهم، فقال حين أذنت:
«تعال» ، فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي فبرك علي ثلاث مرات ثم قال:
«اذهب فأذن عند البيت الحرام» «5» فإذا كان ذلك كذلك في الأذان، فكيف به في القران؟.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يلتمسون حسن الصوت بالقران فعن عمر أنه قال لرجل: اقرأ سورة الحجر. قال: أو ليست معك يا أمير المؤمنين؟ قال: أما بمثل صوتك فلا «6» .
__________
(1) انظر: عون المعبود (2/ 121) ، مرجع سابق.
(2) النهاية (5/ 26) ، مرجع سابق.
(3) انظر: تحفة الأحوذي (1/ 480) ، مرجع سابق.
(4) انظر: تحفة الأحوذي (1/ 480) ، مرجع سابق.
(5) ابن خزيمة (1/ 201) ، أبو داود (1/ 136) ، عبد الرزاق (1/ 459) ، الدارقطني في سننه (1/ 235) ، مراجع سابقة.
(6) شعب الإيمان (2/ 527) ، مرجع سابق.
(1/274)
________________________________________
المطلب الثاني: تعليمهم التغني بألفاظ القران الكريم:

الأحاديث الواردة في ذلك:
بين النبي صلّى الله عليه وسلم فضيلة التغني بالقران فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لم يأذن الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى بالقران» وقال صاحب له: يريد يجهر به «1» ، و (يأذن) : «معناه الاستماع ومنه قوله تعالى وأذنت لربها» «2» ، فالمعنى- كما قال أبو عبيد- يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقران «3» ، والمراد بالاستماع هنا الاستماع الخاص، وذلك كتفريق العلماء بين المعية العامة الواردة في قوله جل جلاله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (الحديد: 4) ، والمعية الخاصة في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (النحل: 128) وهو ما يعني قرب القارئ من الله سبحانه وتعالى، وعظيم شرفه بالقراءة.
ولم يقف ذلك عند مجرد الفضيلة حتى ورد الأمر بالقراءة بهذه الكيفية فعن عقبة ابن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تعلموا كتاب الله وتعاهدوا واقتنوه وتغنوا به فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل» «4» .
وفي المقابل فقد ورد الزجر الشديد والتنفير القراءة بغير هذه الكيفية فعن عبد الله بن أبي نهيك عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: أتيته فسألني من أنت فأخبرته عن نسبي فقال سعد: تجار كسبة سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
__________
(1) البخاري (1/ 1918) ، مرجع سابق.
(2) شرح النووي (6/ 78) ، مرجع سابق.
(3) النسائي في الصغرى (1/ 558) ، مرجع سابق.
(4) النسائي في الكبرى (5/ 521) والصغرى (2/ 543) .
(1/275)
________________________________________
«ليس منا من لم يتغن بالقران» «1» ومثله عن ابن عباس «2» ، ونحوه عن عائشة «3» وابن الزبير رضي الله عنهم «4» ، وعن أبي لبابة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول:
«ليس منا من لم يتغن بالقران» فقيل: لابن أبي مليكة: يا أبا محمد! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع «5» ، وعن عبد الرحمن بن السائب قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص- وقد كف بصره- فسلمت عليه فقال: من أنت؟ فأخبرته فقال: مرحبا بابن أخي بلغني أنك حسن الصوت بالقران سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا القران نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا» «6» .

معنى التغني الوارد في الأحاديث:
اختلف العلماء في معنى التغني الوارد في الحديث على قولين مشهورين:
المعنى الأول: معنى التغني الاستغناء وحدوث الكفاية به، وقد ذهب إلى هذا الإمام البخاري فقال: «باب من لم يتغن بالقران وقوله سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (العنكبوت: 51) «7» ، وهو مذهب سفيان بن عيينة قال: تفسيره يستغني به» «8» .
__________
(1) ابن حبان (1/ 327) ، الضياء في المختارة (3/ 172) .
(2) الحاكم (1/ 760) ، مرجع سابق.
(3) قال في مجمع الزوائد (7/ 170) : «رواه البزار والطبراني ورجال البزار رجال الصحيح» .
(4) قال في مجمع الزوائد (7/ 170) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» .
(5) البيهقي في الكبرى (2/ 54) ، مرجع سابق، وقال في مجمع الزوائد (7/ 171) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» .
(6) ابن ماجه (1/ 424) ، مرجع سابق.
(7) البخاري (1/ 1918) ، مرجع سابق.
(8) البخاري (1/ 1918) ، مرجع سابق.
(1/276)
________________________________________
المعنى الثاني: معناه التطريب به والحداء و «تحزين القراءة وترقيقها» «1» ، وفق قواعد معلومة لأنه أوقع في النفوس، وأنجع في القلوب «2» ، وقد ذهب إلى هذا «الشافعي وأصحابه وأكثر العلماء من الطوائف وأصحاب الفنون يحسن صوته به» «3» ، «وقال صالح قلت لأبي (أي أحمد بن حنبل) : «زينوا القران بأصوآتاكم» ما معناه؟ قال: أن يحسنه، وقيل له: ما معنى «من لم يتغن بالقران» قال: «يرفع صوته به، وقال الليث: يتحزن به، ويتخشع به، ويتباكى به» «4» ، ورد الإمام الشافعي على ابن عيينة تأويله، فقال رحمه الله تعالى: نحن أعلم بهذا. لو أراد النبي صلّى الله عليه وسلم الاستغناء به لقال ليس منا من لم يستغن بالقران فلما قال ليس منا من لم يتغن بالقران علمنا أنه التغني به «5» وقال: معناه يقرأه حزنا وتحزينا «6» .

تعريف الغناء:
هو كما قال «الأصمعي: كلّ من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء» «7» ، فالغناء عند العرب هو المردد المرجّع من الكلام لا شأن له بالالات، «وفي حديث عائشة: وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث أي تنشدان الأشعار
__________
(1) شرح النووي (6/ 79) ، مرجع سابق، وقد أوصل القرطبي في تفسيره التاويل الواردة في معنى التغني الوارد في حديث «ما أذن الله..» إلى ست تأويلات، ورد بقوة أن يكون المعنى هو تحسين الصوت والترنم بالقران. انظر تفسير القرطبي (1/ 15) ، مرجع سابق.
(2) شرح السنة (4/ 485) .
(3) شرح النووي (6/ 78) ، مرجع سابق.
(4) المغني (10/ 178) ، مرجع سابق.
(5) النسائي في الصغرى (1/ 559) ، مرجع سابق.
(6) النسائي في الصغرى (1/ 559) ، مرجع سابق.
(7) لسان العرب (15/ 136) ، مرجع سابق.
(1/277)
________________________________________
التي قيلت يوم بعاث، ولم ترد الغناء المعروف بين أهل اللهو واللّعب، وقد رخّص عمر رضي الله عنه في غناء الأعراب وهو صوت كالحداء «1» .

وقد تأيد هذا التأويل بالتالي:
1- بقوله صلّى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري: «لقد أعطى هذا مزمارا من مزامير ال داود» «2» .
2- ويؤيد هذا المعنى تأييدا متينا رواية (يجهر به) فعن الشافعي أنه قال:
معناه تحسين القراءة وترقيقها، قال: ومما يحقّق ذلك الحديث الاخر:
«زيّنوا القران بأصوآتاكم» «3» ، والعرب تقول: سمعت فلانا يتغنى بكذا أي يجهر به «4» .
3- سئل ابن أبي مليكة- وهو أحد رواة الحديث-: يا أبا محمد! أرأيت أن لم يكن حسن الصوت قال: يحسنه ما استطاع «5» ، وهذا يدل على إرادة الصوت.
4- ويدل له رواية «ما أذن لنبي في الترنم في القران» أخرجه الطبري «6» ، وفي لفظ: «ما أذن لنبي حسن الصوت» «7» ، وفي لفظ «حسن الترنم بالقران» «8» «والترنم
__________
(1) لسان العرب (15/ 137) ، مرجع سابق.
(2) النسائي في الصغرى (1/ 559) ، مرجع سابق.
(3) لسان العرب (15/ 136) ، مرجع سابق.
(4) فتح الباري (9/ 71) ، وانظر: شرح النووي (6/ 79) ، مرجعان سابقان.
(5) سنن البيهقي الكبرى (2/ 54) ، مرجع سابق، مجمع الزوائد (7/ 171) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» .
(6) فتح الباري (9/ 71) ، مرجع سابق.
(7) البخاري (6/ 2743) ، مسلم (1/ 545) ، مرجع سابق.
(8) البيهقي في الكبرى 10/ 228، وفي الترغيب والترهيب 2/ 237، مرجع سابق: «خرجه ابن جرير الطبري بإسناد صحيح» .
(1/278)
________________________________________
لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القاريء وطرب به قال: ولو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى» «1» .
وأما حديث «إن الله لم يأذن لمترنم بالقران» «2» فإن كان معناه المنع فهو ممنوع بعدم ثبوته بل هو إلى الوضع أقرب، ولقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم تحسين أصواتهم بالقران، وكان يثني على حسن الصوت منهم حتى قال عن سالم مولى أبي حذيفة: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا» «3» ، وذلك لما قالت عائشة عن حسن صوته: كنا نسمع قراءة رجل من أصحابك في المسجد لم أسمع مثل صوته ولا قراءة من أحد من أصحابك، «وأخرج ابن أبي داود أن عمر: كان يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم، ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب، وإجراء الدمع» «4» .

الجمع بين المعنيين أولى عند الباحث:
ولأن الجمع مقدم على الترجيح فبين أن إرادة المعنيين واردة، بل ظاهرة فأما من حيث اللغة فهو صالح للمعنيين، فما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع، وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت «5» ، إلا أن ورود يتغنى بمعنى يستغني ليس منكرا عربية كما أنكره الشافعي، ولذا رد ابن حجر على الطبري
__________
(1) ذكر ابن حجر في فتح الباري (9/ 71) ، مرجع سابق.
(2) في مجمع الزوائد (7/ 170) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني في الأوسط وفيه سليمان بن داود الشاذكوني وهو كذاب» .
(3) ابن ماجه (1/ 425) ، مرجع سابق، وقال في مصباح الزجاجة (1/ 158) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح» .
(4) انظر: فتح الباري (9/ 72) ، مرجع سابق.
(5) فتح الباري (9/ 71) ، مرجع سابق.
(1/279)
________________________________________
فقال: «وأما إنكاره أن يكون تغنى بمعنى استغنى في كلام العرب فمردود، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ... (و) في حديث الخيل: «ورجل ربطها تعففا وتغنيا» وهذا من الاستغناء بلا ريب، والمراد يطلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله تعففا» «1» فيكون الجمع بين التأويلات المذكورة هو الصحيح البين، ومال إليه عدد من المحققين كابن حجر فيقال في معنى التغني الوارد في الأحاديث: يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن متغنيا به عن غيره من الأخبار طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد، ونظم ابن حجر ذلك في بيتين فقال:
تغن بالقران حسّن به الصوت حزينا جاهرا رنم ... واستغن عن كتب الألى طالبا غنى يد والنفس ثم الزم
«2» وكذلك أن يجعل القران مكان الغناء أمر مقصود شرعا كما هو ظاهر، وتقدم ذكر الزجر عن الامتلاء بالشعر ولذلك صار القران هو الذي يترنم به العارفون مكان غناء القوم وحدوهم وإنشادهم فقد قال بعض العارفين لمريد:
أتحفظ القران؟ قال: لا، قال: وا غوثاه يا لمريد لا يحفظ القران فيم يتغنى؟ فيم يترنم؟ فيم يناجي ربه تعالى؟ «3» .
وقد كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم يتفاضلون في حسن تغنيهم بالقران، ويثني النبي صلّى الله عليه وسلم عليهم في كل ذلك، وتقدم ما قاله في سالم، وأبي موسى، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الأشعريين: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقران حين يدخلون بالليل واعرف منازلهم من أصواتهم بالقران بالليل وان كنت لم
__________
(1) فتح الباري (9/ 71) ، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (9/ 72) ، مرجع سابق.
(3) الشريعة الإسلامية والفنون ص 307- 318.
(1/280)
________________________________________
أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» «1» ، وقد عدوا من حكم تلاوة النبي صلّى الله عليه وسلم على أبي «أن يتعلم أبي الفاظه، وصيغة أدائه، ومواضع الوقوف، وصنع النغم في نغمات القران على أسلوب ألفه الشرع وقدره بخلاف ما سواه من النغم المستعمل في غيره» «2» .

ينبغي أن يتجه التغني بالقران وتزيين التصويت بألفاظه نحو التحزن:
من الضوابط الهامة في التغني بالقران الكريم أنه لا بد من الميل باتجاه التصويت نحو الحزن، ويدل على ذلك في تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه قوله صلّى الله عليه وسلم:
«اقرؤوا القران بالحزن فإنه نزل بالحزن» «3» ، ويشهد لهذا الحديث قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أحسن الناس قراءة من إذا قرأ القران يتحزن» «4» ، والميل بالقراءة نحو الحزن إخبار ضمني من القارئ بفقره وخشيته من ربه، واعترافه بالتقصير، وهي الضابط الحقيقي لحسن القراءة وزينتها، ثم ضبط النبي صلّى الله عليه وسلم لهم هذا التحزن وهو يعلمهم بأنه الذي يحقق هذا المقصد من إظهار الجزع على النفس بين يدي الله جل جلاله، والخشية منه، والإشفاق من عذابه، والطمع في رحمته كما في حديث ابن عمر قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أحسن الناس صوتا بالقران قال: من إذا سمعت قراءته رأيت أنه يخشى الله عزّ وجلّ» «5» .
__________
(1) البخاري (4/ 1547) ، مسلم (4/ 1944) ، مرجعان سابقان.
(2) شرح النووي (16/ 19) ، مرجع سابق.
(3) مجمع الزوائد (7/ 170) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني في الأوسط وفيه إسماعيل بن سيف وهو ضعيف» .
(4) مجمع الزوائد (7/ 170) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث وفيه ضعف» .
(5) سعيد بن منصور (1/ 194) ، وفي زوائد تاريخ بغداد على الكتب السنة (2/ 543) ، مرجع سابق: «والحديث حسن بمجموع طرقه» .
(1/281)
________________________________________
ولا ينبغي أن يقال إن في ذلك رئاء؛ إذ هذا أمر قلبي لا يحكم به ها هنا فقد كان صلى الله عليه وسلم القدوة العظمى في ذلك، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي القران» ، قلت: اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري» ، قال: نعم! فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الاية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (النساء: 41) قال حسبك الان، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
وتسلسلت المنهجية فكان الترتيل سمت الصحابة رضي الله عنهم يميل نحو الحزن فعن بن أبي مليكة قال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة كان إذا نزل قام شطر الليل، فسأله أيوب: كيف كانت قراءته؟ قال قرأ وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (ق: 19) فجعل يرتل ويكثر في ذلكم النشيج «1» ، وهكذا علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من أئمة الإقراء، فكانت قراءتهم كذلك: فعن سليمان بن مسلم بن جماز الزهري قال: سمعت أبا جعفر يحكي لنا قراءة أبي هريرة رضي الله عنه عنه في إذا الشمس كورت يحزنها شبه الرثاء «2» .

المطلب الثالث: تعليمهم الترجيع لألفاظ القران الكريم:

الأحاديث التعليمية الواردة في ذلك:
علمهم النبي صلى الله عليه وسلم الترجيع ففي حديث عبد الله بن مغافل رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة يقرأ وهو يرجع «3» قال معاوية بن قرة: لولا أن أخشى أن
__________
(1) فضائل الصحابة (2/ 950) .
(2) السبعة ص 57، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1560) ، مرجع سابق.
(1/282)
________________________________________
يجتمع عليكم الناس لحكيت لكم عن عبد الله بن مغافل ما حكى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: ااا ثلاث مرات «1» ، وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع من حديث أم هانئ- رضي الله تعالى عنها-: كنت أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يرجع القران «2» .
هل حدث منه ذلك عمدا؟: ذهب بعضهم إلى هذا «إنما حصل منه يوم الفتح لأنه كان راكبا فجعلت الناقة تحرّكه وتنزّيه فحدث التّرجيع في صوته» «3» ، ورجح عدد من المحققين أن ذلك تحسين للصوت وتغن بالقران على سبيل القصد، وهو أشبه بالسياق ففي لفظ: وهو يقرأ قراءة لينة فقال: لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت ذلك اللحن «4» .

الدلالة اللغوية والشرعية للترجيع:
الترجيع هو الترديد ومنه قوله جل جلاله: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ (سبأ: 31) أي يتلاومون، والمراجعة المعاودة يقال راجعه الكلام، ورجّع الرجل وترجّع: ردّد صوته في قراءة أو أذان أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم به «5» ، وعلى هذا فالترجيع في القراءة يتضمن ما يلي:
1- ترديد القراءة، ومنه ترجيع الأذان، فترجيع الصوت هو ترديده في الحلق كقراءة أصحاب الألحان «6» .
__________
(1) فتح الباري (13/ 515) ، مرجع سابق.
(2) ابن ماجة (1/ 429) ، شرح معاني الاثار (1/ 344) ، مرجعان سابقان، وقال في مصباح الزجاجة (1/ 159) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» .
(3) انظر: النهاية (2/ 202) ، مرجع سابق.
(4) انظر: فتح الباري (5/ 584، و 9/ 92) ، مرجع سابق.
(5) انظر: لسان العرب (8/ 115) ، مرجع سابق.
(6) انظر: لسان العرب (8/ 115) ، مختار الصحاح (1/ 99) ، مرجعان سابقان.
(1/283)
________________________________________
2- «تقارب ضروب الحركات في الصّوت، وقد حكى عبد الله ابن مغفّل ترجيعه بمدّ الصّوت في القراءة نحو اء اء اء» «1» ، والمراد أن في الترجيع إشباعا للمد في مواضعه «2» .
3- ويظهر في الترجيع حسن الصوت بتقطيعه، وعلوه، ومنه رجّع الحمام في غنائه «3» ؛ ويدل على العلاقة الوطيدة بين الترجيع والتنغيم ما جاء في رواية أخرى: «لولا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن» أي النغم «4» .
وعند التأمل فلا تنافي بين التأويلات الثلاثة، فتنغيم القراءة يستلزم مد الصوت في مواضعه على هيئة التحقيق البالغ، كما يستلزم الترديد للمقروء، ومنه الترديد الذي يعمد إليه القراء في المحافل عند بلوغ النهاية في تزيين القران بالأصوات.

والقول الجامع في تعريف الترجيع:
أنه ترديد القراءة، وتقارب ضروب الحركات في الصّوت «5» ، وفي ذلك ترديد للصوت في الحلق أي تنغيم له وترنيم مع تفاوت الصوت في الجهر والإخفاء على هيئة الترجيع في الأذان، ومد الصّوت في القراءة نحو اء اء اء.

العلاقة بين الترجيع والترتيل:
يظهر بهذا أن في الترجيع قدرا زائدا على الترتيل، فهو تزيين للقران بالألحان:
ف «في هذا الحديث إجازة القراءة بالترجيع والألحان الملذذة للقلوب بحسن الصوت، وقول معاوية: لولا أن يجتمع الناس يشير إلى أن القراءة بالترجيع تجمع نفوس
__________
(1) النهاية (2/ 202) ، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 92) ، مرجع سابق.
(3) انظر: لسان العرب (8/ 116) ، مرجع سابق.
(4) انظر: فتح الباري (9/ 92) ، مرجع سابق.
(5) فتح الباري (9/ 92) ، مرجع سابق.
(1/284)
________________________________________
الناس إلى الإصغاء، وتستميلها بذلك حتى لا تكاد تصبر عن استماع الترجيع المشوب بلذة الحكمة المهيمنة» «1» .
وأما ما روي عن أبي بكرة قال: كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم المد ليس فيها ترجيع «2» فحديث ضعيف بل قد رماه صيارفة الجرح والتعديل بالوضع، فلا يقاوم ما سبق، ومثله في الضعف وعدم الصحة ما ورد عن قتادة قال: «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نبيكم صلّى الله عليه وسلم حسن الوجه، حسن الصوت، وكان لا يرجع» «3» .

العلاقة بين الترجيع والغناء والتغني:
بين الترجيع والغناء: هذا الترجيع ليس كترجيع الغناء وقوانين النغم، إذ إن الغناء المعروف لا ينضبط أو ينضبط بقواعد غير القواعد الضابطة لتلاوة القران كما قال بعض أهل العلم: «معنى الترجيع تحسين التلاوة، لا ترجيع الغناء لأن القراءة بترجيع الغناء تنافى الخشوع الذي هو مقصود التلاوة» «4» .
__________
(1) فتح الباري (13/ 515) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الأوسط (5/ 86) ، مرجع سابق، وقال في مجمع الزوائد (2/ 266) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني في الكبير وفيه عمرو بن وجيه وهو ضعيف» ، وقال المناوي في فيض القدير (5/ 173) ، مرجع سابق: «رمز المصنف لحسنه وليس كما ظن فقد قال الهيثمي وغيره فيه عمرو بن وجيه وهو ضعيف وقال مرة أخرى فيه من لم أعرفه وفي الميزان تفرد به عمرو بن موسى يعني ابن وجيه وهو متهم أي بالوضع» .
(3) قال الألباني فيه: «هذا الحديث مرسل لأنه من رواية تابعي الذي لم يذكر فيه الصحابي. (قلت: طرفه الأول ليس بحديث، لأنه لم يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم إن إسناده غير صحيح، فيه حسام بن مصك، قال الحافظ: «ضعيف يكاد يترك» فلا داعي للتوفيق بينه وبين حديث ابن مغافل الذي قبله كما فعل في الأصل» . انظر: مختصر الشمائل المحمدية ص 165، مرجع سابق.
(4) فتح الباري (9/ 92) ، مرجع سابق.
(1/285)
________________________________________
بين الترجيع والتغني: الترجيع تدقيق لوصف التغني فالمعروف «في كلام العرب أن التغني الترجيع بالصوت كما قال حسان:
تغن بالشعر إما أنت قائله ... إن الغناء بهذا الشعر مضمار»
«1» فالترجيع وصف دقيق لكيفية التغني المشروع الذي أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم، والظاهر أنه يمثل إحدى الكيفيات التي يتم بها التغني، وقد يكون التغني بغيره فعن علقمة بن قيس قال: بت مع عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه ليلة فقام أول الليل ثم قام يصلي فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيه يرتل ولا يرجع، يسمع من حوله ولا يرجع صوته، حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر «2» .

علاقة الترجيع والتزيين والتغني بالترتيل الواجب:
[مراتب قراءة القرآن الكريم]
في قراءة القران الكريم توجد عندنا مراتب:

1- المرتبة الأولى:
هي مرتبة القراءة المجردة لألفاظ القران الكريم، وهذه المرتبة هي أصل الكلام لا يسمى الكلام كلاما بدونها.

2- المرتبة الثانية:
هي الترتيل لألفاظ القران الكريم: وهي واجبة وجوبا لا مرية فيه، وتزيد على القراءة المجردة بضرورة توفر أركان الترتيل السبعة للكلام المقروء.

3- المرتبة الثالثة:
مرتبة التزيين للكلام المرتل أو التحسين له: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «زينوا القران بأصوآتاكم» هو شيء زائد على ذات الكلام العربي أي شيء
__________
(1) فتح الباري (9/ 71) ، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (2/ 84) ، مسند ابن الجعد ص 368 مجمع الزوائد (2/ 260) ، مراجع سابقة، وقال: «رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح» وعزاه في فتح الباري (9/ 92) ، مرجع سابق لابن أبي داود.
(1/286)
________________________________________
زائد على مخارج الحروف، وصفاتها الأصلية؛ لأن هذه تمثل ذات الحرف ...
فيكون التزيين المراد في الحديث يتعلق: بالصفات الفردية العارضة، والصفات التركيبية العارضة فقط ... فالأمر بالتزيين دال على وجوب التزيين لألفاظ القران الكريم أي يدل على وجوب إدغام النون الساكنة في حروفها، وتفخيم الراات في مواضعها، والزيادة على أصل المد الأصلي، أو المد الواجب الفرعي، كالزيادة على مقدار ثلاث حركات في المتصل، وعلى مقدار حركتين في المنفصل، وعلى مقدار ما يقوم به الكلام في اللازم ...

4- والمرتبة التالية للتزيين مرتبة التغني
وهو تحسين الصوت في ذاته، وتحويله على هيئة الغناء والحداء، فالتزيين للفظ والتغني للصوت، وكمثال على ذلك فإن قوله سبحانه وتعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (المائدة: 15) ، قراءتها بحروفها وصفاتها الأصلية يسمى قراءة، فإذا كانت القراءة مع الاهتمام بالصفات العارضة فيها وهي القلقلة في الدال، والزيادة على أدنى ما يقوم به المتصل، والإدغام صار ترتيلا وتزيينا، فإذا ما نغم الصوت صار تزيينا وتغنيا ... ولا شك في التداخل بين الترتيل والتغني والتزيين. فالتغني مرتبة من أعلى مراتب الأداء ... ومن الكيفيات الأعلى في التغني: الترجيع والتحبير:

فأما الترجيع
فقد تقدم، ووصف الترجيع يدل على أنه أخص من التغني، فقد يحصل التغني بدون ترجيع، ولكنه ليس في قوته وجماله، ويدل على العلاقة الوطيدة بين الترجيع والتنغيم قول الراوي: «لولا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن» أي النغم «1» .
__________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 92) ، مرجع سابق.
(1/287)
________________________________________
وأما التحبير:
فلما مر النبي صلّى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القران من الليل وكان ذا صوت حسن، فوقف واستمع لقراءته وقال: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير ال داود قال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا» «1» وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط* ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه، ومع هذا قال صلّى الله عليه وسلم: «لقد أوتي مزمارا من مزامير ال داود» «2» .
والتحبير هنا هو شدة التحسين، وقوة الجمال، مع المبالغة في ذلك والمراد بذلك هنا في الصوت حتى يسر به المرء «3» ، فأبو موسى يريد بالتحبير شدة تحسين الصّوت وتحزينه «4» .
وهذا القدر من شدة الحسين ليس بواجب لكنه قد يزيد النشاط في التلاوة، إذ لم ينكر النبي صلّى الله عليه وسلم عدم وجوده، وتدخل فيه الخلقة البشرية، والمنحة الإلهية وفق القواعد المتلقاة.
__________
(1) ابن حبان (16/ 170) ، الحاكم (3/ 529) ، المختارة (5/ 41) ، النسائي في الصغرى (1/ 560) ، مرجع سابق.
* الصّنج العربيّ: هو الذي يكون في الدّفوف ونحوه؛ فأما الصّنج ذو الأوتار فدخيل معرّب، تختص به العجم وقد تكلمات به العرب ... انظر: لسان العرب (2/ 311) ، مرجع سابق. البربط: ملهاة تشبه العود، وهو فارسي معرّب وأصله بربت، لأن الضارب به يضعه على صدره، واسم الصّدر: بر ... انظر: النهاية (1/ 112) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 546) ، البخاري (4/ 1925) ، ابن حبان (3/ 174) ، الترمذي (5/ 693) ، مراجع سابقة، وذكر الشيخ القاري في (سنن القراء) ص 88، مرجع سابق أنه جاءت رواية بلفظ: لشوقت تشويقا وحبرت تحبيرا ... ولم أعثر عليها.
(3) النهاية (1/ 327) ، مرجع سابق.
(4) النهاية (1/ 327) ، مرجع سابق.
(1/288)
________________________________________
خاتمة في التأكيد على تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه حسن التصويت بالقران الكريم:
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمهم تحسين أصواتهم بالقران ويتحري منهم ذلك فإن الصوت الحسن بالقران يجعل المخلوقات تميل مع القارئ، وتجيبه ويدل لذلك قوله سبحانه وتعالى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ (الأنبياء: 79) ، وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تأويبا.
وقد أوتي النبي صلّى الله عليه وسلم من حسن الصوت حظا عظيما، فبوب ابن حبان: «ذكر البيان بأن المصطفى صلّى الله عليه وسلم كان من أحسن الناس قراءة إذا قرأ» «1» ، وفي ذلك يقول البراء صلّى الله عليه وسلم قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ والتين والزيتون في العشاء وما سمعت أحدا أحسن صوتا منه أو قراءة «2» .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يقومون بذلك على قدرهم ويسمع النبي صلّى الله عليه وسلم لهم، ويحثهم على المزيد، ويشجع أئمة الإقراء على زيادة التأنق في قراءة القران ويتعهداهم في ذلك فيقرأ على أبي ويسمع من ابن مسعود شيئا قد أقرأه إياه، ويستمع لأبي موسى في غير وقت التعليم، ويسمع هو وعائشة له ولسالم مولى أبي حذيفة «3» ... وربما يتفنون في ذلك بما يزيد عن الحد الواجب فيصلون إلى الترجيع والتحبير.
__________
(1) ابن حبان (14/ 224) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 266) ، ابن خزيمة (1/ 263) ، ابن حبان (14/ 224) ، مراجع سابقة.
(3) ابن ماجة (1/ 425) ، مرجع سابق، وقال في مصباح الزجاجة (1/ 158) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح» ، مجمع الزوائد (9/ 300) ، مرجع سابق، وقال: «رواه البزار ورجاله رجال الصحيح» ، الحاكم (3/ 250) ، مرجع سابق.
(1/289)
________________________________________
ولأن الترجيع والتحبير يعتبران من الأنواع الخاصة للتغني بالقران الكريم فإن هذا يقود البحث إلى الكلام عن القراءة بالألحان، وهو ما خصصنا له المطلب الرابع لأهميته.

المطلب الرابع: القراءة بالألحان «1» :
وسبب إيراد هذه المسألة أنها «مبنية على أساس تحسين الصوت بالقران» «2» .

الدلالة اللغوية للحن في هذا الباب:
لا يعدو معنى اللحن في اللغة- من هذه الجهة- أن يكون الصوت المغنّى على نسق منضبط محدد مستملح دون أن يتبادر إلى الذهن أن تصحبه أدوات المعازف كما هو الشائع في لغة الناس اليوم؛ فاللّحن هو الغناء وترجيع الصوت والتّطريب، والتطريب هو تطريب المراد به تقطيع الصوت بالأنغام دون صحبة الة أو معها «3» ويشهد له قول الشاعر:
لقد تركت فؤادك مستجنّا ... مطوّقة على فنن تغنّى
يميل بها، وتركبه بلحن ... إذا ما عنّ للمحزون أنّا
فلا يحزنك أيام تولّى ... تذكّرها، ولا طير أرنّا «4»
وظهر من هذا أن اللحن والترنم والتغني هو ترديد الكلام المقفى الموزون على هيئة منضبطة، وقوانين خاصة، دون علاقة له بأصوات المعازف.
__________
(1) أشار إلى هذا الموضوع، كثرة من مؤلفي علم التجويد والتفسير، ويدرجونه ضمن موضوع أعم منه هو أنواع القراءة الممنوعة، انظر- مثلا-: التمهيد ص 55، مرجع سابق.
(2) انظر: الشريعة الإسلامية والفنون ص 307- 318، مرجع سابق.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/ 18) .
(4) انظر: لسان العرب (13/ 382) ، مرجع سابق.
(1/290)
________________________________________
والظاهر ألاحرج في استعمال كلمة ألحان دلالة على نمط معين لقراءة القران الكريم، لجريانها في لسان العرب، ولورودها في المصطلح الشرعي كما سيأتي بعض ذلك، ومن ثم فإن استخدام ألفاظ:
الإيقاع والنغم للدلالة على ذلك ليس فيه ما يسوء، وإن كان الاستعمال العرفي العصري يجعل عدم الاستعمال أولى لارتباطه في لسان العصر بالمعازف مباشرة، وتتلخص معالم تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لهذا النوع من التغني بالقراءة في التالي:

أولا: الأصل الشرعي للقراءة بالألحان:
يعود إلى عدة أركان، وقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم كل هذه الأركان، وهي:
1- الترتيل المقتضي للتأني.
2- تزيين الأصوات وتحسينها بالقران الكريم- على ما تقدم- فيه إيماء لطلب أجمل أنواع التحسين والتزيين، وقد أمرهم صلّى الله عليه وسلم بتحسين أصواتهم عند تلاوة القران الكريم، وتحسين الصوت من حيث هو أمر مختلف عن القراءة بالألحان، ولذا فقد «كان بين السلف اختلاف في جواز القران بالألحان، أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره لا نزاع في ذلك» «1» .
والمراد بتحسين الصوت على القواعد المتلقاة ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن خرج حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم «2» .
فالتحسين والتزيين أمران عامان والقراءة بالألحان أمر خاص يدخل ضمنهما مادام الالتزام بقواعد التلاوة وأحكام التجويد قائما.
__________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 72) ، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (9/ 72) ، مرجع سابق.
(1/291)
________________________________________
3- علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أجمل أنواع التحسين عمليا بأن قرأ بالترجيع وأقرهم على تحبير الصوت، وكان صوته صلّى الله عليه وسلم في قراءة القران غاية في الملاحة وهو المقتدى به، وقد تقدم ذلك كله.
فتحسين الصوت مطلوب من حيث العموم فإن كان التحسين على خصوص قواعد النغم فيظهر ألا مانع بحسب المقدمات السابقة، إلا أن يخاف من المشابهة بين لحن القراءة ولحن الغناء مما يؤدي إلى تهوين شأن القراءة، وترك التعظيم الواجب لها فيمنع ... وقد تقدم أن من أركان الترتيل السكينة والوقار ...
فيلتزم ذلك كذلك.
والذي يتحصل من الأدلة هو ما قاله ابن حجر: «أن حسن الصوت مطلوب فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، ومن جملة تحسينه أن يراعى فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراات؛ ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام ألايراعى الأداء فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت واجتناب الممنوع من حرمة الأداء» «1» ، حتى تقرر عند المالكية أن «القراءة بالتلحين سنة، وسماعه يزيد إيمانا بالقران وغبطة ويكسب القران خشية» «2» ، وقال القاضي عياض: «من إعجاز القران أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة ... وسواء من الكتب لا يوجد ذلك فيها حتى أحدث أصحابها ألحانا وطرقا يست***ون بتلك
__________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 72) ، مرجع سابق.
(2) (العبدري) محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري أبو عبد الله ت 897 هـ: التاج والإكليل لمختصر خليل، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1398 هـ.
(1/292)
________________________________________
اللحون تنشيطهم على قراءتها» «1» ، وقالوا: «القلب يخشع للصوت الحسن كما يخضع للوجه الحسن، وما تتأثر به القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر، وقال في العارضة: للصوت الحسن أثر عظيم في النفوس فإن كان المنطق رخيما رقيق الحواشي أوسع الأذن سماعا والنفس ميلا وقبولا وإن كان منغما، ... وذلك هو التحبير في الكلام والتنغيم في الغناء» «2» .
«وأشار الجعبري إلى ذلك بقوله:
اقرأ بالألحان الأعارب طبعها ... وأجيزت الأنغام بالميزان»
«3» وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قد علمهم تحسين أصواتهم بتلاوة القران الكريم عموما قولا وفعلا تطبيقيا وإقرارا، والقراءة بالألحان إن كانت لا تخرج قراءة القران الكريم عن كونها قراءة للقران الكريم فهي داخلة ضمنا.
وبالجمع بين كل هذه النصوص يتقرر «أنه لا تلازم بين التلحين المذموم وتحسين الصوت المطلوب، وأن التلحين المذموم والأنغام المنهي عنها هو إخراج الحروف عما يجوز له في الأداء كما يصرح به كلام جمهور الأئمة ومنهم الإمام أحمد فإنه سئل عنه في القران فمنعه فقيل له: لم؟ فقال: ما اسمك؟ قال: محمد.
قال: أيعجبك أن يقال لك يا محامد» «4» .

ثانيا: علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن التغني المطلوب ليس مقصودا بالأصالة بل هو مطلوب بالتبع لعظمة القران وتدبره:
__________
(1) (أبو الفضل) القاضي عياض بن موسى اليحصبي ت 544 هـ: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 277) ، دار الكتب العلمية، 1399 هـ- 1979 م، بيروت- لبنان.
(2) التاج والإكليل (2/ 62) ، مرجع سابق.
(3) نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 19، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (2/ 65) ، مرجع سابق.
(1/293)
________________________________________
فإن كان التغني مقصودا بالأصالة، والترنم مرغوبا لذاته فقد كرهه النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه فيما رواه عابس الغفاري رضي الله عنه أنهم كانوا معه فوق أجار له فمر بقوم يتحملون فقال: ما هؤلاء؟ قيل: قوم يفرون من الطاعون؟ قال: يا طاعون خذني! يا طاعون خذني! يا طاعون خذني! فقال له ابن أخ له وكانت له صحبة:
تتمنى الموت وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يتمنى أحدكم الموت ... »
قال: يا ابن أخي أني أبادر خلالا سمعتهن من رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكون في اخر الزمان يتخوفهن على أمته إمارة السفهاء، وكثرة الشرط، واستخفاف بالدم، وقطيعه الرحم، ونشوا يتخذون القران مزامير يقدمون الرجل ليس بأفقههم في الدين ولا بأعلمهم وفيهم من هو أفقه منه وأعلم يقدمونه يغنيهم غناء، وفي رواية الطبراني في الأوسط «يقدمون الرجل ليس بأفقههم ولا أعلمهم ولا بأفضلهم بعينهم غنى» «1» وفي لفظ: «والرجل يقرأ القران مزامير يغني به القوم، والقوم يقدمون الرجل ليس بخيرهم ولا بأفقههم يغنيهم بالقران» «2» .
فالنشء المذكور اتخذوا أئمة في الصلوات لصوتهم فقط وليسوا أهلا لها لوجود من هو أهل لها ممن هو أقرأ «3» وإن لم يكن لهم حسن الصوت ورغبوا عن ذلك إلى
__________
(1) مسند أحمد (3/ 494) ، الطبراني في الطبراني في الكبير (3/ 211) ، وفي الأوسط (1/ 212) ، ابن أبي شيبة (7/ 529) ، مصنف عبد الرزاق (2/ 488) ، شعب الإيمان (2/ 541) ، مراجع سابقة، وقال ابن عبد البر في التمهيد (17/ 147) : «وهذا حديث مشهور» ، وانظر: مجمع الزوائد (2/ 316، و 4/ 199) ، مرجع سابق، وفي (5/ 245) ، وقال: «وفي إسناد أحمد عثمان بن عمير البجلي وهو ضعيف واحد إسنادي الكبير رجاله رجال الصحيح» ، ونحوه في مسند أحمد (6/ 22) ، مرجع سابق عن عوف بن مالك، وهو في الحاكم (3/ 501) ، مرجع سابق، عن الحكم بن عمرو الغفاري.
(2) الاحاد والمثاني (2/ 268) ، مرجع سابق.
(3) وليس لوجود الأعلم كما في معتصر المختصر (2/ 282) ، مرجع سابق لأنه لا يقدم على الأقرأ.
(1/294)
________________________________________
حسن الصوت راغبين عن السنة فذمّوا فلذا بادر الموت، «وليس من ذلك من يحسن صوته ليرق قلبه، أو قلوب سامعيه في شيء حتى لو اجتمع مستحقان للإمامة وأحدهما حسن الصوت يقدم على الذي ليس معه حسن الصوت، فلا تعارض كيف وقد وصفه الله تعالى بأنه لا ينطق عن الهوى وعن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده وكان حسن الصوت» «1» .

ثالثا: علم النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه قراءة القران بلحون العرب وعاداتها في التنغيم، ونهاهم عن قراءته باللحون التي يستخدمها أهل الفسق والكبائر:
فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرؤا القران بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق فإنه سيجيء بعدي قوم يرجعون بالقران ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم» «2» ، والذي ذكره ابن الأثير في النهاية في رواية هذا الحديث أنه «وإياكم ولحون أهل العشق» «3» .
فقوله: «اقرؤوا القران بلحون العرب» أي تطريبها «وأصواتها» أي ترنماتها الحسنة التي لا يختل معها شيء من الحروف عن مخرجه؛ لأن القران لما اشتمل عليه من حسن النظم، والتأليف والأسلوب البليغ اللطيف يورث نشاطا للقارئ
__________
(1) معتصر المختصر (2/ 282) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الأوسط (7/ 183) ، شعب الإيمان (2/ 540) ، مرجعان سابقان، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 169) ، مرجع سابق: «وفيه راو لم يسم وبقية أيضا» ، وفي فيض القدير (2/ 66) : «رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث بقية عن الحصين الفزاري عن أبي محمد عن حذيفة» ، قال ابن الجوزي في العلل: «حديث لا يصح وأبو محمد مجهول وبقية يروي عن الضعفاء ويدلسهم» قال الهيثمي: «فيه راو لم يسم وفي الميزان تفرد عن أبي حصين بقية وليس بمعتمد والخبر منكر» .
(3) النهاية (4/ 242) ، مرجع سابق.
(1/295)
________________________________________
لكنه «إذا قرئ بالألحان التي تخرجه عن وضعه تضاعف فيه النشاط وزاد به الانبساط، وحنت إليه القلوب القاسية، وكشف عن البصائر غشاوة الغاشية» «1» وقوله «وإياكم ولحون أهل الكتابين» «أي احذروا لحون اليهود والنصارى وأهل الفسق من المسلمين يخرجون القران عن موضعه بالتمطيط بحيث يزاد حرف أو ينقص حرف فإنه حرام إجماعا كما ذكره النووي في التبيان «ترجيع الغناء» أي أهل الغناء ورهبانية النصارى وأهل النوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم بنحو محبة الشبان والنساء وقلوب من يعجبهم شأنهم فإن من أعجبه شأنهم فمال مصيره منهم» «2» .
فقراءة القران تكون باللحن الذي يتنوع ويستعمل من قبل فئتين متقابلتين:

الفئة الأولى:
فئة تقرؤه وفق ما اعتادته العرب في تلحينها منضبطا بقواعد لغتها وهو ما عليه عامة المسلمين الذين يقرأون القران منضبطا أداؤه بأحكام التجويد ويبقى الاختلاف بينهم عائدا إلى مدى الملاحة في الصوت وهو أمر عائد إلى الجبلة البشرية، والطبيعة الخلقية «3» ، ويحكى عن الشيخ تقي الدين محمد بن أحمد الصائغ ت 725 هـ أنه قرأ يوما في صلاة الصبح (وتفقد الطير) وكررها فنزل طائر على رأسه يسمع قراءته فنظروا إليه فإذا هو هدهد، وقد أسلم جماعة من اليهود والنصارى بمجرد سماع قراءة سبط الخياط عبد الله بن علي البغدادي ت 541 هـ.

الفئة الثانية:
فئة هم أهل الكتابين والنوح والغناء والرهبانية حيث يسير إما على ذوق فاعله دون قواعد ضابطة، وإما على قواعد ونواميس الإيقاع والغناء
__________
(1) فيض القدير (2/ 65) ، مرجع سابق.
(2) فيض القدير (2/ 65) ، مرجع سابق.
(3) النهاية (4/ 241) ، مرجع سابق.
(1/296)
________________________________________
غير المنضبطة بأحكام التجويد فهذا هو الممنوع، «ويشبه أن يكون أراد هذا الذي يفعله قرّاء الزّمان من اللّحون الّتي يقرأون بها النّظائر في المحافل فإن اليهود والنّصارى يقرأون كتبهم نحوا من ذلك» «1» .

كيف ظهر أتباع ألحان الغناء في القراءة:
أوّل من قرأ بالألحان عبيد الله بن أبي بكرة، وكانت قراءته حزنا ليست على شيء من ألحان الغناء والحداء، فورثه عنه حفيده عبيد الله بن عمر، ولذلك يقال قرأت العمريّ، وأخذ ذلك عنه سعيد العلّاف الإباضيّ «2» ، وصار سعيد رأس هذه القراءة في زمنه وعرفت به، لأنه أتصل بالرشيد فأعجب بقراءته وكان يحظيه ويعطيه حتى عرف بين الناس بقارئ أمير المؤمنين، وكان القراء بعده:
كالهيثم، وأبان، وابن أعين، وغيرهم ممن يقرؤن في المجالس أو المساجد، يدخلون في القراءة من ألحان الغناء والحداء والرهبانية، فمنهم من كان يدس الشيء من ذلك دسا خفيا، ومنهم من يجهر به حتى يسلخه، فمن هذا قراءة الهيثم أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ (الكهف: 79) فإنه كان يختلس المد اختلاسا فيقرؤها (لمسكين) وإنما سلخه من صوت الغناء كهيئة اللحن في قول الشاعر:
أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتا يوافق عندي بعض (مفيها)
أي ما فيها، حتى كان الترمذي محمد بن سعيد في المائة الثالثة، وكان الخلفاء والأمراء يؤمئذ قد أولعوا بالغناء، فقرأ محمد هذا على الأغاني المولدة المحدثة سلخها في القراءة بأعيانها «3» .
__________
(1) النهاية (4/ 242) ، مرجع سابق.
(2) لسان العرب (15/ 137) ، مرجع سابق.
(3) تاريخ اداب العرب (1/ 61) ، مرجع سابق.
(1/297)
________________________________________
وعلى هذا فالنواميس التي يجوز بها استعمال قوانين الإيقاع عند التلاوة هي «1» :
1- الالتزام بضوابط التجويد وأركان الترتيل دون شطط.
2- وإبقاء الجو القراني على حاله من التحزين والخشوع والإخبات.
3- ألايتولد من حروف ليست من القران كزيادة ألف أو تطويل الحركة القصيرة إلى طويلة، وهو ما يعبر عنه العلماء بالتمطيط.
4- ألايترتب على ذلك التقصير في أداء حركة طويلة، أو البتر في حرف لين، أو حرف مشدد مثل التقصير في تشديد (ذرية) ونحو ذلك.
5- عدم الغلو في التلحين حتى يظهر أنه الغاية من القراءة لا أنه يعين على تدبر القراءة، فيكون صاحبه مفتونا قلبه وقلب من يسمعه لدرجة أنه لا يسمع القران إلا له، لا لأنه القران.
6- عدم الغلو في طلب اللحن حتى يبحث عن أصوله من غناء اللاهين، ويصبح فنا مستقلا عن المراد منه «2» ، يبذل له التكلف، ويخرج به عن طبيعة المرء ...
كما قال ابن الجزري:
__________
(1) قد ظهر مما سبق ومما يتلخص الان الإطار العام لبحث هذه القضية، فالبحث لا يتناولها بالإسفاف الذي تناولها به صاحب كتاب (ألحان السماء) الذي يشير إلى الثروة الكبيرة التي يكتسبها القارئ الفنان عند امتلاكه اسطوانات باخ وموزارت وبيتهوفن ولست، وضرورة النهل منها ... وعلى الرغم من أن المكتبة الإسلامية العصرية تفتقر إلى تراجم القراء المتأخرين، وقد ظهر في هذا الكتاب أنه يريد أن يسد جزا من ذلك ... إلا أن أسلوب التناول كان غير لائق، ولا يستند على البحث العلمي، أو الصبغة الشرعية. انظر: محمود السعدني: ألحان السماء، كتاب اليوم يصدر عن دار أخبار اليوم أول كل شهر، عدد يناير 1996 م.
(2) انظر: أيمن سويد: البيان لحكم قراءة القران الكريم بالألحان، قرظه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ط 1، 1412 هـ/ 1991 م، حيث نقل المؤلف فتاوى للعلماء الأقدمين والمعاصرين الذين منعوا القراءة بالألحان، وانظر: كيف يتلقى القران؟ اداب التلاوة وأحكام التجويد ص 29، مرجع سابق.
(1/298)
________________________________________
مكملا من غير ما تكلف ... باللطف في النطق بلا تعسف
فالقراءة بالألحان مع مخالفة هذه الشروط هو الذي كرهه العلماء ومنعوه، وهو الذي قالوا فيه «ما أحدثه المتكلفون بمعرفة الأوزان والموسيقى فيأخذون في كلام الله مأخذهم في التشبيب والعزل فإنه من أسوأ البدع فيجب على السامع النكير وعلى التالي التعزير» «1» ، وجاء زياد النميري مع القراء إلى أنس بن مالك رضي الله عنه فقيل له:
اقرأ فرفع صوته وطرّب، وكان رفيع الصوت فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء فقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون وكان إذا رأى شيئا ينكره كشف الخرقة عن وجهه، وفي ترجمة الحافظ السلفي: أزال من جواره منكرات كثيرة رأيته منع القراء بالألحان وقال: هذه القراءة بدعة اقرؤا ترتيلا «2» .

الاستعانة على تحسين الصوت بالوسائل المشروعة كالمحاكاة:
ويستفاد من النصوص السابقة، ومنها قول ابن أبي مليكة راوي حديث (التغني) حينما قيل له: أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت ماذا يصنع؟ قال: يحسنه ما استطاع.
«أنه لقارئ القران أن يستعين بما تيسر له من الوسائل لتحسين صوته، ومنها أن يتعلم من قانون النغم وما يختاره أو يختار له من الألحان المناسبة لقراءة القران، وذلك بقدر ما يحتاج إليه للتغني بالقران، يتلقى ذلك عن شيخه الذي يقرئه إن كان ممن يتقن ذلك.
ومنها: التقليد والمحاكاة، بأن يحاكي شيخه، وهذا لا بد منه عند التعلم، أو يحاكي أحد المتقنين من القراء أصحاب الأصوات الحسنة، والأنغام المؤثرة،
__________
(1) فيض القدير (4/ 68) ، مرجع سابق.
(2) تذكرة الحفاظ (4/ 1302) ، مرجع سابق.
(1/299)
________________________________________
كالمنشاوي، أو عبد الباسط عبد الصمد، أو أصحاب الترتيل المتقن حدرا وتحزينا من أئمة التراويح الذين يصدحون في المحاريب بأجمل الأصوات وأحسن الأداء» «1» ففي حديث الترجيع «قلد الصحابي- وهو عبد الله بن مغافل- النبي صلّى الله عليه وسلم في ترجيعه بذلك اللحن، والتابعي- وهو معاوية بن قرة- كاد أن يفعل.
أفلا يشرع لكل قارئ أن يحاكي النبي صلّى الله عليه وسلم في هذا اللحن؟
وهل يلزم أن ينقل إلينا نص بأن الصحابة كانوا يحاكونه صلّى الله عليه وسلم في لحنه؟
ألا يكفي ما نعلمه من شدة حرصهم على متابعته والاقتداء به.
إذا كان لكل تلميذ أن يحاكي شيخه في أدائه، وصوته، ولحنه، أفلا نحاكي معلمنا الأول وإمامنا ونبينا وسيدنا صلّى الله عليه وسلم في ذلك كله؟!» «2» .
__________
(1) انظر: سنن القراء ص 107، مرجع سابق.
(2) انظر: سنن القراء ص 108، مرجع سابق.
(1/300)
________________________________________
المبحث السادس: تعليمه صلّى الله عليه وسلم الملحقات بأحكام التجويد:
من الأبواب التي تطرقها كتب التجويد أبواب الاستعاذة والبسملة، وأحكام الختم، وأحكام الوقف، وأحكام الجهر والإسرار، وقد صنفها الباحث اجتهادا فجعلها ملحقات بأحكام التجويد وليست منه لأنها لا تتعلق بحق الحرف أو مستحقه، ويروم هذا المبحث كشف تفاصيل تعليم هذه الأبواب والمسائل من النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه، ولذا انقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب:

المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الابتداء.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الختم.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الوقف.
المطلب الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الجهر والإسرار بقراءة القران.
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الابتداء:
والمراد بالابتداء هنا ابتداء القراءة لا الابتداء المعروف في أحكام التجويد الذي يقابل الوقف، وتتعلق بالابتداء الأحكام التالية من حيث تعليمه صلّى الله عليه وسلم:

أولا: تعليمه صلّى الله عليه وسلم الاستعاذة في أول القراءة:
أمر الله جل جلاله نبيه صلّى الله عليه وسلم بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال سبحانه وتعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (النحل: 98) أي إذا أردت أن تقرأ فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر:
وإني لاتيكم لذكرى الذي مضى ... من الود واستئناف ما كان في غد
(1/301)
________________________________________
أراد ما يكون في غد، ومثله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (القمر: 1) وهو كثير «1» .
وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الاستعاذة بعد القراءة وقال به داود وعقب ابن العربي على ذلك قائلا: «انتهى العيّ بقوم إلى أن قالوا: إذا فرغ القارئ من قراءة القران يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة وهذا نص» «2» .
والظاهر أنه إن صح عن البعض أن الاستعاذة تكون بعد القراءة: فإنهم لا يعنون بها حال الفراغ وإنما أثناء القراءة زيادة على التعوذ قبل القراءة، وذلك طردا للوسواس الحادث في الأثناء إن قوي شيطانه على الإنسان، كما يحدث في الصلاة فإن التعوذ مجمع على مشروعيته قبل قراءة الفاتحة في الصلاة، وقد يتكرر لعارض اشتداد الوسواس كما جاء ذلك عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا» قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني «3» ، فتكون فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة كما قال سبحانه وتعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ (الحج: 52) ؛ إذ إن معنى الاستعاذة: الاستجارة والتحيز إلى الشيء على معنى الامتناع به من المكروه، والله عياذي أي ملجئي ... فالالتجاء
__________
(1) انظر: القرطبي (1/ 86) ، مرجع سابق.
(2) أحكام القران لابن العربي (1/ 88) ، مرجع سابق.
(3) مسلم (4/ 1728) ، مرجع سابق.
(1/302)
________________________________________
والاعتصام مطلوب ابتداء وأثناء حتى يتم العمل، ولذا مال بعض المفسرين إلى اعتبار التعوذ فرض، لظاهر الأمر في الاية فإذا نسيه القارئ، وذكره في بعض الحزب قطع وتعوذ ثم ابتدأ من أوله، وقيل: يستعيذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه «1» .

الصيغة التي علمهم صلّى الله عليه وسلم إياها:
هي تلك الواردة في سورة النحل، لكن أولها أعوذ، ولم يثبت أنه استخدم لفظة أستعيذ، وقد قالها النبي صلّى الله عليه وسلم بصيغتها في غير ما موقف كما في الحديث السابق، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى! قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا: فأمر من كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا فلما رأى ذلك من بقي من الكفار في النار قالوا:
يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا» ، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (الحجر: 1- 2) «2» ، وفي هذا إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبدأ الاية التي يتلوها في حديثه بالاستعاذة.
__________
(1) انظر القرطبي (1/ 88) ، مرجع سابق.
(2) وقال في مجمع الزوائد (7/ 45) ، مرجع سابق، «رواه الطبراني وفيه خالد بن نافع الأشعري قال أبو داود: متروك قال الذهبي: هذا تجاوز في الحد فلا يستحق الترك فقد حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره وبقية رجاله ثقات» .
(1/303)
________________________________________
وقد وردت الزيادة على هذه الصيغة «1» :
إن كانت الزيادة تنزيها لله سبحانه وتعالى، أو ذما للشيطان فقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل إلى الصلاة كبر ثلاثا ثم قال: «سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول لا إله إلا الله» ثلاث مرات ثم يقول «الله أكبر» ثلاثا ثم يقول «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ثم يقرأ» «2» ، ومثله عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه «3» ، ومثله في صيغة الاستعاذة عن أبي أمامة الباهلي «4» إلا أنه قال في رواية أخرى: ثم يقول «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزة ونفخه وشركه» «5» ، وعن عائشة رضي الله عنها في ذكر الإفك قالت: جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكشف عن وجهه وقال: «أعوذ بالسميع» أو قال «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ الاية «6» ولكن قال أبو داود: أخاف أن يكون أمر الاستعاذة من كلام حميد «7» ،
__________
(1) انظر في هذه المسألة: الشاطبية باب الاستعاذة ص 25، طيبة النشر باب الاستعاذة ص 38، وشروحهما وانظر: القرطبي (1/ 87) .
(2) أحمد (3/ 50) ، أبو داود (1/ 206) ، الترمذي (2/ 10) ، وقال الهيثمي في المجمع (2/ 265) : «رواه أحمد ورجاله ثقات» .
(3) سنن أبي داود (1/ 203) ، أحمد (4/ 85) ، مرجعان سابقان، وفيه: قال عمر وهمزه الموتة ونفخه الكبر ونفثه الشعر، وقال ابن ماجة: المؤتة يعني الجنون والنفث: نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه والكبر: التيه.
(4) أحمد (5/ 253) ، مرجع سابق.
(5) رواه أحمد (5/ 253) ، مرجع سابق، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 265) ، مرجع سابق: «رواه أحمد وفيه من لم يسم» .
(6) أبو داود (1/ 208) ، البيهقي في الكبرى (2/ 43) ، مرجعان سابقان.
(7) انظر: سنن أبي داود (1/ 208) ، مرجع سابق.
(1/304)
________________________________________
هذا مع أن العلماء أجمعوا على أن التعوذ ليس من القران ولا اية منه «1» ، وأما ما روي عن ابن مسعود أنه قال: قلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا ابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم» «2» فهو حديث لا يعرف ويرده ما سبق من أحاديث.
ولذا ذهب المقرئون إلى عدم التزام هذه اللفظة بعد إذ رأوا أن التزامها ليس واجبا، فجاء عن ابن القاسم أن الاستعاذة: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم «3» فهذا مما للاجتهاد البشري مدخل في التصرف في لفظه، وإن كان الوارد في الاية هو الأفضل، ولذا قال ابن عطية: «وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الاخرى كقول بعضهم: أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد ونحو هذا مما لا أقول فيه: نعمت البدعة ولا أقول: إنه لا يجوز» «4» .

ثانيا: تعليمه صلّى الله عليه وسلم البسملة «5» :
علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن البسملة فصل بين السور من الناحية العامة، وأنها تقرأ حال الابتداء بالسورة، عند ابتداء القراءة أو أثنائها وهذا مجمع عليه بين القراء «6» ،
__________
(1) انظر: القرطبي (1/ 86) ، مرجع سابق.
(2) القرطبي (1/ 87) ، مرجع سابق.
(3) انظر: القرطبي (1/ 86) ، مرجع سابق.
(4) تفسير ابن عطية (1/ 120) ، مرجع سابق.
(5) انظر في معناها: القرطبي (1/ 100) ، مرجع سابق.
(6) لذا قال الشاطبي- رحمه الله تعالى-: ولا بد منها في ابتدائك سورة سواها ... انظر الشاطبية ص 26، مرجع سابق.
(1/305)
________________________________________
بغض النظر عن كونها اية من الفاتحة، أو من كل سورة، أو ليست باية، ومن المؤشرات على هذا التعليم: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم «1» ، وهذا يعني أنهم كانوا يعلمون أن هذه الاية أو الايات التي نزلت ابتداء سورة جديدة بأن يقرأ النبي صلّى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم عند قراءتها، وإلا فهي من سورة سابقة يخبرهم بها صلّى الله عليه وسلم كما تلقاه من جبريل عليه السّلام فعند ابتداء السورة لا بد من ذكر البسملة في القراءة بغض النظر عن الخلاف المذكور؛ ولما وصفت أم سلمة قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكرت أنه يبدأ بالبسملة فقالت: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين يقطع قراءته (اية اية) «2» ، ولما قرأ عليهم سورة الكوثر قرأها عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) (سورة الكوثر) ... الحديث «3» ، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول: تفتتح القراءة ب بسم الله الرحمن الرحيم «4» ، وهل هذا اجتهاد منه أم له حكم الرفع؟ احتمال ...
وقوله (القراءة) قد يريد السورة كما سبق في حديثه المرفوع، وقد يريد القراءة ولو كانت من غير أول السورة ... ويكون عند هذا شاهدا لمن قال: يبسمل في أثناء السور «5» .
__________
(1) المختارة (10/ 315) ، النسائي في الصغرى (1/ 250) ، أبو داود (1/ 209) ، مراجع سابقة.
(2) أبو داود (4/ 37) ، الحاكم (2/ 252) ، واللفظ له، البيهقي في الكبرى (2/ 44) ، مراجع سابقة، وما بين القوسين له، الدارقطني (1/ 307) ، مرجع سابق، وخرجه أيضا في (1/ 312) وقال: «إسناده صحيح وكلهم ثقات» .
(3) مسلم (1/ 300) ، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (2/ 49) ، مرجع سابق، ولم يكر الاستعاذة لأنها ليست من القران بالإجماع.
(5) انظر: الشاطبية عند قول الناظم في باب البسملة ص 26، مرجع سابق: وفي الأجزاء خير من تلا.
(1/306)
________________________________________
وعلمهم صلّى الله عليه وسلم كيفية ترتيلها:
فسئل أنس بن مالك رضي الله عنه كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم «1» .

وعلمهم صلّى الله عليه وسلم كيفية الوقف فيها:
وأنه يكون عند اخرها كما روت ذلك أم سلمة رضي الله تعالى عنها ففي لفظ عنها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فعدها اية، الحمد لله رب العالمين ايتين، الرحمن الرحيم ثلاث ايات، مالك يوم الدين أربع ايات، وقال هكذا إياك نعبد وإياك نستعين وجمع خمس أصابعه «2» .

وكان صلّى الله عليه وسلم يعلمهم أنها من لوازم القراءة في سورة الفاتحة:
وهذا متفق عليه بين القراء، فعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرؤا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القران وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحد اياتها» «3» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اية من كتاب الله أغفلها الناس بسم الله الرحمن الرحيم «4» .
__________
(1) البخاري (4/ 1925) ، ابن حبان (14/ 223) ، مرجعان سابقان.
(2) انظر تخريج ما قبله.
(3) البيهقي في الكبرى (2/ 45) ، الدارقطني (1/ 312) ، مرجعان سابقان.
(4) الفضائل لأبي عبيد ص 218، مرجع سابق، وانظر: تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب، وقال ابن كثير: «إسناده جيد» .
(1/307)
________________________________________
وعلمهم صلّى الله عليه وسلم الجهر بها أحيانا في الصلاة «1» :
فعن نعيم المجمر قال: كنت وراء أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القران حتى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ (الفاتحة: 7) قال: امين وقال: الناس امين ... ويقول إذا سلم والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلم «2» .

وعلمهم صلّى الله عليه وسلم المخافتة بها أحيانا أخرى في الصلاة وغيرها:
وقد تكون المخافتة لعارض يقتضي ذلك كما جاء عن سعيد بن جبير قال:
كان المشركون يحضرون بالمسجد فإذا قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة يعنون مسيلمة فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم ونزل: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ (الإسراء: 110) «فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة» «3» ، والقول بهذا الحديث حال صحته.

هل هي اية؟:
ليس هذا من نطاق البحث، ولكن الباحث يود الإشارة إلى أن الرجوع إلى مناهج كل علم يزيل كثيرا من الخلاف فالصحيح هنا ما قرره حذاق العلماء من
__________
(1) وهذا اختيار ابن القيم في الجمع بين النصوص. انظر: زاد المعاد في هدي خير المعاد (1/ 206) .
(2) ابن خزيمة 251، ابن حبان (5/ 100) ، ورواه الدارقطني (1/ 305) ، وقال: «هذا حديث صحيح ورواته كلهم ثقات» .
(3) القرطبي (1/ 96) ، مرجع سابق.
(1/308)
________________________________________
أنها اية من القران في بعض القراات دون بعض «1» شأنها في ذا كشأن لفظة كلمة (من) في الاية 100 من سورة براءة، بعدد الكوفيين، فهي من القران في قراءة ابن كثير دون غيرها، أو كلمة (هو) في الاية 24 من سورة الحديد فهي من القران في قراءة الجمهور دون قراءة نافع وابن عامر، ولذا اختلف علماء العدد في عدها في الفاتحة «2» ، ولذا فالاستدلال بالاختلاف فيها على نفي قرانيتها غير سديد، كما فعل كثير من المالكية «3» ... وبذلك تجتمع الأقوال ويزول الخلاف- إن شاء الله تعالى-، وأشار إلى هذا الجمع صاحب مراقي السعود في أصول الفقه بقوله:
وليس للقران تعزى البسملة ... وكونها منه الخلاف نقله
وبعضهم إلى القران نظر ... وذاك للوفاق رأي معتبر
وقد اتفقوا على ابتداء السورة بالبسملة ولذا فإن الإمام مالك قال: ولا بأس أن يقرأ بها النافلة ومن يعرض القران عرضا «4» ، بل اختلفت الرواية عنه في إثباتها في أول كل سورة فروى عنه ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال «5» .
__________
(1) انظر: (الشنقيطي) محمد الأمين بن المختار: مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر لابن قدامة ص 55، دار القلم، بيروت، وانظر: شرحه نثر الورود على مراقي السعود، مع تتمته للدكتور محمد ولد سيدي الشنقيطي (1/ 90) ، ط 1، 1415 هـ- 1995 م، دار المنارة للنشر والتوزيع- جدة.
(2) انظر: تفصيل الخلاف في هذه المسألة في: روح المعاني (1/ 40) ، أحكام القران للجصاص (1/ 19) ، بدائع الصنائع (1/ 204) ، حاشية ابن عابدين (1/ 491) ، الإحكام للامدي (1/ 215) ، المستصفى (1/ 82) ، مراجع سابقة.
(3) انظر: تفسير القرطبي (1/ 95) ، مرجع سابق.
(4) القرطبي (1/ 95) ، مرجع سابق، وأما بقية الأئمة الثلاثة فمتفقون على كونها من القران مع خلاف بينهم في تفصيل ذلك.
(5) القرطبي (1/ 96) ، مرجع سابق.
(1/309)
________________________________________
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الختم:
أحكام الختم كثيرة، ونذكر هنا ما ورد فيه التعليم تصريحا:

أولا: علمهم صلّى الله عليه وسلم الأمد الزماني لختم القران:
فقد علم النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه مدة الختم فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: في كم تقرأ القران؟ وفي لفظ: قلت يا رسول الله في كم أقرأ القران؟
قال: «اختمه في شهر» وفي لفظ للدارمي: قلت يا رسول الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «اختمه في خمسة وعشرين» قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، وفي لفظ: قلت إني أجد قوة قال: «اختمه في عشرين» قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: «اختمه في خمسة عشر» . قلت إني أطيق أفضل من ذلك قال: «اختمه في عشر» قلت إني أطيق أفضل من ذلك، وفي لفظ: - حتى قال-: «فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» «1» ، وفي رواية: قال: «اختمه في خمس» قلت إني أطيق أفضل من ذلك قال: «فما رخص لي» ولفظ الدارمي: قال: «لا» «2» وعنه أيضا قال أمره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يقرأ في أربعين ثم في شهر ثم في عشرين ثم في خمسة عشر وفي عشر ثم في سبع قال انتهى إلى سبع «3» وفي لفظ لأبي داود: لم ينزل من سبع «4» .
وقوله: «ولا تزد على ذلك» «أي لا يغير الحال المذكورة إلى حالة أخرى، أي لا يقرؤه في أقل من سبع» «5» .
__________
(1) البخاري (7/ 1972) ، مرجع سابق.
(2) الترمذي (5/ 196) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه» .
(3) سنن النسائي الكبرى (5/ 25) ، ونحوه في سنن أبي داود (2/ 56) ، وانظر: سنن البيهقي الكبرى (2/ 396) ، مراجع سابقة.
(4) أبو داود (2/ 56) ، مرجع سابق.
(5) انظر: فتح الباري (9/ 97) ، مرجع سابق.
(1/310)
________________________________________
والجمع بين روايتي الثلاث والسبع أن يحمل على «تعدد القصة فلا مانع أن يتعدد قول النبي صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو ذلك تأكيدا، وكأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب، وأغرب بعض الظاهرية فقال: يحرم أن يقرأ القران في أقل من ثلاث» «1» ولكن ما استغربه ابن حجر هو الغريب؛ إذ لم يرخص النبي صلّى الله عليه وسلم في أقل من ذلك، إلا أن يوضحه بعمل بعض الصحابة على خلافه دلالة على الجواز، ويكون سبيله في هذا التحقيق سبيل التحقيق في جواز صوم الوصال مع النهي عنه.
وليس هذا خاصا بعبد الله فقد انتشر تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لذلك بين أصحابه فعن سعد بن المنذر الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أقرأ القران في ثلاث قال:
«نعم» . قال: وكان يقرؤه حتى توفي «2» ، وسعد بن المنذر أنصاري عقبي بدري «3» .
وهل المراد بالقران الوارد في هذه الأحديث الذي سبقه: جميع القران أم بعضه: إذ القصة وقعت قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل أن يكتمل القران؟.
الجواب: بل المراد من لفظة القران هنا جميعه لعدة أوجه:
1- أن بعض القران لا يحتاج إلى ختم لأنه يصدق على الاية والسورة القصيرة التي تختم في أقل من دقيقة ولا يصدق على ذلك اسم ختم.
__________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 97) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الكبير (6/ 51) ، مرجع سابق، وقال في مجمع الزوائد (7/ 171) ، مرجع سابق: «رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف» ، وفي الإصابة (3/ 86) : «سعد بن المنذر الأنصاري ذكره البخاري وقال روى حديثه ابن لهيعة ولم يصح قلت وأخرجه بن المبارك في الزهد عن أبي لهيعة حدثني واسع بن حبان عن أبيه عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال يا رسول الله أقرأ القران في ثلاث قال نعم إن استطعت وكان يقرؤه كذلك إلى أن توفى وأخرجه الحسن بن سفيان والبغوي من طريق بن لهيعة عن حبان» .
(3) فيض القدير (2/ 61) ، مرجع سابق.
(1/311)
________________________________________
2- أن العبرة بما دل عليه الإطلاق في قوله صلّى في كم تقرأ القران، ويضاف إلى هذا الوجه إشعار السياق بذلك للوجه السابق.
3- أن هذا هو الذي فهمه الصحابي رضي الله عنه: «فكان يقول: ليتني لو قبلت الرخصة» ولا شك أنه بعد نزول شيء جديد من الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلم كان يضيفه الصحابي إلى محفوظه، «فالمراد بالقران جميع ما كان نزل إذ ذاك وهو معظمه ووقعت الإشارة إلى أن ما نزل بعد ذلك يوزع بقسطه» «1» .

ثانيا: علمهم صلّى الله عليه وسلم الحد الأعلى لختم القران:
فلا ينبغي لمسلم أن يتجاوزه في ختم الكتاب الكريم فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «اقرأ القران في أربعين» «2» ، قال بعض أهل العلم: ولا نحب للرجل أن يأتي عليه أكثر من أربعين ولم يقرأ القران لهذا الحديث «3» .

ثالثا: علمهم صلّى الله عليه وسلم الحد الأدني لمدة الختم:
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألاأقرأ القران في أقل من ثلاث «4» وبين صلّى الله عليه وسلم علة ذلك فقال: «لم يفقه من قرأ القران في أقل من ثلاث» «5» ، وشاهده عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح من وجه اخر عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أقرؤا القران في سبع ولا تقرؤه في أقل من ثلاث» ، وعن
__________
(1) فتح الباري (9/ 98) ، مرجع سابق.
(2) الترمذي (5/ 197) ، وقال: «هذا حديث حسن» ، أبو داود (2/ 56) ، مرجع سابق.
(3) الترمذي (5/ 196) ، مرجع سابق.
(4) الدارمي (2/ 502) ، مرجع سابق.
(5) الترمذي (5/ 198) ، وقال: «هذا حديث حسن صحيح» ، سنن النسائي الكبرى (5/ 25) ، وفي سننه الصغرى (1/ 562) ، مراجع سابقة، وقال في تحفة الأحوذي (8/ 220) ، مرجع سابق: «أي لم يفهم ظاهر معانيه وأما فهم دقائقه فلا يفي به الأعمار والمراد نفي الفهم لا نفي الثواب» .
(1/312)
________________________________________
عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان لا يختم القران في أقل من ثلاث «1» وقد أوصى النبي صلّى الله عليه وسلم عددا من الصحابة بذلك، ومنهم سعد بن المنذر الأنصاري كما تقدم قيل قليل.
وفي أن الأصل لزوم ذلك يقول الترمذي «وقال بعض أهل العلم: لا يقرأ القران في أقل من ثلاث للحديث الذي روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم» «2» وهذا اختيار أحمد وأبي عبيد وإسحاق بن راهواه وغيرهم «3» وهذا «أولى ما يرجع إليه في التقديرات ... وذلك لأن الزيادة عليه تمنعه الترتيل» «4» .
من الصحابة رضي الله عنهم لتلاميذهم: كان الصحابة رضي الله عنهم يوصون أصحابهم بذلك فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «اقرؤا القران في سبع ولا تقرؤه في أقل من ثلاث وليحافظ الرجل في يومه وليلته على جزئه» «5» ، وقال عبد الله رضي الله عنه: «من قرأ القران في أقل من ثلاث فهو راجز» «6» ، وكان ابن مسعود «يقرأ القران في كل ثلاث وقلما يستعين بالنهار» «7» ، وعنه رضي الله عنه أنه كان يقرأ القران من الجمعة إلى الجمعة وفي رمضان يختمه في كل ثلاث «8» وقد أخذ أصحابه بذلك فعن علقمة أنه كان يقرأ القران في خمس، وكان الأسود بن يزيد يقرؤه في ست «9» ، وعن أبي بن
__________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 97) ، مرجع سابق.
(2) انظر: فتح الباري (9/ 97) ، مرجع سابق.
(3) انظر: فتح الباري (9/ 97) ، مرجع سابق.
(4) إحياء علوم الدين (1/ 275) ، مرجع سابق.
(5) البيهقي في الكبرى (2/ 396) ، ابن أبي شيبة (2/ 242) ، مرجعان سابقان، وانظر: تحفة الأحوذي (8/ 219) ، التبيان في اداب حملة القران ص 31 للوقوف على أمثلة كثيرة لعادات السلف الصالح في مدة الختم.
(6) ابن أبي شيبة (2/ 241) ، مرجع سابق.
(7) ابن أبي شيبة (2/ 242) ، مرجع سابق.
(8) شعب الإيمان (2/ 415) ، مرجع سابق.
(9) ابن أبي شيبة (2/ 242) ، مرجع سابق.
(1/313)
________________________________________
كعب أنه كان يختم القران في ثمان وأن تميما الداري كان يختم القران في سبع «1» ، وعن أبي العالية قال: كان معاذ يكره أن يقرأ القران في أقل من ثلاث «2» ، وعن زيد بن ثابت قال: لأن أقرأ القران في شهر أحب إلي من أن أقرأه في خمس عشرة وأن أقرأه في خمس عشرة أحب إلي من أن أقرأه في عشر ولأن أقرأه في عشر أحب إلي من أن أقرأه في سبع وأدعو «3» ، وسئل زيد بن ثابت: كيف ترى في قراءة القران في سبع فقال زيد: حسن ولأن أقرأه في نصف أو عشر أحب إلى وسلني لم ذاك قال فإني أسألك قال زيد لكي أتدبره وأقف عليه «4» .

تنبيه حول قراءة الفاتحة وأول سورة البقرة بعد تمام الختمة:
جعل البعض من تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه ختم القران الكريم: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: «الحال المرتحل» قال: يا رسول الله! وما الحال المرتحل؟ قال: «صاحب القران يضرب من أوله حتى يبلغ اخره ومن اخره حتى يبلغ أوله كلما حل ارتحل» «5» ، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي العمل أفضل أو أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الحال المرتحل الذي يفتح القران ويختمه صاحب القران يضرب من أوله إلى اخره ومن اخره إلى أوله كلما
__________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 242) ، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (2/ 242) ، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (2/ 242) ، مرجع سابق.
(4) الموطأ (1/ 200) ، مرجع سابق.
(5) الترمذي (5/ 197) ، مرجع سابق، قال أبو عيسى: «هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث بن عباس إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بالقوي» وهو عند الحاكم (1/ 757) ، مرجع سابق، وقال: «تفرد به صالح المري وهو من زهاد أهل البصرة إلا أن الشيخين لم يخرجاه» .
(1/314)
________________________________________
حل ارتحل» «1» «وحديث ابن عباس روي أيضا بلفظ قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ أو قال أي العمل أحب إلى الله؟ قال:
«الحال المرتحل» قال: يا رسول الله! وما الحال المرتحل؟ قال: «فتح القران وختمه من أوله إلى اخره، ومن اخره إلى أوله كلما حل ارتحل» «2» .
وعلى فرض ثبوت هذا الحديث «3» فإن العلماء اختلفوا في معنى الحال المرتحل فذهب بعضهم إلى أنه الذي يختم القران بتلاوته، ثم يفتتح التّلاوة من أوّله شبهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحلّ فيه، ثم يفتتح سيره: أي يبتدؤه، وكذلك قرّاء أهل مكة إذا ختموا القران بالتّلاوة ابتدأوا وقرأوا الفاتحة وخمس ايات من أوّل سورة البقرة الى وأولئك هم المفلحون، ثم يقطعون القراءة، ويسمّون فاعل ذلك: الحالّ المرتحل، أي ختم القران وابتدأ بأوّله ولم يفصل بينهما بزمان، وقيل: أراد بالحالّ المرتحل الغازي الذي لا يقفل عن غزو إلّا عقبه باخر «4» وهو الذي أبى ابن القيم- رحمه الله تعالى- في الإعلام سواه وقال عن التأويل الأول: «وهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة، والمراد بالحديث الذي كلما حل من غزاة ارتحل في أخرى أو كلما حل من عمل ارتحل إلى غيره تكميلا له كما كمل الأول، وأما هذا الذي يفعله بعض القراء فليس مراد الحديث قطعا» «5» ، ولكن يردّ هذا القطع تفسير الحديث في اخره- حال قبوله- سواء كان مرفوعا أم مدرجا، وأشار الإمام الشاطبي إلى عمل أهل مكة في ذلك فقال:
__________
(1) الحاكم (1/ 758) ، مرجع سابق.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 220) ، مرجع سابق.
(3) إذ إن افته اتية من صالح المري فهو ضعيف. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 334) .
(4) انظر: النهاية (1/ 420) ، مرجع سابق.
(5) (ابن القيم) محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ت 751 هـ: إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 306) ، تحقيق: طه عبد الرؤف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973 م.
(1/315)
________________________________________
وفيه عن المكين تكبيرهم مع الخواتم قرب الختم يروى مسلسلا «1»
ولكن أعمل أهل مكة عن عادة محدثة أم هي عن سنة قديمة توارثها القوم مذ كانت قراءة القران؟ وهل تفسير الحديث يتحقق في هذه الصورة التي يعملون بها؟
فقد قال بعض العلماء: «المقصود من الحديث السير دائما لا يفتر كما يشعر به قوله (من أوله إلى اخره ومن اخره إلى أوله) فقارئ خمس ايات ونحوها عند الختم لم يحصل تلك الفضيلة، وليس المراد الارتحال لفور الحلول فالمسافر السائر لا بد أن ينزل فيقيم ليلة أو بعض ليلة أو بعض يوم أو يعرس» «2» .
والظاهر: أن ذلك قائم على سنة متوارثة، فقد ورد ذلك نصا عن القارئ المكي ابن كثير- رحمه الله تعالى- من رواية البزي وقنبل وغيرهما أنه كان إذا انتهى في اخر الختمة إلى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (الناس: 1) قرأ سورة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (الفاتحة: 2) وخمس ايات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين وهو إلى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة: 5) لأن هذا يسمى الحال المرتحل ثم يدعو بدعاء الختمة، وقال الحافظ أبو عمرو الداني- رحمه الله تعالى-:
لابن كثير في فعله هذا دلائل من اثار مروية ورد التوقيف فيها عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين «3» ، وقد روى الحافظ أبو عمرو أيضا بإسناد صحيح عن الأعمش عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون إذا ختموا القران أن يقرؤا من أوله ايات، وهذا صريح في صحة ما اختاره القراء وذهب إليه السلف «4» .
__________
(1) الشاطبية ص 149، مرجع سابق.
(2) انظر: تحفة الأحوذي (8/ 220) ، مرجع سابق.
(3) انظر: النشر في القراات العشر (2/ 449) ، مرجع سابق.
(4) انظر: النشر في القراات العشر 2/ 440، مرجع سابق.
(1/316)
________________________________________
رابعا: علمهم صلى الله عليه وسلم تنزيه الله سبحانه وتعالى أو تصديقه، والشهادة لرسوله صلّى الله عليه وسلم بالبلاغ حال الانتهاء من قراءته:
فمن اداب ختمه إذا انتهت قراءته أن يصدّق ربه جل جلاله، ويشهد بالبلاغ لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويشهد على ذلك أنه حق، ولا يقتصر في ذلك على لفظ بعينه بل بأي لفظ حصل المقصود شرع «1» ، وقد ناقش بعضهم هذه المسألة من زاوية فقهية «2» ، والبحث يذكرها هنا من حيث تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه هذا الأدب:

بعض الألفاظ المشروعة عند الانتهاء من القراءة:
قد وردت مشروعية أن يقول المقرئ للقارئ حسبنا، أو حسبك، أو أمسك لورود روايات مختلفة في هذا الشأن فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي» قلت: يا رسول الله! اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال:
«نعم!» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الاية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (النساء: 41) قال: «حسبك الان» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان «3» وفي رواية فدمعت عيناه وقال حسبنا «4» وفي لفظ قال أمسك وعيناه تذرفان «5» ، ولكن ليس شيء من هذا يدل على تخصيص هذا
__________
(1) فلا يرد على هذا التقرير التبديع بلزوم لفظ معين، مع أن ما سيرد عن الصحابة من تعلم من النبي صلّى الله عليه وسلم ينفي ذلك.
(2) انظر- مثلا-: لؤي محمد قبيصي علي الشريف: القسطاس المستقيم في بيان مدى مشروعية صدق الله العظيم عقب تلاوة القران الكريم، المجموعة المتحدة للطباعة، القاهرة، ط بدون، وما ذكر هاهنا أضعاف ما استشهد به من السنة وهو يصح أن يكون أدلة له.
(3) البخاري (4/ 1925) ، مرجع سابق.
(4) النسائي في السنن الكبرى (5/ 28) ، مرجع سابق.
(5) النسائي في السنن الكبرى (5/ 29) ، مرجع سابق.
(1/317)
________________________________________
اللفظ بالذكر حال الانتهاء من القراءة، ويدل على هذا تعدد اللفظ، ولعل المراد من التبويب بيان جواز الإسكات بأي لفظ كان، مع أن المتكلم يرتل كلام الله سبحانه وتعالى، وعدم ذكر التصديق ونحوه من ألفاظ التعظيم والتنزيه هنا لا يدل على العدم المطلق.

أدلة مشروعية الصدقلة «1» أو ما يقوم مقامها من ألفاظ التنزيه:
ويستدل لذلك- حال وجود ضرورة للاستدلال هنا- بقول الله عزّ وجلّ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ (ال عمران: 95) ، «أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القران» «2» ، والاستماع إلى القران استماع لخبر الله عزّ وجلّ وكلامه- أخبارا أو أحكاما- فكيف لا يصدق عند الانتهاء من الاستماع وقد علمنا النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك بهذه الاية والمعنى «قل يا محمد صدق الله فيما أخبرنا به» «3» ، وقد فعل النبي صلّى الله عليه وسلم وأنفذ أمر الله عزّ وجلّ في نفسه فكان يقول صدق الله في مواقف متعددة منها:
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اسقه عسلا» فسقاه، ثم جاءه فقال:
إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا، فقال له ثلاث مرات ثم جاء الرابعة فقال: «اسقه عسلا» فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«صدق الله وكذب بطن أخيك» فسقاه فبرئ «4» ، وما قال ذلك إلا أنه استحضر قوله سبحانه وتعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ (النحل: 69) .
__________
(1) أي صدق الله العظيم، وهو مصدر منحوت كالبسملة والحوقلة.
(2) ابن كثير (1/ 383) ، مرجع سابق.
(3) الطبري (4/ 6) ، مرجع سابق.
(4) البخاري (5/ 2135) ، مسلم (4/ 1736) ، مرجع سابق.
(1/318)
________________________________________
2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان معاذ يصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع فيصلي بأصحابه فرجع ذات يوم فصلى بهم وصلى خلفه فتى من قومه فلما طال على الفتى صلى وخرج فأخذ بخطام بعيره وانطلقوا فلما صلى معاذ ذكر ذلك له فقال إن هذا لنفاق لأخبرن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى فقال الفتى: يا رسول الله! يطيل المكث عندك ثم يرجع فيطول علينا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفتان أنت يا معاذ؟» وقال للفتى: «كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت؟» قال: أقرأ بفاتحة الكتاب، وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، وإني لا أدري ما دندنتك ودندنة معاذ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إني ومعاذ حول هاتين أو نحو ذي» قال: قال الفتى: ولكن سيعلم معاذ إذا قدم القوم، وقد خبروا أن جيش العدو قد دنا قال: فقدموا قال: فاستشهد الفتى. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك لمعاذ: «ما فعل خصمي وخصمك؟» قال: يا رسول الله! صدق الله وكذبت استشهد «1» . وذلك أنه استحضر قول الله جل جلاله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (النجم: 32) .
3- وعن بريدة بن حصيب رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر يخطب إذ أقبل الحسن والحسين يمشيان ويعثران عليهما قميصان أحمران قال:
فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحملهما ثم قال: «صدق الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
(التغابن: 15) إني رأيت هذين الغلامين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما» «2» .
__________
(1) ابن خزيمة (3/ 64) ، مرجع سابق.
(2) ابن خزيمة (2/ 355) ، مرجع سابق.
(1/319)
________________________________________
وأثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين لما قالوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (الأحزاب: 22) ، وذلك أنهم استحضروا إخبار الله عزّ وجلّ بنصر المؤمنين في الايات المختلفة، وإخبار النبي صلّى الله عليه وسلم لهم بهزيمة الأحزاب وذلك وحي لا غير.
وكان هذا ديدن العلماء عند ذكر كلام لله سبحانه وتعالى يقتضي المقام منهم إظهار هذه الكلمة، قال القرطبي عند قوله سبحانه وتعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (الذاريات: 22) «فإنا نقول صدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم وأن الرزق هنا المطر» «1» .

وقد تعلم الصحابة رضي الله عنهم هذا من نبيهم صلّى الله عليه وسلم فكانوا يرددون التصديق بصفة خاصة عند استحضار شيء من كلام الله سبحانه وتعالى:
1- فقد فعل ذلك علي رضي الله عنه لما رأى الرجل المخدج بين قتلى الخوارج ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله «2» وكان هذا ديدنه رضي الله عنه، فقد قالت عائشة:
قالت: أجل صدق الله ورسوله يرحم الله عليا إنه كان من كلامه لا يرى شيئا يعجبه إلا قال صدق الله ورسوله فيذهب أهل العراق فيكذبون عليه ويزيدون عليه في الحديث «3» ، وفي هذا دليل على التفوه بما يدل على تنزيه الله وتعظيمه وتصديقه عند رؤية ما يعجب من خبر الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلم، فما يفعل المرء بالخبر الأعجب- القران الكريم-؟.
2- وقال معاوية- وهو من كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم- لما حدثه رجل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن أول ثلاثة الذين تسعر بهم النار بعد أن بكى معاوية بكاء شديدا فقال: «صدق الله ورسوله مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
__________
(1) القرطبي (13/ 15) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (2/ 742) ، مرجع سابق.
(3) الضياء في المختارة (2/ 225) ، مرجع سابق.
(1/320)
________________________________________
أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (هود: 15- 16) » «1» .
3- ومن ذلك أنه جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريا بني فقال زيد: ما يريبك من يدي إنها الشمال فقال الأعرابي: «والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال زيد ابن صوحان: صدق الله ورسوله الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ (التوبة: 97) » «2» .
4- وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فقد لقيه رجل فقال: السلام عليك يا ابن مسعود فقال عبد الله: صدق الله ورسوله سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يقول: «إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين وألايسلم الرجل إلا على من يعرف» «3» ، ولم يرد في السنة أن يقول الإنسان صدق رسول الله عما قاله رسول الله، إلا من فعل الصحابة فكذلك في قول الله عزّ وجلّ، وهو أعظم وأجل ... ولكنه الأدب مع الله ورسوله، والبدهية عند سماع خبره، أو قوله أو تذكره.
ولا يعترض على هذا التقرير بأن الصدق له «ذكر مطلق، فتقييده بزمان أو مكان، أو حال من الأحوال، لابد له من دليل، إذا الأذكار المقيدة لا تكون إلا بدليل، وعليه: فإن التزام هذه بعد قراءة القران، لا دليل عليه، فيكون غير
__________
(1) ابن حبان (2/ 138) ، الطبري (21/ 13) ، مرجعان سابقان.
(2) ابن كثير (2/ 483) ، مرجع سابق.
(3) ابن خزيمة (2/ 283) ، مرجع سابق.
(1/321)
________________________________________
مشروع، والتعبد بما لم يشرع من البدع، فالتزامها والحال هذه بدعة» «1» لأن الباحث لا يقول بالتزامها دوما بلفظها، وتراجع تقسيمات العز بن عبد السلام للبدعة؛ إذ ذكر العز أن من البدع ما يكون مشروعا واجبا أو مندوبا أو مباحا على تفصيل مهم في هذا الباب «2» .

وأما الشهادة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بالبلاغ:
فهي السنة التي تعلمناها من النبي صلّى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم:
1- عن أبى بكرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشرة شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» ثم قال: «أي شهر هذا» قلنا: الله ورسوله اعلم قال: فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس ذا الحجة» قلنا: بلى! قال: «أي بلد هذا» قلنا: الله ورسوله اعلم. قال: فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس ذا البلدة» قلنا:
بلى! قال: «أي يوم هذا» قلنا: الله ورسوله اعلم، قال: «أليس يوم النحر؟» قلنا:
بلى! قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم إلا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض إلا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعل بعض من يبلغه يكون أوعي له من بعض من سمعه» قال: فكان محمد إذا ذكره يقول:
صدق الله ورسوله قد كان ذاك ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «ألا هل بلغت ألا هل بلغت» «3» .
__________
(1) معجم المناهي اللفظية ويليه فوائد في الألفاظ ص 337.
(2) انظر: (العز) أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمى ت 660 هـ: قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 172) ، دار الكتب العلمية، بيروت.
(3) ابن حبان (13/ 313) ، مرجع سابق.
(1/322)
________________________________________
2- وعن أبي مسلم الخولاني حج فدخل على عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم فجعلت تسأله عن الشام وعن بردها فجعل يخبرها فقالت: كيف يصبرون على بردها؟ قال: يا أم المؤمنين! إنهم يشربون شرابا لهم يقال له الطلا قالت: صدق الله وبلغ حبي صلّى الله عليه وسلم سمعته يقول: «إن ناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها» «1» .
3- وعن أبي سنان الدؤلي صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: رأيت عمار ابن ياسر دعا غلاما له بشراب فأتاه بقدح من لبن فشربه ثم قال: صدق الله ورسوله اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن اخر شيء أزوده من الدنيا ضيحة لبن» ثم قال: «والله لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق وأنهم على باطل» «2» .
والأمثلة في هذا الباب كثيرة، نجتزئ بهذه.

خامسا: تعليمه صلّى الله عليه وسلم الدعاء عند ختم القران:
فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة، ومن ختم القران فله دعوة مستجابة» «3» ، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مع كل ختمة دعوة مستجابة» «4» وقد ذكر البيهقي وغيره «5» ثلة من أحاديث الختم لعلها صالحة للاعتبار مقبولة في هذا الباب من
__________
(1) الحاكم (4/ 164) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» .
(2) مجمع الزوائد (9/ 297) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني وإسناده حسن» .
(3) مجمع الزوائد (7/ 172) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني وفيه عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف» .
(4) شعب الإيمان (2/ 374) ، مرجع سابق، وقال البيهقي: «في إسناده ضعف والله أعلم وروي من وجه اخر ضعيف عن أنس» .
(5) انظر: شعب الإيمان (2/ 373) ، مرجع سابق.
(1/323)
________________________________________
الفضائل، وقال البيهقي: «قال أحمد: وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في دعاء الختم حديث منقطع بإسناد ضعيف، وقد تساهل أهل الحديث في قبول ما ورد من الدعوات وفضائل الأعمال ما لم تكن من رواته من يعرف بوضع الحديث أو الكذب في الرواية» «1» وأخذ بذلك أصحابه رضي الله عنهم فعن ثابت أن أنس ابن مالك كان إذا ختم القران جمع أهله وولده فدعا لهم «2» ، وعن الحكم بن عتيبة قال:
كان مجاهد، وعبدة بن أبي لبابة، وناس؛ يعرضون المصاحف فلما كان اليوم الذي أرادوا أن يختموا أرسلوا إلي، وإلى سلمة بن كهيل، فقالوا: إنا كنا نعرض المصاحف فأردنا أن نختم اليوم فأحببنا أن تشهدونا فإنه كان يقال: إذا ختم القران نزلت الرحمة عند خاتمته، أو حضرت الرحمة عند خاتمته «3» ، وكان محمد بن إسماعيل البخاري إذا كان أول ليلة من شهر رمضان اجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم فيقرأ في كل ركعة عشرين اية إلى أن يختم القران وكذلك يقرأ في ***** ما بين النصف إلى الثلث من القران فيختم عند ***** في كل ثلاث ليال وكان يختم بالنهار كل يوم ختمه، ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة «4» .
وأما قول بعض المعاصرين: «ولا حديث يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فهي ما بين موضوع أو ما يتقاعد عن الجابر، ولم يصح سوى قول مجاهد رحمه الله تعالى..» «5»
__________
(1) انظر: شعب الإيمان (2/ 371) ، مرجع سابق.
(2) مجمع الزوائد (7/ 172) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» .
(3) مرويات دعاء ختم القران ص 27، مرجع سابق، وقال: «وعن مجاهد قال: «الرحمة تنزل عند ختم القران» ورواه سعيد بن منصور في سننه بلفظ: «من ختم القران أعطي دعوة لا ترد» ، وأشار الحافظان: النووي، وابن حجر إلى أن أسانيده صحيحة موقوفا» .
(4) شعب الإيمان (2/ 416) ، مرجع سابق.
(5) القائل هو الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد. انظر: مرويات دعاء ختم القران ص 34، مرجع سابق.
(1/324)
________________________________________
فغير ضائر في إثبات مشروعية الدعاء عند الختم؛ إذ كان ذلك فعل أنس، وفعل بعض التابعين وفق نقده هو؛ ولذا قال: «وأما الرواية في حضور الأهل والأولاد للختم: فثابتة من فعل الصحابي الجليل أنس رضي الله عنه، وروايته له مرفوعا لا تصح» «1» .
وأما قوله: «ولعله لما كانت الرواية في هذا الباب لا يثبت منها شيء في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خلت منها دواوين الإسلام المشهورة كالستة والموطأ، ومسند أحمد- تنكب المؤلفون في الأحكام ذكر هذا الباب بالكلية، أمثال: ابن دقيق العيد في «الإلمام» والمجد في «المنتقى» وابن حجر في «البلوغ» وغيرهم، لا يعرجون على شيء من ذلك» «2» فما الضير في ذلك؟ إذ كانوا قد فعلوا في غيرها من الكتب كالبيهقي والنووي ... وقد قرر القائل ذاته مشروعية الدعاء عقب الختم فقال:
«ودعاء القارئ لختم القران خارج الصلاة، وحضور الدعاء في ذلك: - أمر مأثور من عمل السلف الصالح من صدر هذه الأمة» : كما تقدم من فعل أنس وقفاه جماعة من التابعين والإمام أحمد، ولأنه من جنس الدعاء المشروع، وتقدم قول ابن القيم رحمه الله تعالى: «وهو من اكد مواطن الدعاء ومواطن الإجابة» «3» .
نعم ما ذكره بعد من عدم وضوح الدليل على دعاء الختم في الصلاة فصحيح لا مراء وإن كان قول أحمد لما قيل له: إلى أي شيء تذهب في هذا، قال: رأيت أهل مكة يفعلونه ... : دليل على أن له سنة مندثرة كانت عامة مشتهرة ولا يضير اندثارها أن يعمل بها دون اشتهار وحرص حذو التكبير، وشأنهم في هذا شأن
__________
(1) انظر: مرويات دعاء ختم القران ص 34، مرجع سابق.
(2) مرويات دعاء ختم القران ص 34، مرجع سابق، وهناك ملحوظات أخرى على هذا الجزء ليس هذا ميدانها.
(3) مرويات دعاء ختم القران ص 72، مرجع سابق.
(1/325)
________________________________________
القراءة التي ثبتت عندهم وكتبت في مصاحفهم دون غيرها كقراءة (من) في الاية (100) من براءة، ولا تحتاج الألوف المؤلفة من سكان المصرين إلى متابع، أو شاهد ... بل هل لا بد من (الاعتبار) بمعناه في مصطلح الحديث ليقبل فعلهم؟.

سادسا: تعليمه صلّى الله عليه وسلم التكبير:
إذا وصل القارئ إلى سورة الضحى فإنه يكبر من أولها فيقول الله أكبر، وقد يكبر من اخرها، وقد يضيف إلى التكبير التهليل في أوله وقد يضيف التحميد في اخره.

المستند في تعليمه صلّى الله عليه وسلم التكبير:
جاءت الرواية به عن ابن كثير القارئ: قال تلاميذه: «قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمره بذلك» ولكن هذه السنة تفرد بها رواية (حديثية) أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة وكان إماما في القراات فأما في الحديث فقد ضعفه بعض أئمة الجرح والتعديل لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة فقال أحسنت وأصبت السنة وهذا يقضي صحة هذا الحديث عند الشافعي «1» ، وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى «أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة وجاءه الملك فأوحى إليه «والضحى والليل إذا سجى» السورة بتمامها كبر فرحا وسرورا ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف» «2» .
__________
(1) إبراز المعاني ص 735، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (4/ 522) ، مرجع سابق.
(1/326)
________________________________________
- بعد هذا العرض الحديثي- هل التكبير مما علمه النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه؟:
فهذا مما علمه النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه حال الختم، وإن ضعف البعض هذا الحديث، وذلك يتجلى بما يلي:
1- هذا التفرد في هذه الرواية الحديثية- القرائية، عضده عمل أهل مكة، فقد قال الفاكهي: «ويروى عن بعض من مضى من قراء أهل مكة أنهم كانوا في الختمة إذا بلغوا والضحى كبر الخاتم بعد فراغه من كل سورة يقول الله أكبر في الصلاة ثم تركوا ذلك بعد وجعلوا التكبير عند قراءة القران في المسجد الحرام في غير شهر رمضان ثم تركوه بعد ذلك» «1» ، فهي بذا سنة قديمة عليها عمل أهل مكة، وتلقي أهل مكة لها بالقبول زمنا مع كونها تروى في حلقات الإقراء عن البزي، وقد تروى عن قنبل، بل وعن سائر القراء العشرة الذين تتناقل قراءتهم إلى اليوم تلاوة للقران الكريم ... كل هذا يجعلها مقبولة داخلة ضمن منهاج التواتر القرائي، بل إن ابن الجزري قال: «التكبير صح عند أهل مكة قرائهم وعلمائهم وأئمتهم ومن روى عنهم صحة استفاضت واشتهرت وذاعت حتى بلغت حد التواتر ... ووردت أيضا عن سائر القراء «2» ، وقال أبو الطيب عبد المنعم بن غلبون:
وهذه سنة مأثورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين وهي سنة بمكة لا يتركونها البتة ولا يعتبرون رواية البزي ولا غيره» «3» .
2- وهذه السنة بمكة شوهدت في زمن ابن الجزري فقد وصف ذلك بقوله:
«ولما من الله تعالى علي بالمجاورة بمكة ودخل شهر رمضان فلم أر أحدا ممن صلى
__________
(1) (الفاكهي) محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي أبو عبد الله ت 275 هـ: أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه (2/ 156) ، تحقيق: د. عبد الملك عبد الله دهيش دار خضر، بيروت، ط 2، 1414 هـ.
(2) النشر في القراات العشر (2/ 440) ، مرجع سابق.
(3) إبراز المعاني من حرز الأماني في القراات السبع ص 736، مرجع سابق.
(1/327)
________________________________________
التراويح بالمسجد الحرام إلا يكبر من الضحى عند الختم فعلمت أنها سنة باقية فيهم إلى اليوم» «1» .
3- معلوم أن الأمر إن عاد إلى الرواية القرائية فإن منهاجها في جعل القراءة قراءة أن ترويه وفق قواعدها وضوابطها لا وفق قواعد الحديث بالضرورة، وهذه الرواية التي تتداولها أمهات كتب القراات رواية وعملا مقبولة عند القراء بلا مخالف ... وذلك كاف في إثباتها ... وإلا لقيل أين السند الحديثي للإدغام، والإظهار، وتخفيفات الهمز، وتحقيقاته، والإمالة والفتح، والترقيق والتفخيم ... ،
بل أين سند البخاري ومسلم وجامعي الحديث في أن كلمات سورة البقرة (الم ... )
وأن كلمات سورة النساء (يا أيها الناس ... ) ؟ ... ومثل هذا العوج في التفكير، والخلط بين مناهج العلوم مدمر لأسس العلم، والدين والعقل ...
4- ولأجل ذلك قبله الأئمة وعلى رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل فقد «قال في المغني والشّرح: واستحسن أبو عبد الله التّكبير عند اخر كلّ سورة من الضّحى إلى أن يختم، والرّواية الثّانية يكبّر من أوّل أَلَمْ نَشْرَحْ اختاره المجد (قلت) قد صحّ هذا وهذا عمّن رأى التّكبير، فالكلّ حسن، وتحرير النّقل عن القرّاء أنّه وقع بينهم اختلاف، فرواه الجمهور من أوّل ألم نشرح أو من اخر الضّحى على خلاف.. «2» ..
5- وقبل أحمد ذلك لأن المنهج القرائي يلزم بالقبول وذلك لأن التكبير هو قراءة أهل مكّة أخذها البزّيّ عن ابن كثير وأخذها ابن كثير عن مجاهد وأخذها
__________
(1) النشر في القراات العشر (2/ 428) ، مرجع سابق.
(2) (ابن مفلح) محمد بن مفلح المقدسي أبو عبد الله ت 762 هـ: الفروع وتصحيح الفروع (1/ 494) ، تحقيق: أبو الزهراء حازم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ، وانظر: المغني (1/ 458) ، مرجع سابق.
(1/328)
________________________________________
مجاهد عن ابن عبّاس وأخذها ابن عبّاس عن أبيّ بن كعب وأخذها أبيّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقال الماورديّ: كان ابن عبّاس يفصل بين كلّ سورتين بالتّكبير من الضّحى وهو راوي قرّاء مكّة «1» .
6- ولذلك تعد سنة التكبير من سنن القراءة لا من السنن (مطلقا) وهي التي تثبت عادة بالمنهج الحديثي فقد سئل ابن حجر الهيثمي عن استحباب التّكبير من سورة الضّحى إلى الاخر هل هو مختصّ بمن يختم القران من أوّله إلى اخره أو عامّ فيمن ابتدأ القراءة أو ممّا قبلها وفيمن ابتدأها ممّا بعدها؟ وكيف الحكم في ذلك؟ (فأجاب) بقوله: الّذي حكاه الزّركشيّ عن الحليميّ والبيهقيّ وابن الجزريّ في النّشر عن طوائف من السّلف وجمع من متأخّري الشّافعيّة، وأطال فيه (أنّ من سنن القراءة التّكبير في اخر سورة الضّحى إلى أن يختم ... وقال الشّافعيّ: «إن تركت التّكبير فقد تركت سنّة من سنن نبيّك يقتضي تصحيحه لهذا الحديث) ، واقتضى إطلاقهم أيضا أنّه لا فرق بين القراءة بقراءة ابن كثير وغيرها» «2» .
7- ولكن قال أبو الفتح فارس بن أحمد: لا نقول إنه لا بد لمن ختم أن يفعله لكن من فعله فحسن ومن لم يفعله فلا حرج عليه وهو سنة مأثورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين «3» .
وهذا يدل على أن أمر التكبير اختياري ولا تعلق له بالقران فلا وجه للمحافظة الشديدة ولا للتبديع أيضا.
__________
(1) (ابن مفلح) محمد بن مفلح بن محمد المقدسي ت 762 هـ: الاداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 34) ، عالم الكتب.
(2) (ابن حجر) أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي ت 973 هـ: الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 345) ، المكتبة الإسلامية، عمان.
(3) النشر في القراات العشر (2/ 411) ، مرجع سابق.
(1/329)
________________________________________
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الوقف:
فقد علمهم صلّى الله عليه وسلم الوقف والابتداء كما قال ابن عمر رضي الله عنه: ... وتنزل السورة على محمد صلّى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وامرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القران ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القران قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدرى ما امره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل «1» ، فقوله: (وما ينبغي أن يقف عنده منها) تحتمل الوقف الاصطلاحي عند أئمة الإقراء وهو الظاهر إذ لو رجح غيره لما كان ثم فائدة لما قبله؛ إذ ما قبله من وصف يدل على الوقف المعنوي ... وقد علمهم صلّى الله عليه وسلم الوقف عند رؤوس الاي فعن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطع قراءته [اية اية] يقول بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ثم يقف الرحمن الرحيم ثم يقف «2» أي يقف عند كل اية ...
وحاول أهل العلم تبسيط ذلك على الناس، فاصطلحوا على تسمية الأوقاف بتسمية معينة حسب حسن الوقف، لا حسب حسن القران إذ القران كله حسن فقالوا: «الوقف على مراتب: أعلاها التام، ثم الحسن، ثم الكافي، ثم الصالح ثم المفهوم، ثم الجائز، ثم البيان، ثم القبيح،.. «3» . وأكثر ما ذكر الناس في أقسامه غير منضبط ولا منحصر «4» .
__________
(1) البيهقي في الكبرى (3/ 119) ، مرجع سابق.
(2) أبو داود (4/ 37) ، الترمذي (5/ 185) ، وخرجه الدارقطني (1/ 312) وقال: «إسناده صحيح وكلهم ثقات» .
(3) (الأنصاري) : شيخ الإسلام أبي يحي زكريا الأنصاري: المقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف والابتدا ص 5- بذيل منار الهدى ط 2، 1393 هـ/ 1973 م.
(4) النشر في القراات العشر (1/ 255) ، مرجع سابق.
(1/330)
________________________________________
ولكن أهناك أوقاف محرمة في القران الكريم، وأوقاف واجبة؟ ...
يذهب بعض العلماء كالبقاعي إلى أنه لا وقف تام في كتاب الله، فالاصطلاحات للتقريب والتبسيط، وبيان القبح في السمع أو الحسن، لا أنه يجب شيء من ذلك أو يحرم لعدم النص، فما كان من جهة الوقف فإنه لا يجب على القارئ الوقف على محل معين بحيث لو تركه يأثم، ولا يحرم الوقف على كلمة بعينها إلا إذا كانت موهمة وقصدها ... فإن اعتقد معناها كفر والعياذ بالله كأن وقف على قوله إن الله لا يستحيى- وما من إله- وإني كفرت وشبه ذلك ...
ومعنى قولهم لا يوقف على كذا معناه أنه لا يحسن الوقف صناعة على كذا، وليس معناه أن الوقف يكون حراما أو مكروها بل خلاف الأولى إلا أن تعمد الوقف على نحو قوله (لقد كفر الذين قالوا) ونحو قوله: (لقد سمع الله قول الذين قالوا) وابتدأ بما بعد ذلك فيحرم عليه فإن اعتقد معناه كفر كما هو ظاهر «1» ، وفي ذلك يقول ابن الجزري:
وليس في القران من وقف وجب ... ولا حرام غير ماله سبب «2»
ويقول في النشر: «قول الأئمة لا يجوز الوقف على المضاف دون المضاف إليه، ولا على الفعل دون الفاعل، ولا على الفاعل دون المفعول، ولا على المبتدأ دون الخبر ... إلى اخر ما ذكروه وبسطوه من ذلك إنما يريدون بذلك الجواز الأدائي وهو الذي يحسن في القراءة، ويروق في التلاوة، ولا يريدون بذلك أنه حرام ولا مكروه بل أرادوا بذلك الوقف الاختياري الذي يبتدأ بما بعده، وكذلك لا يريدون بذلك أنه لا يوقف عليه البتة فإنه حيث اضطر القارئ إلى الوقف على
__________
(1) نهاية القول المفيد في علم التجويد ص 25، مرجع سابق.
(2) طيبة النشر ص 37، مرجع سابق.
(1/331)
________________________________________
شيء من ذلك باعتبار قطع النفس أو نحوه من تعليم أو اختبار جاز له الوقف بلا خلاف عند أحد منهم ثم يعتمد في الابتداء ما تقدم من العود إلى ما قبل فيبتدئ به، اللهم إلا من يقصد بذلك تحريف المعنى عن مواضعه، وخلاف المعنى الذي أراد الله تعالى فإنه والعياذ بالله يحرم عليه ذلك ويجب ردعه بحسبه على ما تقتضيه الشريعة المطهرة» «1» .
ولذا ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الغداة فقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وب (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) وفي الثانية بفاتحة الكتاب وب (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) ثم سلم، وأي مقتدى به أعظم من ابن عباس ترجمان القران «2» .

تنبيه:
وليس المراد من هذا تهوين شأن الوقف، وتحسين التلعب بأوقاف القران، فإن الناس يمقتون من يعي في الحديث العابر أو يعبث به، ويعدونه ذا خلل، بل يراعي المغنون الأوقاف في كلامهم ليجعلوا السامع أمام وقع أعظم تأثيرا ... وكلام الله أحسن الكلام، يؤدى بأحسن أداء ترتيلا، وتغنيا، وقفا وابتداء، ومعرفة الوقف الحسن فيه كما قال الإمام الهذلي: «الوقف حلية التلاوة، وزينة القارئ، وبلاغ التالي، وفهم المستمع، وفخر العالم ... » «3» .. ولكن الضرورة اقتضت الإشارة إلى هذه الحقيقة الخافية عن بعض الذين يغالون في هذا الباب فيوغلون ... ولأن الكلام عن تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فإنه قد يرد على البحث سؤال عن الأوقاف الاصطلاحية: هل علمها النبي صلّى الله عليه وسلم كما هي الان؟.
__________
(1) النشر في القراات العشر (1/ 230) ، مرجع سابق.
(2) النشر في القراات العشر (1/ 234) ، مرجع سابق.
(3) (الهذلي) : الكامل في القراات ورقة (55) وجه أ، مرجع سابق.
(1/332)
________________________________________
المطلب الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الجهر والإسرار بقراءة القران:
1- علمهم صلّى الله عليه وسلم أن الجهر بالقراءة هو الأصل في قراءة القران، ويشرع مشروعية مؤكدة إذا أريد منه التعليم أو الاقتداء أو تعظيم شعائر الله، أو التعود على الترنم بكلام الله ليكون هجيراه، ويدل على ذلك أنه كان يرفع صوته بالقراءة في قيامه بالليل تعليما وتنبيها فعن كريب قال سألت ابن عباس فقلت: كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالليل؟ فقال: كان يقرأ في بعض حجره فيسمع قراءته من كان خارجا «1» وعن أم هانئ قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بالليل وأنا على عريشي بمكة «2» كما يدل على هذا جهره بالقراءة وهو راكب على ناقته عند فتح مكة، ففي ذلك «إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار وهو عند التعليم وإيقاظ الغافل ... » «3» كما أقر أبا بكر رضي الله عنه على قراءته رفع صوته بالقران في بيته، بل كان يحث عليه أصحابه، ويثني عليهم إن سمعهم فعن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال: «يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا اية كنت أسقطتها (ولفظ البخاري أنسيتها) من سورة كذا وكذا» «4» ، وعن جابر رضي الله عنه قال: رؤى في المقبرة ليلا نار فإذا النبي صلّى الله عليه وسلم في قبر وهو يقول:
«ناولوني صاحبكم» ، وفيه: هو الرجل (الأواه) الذي كان يرفع صوته بالقران «5» وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين: إنه أواه وذلك إنه كثير الذكر لله عز وجل في القران وكان يرفع صوته في الدعاء «6» .
__________
(1) البيهقي في سننه الكبرى (3/ 11) ، مرجع سابق.
(2) شعب الإيمان (2/ 383) ، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (9/ 92) ، مرجع سابق.
(4) البخاري (4/ 1929) ، مسلم (1/ 543) واللفظ له، مرجعان سابقان.
(5) شرح معاني الاثار (1/ 512) ، مرجع سابق، وأوله في الحاكم (1/ 523) ، مرجع سابق.
(6) مجمع الزوائد (9/ 369) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد والطبراني وإسنادهما حسن» .
(1/333)
________________________________________
2- وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى له أن يسلكوا طريقا وسطا في قراءة القران بين الجهر والإسرار- لعارض خارجي يمنع الجهر- فعن ابن عباس في قوله عز وجل قال تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها (الإسراء: 110) قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلم متوار بمكة فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقران فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القران ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون قراءتك وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك أسمعهم القران ولا تجهر ذلك الجهر وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا يقول بين الجهر والمخافتة «1» ... وهذا يدل على أصالة الجهر أيضا، وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك حتى في المدينة لدرء مفسدة مترتبة على الجهر الشديد من إزعاج نائم ونحو ذلك فعن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم مر بأبي بكر وهو يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته قال فلما اجتمعا عند النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: «يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك» فقال: «قد أسمعت من ناجيت» فقال: «مررت بك يا عمر وأنت ترفع صوتك» فقال يا رسول الله احتسب به أوقظ الوسنان قال فقال لأبي بكر «ارفع صوتك شيئا» وقال لعمر: «اخفض من صوتك شيئا» «2» .
3- وعلمهم صلّى الله عليه وسلم أنه يمكن المبادلة بين الجهر والإسرار لزيادة النشاط وطردا للفتور العارض، ومحافظة على الحزب اليومي بحسب نشاط المرء فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه كان إذا قام من الليل رفع صوته طورا وخفضه طورا وكان يذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك «3» وعن عبد الله بن أبي قيس أنه سأل عائشة
__________
(1) البخاري (4/ 1749) مسلم (1/ 329) ، مرجعان سابقان.
(2) الحاكم (1/ 454) ، مرجع سابق، ورواه البيهقي في سننه الكبرى (3/ 11) ، مرجع سابق.
(3) الحاكم (1/ 454) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .
(1/334)
________________________________________
- رضي الله تعالى عنها- كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الليل كان يجهر أم يسر؟ قالت: كل ذلك كان يفعل ربما يجهر وربما يسر قال قلت الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة «1» ، «وقد استحب بعض أهل العلم الجهر ببعضها والإسرار ببعضها لأن السر قد يمل فيأنس بالجهر والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار إلا أن من قرأ بالليل جهر بالأكثر ومن قرأ بالنهار أسر بالأكثر إلا أن يكون بالنهار في موضع لا لغو فيه ولا صخب ولم يكن في صلاة فيرفع صوته بالقران» «2» .
4- كما علمهم صلّى الله عليه وسلم عدم الجهر إن ترتب عليه الإيذاء، وخاصة في الصلاة فعن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يرفع الرجل صوته بالقران قبل العتمة وبعدها يغلط أصحابه في الصلاة «3» وفي لفظ لأبي يعلى: والقوم يصلون، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في قبة فكشف الستور وقال: «ألا كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة في الصلاة» «4» ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: «إن المصلي مناج ربه فلينظر ما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة» «5» .
__________
(1) الحاكم (1/ 454) ، مرجع سابق، شعب الإيمان (2/ 384) ، وانظر: مختصر الشمائل المحمدية ص 161، مرجع سابق.
(2) شعب الإيمان (2/ 383) ، مرجع سابق.
(3) مسند أحمد (1/ 104) ، أبو يعلى (1/ 384) ، مرجعان سابقان.
(4) الحاكم (1/ 454) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» ، وأخرجه كذلك البيهقي في سننه الكبرى (3/ 11) ، مرجع سابق.
(5) البيهقي في سننه الكبرى (3/ 11) ، مرجع سابق.
(1/335)
________________________________________
5- وكان يعلمهم الإسرار بالقران إذا خيف العجب والرياء «1» فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الجاهر بالقران كالجاهر بالصّدقة والمسرّ بالقران كالمسرّ بالصّدقة» «2» ، وبوب له ابن حبان: «ذكر البيان بأن قراءة المرء القران بينه وبين نفسه تكون أفضل من قراءته بحيث يسمع صوته» قال الترمذي: «ومعنى هذا الحديث أنّ الّذي يسرّ بقراءة القران أفضل من الّذي يجهر بقراءة القران لأنّ صدقة السّرّ أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية وإنّما معنى هذا عند أهل العلم لكي يأمن الرّجل من العجب لأنّ الّذي يسرّ العمل لا يخاف عليه العجب ما يخاف عليه من علانيته» وقال البيهقي رحمه الله: «وقد قال الله عزّ وجلّ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وهذا والله أعلم لأن إخفاءها يكون أبعد من الرياء وكذلك قراءة القران» «3» .
وعلمهم حدود الإسرار: فأقل الإسرار أن يحرك لسانه، فالقراءة النفسية لا تسمى قراءة: ولذا بوب البيهقي «باب لا تجزئه قراءته في نفسه إذا لم ينطق به لسانه» «4» ثم ذكر حديث أبي معمر عبد الله بن سخبرة قال: سألت خبابا: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الأولى والعصر قال نعم قال قلنا بأي شيء كنتم تعرفون ذاك قال باضطراب لحيته «5» قال البيهقي: «وفيه دليل على أنه لا بد من أن يحرك لسانه بالقراءة» «6» .
__________
(1) وانظر: التمهيد في علم التجويد ص 57، مرجع سابق.
(2) ابن جبان (3/ 8) ، والنسائي في السنن الكبرى (2/ 41) ، الترمذي (5/ 180) ، مراجع سابقة.
(3) شعب الإيمان (2/ 528) ، مرجع سابق.
(4) البيهقي في الكبرى (2/ 54) ، مرجع سابق.
(5) البخاري (1/ 264) ، مرجع سابق.
(6) البيهقي في الكبرى (2/ 54) ، مرجع سابق.
(1/336)
________________________________________
الفصل الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم جمع القران الكريم حفظا وكتابة «المخرجات التعليمية» :
ويبحث هذا الفصل في كيفية تعليمه صلّى الله عليه وسلم جمع القران الكريم استظهارا له، ووقاية لهذا الاستظهار بالكتابة، وعدم عرقلة عامل الصغر للمنهجية النبوية التعليمية لألفاظ القران الكريم، والألقاب التي ميز بها الشارع الحكيم أهل القران في المجتمع الإسلامي عن غيرهم، وما تستدعيه هذه الألقاب من صفات حتى يستحق أصحابها الدخول في هذه الفئة المتميزة ... كما يبحث في أئمة الإقراء من أصحابه رضي الله عنهم، وعددهم (مخرجات التعليم) ، وما يتبع ذلك من تعليمه صلّى الله عليه وسلم جمع القران كتابة بأمره لهم بذلك ومتابعته مع بقاء أميته صلّى الله عليه وسلم، وتعليمه صلّى الله عليه وسلم تحزيب القران وبيانه لعدد آياته، وتسمية سوره ...
واقتضى تحقيق البيان لهذه الغاية أن ينقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث:
المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه (منهجية النبي صلّى الله عليه وسلم في تعليم الصغار) .
المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ألقاب حامل القران وصفاته.
المبحث الثالث: أصحاب (تلاميذ) النبي صلّى الله عليه وسلم من أئمة الإقراء.
المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم جمع القران.
(1/337)
________________________________________
المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه «منهجية النبي صلّى الله عليه وسلم في تعليم الصغار» :

تعليمه صلّى الله عليه وسلم حكم تعليم الصبيان:
علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن تعليم الصبيان مستحب استحبابا متأكدا: وعلمهم صلّى الله عليه وسلم ذلك بقوله جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً (التحريم: 6) والمعنى كما قال غير واحد من السلف: معناه علّموهم ما ينجون به من النّار، وثبت في الصّحيحين عن ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «كلّكم راع ومسئول عن رعيّته» «1» ف: «الصّبيّ أمانة عند والديه، وقلبه الطّاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلّ نقش وصورة، وهو قابل لكلّ نقش وقابل لكلّ ما يمال به إليه، فإن عوّد الخير وعلّمه نشأ عليه وسعد في الدّنيا والاخرة، يشاركه في ثوابه أبواه وكلّ معلّم له ومؤدّب، وإن عوّد الشّرّ وأهمل شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم به والوليّ عليه، ومهما كان الأب يصون ولده من نار الدّنيا فينبغي أن يصونه من نار الاخرة، وهو أولى، وصيانته بأن يؤدّبه ويهديه ويعلّمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السّوء، ولا يعوّده التّنعّم، ولا يحبّب إليه الزّينة وأسباب الرّفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر ويهلك هلاك الأبد» «2» ، وقال ابن الحاج: «وينبغي له أن يمتثل السّنّة في الإقراء ومن جملة ذلك أنّ السّلف الماضين رضي الله عنهم أجمعين إنّما كانوا يقرئون أولادهم في سبع سنين» «3» .
__________
(1) البخاري (1/ 304) ، مسلم (3/ 1459) .
(2) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت: الموسوعة الفقهية (13/ 234) .
(3) المدخل لابن الحاج (2/ 345) ، مرجع سابق.
(1/338)
________________________________________
وقد بوب البخاري: باب تعليم الصبيان القران «1» «كأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك وقد جاءت كراهية ذلك عن سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وأسنده ابن أبي داود عنهما ولفظ إبراهيم: (كانوا يكرهون أن يعلموا الغلام القران حتى يعقل) ، وكلام سعيد بن جبير يدل على أن كراهة ذلك من جهة حصول الملال له ولفظه عند بن أبي داود أيضا: كانوا يحبون أن يقرأ الصبي بعد حين «2» ، فكلام من كره يدل على استحباب تعليم الصبي لكن بعد التمييز، لا فور النطق، وهو ما عضده ابن الحاج بقوله: «بل بعضهم يكون سنّه بحيث لا يقدر أن يمسك ضرورة نفسه بل يفعل ذلك في المكتب ويلوّث به ثيابه ومكانه فليحذر من أن يقرئ مثل هؤلاء إذ لا فائدة في إقرائه لهم إلا وجود التّعب غالبا وتلويث موضع القران وتنزيهه عن ذلك متعيّن ... » «3» .
... «وأما كلام سعيد بن جبير فيدل على ترك التعليم إذا خيف تسرب الملال من القران إلى الصبي، وهو أمر مطلوب بكل حال، فالأصل أن يحبب القران إليه لا أن يبغض ... » «4» .

منهجية النبي صلّى الله عليه وسلم في تعليم الصغار:
لم تختلف منهجية تعليم الصغار عن تعليم الكبار في عهده صلّى الله عليه وسلم: بل كانت تسير على الهيئة ذاتها: تعليم الألفاظ مع معانيها والعمل بها: الترتيل، الترجيع، حفظ القران ... ويدل لذلك مما علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم إياه:
__________
(1) البخاري (4/ 1922) ، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 83) ، مرجع سابق.
(3) المدخل لابن الحاج (2/ 345) ، مرجع سابق.
(4) فتح الباري (9/ 83) ، مرجع سابق.
(1/339)
________________________________________
1- أن ابن عباس بنباهته وذكائه ومع كونه ترجمان القران إلا أنه لم يتقن إلا المفصل مع وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم فقد بوب البخاري: «باب تعليم الصبيان القران» ثم روى عن سعيد بن جبير قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم قال: وقال ابن عباس: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم وفي لفظ:
جمعت المحكم في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت له: وما المحكم؟ قال: المفصل «1» .
2- ما رواه جندب قال: كنا غلمانا حزاورة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيعلمنا الإيمان قبل القران، ثم يعلمنا القران فازددنا به إيمانا وإنكم اليوم تعلمون القران قبل الإيمان «2» .

ومن دلائل الحديثين:
أن الصغار يبتدئون حفظهم من اخر القران لا من أوله، ومثلهم من يكون على شاكلتهم، وأنه لا حرج في هذا التنكيس، ورأى البعض في هذا الحديث ما يدل «على أنه يستحسن ألا يبلغ عشر سنين إلا وقد حفظ المفصل، ومعنى هذا أنه يبدأ بتعليمه في سن السابعة، إذ لا يحتاج الصغير إلى أكثر من ثلاث سنين ليحفظ المفصل ويجوده» «3» .
كما أن في الحديثين الدلالة الصريحة على اتباع تلك المنهجية دون تفريق بين صغار وكبار، إلا أنه لا شك في مراعاة مدى الاستيعاب بين الفئات المختلفة للمعاني والأحكام، فيدربون على ما يدرسه الراشدون بحسب الاستيعاب العقلي.
__________
(1) البخاري (4/ 1922) ، مرجع سابق.
(2) ابن ماجه (1/ 23) ، مرجع سابق، البيهقي في الكبرى (3/ 119) ، مرجع سابق، وقال في مصباح الزجاجة (1/ 12) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» .
(3) انظر: سنن القراء ص 51، مرجع سابق.
(1/340)
________________________________________
تدريب النبي صلّى الله عليه وسلم لهم:
كان من هديه صلّى الله عليه وسلم تدريبهم على أمور الكبار:
فقد كان صلّى الله عليه وسلم يسلم على الصبيان فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر على غلمان فسلم عليهم «1» .
وكان صلّى الله عليه وسلم يدخلهم في ثنايا الصف في الصلاة بحسب النضج العقلي مع أن الأصل أن صفوفهم متأخرة فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر بقبر قد دفن ليلا فقال: «متى دفن هذا؟» قالوا: البارحة قال: «أفلا اذنتموني؟» . قالوا:
دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك، فقام فصففنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه «2» .
وكان صلى الله عليه وسلم يخرجهم إلى مجامع المسلمين العامة كمصلى العيد، ولذا بوب البخاري: «باب خروج الصبيان إلى المصلى» «3» ، وذكر في ذلك حديث ابن عباس في خروجه إلى المصلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم.
وكان يخرجهم في الغزو للخدمة ومشاهدة القتال ولذا قال ابن حبان: ذكر إباحة خروج الصبيان إلى الغزو ليخدموا الغزاة في غزاتهم- ثم ذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة: «التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حتى اتي خيبر» فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم فكنت أخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل «4» .
__________
(1) صحيح مسلم (4/ 1708) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 444) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (1/ 331) ، مرجع سابق.
(4) ابن حبان (11/ 27) ، مرجع سابق.
(1/341)
________________________________________
وقد كانوا يجعلونهم أئمة لهم، ولا بد للإمامة من وقارها فقد قالت عائشة رضي الله عنها: كنا نأخذ الصبيان من الكتاب ليقوموا بنا في شهر رمضان فنعمل لهم القلية والخشكنانج «1» ، وقدم الأشعث غلاما فقيل له فقال: إنما قدمت القران «2» .

ضرورة المراعاة بين الفروق الفردية:
وهذه المراعاة للفروق الفردية والقدرات العقلية بين الكبار والصغار، بل بين أفراد الفئة الواحدة هي التي تسوغ أن يبدأ الصبي في تعلمه للقران الكريم من سورة الناس.
كما أن هذه المراعاة هي التي تجعل تعليم القران لبعض الصبيان محدودا لأن الكمية التي يتعلمها تختلف باختلاف الأشخاص.
__________
(1) البيهقي في الكبرى (2/ 495) ، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (1/ 305) ، مرجع سابق، وأخرجه ابن أبي داود كما قال ابن حجر في فتح الباري (9/ 83) ، مرجع سابق بإسناد صحيح.
(1/342)
________________________________________
المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ألقاب حامل القران وصفاته:
يتناول المبحث هذا الجانب من الناحية الأكثر تعلقا بالكتاب، وهي الأقرب لتعلم ألفاظ القران الكريم «1» ، ويبين الألقاب التي ميز بها الشارع الحكيم أهل القران في المجتمع الإسلامي عن غيرهم، وما تستدعيه هذه الألقاب من صفات حتى يستحق أصحابها الدخول في هذه الفئة المتميزة:
ولذا انقسم المبحث إلى ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم تلقيب القراء والمقرئين بألقاب مميزة.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم صفات حامل القران الذي يستحق هذه الألقاب.
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم تلقيب القراء والمقرئين بألقاب مميزة:

أولا: مصطلح (حامل القران) :
ذكر هذا المصطلح في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القران غير الغالي فيه ولا الجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط» «2» ، وفي قوله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يكترثون للحساب ولا تفزعهم الصيحة، ولا يحزنهم الفزع الأكبر: حامل القران يؤديه إلى الله بما فيه يقدم على ربه عز وجل سيدا شريفا حتى يوافق المرسلين ... » «3» ، وفي غير ذلك من
__________
(1) أفاض العلماء في ذكر صفات حملة القران، وألف الإمام الاجري لذلك (أخلاق حملة القران) وألف النووي (التبيان في اداب حملة القران) ، وانظر لمزيد من ذلك: القرطبي (1/ 20) ، مرجع سابق، وما بعدها.
(2) أبو داود (4/ 261) ، وقال في تلخيص الحبير (2/ 118) ، مرجع سابق: «وإسناده حسن» .
(3) شعب الإيمان (2/ 555) ، مرجع سابق، وقال محقق لمحات الأنوار (1/ 28) : وهو حسن بشواهده، مرجع سابق.
(1/343)
________________________________________
الأحاديث، وذكر هذا المصطلح على ألسنة الصحابة رضي الله عنهم فسالم مولى أبي حذيفة قيل له يوم اليمامة في اللواء: تخشى من نفسك شيئا فتولي اللواء غيرك فقال: بئس حامل القران أنا إذا فقطعت يمينه فأخذ اللواء بيساره، فقطعت يساره فاعتنق اللواء وهو يقول: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (ال عمران: 144- 146) فلما صرع قال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟ قيل: قتل قال: فما فعل فلان؟
لرجل قد سماه قيل: قتل قال: فأضجعوني بينهما «1» .

تحريره:
يدل على من يحفظ عن ظهر قلب كما هو واضح من كونه يحمل القران، وليس معتادا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم أن يحملوا مصاحفا معهم لعسر ذلك في وقتهم، فتعين أنه يريد من حفظه وقرأه عن ظهر قلب، وقد بين أهل العلم أن مصطلح حامل القران إنما يكون لمن «يلازمه بالتلاوة والعمل لا من يقرؤه ولا يعمل به» «2» ، ولا يدعى بحامل للقران من لا يرتل القران، ويتقن أداءه، فمن حفظ لفظه ولم يتقن أداءه فلا يدعى حاملا للقران ولا ينال الثواب المتميز الوارد في
__________
(1) الحاكم (3/ 252) ، وانظر: الجهاد ص 98 لابن المبارك، تحقيق: نزيه حماد، الدار التونسية، تونس، 1972 م.
(2) عون المعبود (4/ 237) ، مرجع سابق.
(1/344)
________________________________________
حملة القران وقرائه على ما قرره علماء الإسلام، إذ «يؤخذ من الحديث أنه لا ينال هذا الثواب الأعظم إلا من حفظ القران وأتقن أداءه وقراءته كما ينبغي له» «1» ، وعلى هذا فحملة القران «أي حفظته عن ظهر قلب المداومين لتلاوته العاملين بأحكامه» «2» العاملون بما فيه الواقفون عند حدوده ورسومه الامرون بما أمر به الناهون عما نهى عنه «3» ... ولكن الواقع هو الأخذ بالظاهر فينادى بهذا اللفظ من جمع القران ما دام لم يظهر منه علنا ما ينافي القران، مع الأخذ بعين الاعتبار الحقيقة السابقة.

ثانيا: مصطلح (صاحب القران) :
وورد مصطلح (صاحب القران) : في قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القران إذا دخل الجنّة اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكلّ اية درجة حتّى يقرأ اخر شيء معه» «4» ، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قام صاحب القران فقرأه بالليل والنهار ذكره..» «5» .

تحريره:
يدل على المؤالفة بين القران والإنسان الملقب بهذا اللقب؛ إذ المصاحبة هي المؤالفة، وهو كقوله سبحانه وتعالى: أَصْحابَ الْجَنَّةِ (القلم: 17) والإلف المطلوب هنا إلف لتلاوته وهو أعم من أن يألفها نظرا من المصحف، أو عن ظهر قلب فإن الذي يداوم على ذلك يذل له لسانه، ويسهل عليه قراءته، فإذا هجره ثقلت عليه
__________
(1) عون المعبود (4/ 237) ، مرجع سابق.
(2) فيض القدير (1/ 226) ، مرجع سابق.
(3) فيض القدير (2/ 19) ، مرجع سابق.
(4) ابن حبان (3/ 43) ، الحاكم (1/ 739) ، النسائي في الصغرى (1/ 560) ، الترمذي (5/ 177) ، وقال: «هذا حديث حسن صحيح» .
(5) رواه مسلم (1/ 536) ، مرجع سابق.
(1/345)
________________________________________
القراءة، وشقت عليه «1» ، ولكن المصطلح الشرعي حصر (صاحب بالقران) بمن يقرؤه عن ظهر قلب، ويحفظه غيبا فيما يظهر من قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «مثل القران إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه باللّيل والنّهار كمثل رجل له إبل فإن عقلها حفظها وإن أطلق عقلها ذهبت فكذلك صاحب القران» «2» ... إذ المفهوم العام يدل على أن المراد تنبيه الحافظ لديمومة حزبه ... وقد يعترض على هذا بأن الذي يترك قراءته نظرا أمدا طويلا ... يشق عليه بعد ذاك ... فيصدق على القارئ للمصحف نظرا هذا المصطلح، وهو ما يظهر أن ابن حجر حاول إثباته عندما قال: «وقوله إنما يقتضي الحصر على الراجح لكنه حصر مخصوص بالنسبة إلى الحفظ والنسيان بالتلاوة والترك» «3» ولكن ذلك غير راجح- وإن قبل- لأن الحفظ المذكور في الحديث يقرب أن يكون المراد عن ظهر قلب.

ثالثا: أهل القران:
وقد ورد هذا المصطلح في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن لله اهلين من الناس» قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القران هم أهل الله وخاصته» «4» ، وعن عبيدة المليكي رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «يا أهل القران لا توسدوا القران واتلوه حق تلاوته في اناء الليل والنهار، وأفشوه، وتغنوا به، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون ولا تستعجلوا ثوابه فإن له ثوابا» «5» ، وعن طاووس أنه سأل ابن
__________
(1) انظر: فتح الباري (9/ 80) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1920) ، مسلم (1/ 543) ، ابن حبان (3/ 42) ، مرجع سابق.
(3) انظر: فتح الباري (9/ 80) ، مرجع سابق.
(4) النسائي في الكبرى (5/ 17) ، ابن ماجة (1/ 78) ، وفي مصباح الزجاجة (1/ 29) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح ورجاله موثقون» .
(5) شعب الإيمان (2/ 350) .
(1/346)
________________________________________
عباس رضي الله عنه: ما معنى قول الناس: أهل القران عرفاء أهل الجنة. فقال: رؤساء أهل الجنة «1» .
وانتشر هذا المصطلح فيما بعد فقد جاء عن عبيد بن عمير كان يقول إذا جاء الشتاء: يا أهل القران طال الليل لصلاتكم، وقصر النهار لصيامكم فاغتنموا «2» .

رابعا: مصطلح (جمع القران) فالاسم منه جامع:
ورد هذا المصطلح في أحاديث عديدة ومنها: حديث أنس رضي الله عنه: جمع القران على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة ... الحديث، وحديث أبي هريرة في أول ثلاثة يقضى بينهم يوم القيامة وفيه: «فأول من يدعوا به رجل جمع القران ورجل يقتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم به أثناء الليل واناء النهار فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ... » الحديث «3» .

تحرير هذا المصطلح:
واضح أن المراد به القراءة عن ظهر قلب، ومن ذلك قول المحدث أبي صالح: لأن أكون جمعت القران ثم قمت به سنة كان أحب إلي من كذا وكذا، وذلك أنه بلغني أنه يقال لصاحب القران اقرأ وارق ورتل فيرجى إذا كان جمع القران أن يكون من المقربين «4» ، وقد يرد هذا المصطلح بمعنى كتابته كله
__________
(1) لسان العرب (9/ 239) ، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (2/ 344) ، مرجع سابق.
(3) ابن خزيمة (4/ 116) ، ابن حبان (2/ 136) ، الحاكم (1/ 579) ، الترمذي (4/ 591) ، مراجع سابقة.
(4) سعيد بن منصور (1/ 69) ، مرجع سابق.
(1/347)
________________________________________
حروفا وكلمات وايات وسورا هذا جمع في الصحائف والسطور وذاك جمع في القلوب والصدور «1» .

خامسا: مصطلح (حافظ القران) :
ورد في حديث الماهر بالقران قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مثل الذي يقرأ القران وهو حافظ له» «2» ، وورد بصيغة الفعل منه، وورد بلفظه في لغة التابعين فعن مكحول قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع فقلنا: يا أبا الأسقع حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس فيه وهم ولا تزيد ولا نسيان فقال:
هل قرأ أحد منكم من القران شيئا فقلنا نعم وما نحن له بالحافظين جدا إنا لنزيد الواو والألف وننقص.. «3» ..
وورد أصل اسم الفاعل وهو الفعل، وقد كثر هذا فعن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر ايات من أوّل سورة الكهف عصم من الدّجّال» «4» .
وقد شاع هذا المصطلح لموافقته لقول الله عزّ وجلّ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) ، ولأنه يحقق مراد مصطلح الصاحب والحامل وهو (الحافظ) ليطلقوه على من قرأ القران عن ظهر قلب ... ولذا كثر في عبارات المتأخرين ... ولا شك أن مصطلح (حامل القران) أكثر دلالة وظهورا على المطلوب مع التواضع الظاهر فيه مقارنة بمصطلح حافظ القران.
__________
(1) مناهل العرفان (1/ 167) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1882) ، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الكبير (2/ 54) ، مسند الشاميين (2/ 368) ، مرجعان سابقان.
(4) مسلم (1/ 555) ، الحاكم (2/ 399) ، أبو داود (4/ 117) ، مرجع سابق.
(1/348)
________________________________________
سادسا: مصطلح القارئ، وجمعه القراء:
وقد ورد كثيرا في الأحاديث النبوية وتقدم بعضها وسيأتي بعضها بعد هذا- إن شاء الله-.

تحرير هذا المصطلح:
بيان حقيقة هذا المصطلح مسألة جليلة تغافل عنها كثير من مؤسسات تعليم القران الكريم ولذا لا بد من التوسع في تبيينها فإن لمصطلح (القراء) عند القوم إطلاقين: مطلق العالم بما يتعلق بالكتاب والسنة، والجامع للقران الكريم الذي يقرؤه عن ظهر قلب، ولكن لم يكن الفرق بينا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين هذين المعنيين، ويدل على شمول مصطلح القارئ لمفهوم العالم قولها صلّى الله عليه وسلم: «فأول من يدعوا به رجل جمع القران ورجل يقتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم به أثناء الليل واناء النهار فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ... » الحديث «1» .
وهذان اللفظان: قارئ وعالم إن اجتمعا افترقا، وإن انفرد القارئ فالأصل فيه الدلالة على العلم، ويؤيد هذا الرواية الاخرى لهذا الحديث: «إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة ... ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القران فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القران قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القران ليقال هو قاريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ... » الحديث «2» .
__________
(1) ابن خزيمة (4/ 116) ، ابن حبان (2/ 136) ، الحاكم (1/ 579) ، الترمذي (4/ 591) ، مراجع سابقة.
(2) مسلم (3/ 1513) ، النسائي في الكبرى (6/ 477) ، مرجعان سابقان.
(1/349)
________________________________________
وغلب على الصحابة رضي الله عنهم علم نقل اللفظ القراني لأنه مادة البلاغ الأصلية حتى قال فيهم المنافقون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء «1» .
ومن هذا الباب: «أن القارئ لا يكون قارئا إلا مع فهم القران» قال ابن زيد في قوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (النحل: 43) : «الذكر القران» وقرأ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) ، وقرأ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ (فصلت: 41) «2» .
فقد دخل في معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القران وعلمه» «تعليم حروفه ومعانيه جميعا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان» «3» .
صفة أئمة الإقراء من أصحابه رضي الله عنهم: وهذه صفة تلاميذه (أصحابه) من القراء فقد كانوا أعلم الناس بالعلوم الشرعية فعن عبد الله بن مسعود قال: من تعلم القران فليتعلم الفرائض ولا يكن كرجل لقيه أعرابي فقال له: يا عبد الله أعرابي أم مهاجر؟ فإن قال: مهاجر. قال: إنسان من أهلي مات فكيف نقسم ميراثه فإن علم كان خيرا أعطاه الله إياه وإن قال لا أدري قال فما فضلكم علينا؟
أنكم تقرؤون القران ولا تعلمون الفرائض «4» ، وقال أبو موسى رضي الله عنه: من علم القران ولم يعلم الفرائض فإنّ مثله مثل البرنس لا وجه له أو ليس له وجه «5» .
__________
(1) ابن كثير (2/ 362) ، مرجع سابق.
(2) الطبري (14/ 109) ، مرجع سابق.
(3) ابن تيمية (13/ 403) ، مرجع سابق.
(4) سنن البيهقي الكبرى (6/ 209) ، مرجع سابق.
(5) الدارمي (2/ 441) ، مرجع سابق.
(1/350)
________________________________________
ومن أعظم مخاطر اقتصار المقرئ على مجرد تلقين الألفاظ أن يفسد عمله في تعليم الناس القران دون أن يشعر:
إذ أصناف القراء على التحقيق ثلاثة: «فمن حملة القران المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراات العارف باللغات ومعاني الكلمات البصير بعيب القراات المنتقد للاثار فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفاظ القران في كل مصر من أمصار المسلمين، ومنهم من يعرب ولا يلحن ولا علم له بغير ذلك فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته ولا يقدر على تحويل لسانه فهو مطبوع على كلامه، ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلم لا يعرف الإعراب ولا غيره فذلك الحافظ فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده فيضيع الإعراب لشدة تشابهه وكثرة فتحه وضمه وكسره في الاية الواحدة لأنه لا يعتمد على علم بالعربية ولا بصر بالمعاني يرجع إليه وإنما اعتماده على حفظه» «1» .
وعلى ضوء هذا يفهم معنى ما جاء عن ابن المبارك عندما قام رجل إليه فقال: يا أبا عبد الرحمن! في أي شيء أجعل فضل يومي في تعلم القران أو في طلب العلم؟ فقال: هل تقرأ من القران ما تقيم به صلاتك؟ قال: نعم! قال:
فاجعله في طلب العلم الذي يعرف به القران «2» .
كما أن المراد بتعلم المعاني ليس تعلم العلوم بالمعنى المصطلحي- وإن كان مطلوبا للمتأهل والمتصدر للإقراء، بل المراد بالنسبة للعامة من المقرئين التدبر وفهم المعنى على الأقل.
__________
(1) السبعة ص 46، مرجع سابق.
(2) حلية الأولياء (8/ 165) ، مرجع سابق.
(1/351)
________________________________________
ولكن ينبغي ذلك مع عدم الإكثار من المادة المصاحبة لحفظ ألفاظ القران الكريم كما في حديث بن مسعود رضي الله عنه: جرّدوا القران ليربو فيه صغيركم ولا ينأى عنه كبيركم «أي لا تقرنوا به شيئا من الأحاديث ليكون واحده مفردا وقيل أراد ألايتعلّموا من كتب الله شيئا سواه ... ، والمعنى اجعلوا القران لهذا وخصّوه به، واقصروه عليه، دون النّسيان والإعراض عنه، لينشأ على تعلّمه صغاركم، ولا يتبعاد عن تلاوته وتدبّره كباركم» «1» .

المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم صفات حامل القران الذي يستحق هذه الألقاب:

علم النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم صفات حامل القران الذي يستحق الألقاب السابقة:

أولا: أول صفات الحافظ التي تجعله يعتز بكونه حاملا للقران: محاولته الدائمة للتفكر في جلال الله، وأسمائه الحسنى، وصفاته العلى:
فإن ذلك هو الذي يولد في قلبه مقدار جلال كلامه جل جلاله، وقد علم النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه ذلك أشد التعليم وأعظمه؛ إذ تلحظ ذلك من أحاديثه المتوافرة، ومن إضافة ايات الكتاب إليه سبحانه في مثل قوله جل جلاله: آياتُ اللَّهِ (البقرة: 252) ، ومن تبجيل كلام الله سبحانه وتعالى ببيان كيف تلقاه جبريل عليه السّلام، وكيف كان يتلقاه النبي صلّى الله عليه وسلم ... وهو الذي جعله الغزالي في جواهر القران أهم ما يستعان به على حفظ القران وفهمه، ومما قاله: «حال العارفين ونسبة لذتهم إلى لذة الغافلين: واعلم أنه لو خلق فيك شوق إلى لقاء الله، وشهوة إلى معرفة جلاله أصدق وأقوى من شهوتك للأكل والنكاح لكنت تؤثر جنة المعارف ورياضها وبساتينها على الجنة
__________
(1) النهاية في غريب الأثر (1/ 256) ، مرجع سابق.
(1/352)
________________________________________
التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة» «1» ، فإذا استقر في ذهن المرء وسويداء قلبه أن القران كلام الله جل جلاله أنزله الله على البشر مباركا وهدى للناس ... علم مقدار جلاله، وعظمته.
وإنما كان خير الناس هو المقرئ إلا لأن خيرهم بعد النبيين من يتعلم القران ويعلمه «2» بعد أن استقر أن خير الكلام كلام الله، فقوله صلّى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القران وعلمه» أي خير المتعلمين والمعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القران لا في غيره إذ خير الكلام كلام الله فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل به «3» ، ولذا فإن معنى كونه مع الملائكة أنه يكون رفيقا لهم هناك لاتصافه بصفتهم من حمل كتابه «4» .

ثانيا: تعلم معاني الألفاظ مع تلقيها:
فيتعلمون مع ألفاظه معانيه، ويتدبرونه، ويعلمون حلاله وحرامه: فإن النبي صلّى الله عليه وسلم هكذا علمه فلم يكن تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه ألفاظ القران الكريم إلا مع معانيه وتدل لهذا الأدلة التالية:
1- ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ (ال عمران: 79) : فقد قال الضحاك فيها: «حق على كل من تعلم القران أن يكون فقيها» وقد قال الفضيل بن عياض في المكثرين من العلوم الاخرى تاركين كتاب الله: ... وقد ضيعتم كتاب الله ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما
__________
(1) جواهر القران ص 82، مرجع سابق.
(2) شرح سنن ابن ماجة (1/ 19) ، مرجع سابق.
(3) انظر: فيض القدير (3/ 499) ، مرجع سابق.
(4) فيض القدير (1/ 226) ، مرجع سابق.
(1/353)
________________________________________
تريدون قال قلنا: قد تعلمنا القران قال: إن في تعلمكم القران شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم ... إذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (يونس: 57- 58) «1» .
2- لم يعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتقنوا الألفاظ إلا لتحقيق مقاصد القران:
كما في قوله سبحانه وتعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (ص: 29) ، وأنكر النبي صلّى الله عليه وسلم على قوم يقرؤونه لا يفقهونه فقال: «يقرؤن القران لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع» فالمطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب «2» .
ولذا نعى العلماء على قارئ أو مقرئ لا يحسن غير ذلك، فقد قال الغزالي رحمه الله تعالى-: «أنبهك على رقدتك أيها المسترسل في تلاوتك المتخذ دراسة القران عملا المتلقف من معانيه ظواهر وجملا إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها، أو ما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها وتسافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها، وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها؟ أو ما بلغك أن القران هو البحر المحيط ومنه يتشعب علم الأولين والاخرين؟» «3» .
__________
(1) القرطبي (1/ 22) ، مرجع سابق.
(2) الديباج على صحيح مسلم (2/ 415) ، مرجع سابق.
(3) جواهر القران ص 21، مرجع سابق.
(1/354)
________________________________________
3- حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنّا نتعلّم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر ايات فما نعلم العشر الّتي بعدهنّ حتّى نتعلّم ما أنزل في هذه العشر من العمل «1» ...
فهذا بيان للمنهجية النبوية في تعليم اللفظ القراني.
4- عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثني الذين كانوا يقرئوننا عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم وفي رواية الطحاوي كان أصحابنا يقرئونا ويعلّمونا ويخبرونا- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يقرئ أحدهم عشر ايات فما يجاوزها حتّى يتعلّم العمل فيها قال: وقالوا علمنا القران والعمل جميعا «2» وفي لفظ: فعلمنا العلم والعمل «3» .
5- وقال: إنا أخذنا هذا القران عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر ايات لم يجاوزوهن إلى العشر الاخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القران والعمل به، وإنه سيرث القران بعدنا قوم ليشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم بل لا يجاوز ها هنا ووضع يده على الحلق «4» .
6- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: لقد عشنا برهة من دهر وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القران وتنزل السّورة على محمّد صلّى الله عليه وسلم فيتعلّم حلالها وحرامها وامرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلّمون أنتم اليوم القران ثمّ لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القران قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى
__________
(1) مشكل الاثار للطحاوي (2/ 456) ، مرجع سابق، البيهقي في الكبرى (3/ 119) ، مرجع سابق.
(2) مشكل الاثار للطحاوي (2/ 456) ، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 410) ، ابن أبي شيبة (6/ 117) ، مرجعان سابقان، وانظر: مجمع الزوائد (7/ 165) ، مرجع سابق.
(4) (ابن سعد) محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري ت 230 هـ: الطبقات الكبرى (6/ 172) ، دار صادر بيروت.
(1/355)
________________________________________
خاتمته، ولا يدري ما امره، ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه وينتثره نثر الدّقل «1» .
وهذا يقتضي منهجيا أن يتدرج القائمون على دور القران وكلياته وجامعاته في تدريس المواد الشرعية الضرورية مع تعليم القران الكريم بحسب المرحلة المناسبة للطالب.
وكان مجلس أئمة الإقراء رضي الله عنهم يمتلئ بالمذاكرة العلمية فمثلا كان الناس عند عبد الله بن مسعود فوقع بين رجلين ما يقع بين الناس فوثب كل واحد منهم إلى صاحبه فقال بعضهم: ألا أقوم فامرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر فقال:
بعضهم عليك نفسك إن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة: 105) فسمعها ابن مسعود فقال: لم يجيء تأويل هذه الاية بعد، إن القران أنزل حين أنزل وكان منه اي مضى تأويله قبل أن ينزل، وكان منه اي وقع تأويله اليوم، ومنه اي يقع تأويله عند الساعة، وما ذكروا من أمر الساعة، ومنه اي يقع تأويله بعد يوم الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويلها «2» .

ثالثا: تعلم الإيمان مع تعلم ألفاظ القران «3» :
والمراد به هنا العمل؛ إذ لفظ الإيمان يستغرق العلم والعمل جميعا، ولكن تخصيص مدلول الإيمان بالعمل يقتدى فيه بالتعبير القراني في قوله جل جلاله: وَقالَ
__________
(1) مشكل الاثار للطحاوي (2/ 457) ، الإيمان لابن منده (1/ 369) .
(2) البيهقي في الكبرى (10/ 92) ، مرجع سابق.
(3) وينظر- مثلا- في أعمال الباطن في التلاوة: الإحياء (1/ 280) ، مرجع سابق.
(1/356)
________________________________________
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ (الروم: 56) ، وسلب الإيمان (العمل) من أخوف ما يتقيه حامل القران، وقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك حتى أخبرهم بأن القران قد يستظهره ألد أعدائه فقال صلّى الله عليه وسلم: «يخرج من الكاهنين رجل يدرس القران دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده» «1» .
وأما ما أشار إليه بعض الصحابة كجندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر وغيرهما بقولهم: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القران فازددنا إيمانا وأنتم تتعلمون القران ثم تتعلمون الإيمان، وكذلك قال حذيفة: إنا قوم أوتينا الإيمان قبل أن نؤتى القران، وإنكم قوم أوتيتم القران قبل أن تؤتوا الإيمان «2» ... فالمراد بالإيمان هنا أخص العمل وهو الاستعداد والخشية والحب والتلهف، ومثله ما جاء عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الاخر أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القران ثم علموا من السنة.. «3» . على أن تعلم لفظ القران سابق على كل شيء.
ولا يتوهم من قوله صلّى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القران وعلمه» : «أن العمل خارج عنهما؛ لأن العلم إذا لم يكن مورثا للعمل ليس علما في الشريعة إذا أجمعوا على أن من عصى الله فهو جاهل» «4» ، وقد قال ابن عبد البر: «وحملة القران هم العاملون بأحكامه وحلاله وحرامه بما فيه» «5» ، ولذا فالأجر إنما يكون لمن يعمل به فعن النّوّاس بن سمعان الكلابيّ قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول:
__________
(1) الطبراني في الكبير (22/ 197) ، مرجع سابق.
(2) البيهقي في الكبرى (3/ 119) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (5/ 2382) ، مرجع سابق.
(4) تحفة الأحوذي (8/ 179) ، مرجع سابق.
(5) التمهيد لابن عبد البر (17/ 430) ، مرجع سابق.
(1/357)
________________________________________
«يؤتى بالقران يوم القيامة وأهله الّذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وال عمران وضرب لهما رسول الله ف ثلاثة أمثال ما نسيتهنّ بعد قال كأنّهما غمامتان أو ظلّتان سوداوان بينهما شرق أو كأنّهما حزقان من طير صوافّ تحاجّان عن صاحبهما» «1» .
مثال تطبيقي من تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم: وقد أثنى النبي صلّى الله عليه وسلم على رجل ذكر عنده بأنه يعمل بالقران: فعن السائب بن يزيد أنّ شريحا الحضرميّ ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يتوسّد القران» «2» ، فقوله: «لا يتوسد القران» مدح على الراجح بأنه يعظّم القران ويجلّه ويداوم على قراءته، لا كمن يمتهنه ويتهاون به ويخلّ بتلاوته «3» .
ومن الأمور العملية التي خص حملة القران بالنداء إليها: ما ورد عن علي رضي الله عنه قال: إن الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم المكتوبة ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أوتر ثم قال: «يا أهل القران أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر» «4» ، وذكر بعض أهل العلم أن تخصيصه أهل القران بالأمر فيه يدل على أنه واجب. «5» .، ويؤكد التخصيص نص حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله وتر يحب الوتر أوتروا يا أهل القران» فقال أعرابي: ما يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: ليس لك ولا لأصحابك.
__________
(1) مسلم (1/ 553) ، ابن حبان (1/ 322) ، الحاكم (1/ 747) ، مراجع سابقة.
(2) أحمد (3/ 449) ، النسائي في الكبرى (1/ 412) ، والصغرى (3/ 256) ، مراجع سابقة.
(3) انظر: الفائق (4/ 59) ، النهاية (5/ 182) ، حاشية السندي (3/ 257) ، مراجع سابقة.
(4) ابن خزيمة (2/ 136) ، الحاكم (1/ 441) ، المختارة (2/ 136) ، أبو داود (2/ 61) ، الترمذي (2/ 316) ، مراجع سابقة.
(5) عون المعبود (4/ 205) ، مرجع سابق.
(1/358)
________________________________________
وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن شيوع القران ترتيلا وتغنيا دون إيمان وعمل وتدبر من الخصال التي يخاف أن تصيبهم فعن عابس الغفاري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يعني خصالا يتخوفهن على أمته من بعده إمارة السفهاء واستخفافا بالدم وقطيعة الرحم وكثرة الشرط ونشء يتخذون القران مزامير يتغنون غناء يقدمون الرجل بين أيديهم ليس بأفضلهم ولا أعلمهم لا يقدمونه إلا ليغنى لهم «1» «فما أقبح لحامل القران أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب، وهو لا يفهم ما يتلو، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه» «2» .
وكتسلسل لهذه المنهجية كان أبو موسى رضي الله عنه يقول لتلاميذه: إنّ هذا القران كائن لكم أجرا وكائن لكم ذكرا وكائن بكم نورا وكائن عليكم وزرا.
اتّبعوا القران ولا يتّبعكم القران فإنّه من يتّبع القران يهبط به في رياض الجنّة ومن اتّبعه القران يزخّ في قفاه فيقذفه في جهنّم «3» ، وكان أبو عبد الرحمن السلمى إذا ختم عليه الخاتم القران أجلسه بين يديه ووضع يده على رأسه وقال له: يا هذا اتق الله فما أعرف أحدا خيرا منك إن عملت بالذي عملت «4» وذكر أبو بكر الأنباري عن عبد الله بن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القران وسهل علينا العمل به وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القران ويصعب عليهم العمل به.

تعلم العلم والعمل جميعا أساس في المنهجية النبوية:
فقد ظهر مما سبق المنع من تعلم المعشر الجديد حتى يتم العلم بما في القديم من العمل، وهذا يقتضي العلم بما فيها من المعنى.
__________
(1) شعب الإيمان (2/ 541) ، مرجع سابق.
(2) القرطبي (1/ 21) ، مرجع سابق.
(3) الدارمي (2/ 526) ، سعيد بن منصور في سننه (1/ 49) ، ابن أبي شيبة (7/ 142) ، مراجع سابقة.
(4) القرطبي (1/ 7) ، مرجع سابق.
(1/359)
________________________________________
والمقتضى المنهجي لذلك:
إعادة هذا الأسلوب، وتطبيقه، وإتحافه بعدد من الأنشطة العملية التي تواكب تطبيق الايات: كالإنفاق ولو بمبلغ رمزي عند قراءة اية الإنفاق، والتفكر عند قراءة اية التفكر، وأمر المتعلم بشرح أحكام الزواج مثلا بعد قراءتها كنوع من الإصرار على الفهم العام.
ومن المقتضيات إعداد منهج مواكب لعمل التحفيظ أو التلقين أو الإقراء تشرح فيه معاني القران بيسر، وتقترح فيه النشطة العملية المقترحة لمواكبة الايات المتعلمة.

اعتراض وجوابه:
قد يعترض على هذا بأنه يطيل أمد الحفظ ومدته والجواب أن هذا هو الأمر الشرعي، ولا دخل لما ال إليه الأمر هذه الأيام في كثير من مؤسسات التحفيظ، كما أن من مقتضيات ذلك إعداد معلم القران إعدادا قويا يناسب قيامه بهذه الوظيفة الجليلة. كما لا يعترض على هذا بتفاوت مدارك المتعلمين لأن هذا المبدأ يفرض تفاوت التعامل مع كل طالب بحسب حاله.
وأما الصغار فلا بد من مراعاة مقدار ذلك معهم ذلك لا إزالة الفكرة من أصلها.

رابعا: ورأس الصفات العملية للإيمان الإخلاص لله تعالى:
وهو ما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمهم إياه مذ بعث، وبين القاري أن الخيرية في قوله صلّى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم» : «لكن لا بد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص» «1» ، فمن أخلصهما وتخلق بهما دخل في زمرة الأنبياء «2» ، ولإذكاء صفة الإخلاص في نفس القارئ، فقد كان من أسلوب النبي صلّى الله عليه وسلم في نفوس حملة القران أن يبين لهم
__________
(1) شرح سنن ابن ماجه (1/ 19) ، مرجع سابق.
(2) انظر: فيض القدير (3/ 499) ، مرجع سابق.
(1/360)
________________________________________
مقدار الوعيد الشديد فيمن يزيغ عن ايات الله بعد أن يعلمها كما في قول جل جلاله:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
(176) (الأعراف: 175- 176) ، ففي ذلك زيادة التشنيع لمن يفعل فعل الذي أخلد إلى الأرض، وبيان حقيقة مكانة حامل القران إن اهتدى أو ضل، وقد حبذ بعض المقرئين تحفيظ القراء- مع قراءتهم- حديث أبي هريرة في أول ثلاثة يقضى بينهم يوم القيامة وفيه: «فأول من يدعوا به رجل جمع القران ورجل يقتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم به أثناء الليل واناء النهار فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ... » الحديث «1» ..
وتسلسل منهجية التذكير بالإخلاص للقراء، فقد خطب عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه فقال: يا أيّها النّاس ألا إنّا إنّما كنّا نعرفكم إذ بين ظهرينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وإذ ينزل الوحي وإذ ينبئنا الله من أخباركم ألا وإنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قد انطلق وقد انقطع الوحي وإنّما نعرفكم بما نقول لكم من أظهر منكم خيرا ظننّا به خيرا وأحببناه عليه ومن أظهر منكم لنا شرّا ظننّا به شرّا وأبغضناه عليه سرائركم بينكم وبين ربّكم ألا إنّه قد أتى عليّ حين وأنا أحسب أنّ من قرأ القران يريد الله وما عنده فقد خيّل إليّ باخرة إنّ رجالا قد قرؤه يريدون به ما عند النّاس فأريدوا الله بقراءتكم وأريدوه بأعمالكم «2» .
__________
(1) ابن خزيمة (4/ 116) ، ابن حبان (2/ 136) ، الحاكم (1/ 579) ، الترمذي (4/ 591) ، مراجع سابقة.
(2) المختارة (1/ 219) ، عبد الرزاق (3/ 383) ، أحمد (1/ 41) ، أبو يعلى (1/ 175) ، وانظره في مجمع الزوائد (5/ 211) ، مراجع سابقة.
(1/361)
________________________________________
خامسا: مداومة تلاوته:
والمراد بالتلاوة هنا معناها الخاص، وهو القراءة فقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك فيما رواه أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل علّمه الله القران فهو يتلوه اناء اللّيل واناء النّهار فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل» «1» .
وقد علمهم أن ذلك يجب ألا يعدل ما سواه حتى لو كان حديث رسول الله فقد حدث عقبة بن عامر الجهنيّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحاديث فقال أبو موسى:
إنّ صاحبكم هذا لحافظ أو هالك إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان اخر ما عهد إلينا أن قال عليكم بكتاب الله وسترجعون إلى قوم يحبّون الحديث عنّي فمن قال عليّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النّار ومن حفظ عنّي شيئا فليحدّثه «2» .
وكثرة التلاوة لأن الله عزّ وجلّ «أراد انصباغ النفوس بصبغة هذه المعلومات وتردادها بالنسبة إلى العالم ... ولأجل ذلك أمرنا بتكرار التلاوة والإكثار منها، ولم يكتف بمجرد الفهم» «3» .
ولذا علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم القراءة في الطريق، بل علمهم التلاوة قائما، أو مضطجعا، أو في فراشه، أو على غير ذلك من الأحوال، وله أجر «4» .
فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القران» ، «ورأسه في حجري» ، وعن أبي موسى الأشعري قال: إني أقرأ القران
__________
(1) البخاري (1/ 39) ، مسلم (1/ 558) ، ابن حبان (1/ 292) ، مراجع سابقة.
(2) المسند المستخرج على مسلم (1/ 43) ، مرجع سابق.
(3) الفوز الكبير في أصول التفسير ص 97، مرجع سابق.
(4) التبيان في اداب حملة القران ص 41، مرجع سابق.
(1/362)
________________________________________
في صلاتي وأقرأ على فراشي، وعن عائشة قالت: إني لأقرأ حزبي وأنا مضطجعة على السرير «1» .
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمهم ذلك ويشتد فيه حتى قال: «تعلّموا القران واقرؤه وارقدوا فإنّ مثل القران ومن تعلّمه فقام به كمثل جراب محشوّ مسكا يفوح ريحه كلّ مكان ومثل من تعلّمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك» «2» .
وقد ضرب لهم النبي صلّى الله عليه وسلم الأمثال التعليمية المحسوسة التي ترغب في الإكثار من تلاوة القران الكريم لكل المؤمنين من حملة القران وغيرهم، فمن ذلك ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القران مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القران مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القران مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القران كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر» «3» ، وقد زاد البخاري في لفظ له «المؤمن الذي يقرأ القران ويعمل به» ، «وهي زيادة مفسرة للمراد وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القران ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي لا مطلق التلاوة» «4» .
وقد حذرهم النبي صلّى الله عليه وسلم من ازدياد حفظهم وتكريرهم لأمر اخر فوق حفظ القران الكريم وتكريره، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» «5» ، وهو ما فقهه البيهقي فبوب: «باب ما يكره أن يكون الغالب
__________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 241) ، مرجع سابق.
(2) ابن ماجة (1/ 73) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (5/ 2070) ، مسلم (1/ 549) ، ابن حبان (3/ 47) ، مراجع سابقة.
(4) فتح الباري (9/ 67) ، مرجع سابق.
(5) مسلم (4/ 1769) ، والبخاري (5/ 2279) ، وابن حبان (13/ 93) ، مرجع سابق.
(1/363)
________________________________________
على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقران» «1» ، ووجهه أن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه فيشغله عن القران وعن ذكر الله فيكون الغالب عليه من أي الشعر كان «2» فالامتلاء يكون للقران.

المقصود من الديمومة في التلاوة:
المراد بها الحزب اليومي الذي لا ينبغي لحامل القران تركه، والذي علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم إياه كما في قوله: «إنه طرأ على حزبي من القران فكرهت أن أخرج حتى أتمه» «3» ، ولا مانع من الزيادة لا النقصان مع عمل توازن بين هذه الزيادة والمتطلبات الاخرى لحامل القران على ما قرره ابن تيمية في قوله: «وأما الأفضل في حق الشخص فهو بحسب حاجته ومنفعته فان كان يحفظ القران وهو محتاج إلى تعلم غيره فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها «4» ، وكذلك إن كان قد حفظ القران أو بعضه وهو لا يفهم معانيه فتعلمه لما يفهمه من معاني القران أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه» «5» .
وتسلسلت المنهجية حيث كان أئمة الإقراء من الصحابة ي يأمرون بالإكثار من تلاوة القران الكريم: فعن شقيق قال: قال عبد الله: إن أحسن ما زين به المصحف لتلاوته في الحق «6» .
__________
(1) البيهقي في الكبرى (10/ 244) ، مرجع سابق.
(2) البيهقي في الكبرى (10/ 244) ، مرجع سابق.
(3) ابن ماجة (1/ 427) ، مرجع سابق.
(4) مجموع الفتاوى (23/ 55) ، مرجع سابق.
(5) مجموع الفتاوى (23/ 56) ، مرجع سابق، وانظر فتوى جيدة له- بعد هذا- في المفاضلة بين التلاوة والذكر المطلق.
(6) خلق أفعال العباد (1/ 87) ، مرجع سابق.
(1/364)
________________________________________
سادسا: تحري الصواب مع خفض الجناح في طلبه:
فقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن مجرد قراءة القران لا تنجي صاحبها ولا ترفع عنه إصره فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يخرج في اخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول الناس يقرؤن القران لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية فمن لقيهم فليقتلهم فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم» «1» ، وعن أم الفضل وعبد الله بن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قام ليلة بمكة من الليل فقال:
«اللهم هل بلغت» ثلاث مرات فقام عمر بن الخطاب: وكان أواها فقال: اللهم نعم وحرضت وجهدت ونصحت فقال: «ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه ولتخاضن البحار بالإسلام وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القران يتعلمونه ويقرؤونه ويقولون قد قرأنا وعلمنا فمن ذا الذي هو خير منا فهل في أولئك من خير؟ قالوا: يا رسول الله! ومن أولئك؟ قال: أولئك منكم وأولئك وقود النار» «2» .
وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلم خطورة جدال المنافق بالقران: فقال صلّى الله عليه وسلم: «إياكم وثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقران ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة عالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن يزل فلا تقطعوا عنه امالكم، وأما جدال منافق بالقران فإن للقران منارا كمنار الطريق فما عرفتم فخذوه وما أنكرتم فردوه إلى عالمه، وأما دنيا تقطع أعناقكم فمن جعل الله في قلبه غنى فهو غني» «3» .
__________
(1) البخاري (3/ 1321) ، مسلم (1/ 563) ، المنتقى (1/ 272) ، ابن ماجة (1/ 59) ، مراجع سابقة.
(2) الطبراني في الكبير (12/ 250) .
(3) ابن أبي شيبة (6/ 128) ، الطبراني في الأوسط (8/ 307) مرجعان سابقان.
(1/365)
________________________________________
سابعا: المحافظة على ما يقرب من الله وينال به حبه من النوافل مع الترفع عن سفاسف الدنيا وإن جازت:
فقال: «إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القران» فقال أعرابي: ما تقول قال ليس لك ولا لأصحابك «1» ، وقال صلّى الله عليه وسلم: «تعلّموا القران واقرؤه وارقدوا فإنّ مثل القران ومن تعلّمه فقام به كمثل جراب محشوّ مسكا يفوح ريحه كلّ مكان ومثل من تعلّمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أو كي على مسك» «2» وعليه يحمل نهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بعض المظاهر التي قد يجتنى منها الخير بزيادة التورع، والمحاسبة الدقيقة لقرأة القران كحديث ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن أناسا من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرؤون القران ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد ألا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم إلا قال محمد بن الصباح كأنه يعني الخطايا» «3» ، وقام رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله أيّ النّاس خير؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «خير النّاس أقرؤهم وأتقاهم وامرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرّحم» «4» .
__________
(1) الترمذي (2/ 316) .
(2) ابن ماجة (1/ 73) ، مرجع سابق.
(3) ابن ماجة (1/ 93) .
(4) أحمد (6/ 432) .
(1/366)
________________________________________
ويمكن تلخيص تعليمه صلّى الله عليه وسلم الدوافع لتعلم القران الكريم:

أولا: تعليمه صلّى الله عليه وسلم الدوافع الصحيحة لتعلم القران الكريم وهي:
1- الدافع الإيماني العام: نصرة للعقيدة، ورفعة للشريعة، وحملا للوائها كما قال عبد الله بن عمر يقول لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القران ... الأثر «1» .
2- التشرف بأن يكون الحافظ أحد الأدوات الواقعية لحقيقة الحفظ الإلهي للقران الكريم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) ، فيكون من أهل الله وخاصته.
3- زرع الرغبة في الأجر العظيم للحافظ كما سبقت الإشارة إليه.

ثانيا: تعليمه صلّى الله عليه وسلم الدوافع الخاطئة التي قد تغرس في فؤاد رائم تعلم ألفاظ القران الكريم:
1- التأكل بالقران الكريم: كأن يكون الدافع ابتداء هو المشاركة في مسابقة أو لأجل وظيفة: فمن أهم القواعد التربوية في التعليم لألفاظ القران ما أجمله النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله: «تعلموا القران فإذا علمتموه فلا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ... » «2» ، وقال صلّى الله عليه وسلم: «فيكم كتاب الله يتعلّمه الأسود والأحمر والأبيض تعلّموه قبل أن يأتي زمان يتعلّمه ناس ولا يجاوز تراقيهم ويقوّمونه كما يقوّم السّهم فيتعجّلون أجره ولا يتأجّلونه» «3» .
__________
(1) البيهقي في الكبرى (3/ 119) ، مرجع سابق.
(2) البيهقي في الكبرى (2/ 17) ، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 338) ، مرجع سابق.
(1/367)
________________________________________
2- الرئاء والمباهاة، والرئاسة ونحوها من الأخلاق المرذولة: وتقدم اقتراح تحفيظ متعلم القران حديث أول ثلاثة يقضى بينهم يوم القيامة، وعن عبد الله بن مسعود قال: كيف أنتم! إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم الكبير وتتز سنة مبتدعة يجري عليها الناس فإذا غير منها شيء قيل: قد غيرت السنة قيل:
متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال: إذا كثر قراؤكم، وقل فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقل أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الاخرة، وتفقه لغير الدين «1» ، وعن ابن عباس أنه قال: لو أن حملة القران أخذوه بحقه وما ينبغي لأحبهم الله ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله وهانوا على الناس «2» .
__________
(1) الحاكم (4/ 560) ، الدارمي (1/ 75) ، ابن أبي شيبة (7/ 425) ، مرجع سابق.
(2) القرطبي (1/ 20) ، مرجع سابق.
(1/368)
________________________________________
المبحث الثالث: أصحاب (تلاميذ) النبي صلّى الله عليه وسلم من أئمة الإقراء «المخرجات التعليمية» :
يروم هذا المبحث أن يبين أن حفظ القران الكريم وجمعه بين الصحابة قد صار من العلم العام الأساسي في حياة الأمة الإسلامية، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم قد أخرج عددا كبيرا من حفاظ القران ختموه في حياته، وتابعوا جمع آياته النازلة أولا بأول، وذلك في مطلبين:

المطلب الأول: مؤشرات وقواعد عامة في عدد حفاظ القران الكريم في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: من أشهر أئمة الإقراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل.
فإلى الصحب الألى حافظوا القران ورفعوه نتجه ... فماذا سنرى؟
حدّث عن القوم فالألفاظ ساجدة ... خلف المحاريب والأوزان تبتهل
المطلب الأول: مؤشرات وقواعد عامة في عدد حفاظ القران الكريم في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم:
لأن تلاوة القران تعليما وهداية (تزكية) هي وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولأن معجزته الأولى الخالدة، وبرهان خاتمته للأنبياء هو القران الكريم، وهو أصل أصول الدين- فقد لزم من ذلك ما يلي:
1- ضرورة اليقين في ثبوت كل لفظ من ألفاظه، وهيئة من هيئات أدائه ...
وذلك لأن العادة تقتضي تواتر تفاصيل ذلك، وذلك يقتضي بالضرورة القطع
(1/369)
________________________________________
بالثبوت، والجزم بصحة النقل، واليقين بعدم التغيير، ويتفاوت ذلك بحسب تأثير هيئة الأداء على المعنى. ذلك بأن القران «معجزة للرسول عليه السلام، وأمر الرسول عليه السلام بإظهاره مع قوم تقوم الحجة بقولهم وهم أهل التواتر فلا يظن بهم التطابق على الإخفاء ولا مناجاة الاحاد به حتى لا يتحدث أحد بالإنكار فكانوا يبالغون في حفظ القران حتى كانوا يضايقون في الحروف ويمنعون من كتبة أسامي السور مع القران ومن التعاشير والنقط كيلا يختلط بالقران غيره فالعادة تحيل الإخفاء فيجب أن يكون طريق ثبوت القران القطع» «1» .
2- انتشار القران في الأمة حتى تصير ألفاظه وهيئات أدائه على سبيل الإجمال من المشاع المعلوم عندهم بالضرورة فلا تستطيع بادرة التغيير أن تتسرب إليه لفظا وأداء (العلم العام بمحتوى القران) .
3- أن يشمل تعليمه كل الأمة، مع وجود متخصصين في دقائقه؛ لطبيعة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم وهي أنه ما جاء إلا لتبليغهم كلام ربهم الحافظ المهيمن على معاشهم ومعادهم، وهذا الكلام هو هذا الكتاب.
4- أن تكون الأمة بمجموعها هي الأداة الواقعية لحقيقة الحفظ الإلهية.
وهذا اليقين القاطع بنقل القران، والدقة البالغة بتوثيقه هو ما اصطلح عليه العلماء بالتواتر، ومرادهم نتيجة التواتر، أو مقتضاه وهو العلم اليقيني الاضطراري بتوثيق نقل القران.
ولهذه الأمور مجتمعة صح- واقعيا- «بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القران هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الافاق كلها» «2» .
__________
(1) المستصفى ص 82، مرجع سابق.
(2) الإحكام لابن حزم (1/ 92) ، مرجع سابق.
(1/370)
________________________________________
ولذا ظهر الفرق بين القران الكريم وبين الحديث بنوعيه القدسي والنبوي لزاما واقعيا وشرعيا؛ إذ إن هذين للخاصة، بخلاف القران المحفوظ كليا في صدور عدد كبير من الأمة، المكتوب في المصاحف المتلو في المحاريب، وفي سائر الأمكنة التي تسوغ قراءته فيها اناء الليل وأطراف النهار.

قاعدة في حفظ القران في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم:
بالنظر إلى الطبيعة الأصلية لرسالة النبي صلّى الله عليه وسلم وهي تبليغ الوحي السماوي المنزل (القران الكريم) ، وبالنظر إلى تفصيل وظائف النبي صلّى الله عليه وسلم، وبيانها، وبالتأمل في واقع الصحابة رضي الله عنهم، وبعيدا عن اتهام الكاتب بالعاطفية المفرطة، أو بالتأثر العاطفي الديني فإنه يمكن إرساء القاعدة التالية:
الأصل في الصحابي المهاجر (المتمدن) - وهو الملازم المقيم في المدينة الذي حرم عليه التعرب بعد الهجرة- أن يكون حافظا للقران، ولكن قد يتلقنه كله أو بعضه من النبي صلّى الله عليه وسلم مباشرة، وقد يتلقن البعض من النبي صلّى الله عليه وسلم وبقيته من غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وقد يتلقنه كله من الصحابة أمثاله، ومما يستدل به في طريق ذلك:
1- كان حفظ القران بديهيا بالنسبة للصحابة الكرام:
أما أولا فللطبيعة العربية في ذلك الوقت فهم أميون:
ومن شأن الأمي أن يعول على حافظته فيما يهمه أمره ويعنيه استحضاره وجمعه خصوصا إذا أوتي من قوة الحفظ والاستظهار ما ييسر له هذا الجمع والاستحضار، وكذلك كانت الأمة العربية على عهد نزول القران وهي متمتعة بخصائص العروبة الكاملة التي منها سرعة الحفظ وسيلان الأذهان حتى كانت قلوبهم أناجيلهم، وعقولهم سجلات أنسابهم وأيامهم، وحوافظهم دواوين أشعارهم ومفاخرهم، ثم جاء القران فبهرهم بقوة بيانه، وأخذ عليهم مشاعرهم
(1/371)
________________________________________
بسطوة سلطانه، وأستأثر بكريم مواهبهم في لفظه ومعناه فخلعوا عليه حياتهم حين علموا أنه روح الحياة «1» .
وأما ثانيا: فلأنه المادة العلمية الوحيدة المقررة عليهم في رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم التعليمية كما سبق تفصيله في الفصل الأول.
2- تقدمت في الفصل الأول أحاديث تبين اعتماد النبي صلّى الله عليه وسلم على كثير من المسلمين في إقراء المسلمين الجدد، أو النائين عن المدينة، ومن ذلك:
ما جاء عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشغل فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القران.. «2» ..
3- ثبوت حفظ كثير من أئمة الإقراء في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم:
والمراد غير الذين حددهم بعض الصحابة أو التابعين، ولذا فالحصر لا مفهوم له في كلام من حصر، وقد وصل عدد الحفظة من الأنصار إلى سبعين شخصا من المتفرغين للقران دون غيره، فقد قال ابن حبان: «ذكر وصف القراء من الأنصار» ثم أسند عن أنس بن مالك قال: كان شباب من الأنصار يسمون القراء يكونون في ناحية من المدينة يحسب أهلوهم أنهم في المسجد ويحسب أهل المسجد أنهم في أهليهم فيصلون من الليل حتى إذا تقارب الصبح احتطبوا الحطب واستعذبوا من الماء فوضعوه على أبواب حجر رسول الله فبعثهم جميعا إلى بئر معونة فاستشهدوا فدعا النبي صلّى الله عليه وسلم على قتلتهم أياما «3» .
4- القران إنما نزل ليقرأ ويحفظ وينشر، وينذر به:
__________
(1) انظر: مناهل العرفان (1/ 168) ، مرجع سابق.
(2) المختارة (8/ 267) ، أحمد (5/ 324) ، مرجعان سابقان.
(3) ابن حبان (16/ 253) ، وهو في البخاري.
(1/372)
________________________________________
ولأنها كذلك فقد كانت قراءة القران وحفظه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم لا تحتاج إلى التصريح حديثيا بأنها قد تمت، لضرورة ذلك بما علم من حال المسلمين، وطبيعة الرسالة، وغلبة الحافظة عليهم، والأهمية التي كانت تلقاها الايات النازلة وحيا من الله عزّ وجلّ ... ولذا فالتصريح القائم في الأحاديث لزيادة أهمية المصرّح بهم لا لضرورة التصريح، ولذلك كان الصحابة حتى المتأخرون منهم يختلفون في قراءة القران لعدم العلم بتقرير نزوله على الأحرف السبعة ... دلالة على إتقانهم لحرف واحد منه على الأقل ... وأذعن لهذه الحقيقة بعض الباحثين الأوروبيين فقال:
«فور تنزيل القران، وأولا بأول، كان النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون من حوله يتلونه عن ظهر قلب وكان الكتبة من صحبه يدوّنونه. إذن فالقران يتمتاع، منذ البداية، بعنصري الصحة هذين اللذين لا تتمتاع بهما الأناجيل، وظل الأمر هكذا حتى مات النبي صلّى الله عليه وسلم وفي عصر لا يستطيع فيه الكل أن يكتب، وإن كان يستطيع أن يحفظ عن ظهر قلب، تصبح التلاوة ذات فائدة لا تقدّر، وذلك لإمكانيات التحقيق العديدة التي تعطيها ساعة التثبيت النهائي للنص» «1» .
5- تنافس الصحابة رضي الله عنهم في حفظ القران الكريم:
وقد كان كتاب الله جل جلاله بالنسبة للصحابة رضي الله عنهم «في المحل الأول من عنايتهم يتنافسون في استظهاره، وحفظه، ويتسابقون إلى مدارسته، وتفهمه، ويتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه وربما كانت قرة عين السيدة منهم أن يكون مهرها في زواجها سورة من القران يعلمها إياها زوجها، وكانوا يهجرون لذة النوم وراحة الهجود إيثارا للذة القيام به في الليل والتلاوة له في الأسحار والصلاة به
__________
(1) الإسلام والوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) ص 96 نقلا عن موريس بوكاي في كتابه (القران الكريم والتوراة والإنجيل والعلم) .
(1/373)
________________________________________
والناس نيام حتى لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى يسمع فيها دويا كدوي النحل بالقران «1» ، وكانوا يتبارون في المحفوظ في الصلاة- وهي المحل النموذجي للمراجعة- فقد اعتكف النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في قبة له فكشف المستورة وقال ألا أن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة في الصلاة «2» .
6- وقد كان الاعتماد على الحفظ مقدما على أي شيء اخر للأحاديث فضلا عن القران كما هو معلوم.
7- نزّل القران منجما:
وكان من حكم نزول القران منجما استظهار القران، وحفظه عن ظهر قلب، وزيادة على بلاغ النبي صلّى الله عليه وسلم للنازل من الوحي القراني أولا بأول كان كتبة الوحي يقومون بذلك: فعن زيد ابن ثابت قال كنت أكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة وعرق عرقا شديدا مثل الجمان ثم سرى عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة فأكتب وهو يملي علي فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القران حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت قال اقرأ فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس «3» .
وقد كان القاص يوم اليرموك وهو يوم قريب من وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم أبو سفيان بن حرب مع قرب إسلامه، وهم لا يجعلون شخصا غير متأهل بالقران.
__________
(1) مناهل العرفان (1/ 168) ، مرجع سابق.
(2) ابن خزيمة (1/ 190) ، الحاكم (1/ 594) ، النسائي في الكبرى (5/ 32) ، البيهقي في السنن الكبرى (3/ 11) ، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الأوسط (2/ 257) ، والكبير (5/ 142) .
(1/374)
________________________________________
8- ومن أقوى أدلة هذه القاعدة:
وأقوى أدلة هذه القاعدة أن القراء قد كثروا كثرة عظيمة مذ استقرت قواعد دولة الإسلام في المدينة، فكان منهم السبعون من أصحاب بئر معونة، وأشخاصهم بدقة لم تعرف كلها حتى الان، وكان منهم سبعون على الأقل ممن قتل من قراء المسلمين يوم اليمامة، ولا شك أن القتلى قد جمعوا القران في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم إذ تسارعت أحداث الردة ولم تكن لتجعلهم يفرغون لذلك بعد وفاته.
ولهذه القاعدة فقد كان الصحابة يبحثون عن الاية مكتوبة في جمع القران الكريم في عهد أبي بكر للاستيثاق مع أنها كانت محفوظة في صدورهم، وهذا معنى قول زيد بن ثابت: «ففقدت اية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بها فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين» «1» ، فالمراد أنه فقد الاية مكتوبة؛ لأن وجود الاية مكتوبة أمر حتمي فهمه الصحابة من تسمية القران كتابا، ومن اجتهاد النبي صلّى الله عليه وسلم في كتابة المصحف وكانوا يطلبون على كتابتها بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم شاهدين إضافة إلى كونها محفوظة في صدروهم وهذا يبين أن حفظ القران صار بينهم شيئا عاما شائعا.
وكان الصحابة لا يظهرون أحسن ما عندهم شأنهم في شأن شأن الصالحين الذين اقتفوا اثارهم فعن الحسن قال: «إن كان الرجل لقد جمع القران وما يشعر به جاره وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده وردت الزور- الضيوف- وما يشعرون به
__________
(1) البخاري (3/ 1033) ، مرجع سابق.
(1/375)
________________________________________
ولقد أدركنا أقواما ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم عز وجل» «1» .
وعلى هذه القاعدة فإن هشام بن حكيم بن حزام يعد ممن كان يحفظ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد أم قوما فيهم عمر بن الخطاب كما في صحيح البخاري «2» .

وقد يعترض على هذه القاعدة بما يلي:
1- بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقران؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم «3» .
والجواب: أن الحديث يؤيد ما ذكر من القاعدة؛ إذ لم تفترض القاعدة أن الجميع يحفظ القران الكريم كله، بل التنافس بينهم جار على قراءته، فالأصل فيهم حفظه، ولذا ترى النص هنا يدل على أن صيغة التفضيل (أيهم أكثر أخذا للقران) ، كما يدل هذا النص الذهبي على أن أخذ القران مسألة عامة فاشية أكثر من كتابته، وبدهيته وهو الموافق للطبيعة العربية.
2- وقد يعترض بتسمية السبعين من أصحاب بئر معونة ب (القراء) دلالة على حصر ذلك فيهم ونفيها عن غيرهم ...
__________
(1) الزهد لابن المبارك (1/ 45) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1909) ، مسلم (1/ 561) ، المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 413) ، الترمذي (5/ 193) .
(3) البخاري (1/ 450) ، مرجع سابق.
(1/376)
________________________________________
والجواب: أين الحصر؟ وقد اشتهر بجمع القران من ليس فيهم كالأنصار الذين سماهم أنس رضي الله عنه، ويرد تفصيل ذلك في المطلب الثاني- إن شاء الله جل جلاله- فامتنع الحصر، إنما سموا بذلك دلالة على تفرغهم لها، وعدم امتهانهم شيئا اخر ولزومهم المسجد غالبا.
3- كما قد يعترض بما روي أن ابن عمر البقرة في ثمان سنين فعن مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثمان سنين يتعلمها وعنه عن نافع عن ابن عمر قال تعلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه البقرة في إثني عشرة سنة فلما أتمها نحر جزورا «1» .
والجواب: أما الأول فبلاغ عن مالك، وهو مع الثاني يحتاجان زيادة نظر في الإسناد، وعلى كل فالتعلم هنا هل المراد به الحفظ أم قراءته بتدبر وتفهم؟ الأمر محتمل على أنه سيأتي في المطلب الثالث أن عمر بن الخطاب كان من حفظة كتاب الله سبحانه وتعالى.
4- وقد يعترض أيضا: بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القران إلا السورة أو نحوها ورزقوا العمل بالقران وإن اخر هذه الأمة يقرؤن القران منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به» «2» ...
والجواب: واضح أن ابن عمر- إن صح هذا عنه- يريد أن الفاضل لا يحفظ السورة حتى يعمل لا أنه لا يحفظ غيرها، وأما غيره فيحفظ القران كله وعلى الرغم م ذلك تجد أنه لما يعمل به بعد.
__________
(1) شعب الإيمان (2/ 331) ، مرجع سابق.
(2) بحثت عنه ولم أجده.
(1/377)
________________________________________
قاعدة في التنصيص على بعض الأشخاص في أمر معين:
الثناء على صحابي في ميدان علمي لا يعني عدم إمامة غيره لذاك الميدان، ومما يوضح ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«أرحم أمتي أبو بكر واشدهم في دين الله عمر واصدقهم حياء عثمان وافرضهم زيد واقرؤوا أبي واعلمهم بالحلال والحرام معاذ وان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» «1» .
فذكر أبي في الإقراء لا يعني أن غيره من المذكورين ليست لهم الإمامة والريادة في القراءة بل هي لهمن ولذا ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم معاذا وأبا عبيدة بالقراءة وتعليم الناس القران في مواضع أخرى.
وبمثل ذلك تفهم كثير من الأحاديث التي فيها تنصيص فلا تقتضي تخصيصا بل بيان لمزية ظاهرة قد توجد في الغير وإنما قيلت في البعض للتأكيد أو نحوه من الأغراض.
وعلى هذه القاعدة العظيمة تنزل رواية أنس رضي الله عنه قال: «جمع القران على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار معاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو زيد» «2» فإن هذا الحديث لا يدل على الحصر، ومثل حديث أنس أو أبعد منه في الحصر- ما أخرج البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال: جمع القران على عهد رسول الله أربعة لا يختلف فيهم ... ومثله ما أخرجه هو وأبو داود عن عامر الشعبي قال: جمع القران في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم ستة.. «3» .، فكله تنصيص
__________
(1) الضياء في المختارة (6/ 226) ، الترمذي (5/ 664) ، ابن ماجة (1/ 55) ، مراجع سابقة.
(2) البخاري (3/ 1386) ، ومسلم (4/ 1914) .
(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 261) مرسلا، وانظر: الإتقان (1/ 195) ، مرجع سابق.
(1/378)
________________________________________
فلا يدل على التخصيص خاصة وأن أنس هو ذاته راوي حديث السبعين قارئا ... ،
وهذا إن صحت هذه الاثار وتفصيل ذلك في الأصل.

واقعية الإحاطة بحفظ ألفاظ القران:
ولذا فقد كانت الأمة كلها تسمع القران الكريم إجمالا منه صلّى الله عليه وسلم أو ممن سمع منه، أما حفاظه المحيطون بألفاظه، ودقائقها، وتفاصيل هيئات أدائه فقد كثروا كثرة غامرة، ويظهر أول فرق بين حفاظ القران وحفاظ الحديث في أن حفاظ القران لا بد أن يحيطوا به حفظا بخلاف حفاظ الحديث؛ إذ لا يوجد واحد يدعي أنه قد أحاط بالحديث حفظا ...

تفرغ الأصحاب رضي الله عنهم لحفظ القران:
وقد كان تلاميذ النبي صلّى الله عليه وسلم الذين تعلموا على يديه القران يفرغون أنفسهم من كل شاغل في الغالب حتى الضرب في الأرض لأجل الرزق، وفيهم نزل قول الله عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (البقرة: 273) ؛ إذ المراد أنهم على قول بعض المفسرين: «أهل الصفة منعهم تعلم القران، أو شدة الحاجة والجهد عن الضرب في الأرض للتكسب» «1» .
ومما يتنبه له في هذا الموضوع، وهو مثير للانتباه في منهجية النبي صلّى الله عليه وسلم التعليمية أنه كان يوجه من توسم فيه الأهلية للتصدر في علم معين إليه:
وخاصة في علم القران فإنه كان يشجع أصحاب الأصوات الحسنة ويثني على قراءتهم كما ورد ذلك في ثنائه على سالم مولى أبي حذيفة، وأبي موسى الأشعري، وابن مسعود، وأسيد بن حضير، ومن ذلك توجيهه صلّى الله عليه وسلم لأبي محذورة
__________
(1) حاشية على كتاب الهداية (3/ 125) .
(1/379)
________________________________________
ليكون مؤذنا بعد أن رأى حسن صوته، فعن أبي محذورة قال لما رجع النبي صلّى الله عليه وسلم من حنين خرجت عاشر عشرة من مكة نطلبهم فسمعتهم يؤذنون بالصلاة فقمنا نؤذن نستهزئ بهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت» ، فأرسل إلينا فأذنا رجل رجل فكنت اخرهم فقال حين أذنت: «تعال» فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبارك علي ثلاث مرات ثم قال اذهب فأذن عند البيت الحرام قلت كيف يا رسول الله فعلمني الأذان ... الحديث «1» .

تتبع الأصحاب للنازل أولا بأول:
فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم فذكرنا أيام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلا الان فأشار إليه أن اسكت فلما انصرفوا قال سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني فقال أبي ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكر له وأخبره بالذي قال أبي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: صدق أبي «2» ، وكلام أبي ذر دال على أنهم كانوا يتتبعون القران النازل، وأبو ذر لم يذكر في عداد الحفاظ.
ومثل ذلك قول عمار رضي الله عنه فقال: «إنا كنا ضلالا فهدانا الله، وكنا أعرابا فهاجرنا يقيم مقيم يتعلم القران، ويغزو الغازي فإذا قدم الغازي أقام يتعلم القران وغزا المقيم» «3» .
__________
(1) ابن خزيمة (1/ 201) ، مرجع سابق.
(2) ابن ماجه (1/ 352) ، مرجع سابق، وفي مصباح الزجاجة (1/ 134) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» .
(3) طبقات ابن سعد (3/ 83) ، مرجع سابق.
(1/380)
________________________________________
كثرة القراء:
ومن المؤشرات التي تدل على كثرة هؤلاء القراء كثرة ظاهرة: قصة بئر معونة فعن أنس قال: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجد على سرية ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة كانوا يدعون القراء.. «1» .، والقراء هنا هم «الذين كانوا يحفظون القران» «2» .
ومما يدل على هذه الكثرة أيضا كثرة من قتل من القراء في وقعة اليمامة كما قال الشاطبي:
إن اليمامة أهواها مسيلمة ال ... كذاب في زمن الصديق إذ خسرا
وبعد بأس شديد حان مصرعه ... وكان بأسا على القراء مستعرا
«3» وفي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه إن عمر أتاني فقال إن القتل قد أستحر يوم اليمامة بقراء القران، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القران ... الحديث «4» يدل على انتشار القراء في المواطن والثغور، وأقل ما قيل في عدد من قتل من القراء أنهم سبعون قارئا ولم نعرف أكثرهم باسمه على ما هو معلوم.
وقد بلغت القراء في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم كثرة غامرة، وتخصصوا في دقائقه النطقية حتى تنازعوا في بعض الأمور التي اختلفوا فيها، وكان منهم الأعرابي والأعجمي فقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يقرؤون القران- قال جابر بن عبد
__________
(1) مسلم (1/ 467) ، مرجع سابق.
(2) حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (1/ 208) ، مرجع سابق.
(3) شرح تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد على عقيلة أتراب القصائد ص 10.
(4) البخاري (4/ 1720) ، ابن حبان (10/ 364) ، مرجعان سابقان.
(1/381)
________________________________________
الله: وفينا الأعرابي والأعجمي- فقال: «اقرؤوا فكل كتاب الله من قبل أن يأتي قوم يقومونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه» «1» .
وقد أخذ هؤلاء دورهم في قراءة القران على المسلمين والكفار كما اتضح من واقعة بئر معونة؛ إذ أرسل النبي صلّى الله عليه وسلم القراء إلى القبائل لنشر القران الكريم، وقد كثرت قراءة الأصحاب القران الكريم على المسلمين والكفار حتى أنزل الله في سماع الكفار ايات تدل على ردود الفعل الهائجة أمام تأثير القران الكريم كقول الله عزّ وجلّ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا (الحج: 72) «أي أن أثر الإنكار من الكراهة وتعبيس الوجوه معروف عندهم (يكادون يسطون) أي يبطشون ويوقعون بمن يتلو عليهم القران من شدة الغيظ» «2» .
كما كثر حفظة القران كثرة عظيمة بعد عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويكفي مؤشرا على ذلك أن يعلم أن عدد التلاميذ من حفاظ القران الذين كانوا في البصرة واحدها من تلاميذ أبي موسى الأشعري كانوا قد بلغوا قريبا من ثلاثمائة؛ فعن معاوية بن قرة رضي الله عنه أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه جمع الذين قرؤوا القران فإذا هم قريب من ثلاثمائة فعظم القران وقال: «إن هذا القران كائن لكم أجرا، وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القران ولا يتبعنكم القران، فانه من اتبع القران هبط به على رياض الجنة، ومن تبعه القران زخ في قفاه فقذفه في النار» «3» .
__________
(1) سعيد بن منصور في سننه (1/ 150) ، أبو داود (1/ 220) .
(2) زاد المسير (4/ 451) ، مرجع سابق.
(3) المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم (3/ 115) ، ابن أبي شيبة (7/ 142) ، حلية الأولياء (1/ 257) ، مراجع سابقة.
(1/382)
________________________________________
وأما تلاميذ أبي الدرداء فبلغوا ألفا وستمائة ونيفا يقرئهم جميعا في يوم واحد بطريقة فذة، كأنه أسس بها جامعة قرانية «1» .
ويدل على كثرتهم ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأله عن الناس فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ منهم القران كذا وكذا فقال ابن عباس رضي الله عنه فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القران هذه المسارعة قال: فزبرني عمر ثم قال: مه قال: فانطلقت إلى أهلي مكتئبا حزينا فقلت: قد كنت نزلت من هذا الرجل منزلة فلا أراني إلا قد سقطت من نفسه قال: فرجعت إلى منزلي فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، وما هو إلا الذي تقبلني به عمر قال: فبينا أنا على ذلك أتاني رجل:
فقال: أجب أمير المؤمنين قال: خرجت فإذا هو قائم ينتظرني، قال: فأخذ بيدي ثم خلا بي فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل انفا؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين! إن كنت أسأت فإني استغفر الله وأتوب إليه وأنزل حيث أحببت قال:
لتحدثني بالذي كرهت مما قال الرجل فقلت: يا أمير المؤمنين! متى ما تسارعوا هذه المسارعة، يحيفوا ومتى ما يحيفوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا ومتى ما يختلفوا يقتتلوا فقال عمر: لله أبوك لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها «2» .
وقد خرج على علي رضي الله عنه ثمانية الاف من قراء الناس ... ولما طلبهم قيل لا يدخل إلا رجل قد حمل القران فلما أن امتلأ الدار من القراء.... الحديث «3» ...
__________
(1) جمال القراء وكمال الإقراء (2/ 454) ، مرجع سابق، وانظر: سير أعلام النبلاء (2/ 353) ، مرجع سابق.
(2) الجامع لمعمر بن راشد (1/ 217) ، مرجع سابق.
(3) الحاكم (2/ 165) ، المختارة (2/ 223) ، أحمد (1/ 86) ، أبو يعلى (1/ 368) ، مجمع الزوائد (6/ 223) ، مراجع سابقة، وقال: «ورجاله ثقات» .
(1/383)
________________________________________
وهؤلاء القراء من الخوارج جزء من قراء الأمة ضرورة، فإذا كانوا هنا ثمانية الاف في مكان واحد، ومن فرقة خارجة على جمهور الأمة، فكم يكونون في الأمة؟.
وظهرت حافظات القران حتى كن يناقشن المقرئين فيه كما في مناقشة أم يعقوب القارئة لابن مسعود بشأن حديث النامصات.

هيئة الإقراء في عهده صلّى الله عليه وسلم:
وعلى الرغم من هذه الكثرة إلا أن المقرئين المتخصصين في إقراء الناس في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم أناس معروفون قد حددهم النبي صلّى الله عليه وسلم بنفسه، فشكلوا مثل هيئة إقراء، ويدل على هذا حديث بئر معونة، كما يدل عليه قصة إسلام عدد من الصحابة الذين ورد فيهم التصريح بتعليمهم القران دلالة على أن ذلك دأب وعادة كما في قص إسلام عمير بن وهب: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اجلس نواسك» وقال: «علموا أخاكم القران» وأطلق له أسيره «1» .
وبذا يكون النبي صلّى الله عليه وسلم قد اصطفى من أصحابه رضي الله عنهم نخبة أقرأهم القران، كله أو بعضه، حتى أتقنوا صفة أدائه وهيئة قراءته، وأقبلت الأمة على هؤلاء فتلقت القران عنهم مشافهة، ونوه بهم في مثل قوله: «خذوا القران عن أربعة ... » ، أو «من أحب أن يقرا القران غضا ... » ، أو في بعثه مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى المدينة، أو في بعثه أبا عبيدة إلى نجران أو في بعثه عليا ومعاذا إلى اليمن.. «2» ..
وقد ابتغى الباحث من إبراز كثرة عدد القراء في الأمة تثبيت حقيقة أن علم القراءة بذلك صار علما عاما شائعا.
__________
(1) المعجم الكبير (17/ 57) ، مرجع سابق.
(2) وانظر: سنن القراء ص 15، مرجع سابق.
(1/384)
________________________________________
المطلب الثاني: من أشهر أئمة الإقراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل:

أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
فقد كان من حفظة كتاب الله عزّ وجلّ وممن جمع القران عن ظهر قلب، ومن أكثر القوم قراءة، وذلك لا مراء فيه لمن يعرف حال أبي بكر رضي الله عنه مع شدة حرصه على تلقي القران من النبي صلّى الله عليه وسلم، وفراغ باله له وهما بمكة، وكثرة ملازمة كل منهما للاخر حتى بينت عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرة وعشية «1» فماذا ترى النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفعل إلا بيان اخر ما نزل من الوحي عليه، مع ظهور اهتمام أبي بكر وحفظه وتلاوته، حتى اتخذ له مسجدا في بيته يقرأ فيه مستعلنا، وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على عدة أمور أساسية:
أ- أن أبا بكر كان يحفظ القران أولا بأول، كيف والنبي صلّى الله عليه وسلم يغدو إليه ويروح، وهل يكون حديث بينهما أهم من الوحي المنزل؟.
ب- أن أبا بكر كان يقرأ القران بالترتيل (التجويد) الذي أمر الله به في السورة الثالثة في ترتيب النزول «2» ... وذلك هو الذي أعجب النساء والأطفال وجذبهم نحوه.
فهذا حاله رضي الله عنه في مكة من ملازمة النبي صلّى الله عليه وسلم حتى كان صاحبه الوحيد الذي انفرد بمنقبة مصاحبته له في هجرته صلّى الله عليه وسلم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم له، وأما حاله في المدينة من الملازمة فقد وصفها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة في الأمر من أمور المسلمين، وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا
__________
(1) البخاري (1/ 181) ، ابن خزيمة (1/ 133) ، مرجعان سابقان.
(2) انظر: الإتقان (169) ، مرجع سابق.
(1/385)
________________________________________
معه «1» ، وقول عمر (لا يزال) يدل على الاستمرار والديمومة، وأبو بكر في المدينة هو الذي نعته رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصاحبه مطلقا (مفردا معينا) دون غيره في قوله لعمر بن الخطاب: «فهل أنتم تاركو لي صاحبي» مرتين «2» حتى كاد أن يتخذه خليلا لولا أن الله عزّ وجلّ اتخذ رسوله صلّى الله عليه وسلم خليلا ...
وبعد هذا البيان لمدى ملازمة أبي بكر وصحبته رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكون هذه هي المقدمة الصغرى في قضيتنا المنطقية، والمقدمة الكبرى هي قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» «3» ، ورواية الحاكم: «يؤم القوم أكثرهم قرانا» ، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم أبا بكر أن يؤم في مكانه لما مرض فدل ذلك على أنه كان أقرأهم رضي الله عنه، ونص على حفظه للقران أجلة المحققين منهم: أبو الحسن الأشعري، ومكي بن أبي طالب، والداني، ويستأنس ها هنا بموقفين في تلاوة القران لأبي بكر غير ما تقدم تظهر فيهما تلاوة أبي بكر للقران الكريم:
الأول: ما أورده البخاري في قصة وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم حيث قال أبو بكر لعمر:
«أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا صلّى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) (الزمر: 30) وقال:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
__________
(1) ابن حبان 5/ 379، موارد الظمان 1/ 91، مرجع سابق.
(2) البخاري 3/ 1339، أبو عوانة في مسنده 4/ 240، مرجعان سابقان.
(3) مسلم (1/ 465) ، المنتقى (1/ 85) ، ابن خزيمة (3/ 4) ، ابن حبان (5/ 501) ، الترمذي (1/ 459) .
(1/386)
________________________________________
(ال عمران: 144) فنشج الناس يبكون» «1» ... فانظر لشدة الاستحضار عند أبي بكر رضي الله عنه، وهذا استئناس لما نحن بصدده وليس استدلالا.
الثاني: ما جاء من وصف لتلاوة أبي بكر القران في صلاته فعن أنس قال:
صلّى بنا أبو بكر صلاة الصبح، فقرأ ال عمران فقالوا: كادت الشمس تطلع قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين «2» ، وعن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: صلّى بنا أبو بكر رضي الله عنه صلاة الصبح، فقرأ بسورة البقرة في الركعتين جميعا.. «3» . فأين يكون هذا إلا من محفوظه رضي الله عنه، وقد أخذ عمر ذلك منه فعن أبي عثمان النهدي قال: صليت خلف عمر رضي الله عنه الفجر فما سلم حتى ظن الرجال ذوو العقول أن الشمس قد طلعت فلما سلم قالوا: يا أمير المؤمنين كادت الشمس تطلع قال: لو طلعت الشمس لم تجدنا غافلين «4» .
وقد ذكر البعض أن تقديم أبي بكر كان لأجل الفضل والعلم لا القراءة، وللإشارة للخلافة «5» ، فأما الإشارة للخلافة فصحيح ظاهر، وأما نفي أن يكون أبو بكر أقرأهم فغريب مستبعد؛ فإن قراءة أبي بكر للقران كانت مشهورة، وفي حديث تأمين ابن الدغنة لأبي بكر: قالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن
__________
(1) البخاري (3/ 1341) ، ابن حبان (14/ 589) ، المختارة (2/ 233) ، الحاكم (3/ 136) ، النسائي في الكبرى (5/ 125) ، مراجع سابقة.
(2) عبد الرزاق (2/ 113) ، شرح معاني الاثار (1/ 181) ، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 379) ، مراجع سابقة.
(3) ابن أبي شيبة (1/ 310) ، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 389) ، شرح معاني الاثار (1/ 182) ، مراجع سابقة.
(4) عبد الرزاق (2/ 115) ، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 379) .
(5) انظر: السنة للخلال (2/ 303) .
(1/387)
________________________________________
أبناءنا ونساءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وبرز فكان يصلي فيه، ويقرأ القران فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القران فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.. «1» . على أن في قبول ذلك القول إبعاد لمعالم تطبيق المنهج الشرعي، وهو ادعاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلم يقول قولا ويعمل بغيره دون صارف، أو بصارف غير ظاهر.
وإنما أطال الباحث النفس في تقرير حفظ أبي بكر للأهمية الشديدة واكتفاء به عن بقية الخلفاء الراشدين الذين قيل بأنهم لم يحافظوا القران أولم يجمعوه، وإنما كان هذا القول واردا عن بعض التابعين مع الانقطاع وعدم التأكد من صحة سند الرواية.

2- ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وجعله أبو بكر مساعدا لزيد في جمع القران في عهده حيث قال لهما- كما عند ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه-: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه «2» ، وقد بلغ ذلك من عمر حدا جعل جابر بن عبد الله يقول: «ما رأيت أحدا كان اقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله ولا أعلم بالله من عمر» «3» .
ويؤيد هذا أيضا حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري ثم أعطيت
__________
(1) البخاري (2/ 804) ، مرجع سابق.
(2) رواه ابن أبي داود في المصاحف (1/ 168) ، مرجع سابق، وفي تحفة الأحوذي (8/ 408) ، مرجع سابق: «ورجاله ثقات مع انقطاعه» .
(3) ابن أبي شيبة (6/ 139) ، مرجع سابق.
(1/388)

فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم «1» ، وهل يكون علم أو عالم بدون حفظ القران، وقد قال ابن مسعود: من أراد العلم فليثور القران فإن فيه علم الأولين والاخرين «2» ، وفي حديث أبي بكر: استخلفت عليهم خير أهلك مع قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أهل القران هم أهل الله وخاصته» وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه كان يصلي الصبح فيقرأ فيها سورة يوسف وسورة الحج قراءة بطيئة «3» وعن الأحنف قال: صليت خلف عمر الغداة فقرأ بيونس وهود ونحوهما وعن زيد بن وهب أن عمر قرأ في الفجر بالكهف «4» .
وانتشر تلاميذ عمر الذين قرأوا عليه فعن زيد بن وهب قال: أتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فجاءه رجلان قد اختلفا في اية فقرأه أحدهما فقال عبد الله: أحسنت من أقرأك؟ قال: أقرأني أبو حكيم المزني، واستقرأ الاخر فقال: من أقرأك فقال أقرأني عمر ابن الخطاب فبكي عبد الله حتى خضبت دموعه الحصا ثم قال: اقرأ كما أقرأك عمر ثم دور دارة بيده ثم قال: إن عمر كان حصنا حصينا للإسلام يدخل الناس منه، ولا يخرجون منه فلما مات عمر انثلم الحصن فالناس يخرجون منه ولا يدخلون «5» .
وقد ثرّب الإمام أبو القاسم الهذلي على ابن قتيبة في كونه لم يذكر أبا بكر وعمر في جملة الحفظة فقال: «وقد تجاوز ابن قتيبة حين قال توفى أبو بكر وعمر ولم يكملا القران» «6» .
__________
(1) البخاري (1/ 43) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الكبير (9/ 135) ، الزهد لابن أبي عاصم (1/ 157) .
(3) خرج هذه الاثار البيهقي في الكبرى (2/ 389) ، مرجع سابق.
(4) خرج هذه الاثار ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 310) ، مرجع سابق.
(5) الطبراني في الكبير (9/ 162) ، مرجع سابق.
(6) الكامل ص 38 وجه ب، مرجع سابق.
(1/389)

3- وأما عثمان بن عفان رضي الله عنه:
فأمره أشهر من أن يذكر، وهو مجمع على حفظه القران الكريم، وقد ذكره الذهبي في طبقاته في القراء كأول صحابي «1» .

4- علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وقد ذكره الذهبي- رحمه الله تعالى- في جملة من حفظ القران من الصحابة في أول كتابه (طبقات القراء) ، وقد ذكر عن علي رضي الله عنه جمعه للقران فور وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك ابن أبي داود عن محمد بن سيرين قال: لما توفي النبي صلّى الله عليه وسلم أقسم علي ألا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القران في مصحف ففعل، فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال: لا! والله إلا إني أقسمت ألاأرتدي برداء إلا لجمعة فبايعه ثم رجع «2» ...
ولكن ابن أبي داود ضعّف هذه الرواية، وقالك «لم يذكر المصاحف أحد إلا الأشعث، وهو لين الحديث، وإنما رووا حتى أجمع القران، يعني أتم حفظه، فإنه يقال للذي يحفظ القران قد جمع القران» ، وقال ابن حجر: «وبتقدير صحته فمراده بجمعه حفظه في صدره» «3» .
وبمثل هذه الرواية اعتمد من زعم أن عليا لم يجمع القران، ولكن الذي لا مراء فيه أن لزوم ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم مسألة لا تستحق النقاش، ووافر ذاكرته حيث أسلم وهو صغير دال على صفاء نفسه وقريحته، وقد كان هو المبلغ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة العام التاسع بسورة براءة، وهي من
__________
(1) معرفة القراء الكبار (1/ 24) ، مرجع سابق.
(2) ابن أبي داود في المصاحف (1/ 180) .
(3) فتح الباري (9/ 12) ، مرجع سابق.
(1/390)

اخر ما نزل «1» ، وهو من كتاب الوحي المعدودين ... كل هذا يرجح لنا حفظه للقران قبل، وإنما تحمل الرواية المقبولة منها على محمل اخر عند المؤلف هو أن يراجع علي القران بعد أن وثق أنه قد كمل، وأن الوحي قد انقطع، وهذا اللائق به، وببيئته المحيطة.

5- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
وتقدم تقرير حفظه في الكلام على العرضة الأخيرة من الفصل الثاني، وقد اشتهر بذلك بين الصحابة فعن قيس بن أبي حازم قال سئل علي عن عبد الله بن مسعود فقال: قرأ القران ووقف عند متشابهه وأحل حلاله وحرم حرامه.. «2» .،
وقد قرأ على النبي صلّى الله عليه وسلم حبا من النبي صلّى الله عليه وسلم لسماعه، «فقراءة ابن مسعود عليه في هذا الموضع لإسماعه إياه لا لأجل التصحيح والتلقين» «3» ، وحسب ابن أم عبد أن يكون أستاذ معاذ بن جبل إمام العلماء.
وشأنه في الترتيل وجودة الأداء عظيم كأنه يقرأ الوحي غضا طريا كما قرر ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، وعن أبي عثمان النهدي: صلّى بنا ابن مسعود المغرب ب «قل هو الله أحد» والله لوددت أنه قرأ بسورة البقرة من حسن صوته وترتيله «4» .
وكان له أسلوبه البديع في إقراء الناس فعن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرئ الرجل الاية ثم يقول: لهي خير مما طلعت عليه الشمس أو مما على الأرض من شيء حتى يقول ذلك في القران كله، وفي رواية كان ابن مسعود إذا أصبح أتاه الناس في داره فيقول: على مكانكم ثم يمر بالذين يقرئهم القران
__________
(1) صحيح البخاري (4/ 1709) ، ابن حبان (15/ 17) ، مرجعان سابقان.
(2) انظر: مجمع الزوائد (9/ 157) ، مرجع سابق.
(3) ابن تيمية (16/ 482) ، مرجع سابق.
(4) ابن أبي شيبة (1/ 314) ، خلق أفعال العباد ص 72، مرجعان سابقان.
(1/391)

فيقول: أيا فلان بأي سورة أتيت؟ فيخبره في أي اية فيفتح عليه الاية التي تليها ثم يقول: تعلمها فإنها خير لك مما بين السماء والأرض. قال: فنظر الرجل اية ليس في القران خير منها ثم يمر بالاخرى فيقول اية مثل ذلك حتى يقول ذلك لكلهم «1» .
وقد ورّث علمه لتلامذته، فقد مر خباب بن الأرت بحلقته فقال: يا أبا عبد الرحمن! أيستطيع هؤلاء الشباب أن يقرؤوا كما تقرأ؟ قال: أما إنك لو شئت أمرت بعضهم يقرأ عليك قال: اقرأ يا علقمة ... ، فقرأت خمسين اية من سورة مريم فقال عبد الله: كيف ترى؟ قال: قد أحسن. قال عبد الله: ما أقرأ شيئا إلا وهو يقرؤه ثم التفت إلى خباب وعليه خاتم من ذهب فقال: ألم يأن لهذا الخاتم أن يلقى؟ قال: أما إنك لن تراه علي بعد اليوم فألقاه «2» .

6- أبي بن كعب رضي الله عنه:
سيد القراء وإمامهم، وقد قرأ عليه النبي صلّى الله عليه وسلم بصفة خاصة فقال له: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك» قال: الله سماني لك؟ قال الله: «سماك لي» قال:
فجعل أبي يبكي «3» ، ومن حكم قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم على أبي أن ينبه «الناس على فضيلة أبي في ذلك، ويحثهم على الأخذ منه، وكان كذلك فكان بعد النبي صلّى الله عليه وسلم رأسا وإماما مقصودا في ذلك مشهورا به» «4» ، وعن عاصم بن بهدلة قال: قلت للطفيل بن أبي بن كعب: إلى أي معنى ذهب أبوك في قول رسول الله له أمرت
__________
(1) عبد الرزاق (3/ 367) ، الطبراني في الكبير (9/ 135) ، مرجعان سابقان وانظر مجمع الزوائد (7/ 166) ، مرجع سابق.
(2) صحيح البخاري (4/ 1595) ، مرجع سابق.
(3) مسلم (1/ 550) ، البخاري (4/ 1896) ، مرجع سابق.
(4) شرح النووي (16/ 19) ، مرجع سابق.
(1/392)

أن أقرأ القران عليك فقال ليقرأ علي فأحذو ألفاظه «1» ، وذلك «لفضيلة أبي واختصاصه بعلم القران» «2» .

7- وكان أبو عبيدة بن الجراح معدودا:
فيمن جمع القران العظيم «3» وحسبنا به معلما لأهل اليمن (نجران) للقران الكريم، وكان معلما للقران في المدينة فعن أبي ثعلبه الخشني رضي الله عنه قال:
لقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ادفعني إلى رجل حسن التعليم فدفعني إلى أبي عبيدة ابن الجراح ثم قال: «قد دفعتك إلى رجل يحسن تعليمك وأدبك» .. «4» ..

8- ومنهم عبد الرحمن بن عوف:
فقد أم بالنبي صلّى الله عليه وسلم فعن المغيرة بن شعبة قال: عدل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه ... فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في الصلاة قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حين كان وقت الصلاة ووجدنا عبد الرحمن قد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع المسلمين وراء عبد الرحمن بن عوف ...
لما سلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لهم أحسنتم أو قد أصبتم «5» . فما لهم يقدمون ابن عوف إلا لاستحقاقه ذلك؟.
__________
(1) السبعة ص 55، مرجع سابق.
(2) ابن تيمية (16/ 482) ، مرجع سابق.
(3) سير أعلام النبلاء (1/ 8) ، مرجع سابق.
(4) الطبراني في الكبير (1/ 157) ، مرجع سابق، وانظر: مجمع الزوائد (5/ 189) ، مرجع سابق.
(5) ابن حبان (5/ 603) .
(1/393)

9- سالم مولى أبي حذيفة:
وهو من المذكورين في حديث «خذوا القران ... » ، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيه لحسن صوته: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا» «1» .

10- ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:
فقد قال: جمعت القران فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلّى الله عليه وسلم فقال أقرأه في شهر ... الحديث «2» .

11- أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:
وقد تقدم ذكر عدد من جمع عليه القران، ومن تلاميذه عامر بن عبد قيس، وكان مشهورا بالإقراء فعن الحسن قال: كان عامر بن عبد قيس إذا صلى الصبح تنحى في ناحية المسجد فقال: من أقرئه؟ قال: فيأتي قوم فيقرئهم حتى إذا طلعت الشمس وأمكنت الصلاة قام يصلي إلى أن ينتصف النهار ثم يرجع إلى منزله فيقيل ثم يرجع إلى المسجد إذا زالت الشمس فيصلي حتى يصلى الظهر، ثم يصلى حتى يصلي العصر، فإذا صلى العصر تنحى في ناحية المسجد ثم يقول:
من أقرئه؟ قال: فيأتيه قوم فيقرئهم حتى إذا غربت الشمس صلى المغرب ثم يصلي حتى يصلي العشاء الاخرة، ثم يرجع إلى منزله فيتناول أحد رغيفيه، فيأكل ثم يضطجع هجعة خفيفة ثم يقوم فإذا كان ***** تناول رغيفه الاخر، فيأكله ثم يشرب عليه شربة من ماء ثم يخرج إلى المسجد «3» .
__________
(1) ابن ماجه (1/ 425) ، مرجع سابق، وقال في مصباح الزجاجة (1/ 158) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح» .
(2) ابن حبان (3/ 33) ، النسائي في الكبرى (5/ 24) ، ابن ماجه (1/ 42) .
(3) الزهد لابن أبي عاصم ص 224، مرجع سابق.
(1/394)

12- أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه:
فقد أخرج ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القران على عهد رسول الله خمسة من الأنصار معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري «1» ، وقد أراد عمر إرساله إلى الشام ليقرئ أهلها، فلما كان زمن عمر كتب إليه يزيد بن أبي سفيان إن أهل الشام قد كثروا وملؤوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القران ويفقههم فأعني برجال يعلمونهم فدعا عمر الخمسة فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القران، ويفقههم في الدين فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم لأبيّ فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء، فقال عمر: ابدؤوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق والاخر إلى فلسطين «2» .

13- عبادة بن الصامت رضي الله عنه:
كما تقدم، وهو من الذين كانوا يقرئون القران على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهل الصفة.

14- أبو الدرداء رضي الله عنه:
كالسابق، وكان أبو الدرداء مقرئ الشام ورئيسا لجامعة قرانية عظيمة، وسنذكر طرفا من كيفية إقرائه ليستبين كيف كان يأخذ أهل الشام عنه وكيف
__________
(1) فتح الباري (9/ 53) ، مرجع سابق.
(2) سير أعلام النبلاء (2/ 6 و 2/ 344) ، مرجع سابق.
(1/395)

سادت قراءته: فقد قال سويد بن عبد العزيز التنوخي: كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، ويجعل على كل عشرة منهم عريفا، ويقف هو قائما في المحراب يرمقهم ببصره وبعضهم يقرأ على بعض، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فسأله عن ذلك.
وكان ابن عامر عريفا على عشرة، وكان كبيرا فيهم، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر، وقام مقامه مكانه، وقرأ عليهم جميعهم فاتخذه أهل الشام إماما، ورجعوا إلى قراءته، وعن أبي عبيد الله مسلم ابن مشكم، قال لي أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندي القران، فعددتهم ألفا وستمائة ونيفا، وكان لكل عشرة منهم مقرئ، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائما يستفتونه في حروف القران، فإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء، فقد بلغ تلاميذه ألفا وستمائة ونيفا يقرئهم جميعا في يوم واحد بطريقة فذة، كأنه أسس بها جامعة قرانية لها نظمها الإدارية المختلفة «1» .

15- معاذ بن جبل رضي الله عنه:
وهو الذي ورد في حديث أنس وعبد الله بن عمرو السابقين، وقد كان شيخ الناس في القران وإمام العلماء، والناس يصدرون عنه لولا أنه لم يعمّر فعن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد حمص فإذا حلقة فيها نيف وثلاثون رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل الرجل يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا وينصت له الاخرون، وفيهم فتى أدعج براق
__________
(1) جمال القراء وكمال الإقراء (2/ 454) ، مرجع سابق، وانظر: سير أعلام النبلاء (2/ 353) ، مرجع سابق.
(1/396)

الثنايا فإذا اختلفوا في شيء انتهوا إلى قوله، فلما انصرفت إلى منزلي بت بأطول ليلة قلت: جلست في مجلس فيه كذا وكذا من أصحاب النبي عليه السلام لا أعرف منازلهم، ولا أسماءهم، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد فإذا الفتى الأدعج قاعد إلى سارية فجلست إليه: فقلت: إني أحبك لله تعالى قال: فأخذ بحبوتي ثم قال: الله إنك لتحبني في الله؟ قلت: الله إني لأحبك في الله تبارك وتعالى. قال: أفلا أحدثك بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قلت:
بلى! قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «المتحابون في الله يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله» ، فبينا نحن كذلك إذ مر رجل ممن كان في الحلقة فقمت إليه فقلت: إن هذا حدثني حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهل سمعته؟ قال:
ما كان ليحدثك إلا حقا فما هو؟ فأخبرته فقال: سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما هو أفضل منه. قلت: يرحمك الله وما الذي أفضل منه؟ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأثر عن الله تعالى: «حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين، في وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في» قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبادة بن الصامت. قلت: فمن الفتى؟
قال: معاذ بن جبل «1» .
ولكنه تتلمذ على يد ابن مسعود رضي الله عنه ابتداء: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء معاذ إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقرئني. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أقرئه» فأقرأته ما كان معي ثم اختلفت أنا وهو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأه معاذ فكان معلما من المعلمين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم «2» .
__________
(1) المختارة (8/ 309) ، مرجع سابق.
(2) ابن أبي شيبة (6/ 131) ، سير أعلام النبلاء (4/ 74) ، مرجع سابق.
(1/397)

16- خباب بن الأرت رضي الله عنه:
وكان مقرئا من أوائل البعثة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا من بني زهرة لقي عمر قبل أن يسلم وهو متقلد بالسيف فقال: إلى أين تعمد؟ قال: أريد أن أقتل محمدا قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر؟ إن ختنك سعيدا وأختك قد صبوا وتركا دينهما الذي هما عليه. قال: فمشى عمر إليهم ذامرا حتى إذا دنا من الباب قال: وكان عندهما رجل يقال له خباب يقرئهما سورة طه فلما سمع خباب بحس عمر دخل تحت سرير لهما.. «1» . الحديث.
ويتضح مدى حفظ خباب من إحالة ابن مسعود عليه فقد جاءه بعضهم فسأله أن يقرأ عليهم طسم المائتين فقال: ما هي معي ولكن عليكم من أخذها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبّاب بن الأرتّ، فأتينا خبّاب ابن الأرتّ فقرأها علينا «2» ، وحكم على مدى جودة وحفظ أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه.

17- أسيد بن حضير:
وقد كان من القراء المعدودين المشهورين في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم فعن أسيد بن حضير أنه قال: يا رسول الله بينما أنا أقرأ الليلة سورة البقرة إذ سمعت وجبة من خلفي فظننت أن فرسي انطلق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قرأ يا أبا عتيك فالتفت فإذا مثل المصباح مدلى بين السماء والأرض ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «اقرأ يا أبا عتيك» فقال: يا رسول الله فما استطعت أن أمضي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تلك الملائكة نزلت لقراءة سورة البقرة أما إنك لو مضيت لرأيت العجائب» «3» ، وقد
__________
(1) الحاكم (4/ 65) ، مرجع سابق.
(2) أحمد (1/ 419) .
(3) ابن حبان (3/ 58) ، مرجع سابق.
(1/398)

كان شديد التأثر بالقران فعن عائشة أنها قالت: كان أسيد بن حضير من أفاضل الناس، وكان يقول: لو أكون كما أكون على حال من أحوال ثلاث لكنت من أهل الجنة وما شككت في ذلك: حين أقرأ القران، أو حين أسمعه يقرأ، وإذا سمعت بخطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإذا شهدت جنازة ... وما شهدت جنازة قط فحدثت نفسي سوى ما هو مفعول بها وما هي صائرة إليه «1» وفي ترجمة إبراهيم بن جابر الصحابي: أنه كان من جملة العبيد الذين نزلوا على النبي صلّى الله عليه وسلم أيام حصاره الطائف فأعتقه وبعثه إلى أسيد ابن حضير وأمره أن يمونه ويعلمه.

18- مصعب بن عمير رضي الله عنه:
فقد كتبت الأوس والخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابعث إلينا مقرئا يقرئنا القران فبعث إليهم مصعب بن عمير العبدري، فنزل على أسعد بن زرارة فكان يقرئهم القران فروى بعضهم أن مصعبا كان يجمع بهم ثم خرج مع السبعين حتى وافوا الموسم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم «2» ، وعن البراء ابن عازب قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قدم النبي صلّى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فما قدم حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل «3» .
«وكان مصعب يسمى المقرئ بالمدينة، وفي الاستبصار لابن قدامة المقدسي لما قدم مصعب ابن عمير المدينة نزل على أسعد بن زرارة فكان يطوف به على دور
__________
(1) الضياء في المختارة (4/ 275) ، مرجع سابق.
(2) طبقات ابن سعد (1/ 220) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (3/ 1428) ، مرجع سابق.
(1/399)

الأنصار يقرئهم القران ويدعوهم إلى الله عز وجل فأسلم على يديهما جماعة منهم سعد بن معاذ وأسد بن حضير وغيرهما» «1» .

19- عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه:
وما سبق يدل على ذلك، وهو صاحب قصة عبس ... وهنيئا له مقامه.

20- عثمان بن أبي العاص:
وتقدمت قصته في المبحث الثاني من الفصل الثاني، وكانت تعرض المصاحف عليه للتصحيح فعن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة لنعرض مصحفا لنا بمصحفه فجلسنا إلى رجل يحدث ثم جاء عثمان بن أبي العاص فتحولنا إليه «2» .
ومن أخباره رضي الله عنه: أنه تزوج امرأة من نساء عمر بن الخطاب فقال: والله ما نكحتها حين نكحتها رغبة في مال ولا ولد ولكن أحببت أن تخبرني عن ليل عمر رضي الله عنه فسألها كيف كانت صلاة عمر بالليل قالت: كان يصلي العتمة ثم يأمر أن نضع عند رأسه تورا من ماء نغطيه ويتعار من الليل فيضع يده في الماء فيمسح وجهه ويديه ثم يذكر الله ما شاء أن يذكر ثم يتعار مرارا حتى يأتي على الساعة التي يقوم فيها لصلاته «3» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر ومعه كتاب فقال: لأعطين هذا الكتاب رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله
__________
(1) (الكتاني) عبد الحي الإدريسي الحسني الفاسي: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية (1/ 40) ، دار الكتاب العربي- بيروت.
(2) ابن أبي شيبة (7/ 491) ، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الكبير (9/ 43) ، مرجع سابق، وفي مجمع الزوائد (9/ 73) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» .
(1/400)

ورسوله قم يا عثمان بن أبي العاص فقام عثمان بن أبي العاص فدفعه إليه «1» ، وعن أبي نضرة قال: أتيت عثمان بن أبي العاص في أيام العشر وكان له بيت قد أخلاه للحديث فمر عليه بكبش فقال لصاحبه: بكم أخذته؟ فقال: باثني عشر درهما فقلت: لو كان معي اثنا عشر درهما اشتريت بها كبشا فضحيت وأطعمت عيالي فلما قدمت اتبعني بصرة فيها خمسون درهما فما رأيت دراهم قط كانت أعظم بركة منها أعطاني وهو لها محتسب وأنا إليها محتاج «2» ، وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «أم قومك» قال قلت: يا رسول الله إني أجد في نفسي شيئا قال أدنه فجلسني بين يديه ثم وضع كفه في صدري بين ثديي ثم قال تحول فوضعها في ظهري بين كتفي ثم قال: أم قومك.. «3» ..

21- غيرهم رضي الله عنه:
1- عمرو بن سلمة: وتقدمت قصته في المبحث الثاني من الفصل الثاني.
2- شريح الحضرمي: كان من أفضل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم «4» ، فعن السائب بن يزيد أن شريحا الحضرميّ ذكر عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يتوسّد القران» «5» .
__________
(1) الطبراني في الأوسط (1/ 239) ، مسند الحارث (2/ 624) ، مرجعان سابقان، وانظر: مجمع الزوائد (9/ 371) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني (9/ 42) ، مرجع سابق، وفي مجمع الزوائد (9/ 371) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» .
(3) مسلم (1/ 341) ، مرجع سابق.
(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 702) ، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 هـ.
(5) أحمد 3/ 449، النسائي في الكبرى 1/ 412، والصغرى 3/ 256، مراجع سابقة.
(1/401)

3- سعد بن المنذر الأنصاري: وقد قال: يا رسول الله أقرأ القران في ثلاث قال نعم قال وكان يقرؤه حتى توفي «1» .
- عبد الله بن سعد بن خيثمة كنيته أبو خيثمة الأوسي الأنصاري ممن شهد بدرا والعقبة وجوامع المشاهد وكان من المعدودين في القراء والمشهورين في البراز توفى بالمدينة «2» .
5- أبو زيد المذكور في حديث أنس: وليس هو سعد بن عبيد بن النعمان لأن هذا أوسي وأنس خزرجي وقد قال: إنه أحد عمومته وعند ابن أبي داود بإسناد على شرط البخاري إلى ثمامة عن أنس أن أبا زيد الذي جمع القران اسمه قيس بن السكن قال وكان رجلا منا من بني عدي بن النجار أحد عمومتي ومات ولم يدع عقبا ونحن ورثناه، وكان عقبيا بدريا «3» .
6- سعد بن عبيد: وهو الذي قال فيه أبو أحمد العسكري: لم يجمع القران من الأوس غير سعد بن عبيد وقال ابن حبيب في المحبر: سعد بن عبيد أحد من جمع القران على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم «4» ، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان سعد بن عبيد يسمى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم القاري «5» .
__________
(1) الطبراني في الكبير (6/ 51) ، الزهد لابن المبارك ص 452، مرجعان سابقان، وصرح ابن لهيعة في إسناديهما بالتحديث.
(2) مشاهير علماء الأمصار (1/ 26) ، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (9/ 53) ، وانظر: الإتقان (1/ 195) ، مرجعان سابقان.
(4) الإتقان (1/ 195) ، مرجع سابق.
(5) رواه الطبراني في الكبير (6/ 53) مرسلا، مرجع سابق، وانظر: مجمع الزوائد (9/ 402) ، مرجع سابق.
(1/402)

7- قيس بن أبي صعصعة: ذكره ابن أبي داود فيمن جمع القران وهو خزرجي يكنى أبا زيد «1» .
8- ثابت بن قيس بن شماس: وأخرج أبو داود من طريق مرسلة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ألم تر ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح» «2» .
9- سلمان الفارسي: فعن خليد العصري قال لما ورد علينا سلمان أتيناه لنستقرئه فقال إن القران عربي فاستقرئوه عربيا فكان زيد بن صوحان يقرئنا فإذا أخطأ أخذ عليه سلمان وإذا أصاب قال: أيم الله «3» .
10- زياد بن لبيد الأنصاري البياضي: من بني بياضة بن عامر بن زريق قال الواقدي: خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأقام معه بمكة حتى هاجر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة فكان يقال لزياد مهاجري أنصاري شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واستعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلم على حضرموت «4» وقد ورد ما يشير إلى تقدمه وحفظه فعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء» فقال زياد ابن لبيد الأنصاري: يا رسول الله! وكيف
__________
(1) فتح الباري (9/ 53) ، مرجع سابق. ملحوظة مهمة: وجدت أن ابن حجر في الفتح والسيوطي في الإتقان يعزوان لابن أبي داود ما ليس في كتابه المصاحف، والظاهر أن عزوهما غير المصرح به إنما هو لكتاب الشريعة إما شريعة المقاري وهو الأرجح كما يظهر من اسمه، وإما شريعة التفسير، وله ثالث هو كتاب فضائل القران، ورابع هو كتاب نظم القران- انظر: كتاب المصاحف (1/ 57) ... فيحتمل العزو لها جميعا.
(2) تحفة الأحوذي (8/ 157) ، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (6/ 410) ، مرجع سابق.
(4) الاستيعاب (2/ 533) ، مرجع سابق.
(1/403)

يختلس منا وقد قرأنا القران فو الله لنقرأنه ولتقرئنه نساءنا وأبناءنا، وفي لفظ للحاكم: قال زياد: بأبي وأمي وكيف يذهب أوان العلم ونحن نقرأ القران ونعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى أن تقوم الساعة فقال: «ثكلتك أمك يا زياد إني كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة هذا التوراة والإنجيل ثم اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم» «1» .
11- ومنهم وبر بن مشهر الحنفي: فعنه رضي الله عنه أن مسيلمة بعثه هو وابن سعاف الحنفي وابن النواحة حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال وبر بن مشهر رضي الله عنه: كانا هما أسن مني فتشهدا أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأن مسيلمة من بعده قال فأقبل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «بم تشهد يا غلام؟» فقلت: أشهد بما شهدت به وأكذب بما كذبت به قال: «فإني أشهد عدد ترب الدهناء وترب يثرب أن مسيلمة كذاب» . قال وبر رضي الله عنه: شهدت بما شهدت به. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«خذوهما» قال فأخذا فأخرج بهما إلى البيت يحبسان فقال رجل: هبهما لي يا رسول الله ففعل فخرجا وأقام وبر بن مشهر ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتعلم القران حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورجع صاحباه فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدم وبر رضي الله عنه فنزل على أمه بعرقبا فسمع به مسيلمة فأرسل إليه فقال: لا يراني الله تعالى أمشي إليه أبدا فأرسل إليه إذا لأدمينك في حجر أمك فأبى فأصرف عنه حتى جاء خالد بن الوليد رضي الله عنه فغزاه وغزا معه وقتل مسيلمة وخرج وبر.. «2» ..
12- وهناك أسماء أخرى غير مشهورة ومنها: أبان بن سعيد بن العاص فقد ذكر ابن حجر في الإصابة عن الواقدي أن صحابيا يقال له وردان أسلمه النبي صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) الحاكم (1/ 179) ، الترمذي (5/ 31) ، مرجعان سابقان.
(2) الاحاد والمثاني (3/ 308) ، مرجع سابق، وانظر ترجمته في الإصابة (6/ 598) ، مرجع سابق.
(1/404)

إلى أبان بن سعيد بن العاص ليمونه ويعلمه القران «1» ... ويؤكد هذا استعمال عثمان لأبان في نسخ المصاحف.
13- وذكر في التراتيب الإدارية «2» عددا من المعلمين للقران على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، والأصل في معلم القران أن يكون حافظا له على ما هو معلوم، فمنهم: رافع بن مالك الأنصاري ترجمه في الإصابة فذكر عن ابن إسحاق أنه أول من قدم المدينة بسورة يوسف، وأن الزبير بن بكار روى في أخبار المدينة أن رافعا لما لقي المصطفى صلّى الله عليه وسلم بالعقبة أعطاه ما أنزل إليه في العشر سنين التي خلت فقدم به رافع إلى المدينة ثم جمع قومه فقرأ عليه في موضعه قال وعجب المصطفى صلّى الله عليه وسلم من اعتدال قلبه «3» .
14- ومنهم خالد بن سعيد بن العاص ففي ترجمة لأزرق بن عقبة الثقفي من عبيد الحارث بن كلدة الثقفي أنه ممن نزل على النبي صلّى الله عليه وسلم في حصار الطائف وأنه أسلم وأعتقه وسلمه لخالد بن سعيد بن العاص ليمونه ويعلمه «4» .
15- ومنهم عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري قال في الاستبصار في أنساب الأنصار: استعمله رسول الله على نجران وهو ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين ويعلمهم القران ويأخذ صدقاتهم وذلك سنة عشر «5» .
16- وذكر أبو القاسم الهذلي منهم أيضا غير من تقدم: طلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وأبو برزة، ومعاوية بن أبي سفيان «6» .
__________
(1) الإصابة (6/ 602) ، مرجع سابق.
(2) نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية (1/ 44) ، مرجع سابق.
(3) الإصابة (2/ 444) .
(4) الإصابة (1/ 46) .
(5) نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية (1/ 44) ، مرجع سابق.
(6) الكامل ص 40 وجه ب، وكذا عدهم الكردي في تاريخ القران ص 69. انظر: تاريخ القران وغرائب رسمه وحكمه ص 8.
(1/405)

17- وقد يقال بأن حارثة بن النعمان منهم: فعن عروة عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت: من هذا؟ فقيل: «حارثة بن النعمان» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كذلكم البر» وكان برا بأمه، وفي لفظ: كان أبر الناس بأمه «1» .
18- ومن النساء الحافظات في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم عائشة ولذا كانت تضبط الايات وعددها: فعنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا فيقرأ وهو جالس فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين اية قام فقرأ وهو قائم ثم ركع ثم سجد ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك «2» ، وهي نفت عن نفسها الحفظ الكامل في أوائل زواجها برسول الله صلّى الله عليه وسلم حين رميت بحادث الإفك إفكا وزورا وهي الطاهرة المطهرة فقالت: «فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القران» «3» ، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما توفي بعد حادثة الإفك بخمس سنوات على الأقل ... فعائشة العالمة التي يصدر عن فتواها كبار الأئمة من الصحابة أفما كانت تحفظ القران؟.
19- حفصة بنت عمر بن الخطاب:
20- وأم سلمة: ويدل على ذلك شدة عنايتهن باتخاذ المصاحف.
وتعلمت حفصة الكتابة من الشفاء بنت عبد الله فعن الشفاء قالت: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: «ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة» «4» .
__________
(1) الإصابة (1/ 618) ، مرجع سابق، وقال ابن حجر: «إسناده صحيح» .
(2) البخاري (1/ 376) ، مسلم (1/ 505) ، مرجعان سابقان.
(3) مسلم (4/ 2135) ، ابن حبان (10/ 20) ، مرجعان سابقان.
(4) أبو داود (4/ 11) ، النسائي في الكبرى (4/ 366) ، مرجعان سابقان.
(1/406)

21- أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث: فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول عنها:
انطلقوا بنا نزور الشهيدة وأذن لها أن يؤذن لها مؤذن، وأن تؤم أهل دارها في الفريضة وكانت قد جمعت القران «1» ، وكان من شأنها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يزورها ويسميها الشهيدة ولما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا قالت له: أتأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم، وأمرض مرضاكم لعل الله يهدي لي شهادة قال: «إن الله مهد لك شهادة» ، وكان قد أمرها أن تؤم أهل دارها وكان لها مؤذن فغمها غلام لها وجارية كانت دبرتهما فقتلاها في إمارة عمر فقال عمر صدق رسول الله كان يقول: «انطلقوا بنا نزور الشهيدة» .
22- أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان فعنها قالت: لقد مكثنا سنة أو سنتين كان تنّورنا وتنّور النّبيّ صلّى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة وما أخذت ق والقران المجيد إلّا على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ بها كلّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب النّاس وفي لفظ: كان يعلم الناس يقرأها كل جمعة على المنبر «2» .
وهل يفهم من كلامها حفظها الكامل للقران الكريم، أو جعل الحفظ بدهية في حياتها؟ احتمال.
وأما بعد النبي صلّى الله عليه وسلم فقد كثرت الحافظات من التابعيات، ومن أشهرهن:
حفصة بنت سيرين أم الهذيل الفقيهة الأنصارية روت عن أم عطية، وروي عن إياس بن معاوية قال: ما أدركت أحدا أفضله عليها، وقال: قرأت القران وهي بنت ثنتي عشرة سنة وعاشت سبعين سنة فذكروا له الحسن وابن سيرين فقال: أما أنا فما أفضل عليها أحدا «3» .
__________
(1) ابن خزيمة (3/ 89) ، البيهقي في الكبرى (3/ 130) ، مرجعان سابقان.
(2) مسلم (2/ 595) ، الحاكم (1/ 421) ، المسند المستخرج على مسلم (2/ 458) .
(3) سير أعلام النبلاء (4/ 507) ، مرجع سابق.
(1/407)

23- وعدّ ابن أبي داود في كتاب الشريعة من المهاجرين أيضا تميم بن أوس الداري، وعقبة بن عامر، ومن الأنصار معاذا الذي يكنى أبا حليمة، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد، وغيرهم وصرح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبي صلّى الله عليه وسلم وعد بعض المتأخرين من القراء سعد بن عبادة» «1» .
24- ولما تقدم فقد ذكر أبو عبيد في كتاب القراات القراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة وطلحة وسعدا وابن مسعود وحذيفة وسالما وأبا هريرة وعبد الله بن السائب والعبادلة وعائشة وحفصة وأم سلمة «2» .
فعدة المذكورين من المشتهرين بأنهم أئمة للقراءة والإقراء نافت على خمسين صحابيا.
ولو ذهب المرء يعدد المشهورين بالحفظ بعد النبي صلّى الله عليه وسلم من الصحابة فإنهم سيستطيلون إلى المئات ... وهناك من القراء الذين لم تعرف أسماء كثير منهم:
أصحاب بئر معونة، وأصحاب اليمامة، وكثير من أهل أحد ... فذلك ما لا يقل عن مائة وعشرين حافظا بالإضافة إلى هؤلاء الخمسين.
لا تنافي بين ذكر هذا العدد الكثير وما اشتهر من قلة حفاظ الصحابة رضي الله عنهم:
«لا تنافي بين ذكر هذا العدد الكثير المصرح باسمه وبين ما اشتهر من الذين جمعوا القران هم عشرة؛ إذ قد وجه البعض هذه الشهرة بأنها محمولة على جمعهم له بأوجه القراات والسبعون من أصحاب بئر معونة، وغيرهم من المذكورين تصريحا أو تلميحا مما سبق كانوا يحفظونه بدون أوجه القراات، وقد نظم بعضهم العشرة فقال:
__________
(1) فتح الباري (9/ 52) ، مرجع سابق.
(2) الإتقان (1/ 195) ، ونقل ذلك صاحب مناهل العرفان (1/ 169) ، مرجعان سابقان.
(1/408)

لقد جمع القران في عهد أحمد ... علي وعثمان وزيد بن ثابت
أبي أبو زيد معاذ وخالد ... تميم أبو الدرداء وابن لصامت»
«1» وعند الباحث أن هؤلاء العشرة تفرغوا للإقراء واشتهروا به بخلاف غيرهم الذين شغلوا بأمور أخرى.
ولن يتوسع البحث في الكلام عن الطبقة الثانية من الصحابة وهم الذين أخذوا عن الصحابة رضي الله عنهم، وما أكثرهم- فضلا عن التابعين- والإحصاء المذكور عن تلاميذ أبي موسى يوضح الانتشار الهائل للقران الكريم، ومن هؤلاء الصحابة من ذكرهم الذهبي في الطبقة الثانية في طبقاته كأبي هريرة وابن عباس وعبد الله ابن السائب ابن أبي السائب مقرئ مكة، وهو من صغار الصحابة «2» وقال فيه مجاهد: كنا نفخر على الناس بقارئنا عبد الله بن السائب «3» .
__________
(1) حاشية البجيرمي على تحفة الطلاب (1/ 208) ، مرجع سابق.
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 388) ، مرجع سابق.
(3) ابن أبي شيبة (6/ 139) ، مرجع سابق.
(1/409)

المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم جمع القران:
والمراد بالجمع هنا هو كتابة ايات القران وترتيب سوره عند كتابته، وقد يطلق على هذا الباب من العلم تأليف القران كما قال الإمام البخاري «باب تأليف القرانط أي جمع ايات السورة الواحدة أو جمع السور مرتبة في المصحف «1» ، وقد استعملت كلمة تأليف فيما قاله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: خرجت أتعرّض رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقّة فجعلت أعجب من تأليف القران قال فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش قال فقرأ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (الحاقة: 40- 41) قال: قلت كاهن قال: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (الحاقة: 42- 47) إلى اخر السّورة قال فوقع الإسلام في قلبي كلّ موقع «2» ، وتنحصر معالم تعليمه صلّى الله عليه وسلم لهذا الموضوع في المطالب التالية:
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم كتابة القران.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ترتيب ايات القران الكريم، وسوره.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم تحزيب القران.
المطلب الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم عد الاي (علم الفواصل) .
وغير غائب عن القارئ الكريم أن هذه المطالب تمثل تأصيلا لعلوم مستقلة من علوم القراءة.
__________
(1) فتح الباري (9/ 39) ، مرجع سابق.
(2) أحمد (1/ 17) ، مرجع سابق، وفي مجمع الزوائد (9/ 62) .
(1/410)

المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم كتابة القران:
1- أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بكتابة القران، وتطبيق المقتضى الفعلي لتسميته كتابا مع أنه لم يكن كاتبا صلّى الله عليه وسلم، واشتد في ذلك حتى منع ابتداء من كتابة غير القران معه فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لا تكتبوا عني غير القران ومن كتب عني غير القران فليمحه» «1» ، وقد استقر الاصطلاح الكتابي نسبيا إلى عهد البعثة كما جاء عن زياد بن أنعم المعافري قال: قلت لعبد الله بن عباس: معاشر قريش هل كنتم تكتبون في الجاهلية بهذا الكتاب العربي تجمعون فيه ما اجتمع، وتفرقون ما افترق هجاء بالألف واللام والميم، والشكل والقطع، وما يكتب به اليوم قبل أن يبعث الله النبي صلّى الله عليه وسلم؟ قال: نعم «2» ...
2- علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم تسمية ما يكتب فيه القران بالصحف في قوله سبحانه وتعالى:
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (البينة: 2) «يعني ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها وهو القران، ويدل على ذلك أنه كان يتلو عن ظهر قلبه لا عن كتاب» «3» ، وفي ذلك تعليم ظاهر بأن يكتب القران في صحف.
3- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم نؤلف القران من الرقاع.. «4» ..
4- وأنكر عليهم صلّى الله عليه وسلم ابتداء الكتابة لغير القران بصيغ أشد فعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قالا: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم معصوبا رأسه فرقي المنبر فقال:
«ما هذه الكتب التي يبلغني أنكم تكتبونها؟ أكتاب مع كتاب الله؟ يوشك أن
__________
(1) مسلم (4/ 2298) ، الحاكم (1/ 216) ، ابن حبان (1/ 265) ، المختارة (9/ 82) ، مراجع سابقة.
(2) المحكم (1/ 26) ، مرجع سابق.
(3) فتح القدير (5/ 475) ، مرجع سابق.
(4) ابن حبان (1/ 320) ، الحاكم (2/ 249) ، الترمذي (5/ 734) ، أحمد (5/ 184) ، مراجع سابقة.
(1/411)

يغضب الله لكتابه فيسري عليه ليلا فلا يترك في ورقة ولا في قلب منه حرفا إلا ذهب به» فقال بعض من حضر المجلس: فكيف يا رسول الله بالمؤمنين والمؤمنات؟
قال: «من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله» «1» ، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل كتبوا كتابا واتبعوه وتركوا التوراة» «2» ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي صلّى الله عليه وسلم فخرج علينا فقال: «ما هذا تكتبون» فقلنا: ما نسمع منك. فقال:
«أكتاب مع كتاب الله امحضوا كتاب الله وأخلصوه» قال: فجمعنا ما كتبناه في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار.. «3» ..

جمع القران في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم:
وهذه الأدلة المتعاضدة بصحيحها وسقيمها تدل على أن تأليف القران من الرقاع أي جمعه كان أمرا معتادا في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم كما تدل عليه لفظة (كنا) ، وهو ما يعني أن القران قد ألف في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم أي جمع.

الإذن لهم بكتابة غير القران:
1- ثم أذن لهم النبي صلّى الله عليه وسلم بكتابة غير القران من بعد فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعيه بقلبه وكنت أعيه بقلبي ولا أكتب بيدي وأستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الكتابة عنه فأذن له «4» ، وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: خرج
__________
(1) الطبراني في الأوسط (7/ 288) ، مرجع سابق، وانظر: مجمع الزوائد (1/ 151) ، مرجع سابق.
(2) الدارمي (1/ 135) ، الطبراني في الأوسط (5/ 359) .
(3) أحمد (3/ 12) ، مرجع سابق.
(4) أحمد (2/ 403) ، وانظر: مجمع الزوائد (1/ 151) ، مرجع سابق.
(1/412)

علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: «تحدثوا وليتبوأ من كذب علي مقعده من جهنم» قلت: يا رسول الله! إنا نسمع منك أشياء فنكتبها. قال: «اكتبوا ولا حرج» «1» .
2- وبعد أن أذن لهم بكتابة غير القران معه ربما ترخصوا فكتبوا التفسير الذي سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلم أو استنبطوه بما دل على الجزم به عندهم، فيعدها من لا يعلم قراءة وهما فعن أبي يونس مولى عائشة أنه قال ثم أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الاية فاذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلما بلغتها اذنتها فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم «2» فما الذي سمعته؟ أيقرأ تلاوة أم يقرأ قراءة تفسير؟ ... وتفصيل ذلك في الفصل الخامس عند الكلام على القراءة التفسيرية- إن شاء الله تعالى-.
3- وكانوا يعرضون ما يملي عليهم من كتاب بعد إملائه فعن زيد ابن ثابت رضي الله عنه قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة وعرق عرقا شديدا مثل الجمان، ثم سرى عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة فأكتب وهو يملي علي فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القران حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت قال اقرأ فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس «3» .
4- وكان الصحابة رضي الله عنهم يجتهدون في كتابة القران عنه صلّى الله عليه وسلم كما قال علي رضي الله عنه قال: ما كتبنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا القران وما في هذه الصحيفة.. «4» ..
__________
(1) وقال الطبراني في الكبير (4/ 276) .
(2) مسلم (1/ 437) ، مرجع سابق.
(3) الطبراني في الأوسط (2/ 257) ، والكبير (5/ 142) .
(4) البخاري (3/ 1160) ، ابن حبان (1/ 551) ، مرجعان سابقان.
(1/413)

ومما يدل على انتشار الكتابة: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانت المصاحف لا تباع كان الرجل يأتي بورقة عند النبي صلّى الله عليه وسلم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب ثم يقوم اخر فيكتب حتى يفرغ من المصحف «1» .
5- وقد اتخذ لكتابة الوحي عددا كبيرا من صحابته واشتهر أمرهم، وممن ذكرهم عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن الأرقم فكان يكتب إلى الملوك، فبلغ من أمانته عنده أنه كان يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ثم يأمر به أن يطينه ثم يختم لا يقرأ لأمانته عنده واستكتب أيضا زيد بن ثابت فكان يكتب ويكتب إلى الملوك أيضا فكان إذا غاب عبد الله بن الأرقم وزيد بن ثابت واحتاج أن يكتب لإنسان كتابا يقطعه أمر من حضر أن يكتب وقد كتب له عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاص وغيرهم ممن قد سمي من العرب «2» ، وقد أفردت بأخبارهم المصنفات في كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم ومن أكبرها: «المصباح المضيء لابن حديدة، وقد أوصلهم العراقي في ألفيته إلى (42) كاتبا» «3» .
ولكن المكتوب المجموع (المؤلف) في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم هل بقي مع زيد وأمثاله من الكتبة أو كان رسميا مع النبي صلّى الله عليه وسلم؟ النصوص تدل على الأول، ولذا احتيج إلى جمع مصحف رسمي في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
وما سبق يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم علمهم كتابة القران:
__________
(1) البيهقي في الكبرى (6/ 16) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الكبير (5/ 108) ، مرجع سابق.
(3) فقه النوازل قضايا فقهية معاصرة (2/ 104) .
(1/414)

وبهذا الاعتبار يكون النبي صلّى الله عليه وسلم قد علمهم كتابة القران «1» أي أمرهم وتابعهم مع أنه بقي لا يكتب على اخر حياته على الراجح، وعلى إثر ذلك نشأ فن رسم المصحف.

وأشار إليهم النبي صلّى الله عليه وسلم بكتابة المصحف بين دفتين:
وواضح مما سبق أن النبي صلّى الله عليه وسلم أشار إليهم بكتابة القران في مكان واحد مما يبين التبكير في كتابة القران وجمعه وأنه ليس من أمر أبي بكر بل بإشارات النبي صلّى الله عليه وسلم كما تقدم ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: «بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا» «2» ، ولعل هذا الحديث وأمثاله هو الذي احتج به عمر في إقناع أبي بكر بجمع القران، ولعله ذكره به، وبنحوه من الأدلة مما يشير إلى جمع القران كاملا في مصحف.
وقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن ايات القران المجيد كتبت في الملأ الأعلى (التنزيل الجملي) كما قال الله سبحانه وتعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (البروج: 21- 22) ، وهذا يشير إلى ضرورة كتابته كذلك في الأرض، ومن الإشارات القرانية لذلك كما في قوله جل جلاله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (البينة: 2) ففي ذلك إشارة واضحة لتلاوة القران من صحف مطهرة، فكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم «يكتبه كتبته بإملائه إيّاه عليهم، وهل يخفى على متصوّر معنى صحيحا في قلبه أنّ ذلك كان تنبيها على كتبه وضبطه بالتّقييد في الصّحف، ولو كان ما ضمنه الله
__________
(1) في موضوع رسم المصحف يرجع إلى كتبه المتعددة: ومن أخصر هذه الكتب وأجمعها: (ابن وثيق) أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأموي الأندلسي ت 654 هـ: الجامع لما يحتاج إليه من رسم المصحف، تحقيق د. غانم قدوري حمد، ط 1، 1408 هـ- 1988 م، بغداد- العراق.
(2) خلق أفعال العباد ص 88، مرجع سابق.
(1/415)

من حفظه لا عمل للأمّة فيه لم يكتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد إخبار الله له بضمان حفظه، ولكن علم أنّ حفظه من الله يحفظنا وتيسيره ذلك لنا وتعليمه لكتابته وضبطه في الصّحف بيننا «1» .

تعليمه صلّى الله عليه وسلم تسمية القران المكتوب بالمصحف:
فقد سماه النبي صلّى الله عليه وسلم بالمصحف صريحا في قوله صلّى الله عليه وسلم: «من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف» «2» ، وقد كانت تسمية المصحف شائعة عندهم، ومن ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بابن له فقال:
يا رسول الله إنّ ابني هذا يقرأ المصحف بالنّهار ويبيت باللّيل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما تنقم أنّ ابنك يظلّ ذاكرا ويبيت سالما» «3» ..

على أي حرف كتب القران في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم؟:
الظاهر أن المصحف في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم كتب على قراءة العامة ولذا كان الصحابة في عهد أبي بكر يبحثون عن المكتوب بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم ويستشهدون على كتابته بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم شاهدين، وأما ما «وقع من اختلاف مصاحف الأمصار في عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاات وعدة لامات، ونحو ذلك فهو محمول على أنه نزل بالأمرين معا، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصا واحدا، وأمره بإثباتهما على الوجهين» «4» .
__________
(1) أحكام القران لابن العربي (2/ 332) عند تفسير قوله جل جلاله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ....
(2) شعب الإيمان (2/ 408) ، مرجع سابق، ورواه (أبو نعيم) في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 209) .
(3) أحمد (2/ 173) ، مرجع سابق وهو في مجمع الزوائد (2/ 270) .
(4) فتح الباري (9/ 30) ، مرجع سابق.
(1/416)

تواتر المصحف كما هو يضاف إلى التواتر القراني:
ولذا كان أكبر دليل يضاف إلى التواتر القراني ليجعل القطع بصحة القران مع التناقل الشفوي اضطراريا أن مصاحف المسلمين هي «التي اجتمع عليها السلف المرضيون والخلف المتبعون، فمن قرأ بحرف ولا يخالف المصحف بزيادة أو نقصان أو تقديم مؤخر أو تأخير مقدم وقد قرأ به إمام من أئمة القراء المشتهرين في الأمصار فقد قرأ بحرف من الحروف السبعة التي نزل القران بها، ومن قرأ بحرف شاذ يخالف المصحف وخالف في ذلك جمهور القراء المعروفين فهو غير مصيب وهذا مذهب أهل العلم الذين هم القدوة ومذهب الراسخين في علم القران قديما وحديثا» «1» .

معنى جعل (رسم المصحف) ركنا من أركان القراءة:
وصار بموجب هذا الإلحاح الشرعي على كتابة المصحف، والتعليم لضرورة الكتابة لا بد من التزام المكتوب المتيقن من كتابته أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه الضابط للتلقي، مع أمن عدم التغيير بكثرة الحفاظ، وكثرة الترداد، ثم تداعى الصحابة رضي الله عنهم على إثر ذلك لجمع هذا المكتوب في مكان واحد هو المصحف الذي أشار النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته باكرا وذلك في زمان أبي بكر، ثم تداعوا- بعد- لكتابة نسخ متعددة منه وتوزيعه على الافاق ليكون ضابط الشرعية لأي قراءة تتلقى وذلك زمن عثمان، ولذا أشار العلماء سلفا وخلفا إلى ضرورة التزام رسم المصحف، وأن «الرسم دليل علمي» «2» ، ومن أوائل من أشار إلى لزوم اتباع خط المصحف الإمام الطبري «3» .
__________
(1) لسان العرب (9/ 41) ، مرجع سابق.
(2) نيل الأوطار (2/ 228) ، مرجع سابق.
(3) الطبري (2/ 328) ، مرجع سابق.
(1/417)

وعمم عثمان رضي الله عنه المصاحف في عهده لذلك تعميما رسميا بحيث يكون في كل أفق مصحف كتبته الجماعة:
إذ «علم أن الوهم لا يعرى منه بشر، وأن في الناس منافقين يظهرون الإسلام ويكنون الكفر، فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين ولا فرق، إلا أنها نسخت بحضرة الجماعة فقط، ثم بعث إلى كل مصر مصحفا يكون عندهم فإن وهم واهم في نسخ مصحف وتعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف أو في القراءة رجع إلى المصحف المشهور المتفق على نقله ونسخه، فعلم أن الذي فيه هو الحق» «1» .
وليس اشتراط الرسم لأنه توقيفي والنبي صلّى الله عليه وسلم قد علمه بنفسه؛ إذ هو أمي فكيف يفعل ذلك؟ ... بل المراد هو الضبط للمنقول المتلقى وهو ما كان يؤكد عليه ابن حزم- رحمه الله تعالى- معتبرا كل ما ورد من قراءة خلاف المتلقى فهو تفسير أو نحو ذلك أو كذب «2» .
كما أنه ليس المراد من اشتراط موافقة خط المصحف أن يكون المصحف إماما في القراءة:
بل هو تابع في القراءة للمشافهة لزيادة الضبط ومحاصرة المشافهة، ولدرء ادعاء الزيادة عليه أو النقصان منه على ما هو مفهوم ذاتي لمعنى (قران) ، ولأنه تابع للمشافهة فإنه لا يتابع إجماعا من الناحية الصوتية في عدد من الكلمات التي رسمت خلاف النطق نحو السموات، الربا، الحياة.
__________
(1) الأحكام لابن حزم (4/ 552) ، مرجع سابق، وانظر نحو هذا التقرير: ابن العربي (2/ 332) عند تفسير اية براءة، مرجع سابق.
(2) انظر: الأحكام لابن حزم (4/ 556) ، مرجع سابق.
(1/418)

وكانت المصاحف قد انتشرت بينهم:
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه «1» ، وبذا صار لمعظم الصحابة مصاحفهم الشخصية التي تنسب إليهم نسبة تملك.

المصاحف الشخصية المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم:
«وهناك مصاحف أخرى منسوبة إلى مجموعة من الصحابة ذكرها السجستاني في المصاحف نذكر منهم: عبد الله بن عباس- عمر بن الخطاب- حفصة بنت عمر عائشة بنت أبي بكر- أم سلمة- عبد الله ابن عمرو- عبد الله بن الزبير «2» .
والحقيقة أن هذه المصاحف ليست إلا مصحفا شخصيا ينسب إلى الصحابي نسبة تملك، وقد تكون أجزاء من القران الكريم كتبها كل واحد منهم بناء على ما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم عليه السلام، وأطلق عليها اسم المصاحف مجازا لأن جمع المصحف لم يكن لأحد من الصحابة قبل أبي بكر وإلا لما تكلف عناء جمعه على المنهج الصارم في عهد أبي بكر «3» ، وكل هذه المصاحف ما اكتمل إلا بعد جمع أبي بكر رضي الله عنه للقران في مكان واحد.
وأما ما يعزى إليها من قراات مخالفة للقراات العامة المتناقلة، أو من ترتيب مخالف فعليه الملحوظات التالية:
1- الشك الكبير في صحة الروايات الواردة فيها؛ فإن الروايات الواردة اتية إما مما أسنده ابن أبي داود في كتاب المصاحف ومعظمها منقطع أو معضل «4» ، أو
__________
(1) الطبري (7/ 257) ، مرجع سابق.
(2) انظر المصاحف (1/ 400) ، مرجع سابق، وانظر: معجم القراات القرانية (1/ 29) ، مرجع سابق.
(3) وانظر: معجم القراات القرانية (1/ 29) ، مرجع سابق.
(4) انظر: كتاب المصاحف 1/ 246 وما بعدها.
(1/419)

تكون استنباطا، أو مما رواه الفضل بن شاذان في كتاب الفهرست وأمثاله يقول:
أخبرنا الثقة من أصحابنا «1» وهذا سند منقطع لقرون ... والشك في بقاء هذه المصاحف التي رتبت ترتيبا اخر كبير بعد أن أمر عثمان بإحراق المصاحف وكان أشهر من وافقه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، وقد لوحظ أن أكثر الروايات التي تذكر مخالفة مصحف ابن مسعود رضي الله عنه للمصحف الإمام تعود للشيعة ... وهذا فيه ما هو ظاهر.
2- بحث ظاهرة تعدد المصاحف يتم من وجهين: من حيث ثبوت نسبتها ثم ما نسب إليها من قراات، فقد تعامل معها كثرة من الباحثين على أنها حقائق مسلمة، وذلك يفتقر إلى الإسناد الصحيح، ولا يعني ذلك أن الباحث يميل إلى نفي ما ورد بالكلية بل المراد أن ما أسند وما لم يسند مما نقل يطرأ عليه الشك في عينه لا في أصله، ولذا فتعامل كثرة من الباحثين على أن ما نقل كله صحيح فيه نظر كبير إن لم يرجح نفيه، ومما يؤلم أن يجعل بعض من الباحثين جميع ما ورد في كتب التفسير والقراات قراات صحيحة- تأثرا بمنهج المستشرقين في قبول كل ما نقل-؟ «2» ولا يعني هذا نفي وجودها بالكلية ... وقد قال الجصاص- رحمه الله تعالى- مبينا خطورة القول بما يشاع من القراءة بما ينسب إلى مصحف عبد الله:
«وفي القول بهذا المصحف خروج عن الملة، ويكون معنى قولهم أنه في حرف عبد الله أن ذلك كان من القران في حرف عبد الله ثم نسخت التلاوة وبقي الحكم، لأنه
__________
(1) الفهرست (1/ 41) ، مرجع سابق.
(2) انظر مقدمة كتاب (معجم القراات القرانية) الصفحة (ز) فقد أشارا الكاتبان إلى الحاجة لإعداد معجم قرائي يضم بين دفتيه كل ما صحت به القراءة عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، وأن هذا هو ما فعلاه فلا يدرى أي معيار للصحة اعتمداه ... على أن على منهج المعجم ملاحظات كثيرة يبدو أن عدم تخصص الجامعين أو عدم إلمامهما بالقراات سندا متلقى سبب لذلك مع أن الجهد المبذول جهد هائل مشكور.
(1/420)

لو كان المراد أنه ثابت في حرف عبد الله بعد وفاة الرسول عليه السلام لما جاز أن يكون نقله إلينا إلا من الوجه الذي نقل إلينا منه سائر القران، وهو التواتر والاستفاضة حتى لا يشك أحد في كونه منه» «1» .
3- وقد أكثر صاحب كتاب المباني من نقل الردود على من يقر بوجود هذه المصاحف المخالفة في الترتيب لمصحف العامة، حتى نقل عن المصحف المنسوب لأبي قوله: «ليس يعرف لأبي مصحف يخالف هذا المصحف إلا ما ينسب بخبر الواحد دون الجمع الذي يلزم اليقين وإنما كانت قراءته هذه القراءة التي عليها العامة» ... إلى أن يقول: «وقد ذكر بعض مشايخنا رحمهم الله أنه رأى مصحفا منسوبا إلى أبي خالف ببعض حروفه حروف هذا المصحف، لكنا لا نأمن أن يكون من جهة بعض من يحب الافتخار بالغريب، فإن هذه بلية قد أضرت بالدين، وأخلت بمصالح المسلمين» «2» .

المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ترتيب ايات القران الكريم وسوره:

أولا: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ترتيب ايات القران الكريم
وهذه مسألة بدهية، ولذا كان الصحابة رضي الله عنهم يميزون أرقام الايات وأماكنها دون أن يختلف فيهم اثنان في تحديد المكان، حتى قال السيوطي- رحمه الله تعالى-:
«الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الايات توقيفي لا شبهة في ذلك» أي
__________
(1) (الرازي) أحمد بن علي الرازي الجصاص ت 370 هـ الفصول في الأصول (2/ 252) ، تحقيق: د. عجيل جاسم النشمي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، ط 1، 1405 هـ.
(2) (ابن عطية) عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن عطية أبو محمد الغرناطي ت 546 هـ: مقدمتان في علوم القران (وهما مقدمة كتاب المباني، ومقدمة ابن عطية ص 47- 48، نشرهما المستشرق الدكتور ارثر جفري- ووقف على تصحيح الطبعة الثانية: عبد الله إسماعيل الصاوي- مكتبة الناجي بالقاهرة، وانظر: معجم القراات القرانية ص 38.
(1/421)

بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم «1» وقال مكي- رحمه الله تعالى-: «ترتيب الايات في السور بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة» «2» ، وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: «ترتيب الايات أمر واجب، وحكم لازم فقد كان جبريل عليه السّلام يقول ضعوا اية كذا في موضع كذا» «3» .
ومن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الاية هذا الموضع من هذه السورة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى إلى اخرها «4» ، وعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً قد نسختها الاية الاخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه «5» ، وعن عمر رضي الله عنه قال: ما سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: تكفيك اية الصيف التي في اخر سورة النساء «6» ، وما تقدم في حفظ عشر ايات من سورة الكهف أولا أو اخرا، ومن ذلك النصوص الدالة على ذلك إجمالا ما ثبت من قراءته لسور عديدة وتحيد الصحابة لها بعدد الايات، ومن أشهر ما يدل على ذلك نزول القران خمسا خمسا، «وتدل قراءته لها بمشهد من الصحابة أن ترتيب اياتها توقيفي وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبا سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ على خلافه فبلغ ذلك مبلغ التواتر» «7» .
__________
(1) الإتقان (1/ 167) .
(2) الإتقان (1/ 168) .
(3) بواسطة الإتقان (1/ 168) .
(4) أحمد (4/ 218) ، مرجع سابق، وحسّن إسناده الهيثمي في المجمع (7/ 49) ، والسيوطي في الإتقان (1/ 168) ، مرجعان سابقان.
(5) البخاري (4/ 1646) ، مرجع سابق.
(6) مسلم (1/ 396) ، ابن حبان (5/ 444) ، مرجعان سابقان.
(7) الإتقان (1/ 169) ، مرجع سابق.
(1/422)

ملحظ منهجي:
وها هنا ملحظ ضروري أن الباحث اضطر إلى ذكر ذلك اضطرارا تبعا لبعض العلماء الذين يذكرونها، ولكن الظاهر أن منهج قراءة القران الكريم ليس بحاجة إلى الاستدلال بهذه النصوص المتوافرة؛ وإن كان يستأنس بها؛ فالدليل الكلي لإثبات هذه حقيقة التوقيفية النبوية التعليمية لترتيب ايات القران الكريم والتلقي أمما عن أمم، وشعوبا عن شعوب وهو ما يسمى بالتواتر القراني، وحال تثبيت هذا الاحتياج لهذه الأدلة فإنا سنحتاج إلى أن نثبت بالمنهج الحديثي أن ايات سورة البقرة هي الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ..... (البقرة: 1- 286) وذلك ما لا يقوله أحد، وذلك ما أكده الباقلاني في الانتصار حيث قال: «الذي نذهب إليه أن جميع القران الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه ولم ينسخه ولا رفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان، وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه، وإن الأمة ضبطت عن النبي صلّى الله عليه وسلم ترتيب اي كل سورة ومواضعها وعرفت مواقعها كما ضبطت عنه نفس القراات وذات التلاوة» «1» .

ثانيا: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ترتيب سور القران:
الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم هو الذي علم الصحابة رضي الله عنهم ترتيبها:
خلافا لما ذهب إليه بعض أهل العلم «2» من أن ترتيب السور اجتهادي، ويدل على ذلك:

1- النزول الجملي للقران الكريم إلى السماء الدنيا يقتضي ترتيب سوره:
فقد ذكر «أبو بكر الأنباري في كتاب الرد: أن الله تعالى أنزل القران جملة إلى سماء
__________
(1) انظر: الإتقان (1/ 169) ، فتح الباري (9/ 40) .
(2) انظر: الإتقان (1/ 170) ، مرجع سابق.
(1/423)

الدنيا ثم فرق على النبي صلّى الله عليه وسلم في عشرين سنة وكانت السورة تنزل في أمر يحدث والاية جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على موضع السورة والاية، فاتساق السور كاتساق الايات والحروف فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام عن رب العالمين فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الايات وغير الحروف والكلمات» «1» ، وقال الكرماني: «ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب وعليه كان يعرض على جبريل عليه السّلام كل سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين» «2» ، وفي ذلك قيل:
وليس ترتيب النزول كالأدا فهو ... وفي الأدا الترتيب بالوحي اقتدى
كما هو عليه مستطر وذاك في ... في لوحه المحفوظ نعم المستطر
السور في القول الأحق ... والحق في الاي عليه متفق «3»

2- قال الله جل جلاله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
(القيامة: 17) فهذه «الاية تبين ضرورة أن جميع القران كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره حتى جمع كما هو فإنه من فعل الله عز وجل وتوليه جمعه أوحى به إلى نبيه عليه السلام وبينه عليه السلام للناس» «4» .

3- الأحاديث التي تدل على الترتيب نحو:
ما جاء عن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ السّبع الأول، (وفي لفظ الطول) من القران فهو حبر» «5» ..
وهذا حديث دال أصرح الدلالة على أن ترتيب سور القران توقيفي محض.
__________
(1) الإتقان (1/ 171) ، مرجع سابق.
(2) البرهان في متشابه القران ص 115 للكرماني.
(3) تاريخ القران وغرائب رسمه وحكمه ص 75.
(4) الأحكام لابن حزم (4/ 551) .
(5) أحمد (6/ 72) ، مرجع سابق، وكذلك رواه البيهقي في السنن الصغرى (1/ 550) ، مرجع سابق.
(1/424)

4- ضرورة المناسبة في الترتيب القائم:
فلا يظهر أن اجتهاد الأصحاب رضي الله عنهم قد فكّ هذه المناسبة؛ إذ المتبادر حال الاجتهاد أن يكون مقياسه وضع المدني بجوار المدني وليس الواقع كذلك، أو وضع السور بحسب ترتيب النزول، وليس الواقع كذلك أيضا، أو وضع السور بحسب الأحكام الفقهية أو القصص القراني المتشاكل وليس كذلك أيضا، أو وضع السور بحسب الطول والقصر في أرقام الايات أو في مقدارها وليس كذلك فإن فهذا ما يمكن خطوره على الاجتهاد البشري ... فلم يبق إلا المناسبة الملتمسة من هذا التشاكل غير الظاهر للبشر إلا بتأمل دقيق، وقد دون كبار العلماء الدواوين للمناسبة واعتبروها من وجوه الإعجاز القراني.

5- لا حجة في اختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب السور:
لأنه- حال وجود هذه المصاحف- قريب من اختلافهم في العدد أو القراات من حيث هو اختلاف قد سوغه عدم اكتمال القران إلا بوفاة النبي صلّى الله عليه وسلم بل عدم اكتمال السورة إلا بعد طول مدة أحيانا على ما هو معلوم ضرورة، ولم يلزم الناس القراءة يومئذ بتوالي السور، وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أو كتبها ثم خرج في سرية فنزلت سورة أخرى فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته، ويتابع ما فاته على حسب ما تسهل له أكثره أو قله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم وتقديم المؤخر «1» ، ثم للشك في ترتيب المنقول عن هذه المصاحف.
وبعد سوق ما يظهر من الأدلة ومعرفة دلائلها فما زال المرء حائرا في كيفية قبول الرأي القائل بأن التأليف لسور القران كان اجتهادا: إذ كيف يعقل ذلك مع
__________
(1) تاريخ اداب العرب ص 41، مرجع سابق.
(1/425)

أن النبي صلّى الله عليه وسلم قسم المصاحف إلى سبعة أقسام متساوية تقريبا بحيث يحوي كل قسم سورا معينة ثم يقال بأن هذا الترتيب حادث بعده صلّى الله عليه وسلم فعن أوس بن حذيفة رضي الله عنه قال: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفد ثقيف قال فأنزلنا في قبة له، ونزل إخواننا الأحلاف على مغيرة بن شعبة- قال- كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتينا بعد العشاء فيحدثنا وكان أكثر حديثه يشكي قريشا ويقول: «ولا سواء كنا بمكة إلا مستضعفين مستذلين فلما أتينا المدينة كانت الحرب سجالا علينا ولنا» قال:
فأبطأ علينا ذات ليلة فأطول فقلنا: يا رسول الله! أبطأت علينا فقال: «إنه طرأ علي حزب من القران فكرهت أن أخرج حتى أقضيه» فسألنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحزّب القران فقالوا: كان يحزبه ثلاثا وخمسا وسبعا وتسعا وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل «1» ، وذلك لا يمكن أن يكون بالتعادل إلا أن يكون على وفق التأليف الحالي للمصحف، «فعلم من هذا أن في عصر الصحابة كان ترتيب القران مشهورا على هذا النمط المعروف الان» «2» ، وقال ابن حجر: «فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الان كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم» «3» ، وسئل ربيعة: لم قدمت البقرة وال عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: قد قدمتا وألف القران على علم ممن ألفه وقد اجتمعوا على هذا بذلك فهذا مما ننتهي إليه ولا نسأل عنه، وقال مالك: إنما ألف القران على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم» «4» .
__________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 242) ، وقال العراقي في المغني (2/ 276) ، مرجع سابق: «وإسناده حسن» .
(2) عون المعبود (4/ 190) ، مرجع سابق.
(3) فتح الباري (9/ 43) ، مرجع سابق.
(4) القرطبي (1/ 60) ، مرجع سابق.
(1/426)

وأما ما رواه حذيفة رضي الله عنه في تقديم النساء على ال عمران في صلاة الليل فأي حجة فيه، وترتيب السور في التلاوة غير ملتزم لأنه لا يفسد نظم القران كما سبق، على أن هذه الرواية قد ورد ما يخالفها فقد قال حذيفة رضي الله عنه فيما رواه أبو داود: ... فقرأ فيهن البقرة وال عمران والنساء والمائدة أو الأنعام «1» .
وقال ابن حزم تأكيدا على ذلك: «ما رويناه بالأسانيد الصحيحة أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل سورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم وأنه صلّى الله عليه وسلم كانت تنزل عليه الاية فيرتبها في مكانها ... فصح بهذا أن رتبة الاي ورتبة السور مأخوذة عن الله عز وجل إلى جبريل ثم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم لا كما يظنه أهل الجهل أنه ألف بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلم ولو كان ذلك ما كان القران منقولا نقل الكافة، ولا خلاف بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس أنه منقول عن محمد صلّى الله عليه وسلم نقل التواتر، ويبين هذا أيضا ما صح أنه صلّى الله عليه وسلم كان يعرض القران كل ليلة في رمضان على جبريل فصح بهذا أنه كان مؤلفا كما هو عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم وقوله صلّى الله عليه وسلم:
«تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي» ، ... وأمر صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بقراءة القران في أيام لا تكون أقل من ثلاث فكيف يقرأ ويجمع وهو غير مؤلف؟
هذا محال لا يمكن البتة» «2» .

ولعل السبب في هذا الخلاف يعود إلى أمرين:

أولهما:
طغيان المنهج الحديثي في معالجة القضايا المتعلقة بعلوم القران الكريم، ولا شك أن هناك نقاط التقاء كثيرة بين المنهجين الحديثي والقرائي، ولكن لا ريب أيضا أن هناك نقاط افتراق أصلية.
__________
(1) أبو داود (1/ 231) ، مرجع سابق.
(2) الإحكام لابن حزم (6/ 265) ، مرجع سابق.
(1/427)

وثانيهما:
أن التزام ترتيب الايات في السور واجب ضروري، والسبب واضح غير منتبه إليه هو: اختلال نظم السورة المكونة من ايات بغير ذلك، بخلاف ترتيب سور القران فإن التزام ترتيبها حفظا أو تلاوة غير واجب شرعا وواقعا والسبب واضح غير منتبه إليه هو عدم اختلال نظم القران المكون من سور بذلك.

الخلاف لفظي:
لم يتصور الباحث وقوع خلاف في تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لهم هذا الموضوع، وأنه توقيفي إلا أن الزركشي- رحمه الله تعالى- أحكم الأمر حين قال: «والخلاف بين الفريقين لفظي لأن القائل بالثاني يقول إنه رمز إليهم بذلك ليعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ولهذا قال مالك: إنما ألفوا القران على ما كانوا يسمعونه من النبي صلّى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم فال الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي» «1» .

لا حرج في التنكيس:
والظاهر من تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم ألا حرج في التنكيس إذا كان يتعلق بالسور بأن يبدأ القارئ بسورة متأخرة في ترتيب المصحف، فإن الغالب أن يبدأ الناس بحفظ المفصل، وأما ما ورد عن ابن مسعود أنه قيل له إن فلانا يقرأ القران منكوسا قال: ذلك منكوس القلب «2» ، فمحمول على تنكيس الايات لا السور خلافا لأبي عبيد «3» .
__________
(1) البرهان (1/ 157) ، مرجع سابق.
(2) شعب الإيمان (2/ 433) ، مرجع سابق، وقال في مجمع الزوائد (7/ 166) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» .
(3) انظر كلامه في: شعب الإيمان (2/ 433) ، مرجع سابق.
(1/428)

وأما ما ورد عن الحسن وابن سيرين أهما كانا يقران القران من أوله إلى اخره ويكرهان الأوراد، وقال ابن سيرين: تأليف الله خير من تأليفكم، وتأويل الأوراد أنهم كانوا أحدثوا أن يجعلوا القران أجزاء كل جزء منها فيه سورة مختلفة من القران على غير التأليف ولكن جعلوا السورة الطويلة مع أخرى دونها من الطوال ثم كذلك حتى يختموا الجزء «1» ، فوجه الكراهة فيه ظاهر من حيث مخالفته لترتيب سور القران الكريم مع إرادة ختمه ... إذ الأصل التزامه حال التلاوة مع إرادة الختم بخلاف مقام التعليم.

المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم تحزيب القران:

المراد بالحزب:
المراد بالحزب هنا هو ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة «2» ، فهو الطائفة من السور أو من الايات التي يلزم الرجل قراءتها أو حفظها، و (الأحزاب) مأخوذة من قولهم: حزب فلان أي جماعته، لأن الحزب طائفة من القران «3» ، وقد يقال له الجزء لأن القران يجزأ إليه أي يقسم، وقد يقال له الورد، والورد: «النّوبة في ورود الماء» «4» لأن القران يروي ظمأ القلوب «5» .

كيف علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك:
وقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يقسموا القران إلى أحزاب أو أجزاء أو أوراد ليكون أنشط لهم على التلاوة أو الاستذكار أو المراجعة والتعاهد، فعن أوس بن حذيفة
__________
(1) شعب الإيمان (2/ 433) ، مرجع سابق.
(2) عون المعبود (4/ 190) ، مرجع سابق.
(3) جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 124) ، مرجع سابق.
(4) النهاية في غريب الحديث (1/ 376) ، مرجع سابق.
(5) جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 124) ، مرجع سابق.
(1/429)

رضي الله عنه قال: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفد ثقيف- إلى أن قال: فأبطأ علينا- أي الرسول صلّى الله عليه وسلم- ذات ليلة فأطال فقلنا: يا رسول الله! أبطأت علينا. فقال: «إنه طرأ علي حزب من القران فكرهت أن أخرج حتى أقضيه» فسألنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحزب القران؟ فقالوا: كان يحزبه ثلاثا وخمسا وسبعا وتسعا وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل «1» وفي رواية للطبراني فيما ذكر العراقي: «فسألنا أصحاب رسول الله كيف كان رسول الله يجزئ القران؟
فقالوا: كان يجزئه ثلاثا فذكره مرفوعا» . ففي هذه الرواية أضيف التحزيب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن ماجة: قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القران؟ «2» ، فأضاف التحزيب إليهم، لا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم «3» وهذا يدل على أنهم قد اكتسبوا التحزيب من النبي صلّى الله عليه وسلم تعلما.

وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يحددوا للحزب القراني وقتا دائما:
فإن ذهب وقت الحزب فينبغي أن يؤديه المرء مهما كانت شواغله، كما في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنه طرأ علي حزب من القران فكرهت أن أخرج حتى أقضيه» ، ومعنى طرأ كما قال الخطابي: يريد كأنه أغفله عن وقته ثم ذكره فقرأه «4» ، وقيل معناه: ورد وأقبل يقال طرأ يطرأ مهموزا إذا جاء مفاجأة كأنه فجأة الوقت الذي كان يؤدي فيه ورده من القراءة.
__________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 242) ، ورواه الطبراني في الكبير (1/ 220) ، مرجعان سابقان، وقال العراقي في المغني (2/ 276) ، مرجع سابق: «وإسناده حسن» ، وكذا حسنه ابن كثير في فضائل القران (4/ 519) (ملحق بالتفسير) .
(2) ابن ماجه (1/ 427) ، وأحمد (4/ 9 و 4/ 343) ، والاحاد والمثاني (3/ 218) ، مراجع سابقة.
(3) وانظر: شرح مشكل الاثار (4/ 401) ، مرجع سابق.
(4) عون المعبود (4/ 190) ، مرجع سابق.
(1/430)

طريقة النبي صلّى الله عليه وسلم في التحزيب:
ظهر من الرواية السابقة أن النبي صلّى الله عليه وسلم يقسم القران إلى سبعة أحزاب، وكل حزب مذكور إنما هو منزل واحد من سبع منازل.
وأما ما اصطلح عليه المتأخرون من تقسيم القران إلى ثلاثين حزبا وسموها أجزاء، «فإن أول ما جزئ القران بالحروف تجزئة ثمانية وعشرين وثلاثين وستين هذه التي تكون رؤوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة وأثناء القصة، ونحو ذلك كان في زمن الحجاج وما بعده، وروى أن الحجاج أمر بذلك ومن العراق فشا ذلك، ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك» «1» ، «واشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها» «2» .
ولأن هذا التحزيب حادث فإن المرء ليأمل أن تعيد مجمعات مطابع المصاحف النظر في هذا وأن يشار مع هذا إلى ما يدل على تقسيم القران أسباعا ويبين أنه طريقة النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو يكون ما بين أربعة إلى خمسة أجزاء بالاصطلاح الحادث، ومن فوائده العظيمة غير موافقة النبي صلّى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم في تحزيبهم، أن يكون التحزيب بالسور فهو الهدي الأكمل.
وحديث أوس «يوافق معنى حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في أن المسنون كان عندهم قراءته في سبع ولهذا جعلوه سبعة أحزاب ولم يجعلوه ثلاثة ولا خمسة وفيه أنهم حزبوه بالسور وهذا معلوم بالتواتر ... » «3» .
__________
(1) ابن تيمية (13/ 409) ، مرجع سابق.
(2) ابن كثير (1/ 8) ، مرجع سابق.
(3) ابن كثير (1/ 8) ، مرجع سابق.
(1/431)

وكان ثم تقسيم رباعي للقران الكريم:
وذلك من الناحية النظرية لا من حيث التلاوة، ولكنه منسجم مع هذا التقسيم السباعي، ويدل على توقيفية ترتيب السور فقد قال صلّى الله عليه وسلم: «أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل» «1» .
وذكر النبي صلّى الله عليه وسلم لهم هذه الأقسام مفردة فعن عائشة- رضي الله تعالى عنها- عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أخذ السبع الطول فهو خير» «2» يعني بذلك السبع الطوال من القران «3» . واصطلح بعض الصحابة رضي الله عنهم على تسمية ما زاد عن الثلاثين بالمئين تقريبا كما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلم سورة من المئين من ال حم الأحقاف وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين اية سميت المئين ... الحديث «4» .

والثاني هي:
السور التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصل كأن المئين جعلت مبادئ والتي تليها مثاني، وهي إلى براءة وهي من المئين أي ذوات مائة اية، قال في المجمع أول القران السبع الطول ثم ذوات المئين أي ذوات مائة اية ثم المثاني ثم المفصل انتهى، والمئين جمع «5» .
__________
(1) شرح مشكل الاثار (4/ 408) وقال المحقق: إسناده حسن.
(2) سعيد بن منصور في سننه (2/ 266) . انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1036) برقم 5979، وانظر تخريجه في: لمحات الأنوار رقم 719، مرجع سابق.
(3) شرح مشكل الاثار (4/ 408) ، مرجع سابق، وقال المحقق: «إسناده حسن» .
(4) معجم الشيوخ ص 162، مرجع سابق.
(5) تحفة الأحوذي (8/ 380) ، مرجع سابق.
(1/432)

وكما كان التقسيم السباعي قائما على عدد معين من السور؛ فإن التقسيم الرباعي كذلك أيضا ... فليس في التقسيمين اعتماد على قدر الايات كما هو الحال في التحزيب والتجزئ الحادث.

وكانت سور كل قسم من الأقسام الأربعة واضحة عند الصحابة رضي الله عنهم:
فعن أبي وائل قال: غدونا على عبد الله فقال رجل: قرأت المفصل البارحة فقال: هذا كهذ الشعر إنا قد سمعنا القراءة وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من ال حم «1» ، فقوله في ثماني عشرة سورة دليل على معرفة سور المفصل وعددهن، وكذلك فيه دليل على أنه صلّى الله عليه وسلم علمهم أن «المفصل ما بعد ال حم» «2» .

وكان المفصل أول ما نزل من القران:
فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: أنزل الله عز وجل على رسوله صلّى الله عليه وسلم المفصل بمكة، فكنا حججا نقرؤه لا ينزل غيره «3» .

واختلفوا في أول المفصل:
فقيل من «القتال وقيل من الحجرات وقيل من ق» «4» ، ورجح الطحاوي رحمه الله تعالى- أن الحجرات ليست من المفصل «5» .
__________
(1) البخاري (4/ 1924) ، مسلم (1/ 564) ، ابن حبان (6/ 341) ، مراجع سابقة.
(2) شرح النووي (6/ 107) ، مرجع سابق.
(3) شرح مشكل الاثار (4/ 397) ، مرجع سابق، وقال المحقق: «إسناده قوي» .
(4) شرح النووي (6/ 107) ، مرجع سابق.
(5) انظر: شرح مشكل الاثار (4/ 400) ، مرجع سابق.
(1/433)

وعلى كل حال فالمفصل هو «ما بعد ال حم سمي مفصلا لقصر سوره وقرب انفصال بعضهن من بعض» «1» .

المطلب الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم عد الاي (علم الفواصل) :
كل ما سبق من الأدلة بالإضافة إلى الدليل الأصلي الأساس وهو التلقي تدل على أن علم العدد علم توقيفي لا مدخل للاجتهاد فيه إلا بصورة طفيفة تسببت في تنوع عدد الايات مع الاتفاق الكامل على فحواها؛ فالراوي في الاثار السابقة صحابي تعلم من النبي صلّى الله عليه وسلم هذا القدر من الايات وهو ما يعني ضمنا تعلمه لموضع كل اية.
وكذلك فإن كثيرا مما سبق من الأحاديث التي تعين عددا معينا من الايات بالإضافة إلى التلقي تدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم علمهم عدد الايات تفصيليا، وأشار صاحب الكشاف في تفسير أول البقرة إلى توقيفية علم العدد: «فإن قلت فما بالهم عدوا بعض هذه الفواتح اية دون بعض؟ قلت: هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور ... » «2» .
وما يقال عن علل هذا العدد يبقى مجرد استنباط كقولهم لم يعدوا الوتر لأنها حرف واحد، ولا طس لأنها خالفت أختيها بحذف الميم ولأنها تشبه المفرد ...
وكلها مجرد علل استنباطية تشبه العلل التي يقول عنها أهل العلم: علة نحوي!.
ولشدة تعلمهم رضي الله عنهم كيفية عد الاي من النبي صلّى الله عليه وسلم صار ذلك بالنسبة لهم بديهية حتى بات مقايسا يقيسون به الأطوال الزمنية فعن عائشة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) شرح النووي (6/ 106) ، الديباج على صحيح مسلم (2/ 415) ، مرجعان سابقان.
(2) (الزمخشري) أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الخوارزمي (467- ت 538 هـ) : الكشاف (1/ 7) ، دار المعرفة، بيروت.
(1/434)

كان يصلّي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته تعني باللّيل فيسجد السّجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين اية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ثمّ يضطجع على شقّه الأيمن حتّى يأتيه المؤذّن للصّلاة «1» ، وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت تسحّرا فلمّا فرغا من سحورهما قام نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم إلى الصّلاة فصلّى قلنا لأنس كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصّلاة قال قدر ما يقرأ الرّجل خمسين اية «2» .
وهكذا كان التابعون يعلمون أصحابهم علم العدد فكان أبو عبد الرحمن يقرئ عشرين بالغداة، وعشرين بالعشي، ويعلمهم أين الخمس والعشر، وكان يقرئ خمسا خمسا «3» .
وفي حديث حذيفة في قيام الليل وأحاديث مقادير قراءته في الصلوات ما يدل على توقيفية هذا العلم حيث قال رضي الله عنه: صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلم ليلة فافتتح البقرة فقرأ فقلت: يركع عند المائة فمضى، فقلت: يركع عند المائتين، فمضى فقلت:
يصلي بها في ركعة فمضى. فافتتح النساء فقرأها، ثم افتتح ال عمران فقرأها، يقرأ مترسلا إذا مر باية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع ... الحديث «4» .
وكذلك ما ورد في عدد الاي التي يقرؤها النبي صلّى الله عليه وسلم في صلاته وذلك كثير، فعن أبي برزة هو نضلة بن عبيد الأسلمي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الغداة بالستين إلى المائة «5» .
__________
(1) البخاري (1338) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (1/ 210) ، مرجع سابق.
(3) السبعة ص 69، مرجع سابق.
(4) مسلم (1/ 536) ، أبو عوانة (1/ 460) ، مرجعان سابقان.
(5) البخاري (1/ 201) ، مسلم (1/ 447) ، مرجعان سابقان.
(1/435)

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعقدون أصابعهم عدا للاي في صلواتهم كما قال الإمام الشاطبي- رحمه الله تعالى-:
همو بحروف الذكر مع كلماته ... وآياته أثروا بأعدادها الكثر
وهاموا بعقد الاي في صلواتهم ... لحض رسول الله في حظها المثري
فبين «مبلغ اهتمامهم بمعرفة أعداد حروف القران وكلماته وآياته- وأنهم بمعرفة ذلك كله صاروا ذوي ثروة علمية أكسبتهم شرفا ونبلا وثروة واسعة في الأجر عند الله تعالى، فإن الحافز لهم على معرفة هذا إنما هو اهتمامهم بالقران من جميع نواحيه، وحرصهم على ألايسقط منه حرف أو تضيع منه كلمة بله الاية، وفي معرفة عدد حروف القران معرفة قدر الأجر الموعود به على تلاوة القران، وحسبك بذلك حافزا على معرفة عدد حروف القران وكلماته، وإن كان في معرفة عدد الاي فوائد تزيد على معرفة عدد الحروف والكلمات، وقد روى هذا العقد عن ابن عمر وابن عباس وعائشة من الصحابة وعن عروة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من التابعين» «1» .
والجزء الوحيد من علم الفواصل الذي دخله الاجتهاد هو الذي نقل الاختلاف فيه بين علماء العدد.
وقرر أهل العلم قاعدة في أبواب المقادير، وأنها تعليمية فقالوا «المقادير لا تعرف إلا بالسماع» «2» .
__________
(1) عبد الفتاح القاضي: بشير اليسير شرح ناظمة الزهر في علم الفواصل ص 12 للإمام الشاطبي، طبعة 1397 هـ/ 1977 م.
(2) حاشية ابن عابدين (1/ 541) ، مرجع سابق.
(1/436)

الفصل الخامس: تعليمه صلّى الله عليه وسلم القران الكريم على أحرفه المنزلة:
ويدور هذا الفصل حول الرخصة التي رخص الله عزّ وجلّ في قراءة القران الكريم على أحرفه المنزلة، توسعة من الله سبحانه وتعالى، وزيادة فضل، واختصاصا بأمة النبي صلّى الله عليه وسلم، فتقرأ الأمة بما تيسر من ذلك، ويفصل المبحث الأول كيف علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك، كما يبين هذا الفصل أن القراءة على هذه الأحرف لا تخرج عن التلقي، وأنها توقيفية ترجع إلى تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم ابتداء وليست بالتشهي أو الهوى (ويفصل ذلك المبحث الثاني) ، كما يحاول الفصل أن يميط اللثام عن أكبر حقائق نقل القران الكريم وهي التواتر القراني الذي يعبر عن نقل القران الكريم أمة عن أمة دون شائبة خلل (ويفصل ذلك المبحث الثالث) ، وفي الفصل بيان للحقائق التي تجلي بعض الاستشكالات التي أوردت على المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم.
ومن ثم فمباحث هذا الفصل هي:
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم قراءة القران بما تيسر من الأحرف السبعة.
المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول.
المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم (التواتر في نقل ألفاظ القران) .
(1/437)

المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم قراءة القران بما تيسر من الأحرف السبعة:
يناقش هذا المبحث القضايا الأساسية في الأحرف السبعة، من مشروعية القراءة على عدة أشكال لفظية، مع أن الشكل الواحد منها كاف شاف، ويبين من خلال ذلك العلاقة بين القران والقراات، ومن أنه لا تناقض بينها جميعا في المعنى في اخر الأمر، ولذا انقسم هذا المبحث إلى المطالب الثلاثة التالية:

المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم مشروعية قراءة القران على سبعة أحرف.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أن الحرف الواحد شاف كاف.
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم عدم التناقض المعنوي بين هذه الأحرف.
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم مشروعية قراءة القران على سبعة أحرف:
علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قرأ القران على جبريل عليه السّلام على سبعة أحرف:
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف» «1» .
وبين النبي صلّى الله عليه وسلم كيف بدأ أمر مشروعية الإقراء على سبعة أحرف حيث جاء ملكان إليه فعن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: أتى محمدا صلّى الله عليه وسلم الملكان فقال أحدهما: اقرأ القران على حرف فقال الاخر زده فما زال يستزيده حتى قال اقرأ على سبعة أحرف «2» .
__________
(1) البخاري (3/ 1177) ، مسلم (1/ 561) ، مرجعان سابقان.
(2) الطبراني في الأوسط (2/ 39) ، أحمد (5/ 124) ، مرجعان سابقان، وهو في مجمع الزوائد (7/ 153) ، مرجع سابق.
(1/438)

شيوع تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم لذلك بين الصحابة:
وقد انتشر ذلك بينهم واشتهر حتى لم يحص من سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلم فعن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: بلغنا أن عثمان رضي الله عنه قال يوما- وهو على المنبر-: أذكر الله رجلا سمع النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف كلها شاف كاف» لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف كلها شاف كاف» فقال عثمان رضي الله عنه:
وأنا أشهد معهم «1» .
وهذا يدل على شدة احتفاء النبي صلّى الله عليه وسلم، وحرصه على تعميم إخبارهم بهذا، ومن أبرز حكم ذلك: ألا يظنوا بالقران الاختلاف في ألفاظه، أو يكفر بعضهم بعضا إذا اختلف التصويت بألفاظه بينهم، وهو ما وقع من بعض رعية عثمان حيث انتشر الإسلام دون تعليم مكافئ مقابل هذا التوسع الأفقي، فلجأ عثمان لإشاعة شرعية القراات المختلفة بتعميم المصاحف، وكان ذلك من أعظم مناقبه رضي الله عنه.
ثم ذاعت هذه الجزئية من التعليم القراني حتى صارت من العلم العام بينهم.
ولذا ذكر عدد من أهل العلم أن حديث الأحرف السبعة يعد من المتواتر الحديثي «2» ، فقد بلغ «مبلغا عظيما من التواتر لم يتيسر وجودة الكثير من الأحاديث المتواترة. ألا ترى إلى قولة (قاموا حتى لم يحصوا) » «3» .
__________
(1) مسند الحارث (2/ 734) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (7/ 152) ، مرجع سابق.
(2) النشر (1/ 15) ، وانظر: يوسف إبراهيم النور: مع المصاحف ص 25، مرجعان سابقان.
(3) النشر (1/ 15) ، وانظر: يوسف إبراهيم النور: مع المصاحف ص 25، مرجعان سابقان.
(1/439)

وكان النبي صلّى الله عليه وسلم قد علمهم ابتداء أن القران نزل على ثلاثة أحرف:
فعن سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف وفي رواية ثلاثة أحرف» «1» ، وعنه رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كان يأمرنا أن نقرأ القران كما أقرئناه، وقال: «إنه أنزل على ثلاثة أحرف فلا تختلفوا فيه فإنه مبارك كله فاقرؤوه كالذي أقرئتموه» «2» .
وعلمهم صلّى الله عليه وسلم أن المراد من إنزال القران على سبعة أحرف:
التخفيف والتيسير على الأمة فعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«لقيت جبريل عند أحجار المرى فقلت: يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ القاسي الذي لم يقرأ كتابا قط قال إن القران أنزل على سبعة أحرف» «3» .
وهل علمهم صلّى الله عليه وسلم جمع القراات؟.
جمع القراات معناه أن تقرأ الاية وتعيد موضع الاختلاف فتقرأ جميع ما فيه من أوجه منزلة، إما بأن تعيد من أول الاية في كل وجه أو تعيد موضع الاختلاف فقط «4» .
ويمكن استنباط أصل الجمع من حديث المدارسة فإن قوله في الحديث:
(يعرض القران على جبريل مرة..) «معناه يختمه ختمة واحدة، ويلزم منه أنه يقرأ في هذه الختمة سائر ما أنزل عليه قبلها، ويدخل فيه أحرف القران المختلفة، لأنه
__________
(1) الحاكم (2/ 243) ، الطبراني في الكبير (7/ 206) ، مرجعان سابقان.
(2) الطبراني في الكبير (7/ 152) ، مرجع سابق.
(3) المختارة (3/ 373) ، الترمذي (5/ 194) ، أحمد (5/ 400) ، مراجع سابقة.
(4) انظر: النشر (2/ 100) ، الطيبة ص 61، مرجعان سابقان.
(1/440)

قران، فلا وجه لإخراجها من العرض» ، كيف والمقصود هو استذكار النبي صلّى الله عليه وسلم لما أنزل عليه، ومنه الأحرف المختلفة المنزلة.
والسؤال: كيف كان صلّى الله عليه وسلم يعرض الأوجه المختلفة في الموضع الواحد من مواضع الاختلاف عندما يمر به؟ وهو يختم ختمة واحدة فقط؟
بالجمع أي أنه يكرر ذلك الموضع بسائر ما فيه من أحرف، سواء كرر نفس الموضع واكتفى بذلك، أو أعاد من أول الاية، كل ذلك محتمل وكله سائغ، وليس في الخبر الثابت ما يبين لنا تفصيل ذلك، لكن يكفينا هذا القدر، فإنه دل على أن أصل (جمع القراات) ثابت من فعل النبي صلّى الله عليه وسلم «1» .
ومثل ذلك عندما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرئهم هذه الأحرف المختلفة كيف كان يصنع؟ هل كان يجمع ما في الاية من قراات في وقت واحد، أم كان يلتزم بالإفراد كما يقول بعض أهل العلم «2» ، وقد قيل في سبب تخصيص أنس المذكورين في حديث الحفظ بالذكر أنهم جمعوا القران بأوجه القراات.
ومن ثم فلا يوجد مانع شرعي من الأخذ به عند قراءة القران مطلقا، في الصلاة وخارج الصلاة، للقارئ أن يفعل ذلك شرط صحة النية، وسلامة القصد، وأمن المفسدة لأنه داخل في الرخصة الثابتة في عموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «فاقرأوا منها ما تيسر» أي اقرأوا من هذه الحروف المنزلة ما تيسر لكم، فهذا مما تيسر، بل هو اليوم أيسر من الإفراد «3» .
__________
(1) انظر: سنن القراء ص 36، مرجع سابق.
(2) سنن القراء ص 36، مرجع سابق.
(3) سنن القراء ص 40، مرجع سابق.
(1/441)

التلفيق بين القراات المتناقلة:
ولأن الكل من عند الله، فإن للقارئ أن يلفق بين القراات بشرط عدم تركيب قراءة جديدة لم يقرأ بها، وقد قرر ابن العربي- رحمه الله تعالى- أن للقارئ أن يقرأ القران بأي قراءة متناقلة، ولا «يلزم أن يعيّن المقروء به منها، فيقرأ بحرف أهل المدينة، وأهل الشّامّ، وأهل مكّة، وإنّما يلزمه ألا يخرج عنها، فإذا قرأ اية بحرف أهل المدينة، وقرأ الّتي بعدها بحرف أهل الشّام كان جائزا، وإنّما ضبط أهل كلّ بلد قراءتهم بناء على مصحفهم، وعلى ما نقلوه عن سلفهم، والكلّ من عند الله» «1» ، فإذا «ابتدأ بقراءة أحد القراء، فينبغي أن يستمر على القراءة بها ما دام مرتبطا، فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أحد من السبعة، والأولى دوامه على الأولى في هذا المجلس» «2» ، «وهذا معنى ما ذكره أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه» ، وقال الأستاذ أبو إسحاق الجعبري: «والتركيب ممتنع في كلمة وفي كلمتين إن تعلق أحدهما بالاخر وإلا كره» «3» ، وبين ابن الجزري تفصيل الجواز، والتفريق بين مقام القراءة للقران مطلقا ومقام الرواية المقيدة فقال: «إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الاخرى فالمنع من ذلك منع تحريم كمن يقرأ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ (البقرة: 37) بالرفع فيهما أو بالنصب اخذا رفع ادم من قراءة غير ابن كثير ورفع كلمات من قراءة ابن كثير ... بما لا تجيزه العربية ولا يصح في اللغة، وأما ما لم يكن كذلك فإنا نفرق فيه بين مقام الرواية وغيرها فإن قرأ بذلك على سبيل الرواية فإنه لا يجوز أيضا من حيث إنه كذب في
__________
(1) أحكام القران لابن العربي (4/ 358) ، مرجع سابق.
(2) التبيان في اداب حملة القران للنووي ص 49، مرجع سابق.
(3) النشر في القراات العشر (1/ 18) ، مرجع سابق.
(1/442)

الرواية وتخليط على أهل الدراية، وإن لم يكن على سبيل النقل والرواية بل على سبيل القراءة والتلاوة فإنه جائز صحيح مقبول لا منع منه ولا حظر وإن كنا نعيبه على أئمة القراات العارفين باختلاف الروايات من وجه تساوي العلماء بالعوام، لا من وجه أن ذلك مكروه أو حرام إذ كل من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين ... وقد روينا في المعجم الكبير للطبراني بسند الصحيح عن إبراهيم النخعي قال: قال عبد الله بن مسعود: «ليس الخطأ أن يقرأ بعضه في بعض، ولكن الخطأ أن يلحقوا به ما ليس منه» «1» .

المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أن الحرف الواحد شاف كاف:
علمهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن كل حرف من هذه السبعة يتحقق به القران، فالحرف الواحد منها شاف كاف، ف (شاف) أي يشفي من الريب، لا يقصر بعضه عن بعض في الفضل، وقوله (كاف) أي كاف في نفسه، غير محوج إلى غيره «2» فلا تفضيل بينها، ولا تمييز إلا بحسب الرغبة النفسية والميل القلبي كما جاء عن قتادة قال: قال لي أبيّ بن كعب: اختلفت أنا ورجل من أصحابي في اية فترافعنا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا أبي فقرأت ثم قال للاخر: اقرأ فقرأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلاكما محسن مجمل» . فقلت: ما كلانا محسن مجمل. قال: فدفع النبي صلى الله عليه وسلم في صدري فقال لي: «إن القران أنزل علي فقيل لي على حرف أو على حرفين قلت بل على حرفين ثم قيل لي على حرفين أو ثلاث فقلت بل على ثلاثة حتى انتهى إلى سبعة أحرف كلها شاف كاف ما لم تخلط اية رحمة باية عذاب أو اية عذاب باية رحمة فإذا كانت عزيز حكيم فقلت سميع عليم فإن الله سميع
__________
(1) النشر في القراات العشر (1/ 18) ، مرجع سابق.
(2) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 110، مرجع سابق.
(1/443)

عليم» «1» ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن القران أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف» «2» .
وينبني على هذا الحقائق التالية:

تكييف العلاقة بين الأحرف السبعة والقران الكريم:
1- يتضح من هذه الروايات تكييف العلاقة بين الأحرف السبعة والقران الكريم: فيتحقق القران الكريم بواحد من هذه الأحرف، ولا يشترط للمرء أن يقرأها كلها حتى يختم القران بل يختم القران الكريم بواحد منها، ويوضح هذا أكثر ما جاء عن أم أيوب عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «نزل القران على سبعة أحرف أيها قرأت أصبت» «3» ، وما جاء عن أبي بن كعب رضي الله عنه- وفيه-: «إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القران على سبعة أحرف فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا» «4» .
ومن ثم: فليس من مقتضيات حفظ القران حفظه بجميع الأحرف التي أنزل عليها، بل يكفي لحفظه، والمحافظة على ماهيته حفظه على حرف واحد، وهذا هو مبرر القائلين بذهاب هذه الأحرف ما عدا حرفا واحدا.
2- وعلى هذا ف «الأحرف السبعة ليست متفرقة في القران كلها ولا موجودة فيه في ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية واحدة فإنما قرأ ببعض الأحرف السبعة لا بكلها» «5» .
__________
(1) الجامع لمعمر بن راشد (11/ 219) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الأوسط (6/ 142) ، مرجع سابق، وعن معاذ نحوه عند الطبراني (20/ 150) .
(3) ابن أبي شيبة (6/ 137) .
(4) مسلم (1/ 562) ، المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 415) ، مرجعان سابقان، والأضاة المستنقع من مسيل ما غيره، والأضنين جمع أضاة وأضا وهي الغدير.
(5) فتح الباري (9/ 28) ، مرجع سابق.
(1/444)

3- كل حرف مستغن عن الاخر، ولا يحتاج إليه، ولا يفتقر إليه، وإن كان بعضها قد يزيد في إيضاح بعض، فعلى قول من يقول باندثارها ما عدا حرفا واحدا فلا ضير على القران الكريم، فالختمة الواحدة الكاملة للقران الكريم تتحقق برواية قرائية واحدة، ولا يحتاج إلى جمع القراات جميعا لإتمام ختمة قران، كما لا يحتاج إلى جمع الأحرف السبعة.
وبناء على هذا تستبين العلاقة أيضا بين القران والقراات:
فالقراءة من حيث إطلاقها على مجموع المقروء محلا ولفظا ووضعا هو القران، أما القراءة من حيث إطلاقها على الموضع المختلف فيه فهي قراءة وهي وجه من أوجه القران المقروء فتؤول إلى القران فهو الأصل وهي أحد أوجهه فالعلاقة التغاير الذي محصلته الاتحاد في أصلية القران إذ القراءة منبثقة عنه، والافتراق في أن القران يتحقق بوجه واحد من الأوجه المختلف فيها التي تسمى قراءة.
ولذا كان النبي صلّى الله عليه وسلم يسمي ذلك كله قرانا، أي هو قران بهذه الوجه من القراءة أو بذاك فقد قرأ رجل عند عمر فغير عليه فقال: قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يغير علي قال: فاجتمعا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فقرأ أحدهما على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له: «أحسنت» قال: فكأن عمر وجد في نفسه من ذلك فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا عمر إن القران كله صواب ما لم يجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة» «1» فسمى القراءة المختلف فيها قرانا.
ووضح أهل العلم حقيقة التغاير بين القران والقراءة فقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى- وهو يتكلم عن القراات: «ومن ادعى تواترها فقد كابر
__________
(1) أحمد (4/ 30) ، مرجع سابق، وقال مجمع الزوائد (7/ 151) ، مرجع سابق: «رواه أحمد ورجاله ثقات» .
(1/445)

الحس، أما القران العظيم سوره وآياته فمتواتر ولله الحمد محفوظ من الله تعالى لا يستطيع أحد أن يبدله ولا يزيد فيه اية ولا جملة مستقلة ولو فعل ذلك أحد عمدا لا نسلخ من الدين قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) «1» ، وكذلك قرر ابن الجزري شيخ القراء فقال: «ونحن ما ندعي التواتر في كل فرد مما انفرد به بعض الرواة أو اختص ببعض الطرق ولا يدعي ذلك إلا جاهل لا يعرف ما التواتر» «2» ...
وأساس هذه الحقيقة: أن القران هو كل أحرف الوفاق وهي الغالب الأعم، ثم يتحقق بوجه واحد من أحرف التنوع الصوتي (الاختلاف) ، وهي متواترة عند أهل كل قطر.

المختلف فيه من علم القراءة محصور منضبط:
وبناء على هذا أيضا يقال: «إن القراءة بمعنى المختلف فيه عبارة عن مواضع محصورة محدودة لا يخرج عن نطاق اختلافات صوتية لغوية (لهجية) في الغالب، وهذا ما جعل ابن قتيبة يذهب إلى أن اللهجات ليس من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون واحدا» «3» .
__________
(1) سير أعلام النبلاء (10/ 171) ، مرجع سابق.
(2) منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص 14.
(3) خلق أفعال العباد ص 87، مرجع سابق.
(1/446)

المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم عدم التناقض المعنوي بين هذه الأحرف:
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يبين لهم أن هذه الأحرف السبعة تتنوع من حيث معانيها إلى معان معروفة دون تناقض فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له:
«إن الكتب كانت تنزل من السماء من باب واحد وإن القران انزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف حلال وحرام ومحكم ومتشابه وضرب أمثال وأمر وزجر فأحل حلاله وحرم حرامه واعمل بمحكمه وقف عند متشابهه واعتبر أمثاله فإن كلا من عند الله وما يذكر إلا أولو الألباب» «1» ، فاخر الحديث تثبيت لعدم الاضطراب والتناقض في أول الحديث، وتبيين لأشكال المعاني التي ترجع إليها هذه الأحرف، فهي كالحرف الواحد في الانسجام وعدم الاضطراب، فالمسلمون متفقون «على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض بل يصدق بعضها بعضا كما تصدق الايات بعضها بعضا» «2» .
«وقد استمر أهل القراات على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم مما وافق المصحف وأنهم في ذلك قارئون للقران من غير شك ولا إشكال، وإن كان بين القراءتين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا في المعنى لأن معنى الكلام من أوله إلى اخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب وهذا كان عادة العرب..» «3» .
وترجع الاختلافات في هذه الأحرف السبعة إلى ثلاثة محاور، ليس في شيء منها تضاد بين القراات المختلفة «4» :
__________
(1) ابن حبان (3/ 20) ، الحاكم (1/ 739) ، مرجعان سابقان.
(2) ابن تيمية (13/ 401) ، مرجع سابق.
(3) الموافقات في أصول الشريعة (2/ 83) .
(4) الأحرف السبعة للداني ص 47.
(1/447)

الأول: اختلاف اللفظ مع أن المعنى واحد:
نحو اللغات (اللهجات) الواردة في القراات كالإظهار والإدغام، والفتح والإمالة، وصلة ميم الجمع وإسكانها، ونحو: السراط بالسين والصراط بالصاد والزراط بالزاي، وأكلها، وفي الأكل بإسكان الكاف وبضمها وإلى ميسرة بضم السين وبفتحها ... وهذا النوع هو الغالب الأعم في القراات حتى مال عدد من كبار العلماء إلى أن اختلاف القراات لا يعدو أن يكون لغات.

الثاني: اختلاف اللفظ والمعنى جميعا مع جواز أن يجتمعا في شيء واحد لعدم تضاد اجتماعهما فيه:
نحو: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: 4) بألف وملك بغير ألف لأن المراد بهاتين القراءتين جميعا هو الله سبحانه وتعالى وذلك أنه تعالى مالك يوم الدين وملكه فقد اجتمع له الوصفان جميعا فأخبر سبحانه وتعالى بذلك في القراءتين ونحو: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (البقرة: 10) بتخفيف الذال وبتشديدها لأن المراد بهاتين القراءتين جميعا هم المنافقون وذلك أنهم كانوا يكذبون في إخبارهم ويكذبون النبي صلّى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله تعالى فالأمران جميعا مجتمعان لهم فأخبر الله تعالى بذلك عنهم وأعلمنا أنه معذبهم بهما، ونحو قوله تعالى: كَيْفَ نُنْشِزُها (البقرة: 259) بالراء وبالزاي لأن المراد بهاتين القراءتين جميعا هي العظام وذلك أن الله تعالى أنشرها أي أحياها، وأنشزها أي رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت فأخبر سبحانه أنه جمع لها هذين الأمرين من إحيائها بعد الممات، ورفع بعضها إلى بعض لتلتئم فضمن تعالى المعنيين في القراءتين تنبيها على عظيم قدرته ...
(1/448)

الثالث: اختلاف اللفظ والمعنى مع امتناع جواز أن يجتمعا في شيء واحد لاستحالة اجتماعهما فيه، مع عدم التناقض العام:
كقراءة من قرأ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا (يوسف: 110) بالتشديد لأن المعنى وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم وقراءة من قرأ فَقَدْ كَذَّبُوا بالتخفيف لأن المعنى وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنهم إن لم يؤمنوا بهم نزل العذاب بهم فالظن في القراءة الأولى يقين والضمير الأول للرسل والثاني للمرسل إليهم والظن في القراءة الثانية شك والضمير الأول للمرسل إليهم والثاني للرسل ...
وهكذا فهم السلف أن معنى هذه الأحرف أنها في الأمر الواحد الذي لا يختلف حلا وحرمة:
فلا تناقض بينها معنى كما قال الزهري تعليقا على حديث الأحرف السبعة:
«بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام» «1» بل «كلها شاف كاف» فكل «حرف من هذه الأحرف السبعة شاف لصدور المؤمنين، لاتفاهما في المعنى، وكونها من عند الله وتنزيله ووحيه، كما قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ (فصلت: 44) وهو كاف في الحجة على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم لإعجاز نظمه، وعجز الخلق عن الإتيان بمثله» «2» .
__________
(1) مسلم (1/ 561) ، المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 414) ، مرجعان سابقان.
(2) شرح السنة (4/ 512) ، مرجع سابق.
(1/449)

المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول:
إذا كان القران قد نزل من عند الله على سبعة أحرف؛ فإن هذا يعني أنه لا دخل للاجتهاد البشري في كلام الله جل جلاله، وإلا لما سمّي كلامه، ولذا يروم هذا المبحث أن يؤكد على هذه الحقيقة، ويتم ذلك من خلال تقسيم المبحث إلى المطالب الخمسة الاتية:
المطلب الأول: التلقي والتوقيفية في القراات.
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم عدم التنازع في رواية القراءة ما دامت قد ثبتت عنه.
المطلب الثالث: أين الأحرف السبعة؟.
المطلب الرابع: القراءة التفسيرية.
المطلب الخامس: القراءة بالمعنى.

المطلب الأول: التلقي والتوقيفية في القراات:
التوقيفية معناها التعليمية «1» ، وهو مصطلح شرعي يدل على ضرورة الوقف عند الشيء المحدد الذي أتى به الشرع وعلمه النبي صلّى الله عليه وسلم، وعدم إدخال الاجتهاد البشري فيه، ويظهر التأكيد عليها في:

تعليمه صلّى الله عليه وسلم وجوب الالتزام بأداء اللفظ القراني كما تعلّم:
تدل الروايات الواردة في الأحرف السبعة جميعا على أن القراات المتعددة «كذلك أنزلت» ، و «كذلك أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ، و «اقرؤوا كما علمتم» ،
__________
(1) حاشية العدوي (1/ 77) ، مرجع سابق.
(1/450)

وكل هذه الألفاظ المتعددة تتضافر على التأكيد على أمر واحد هو أن القراات توقيفية منزلة من عند الله عزّ وجلّ ليس لأحد أن يقرأ بمحض اجتهاده فيأتي بما يظنه مرادفا، أو يقرأ بهيئة مختلقة من عند نفسه، وعلى أن منهج الإقراء المعتمد هو التلقي والتناقل، وليس غيره.
ومعنى «هكذا أقرأني جبريل» «أنه أقرأه مرة بهذه، ومرة بهذه» «1» ، كما قالوا:
كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نقرأ القران كما أقرئناه وقال: إنه أنزل على ثلاثة أحرف فلا تختلفوا فيه فإنه مبارك كله فاقرؤوه كالذي أقرئتموه «2» .
وأمر صلى الله عليه وسلم بالتزام كل شخص ما علّم فعن حذيفة رضي الله عنه قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل وهو عند أحجار المرى فقال: «إن أمتك يقرؤون القران على سبعة أحرف فمن قرأ منهم على حرف فليقرأ كما علم ولا يرجع عنه» «3» ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلم سورة الرحمن فخرجت إلى المسجد عشية فجلس إلي رهط فقلت لرجل اقرأ علي فإذا هو يقرأ أحرفا لا أقرؤها فقلت من أقرأك؟ فقال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى وقفنا على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اختلفنا في قراءتنا، فإذا وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه تغير ووجد في نفسه حين ذكرت الاختلاف فقال إنما هلك من قبلكم بالاختلاف فأمر عليا فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم فإنما أهلك من قبلكم الاختلاف قال فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حرفا لا يقرؤه صاحبه «4» .
__________
(1) القرطبي (1/ 48) ، مرجع سابق.
(2) الطبراني في الكبير (7/ 152) ، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 385) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (7/ 151) ، مرجع سابق.
(4) ابن حبان (3/ 22) ، الحاكم (2/ 243) ، مرجعان سابقان.
(1/451)

وكان يصف ما قرأه المرء مما علّم بأنه حسن جميل، فعن زيد بن أرقم قال:
جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «أقرأني عبد الله بن مسعود سورة وأقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي فاختلفت قراءتهم فقراءة أيهم اخذ؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال علي رضي الله عنه: «ليقرأ كل إنسان كما علم فكل حسن جميل» «1» .
والتوقف عند ما علمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم سواء كانت القراءة سماعا كما تدل عليه الأدلة السابقة أو عرضا كما قال علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما أقرأني فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف «2» .
وكان إنكارهم في مخالفة النبي صلّى الله عليه وسلم في أداء ألفاظ القران الكريم قد بلغ حدا عظيما، فعن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت:
من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت كذبت فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أقرأنيها ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرسله اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت إن هذا القران أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه» «3» ، وعن أبي بن كعب قال ثم كنت جالسا في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل اخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضى
__________
(1) الطبراني في الكبير (5/ 198) ، مرجع سابق وهو في مجمع الزوائد (7/ 154) ، مرجع سابق.
(2) معجم الشيوخ ص 162، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1909) ، مسلم (1/ 560) ، مرجعان سابقان.
(1/452)

الصلاة دخلا جميعا على النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ثم قرأ الاخر قراءة سوى قراءة صاحبه فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرا» فقرأ فقال: «أحسنتما» أو قال: «أصبتما» (وحسن قراءتهما) قال فلما قال لهما الذي قال كبر علي فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلم ما غشيني ضرب في صدري فكأني أنظر إلى ربي فرقا، وفي لفظ: «فلما سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم قال الذي قال سقط في نفسي من الأمر وكبر علي ولا إذ في الجاهلية ما كبر علي فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بي ضرب في صدري ففضت عرفا فكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبي إن ربي أرسل إلي أن اقرأ القران على حرف» فرددت عليه أن هون على أمتي مرتين فرد علي أن اقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتها مسألته يوم القيامة فقلت اللهم اغفر لأمتي ثم أخرت الثانية إلى يوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم «1» ، وفي لفظ قال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي ولابن مسعود: «بلى كلاكما محسن مجمل» فقلت ما كلانا أحسن ولا أجمل قال فضرب صدري.. «2» .،
وفي هذا نفور شديد ظاهر، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن هذا القران أنزل على حروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شيء قط» .
وهذه التوقيفية عبر عنها أئمة السلف بأن القراءة سنة:
أي يجب أن تتبع دون ابتداع، في لفظها ولا في أدائها، فعن أبي عبد الرحمن السلمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم» ، وقال حذيفة رضي الله عنه: «اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم فو الله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموهم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا
__________
(1) مسلم (1/ 562) ، ابن حبان (3/ 15) ، مرجعان سابقان، وما بين العارضتين من المسند المستخرج على صحيح مسلم (2/ 415) ، مرجع سابق.
(2) النسائي في الصغرى (1/ 567) ، أبو داود (2/ 76) ، مرجعان سابقان.
(1/453)

بعيدا» «1» ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إني سمعت القرأة فرأيتم متقاربين فاقرؤا كما علّمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف وإنما هو كقولك هلم وأقبل وتعال» ، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «القراءة سنة فاقرؤه كما تجدونه» ، وعن محمد بن المنكدر قال: «القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول» ، وكذلك قال عمر بن عبد العزيز، وعن عامر الشعبي قال: القراءة سنة فاقرؤا كما قرأ أولوكم، وعن عروة بن الزبير قال: إنما قراءة القران سنة من السنن فاقرؤه كما علمتموه «2» ، وقال: عروة بن الزبير، إنما قراءة القران سنة فاقرؤوا كما علمتموه، وقيل لطلحة بن مصرف: «يا أبا عبد الله إن بعض أصحاب النحو يقولون: إن في قراءتك لحنا، قال: ألحن كما لحن أصحابي أحب إلي من أتابع هؤلاء» «3» .
كما كانوا يحظرون على الإنسان أن يقرأ بما لم يتقدمه فيه أحد فعن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرئ به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا، وعن الأصمعي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء وبركنا عليه في موضع وتركنا عليه في موضع أيعرف هذا؟ فقال ما يعرف إلا أن يسمع من المشايخ الأولين «4» .
وفي ذلك يقول أبو مزاحم الخاقاني- رحمه الله تعالى-:
أيا قارئ القران أحسن أداءه ... يضاعف لك الله الجزيل من الأجر
فما كل من يتلو الكتاب يقيمه ... وما كل من في الناس يقرئهم مقري
وإن لنا أخذ القراءة سنة ... عن الأولين المقرئين ذوي الستر
__________
(1) البخاري (6/ 2656) ، مرجع سابق.
(2) انظر تخريج ما سبق في السبعة ص 46- 50، مرجع سابق، وانظر: فتح الوصيد في شرح القصيد (1/ 80- 81) ، مرجع سابق.
(3) الكامل ص 14 وجه أ، مرجع سابق.
(4) السبعة ص 48، مرجع سابق.
(1/454)

المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم عدم التنازع في رواية القراءة ما دامت قد ثبتت عنه:
وكان صلّى الله عليه وسلم يعلمهم عدم التنازع في رواية القراءة ما دامت قد ثبتت عنه: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القران على سبعة أحرف ومراء في القران كفر» «1» .
ويعلمهم صلّى الله عليه وسلم تصويب قراءة كل واحد منهم ما دام قد تلقاها من النبي صلّى الله عليه وسلم:
فعن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف على أي حرف قرأتم أصبتم فلا تماروا فإن المراء فيه كفر» «2» .
وكان صلّى الله عليه وسلم يشدد في ذلك تشديدا عظيما حتى جعل المراء والجدال في القران كفرا فقال لهم: «لا تجادلوا في القران فإن جدالا فيه كفر» «3» .
وفي معنى النهي عن المراء والجدال الواردين فيما سبق يقول «الحليمي: وهذا والله أعلم أن يسمع الرجل من الاخر قراءة أو اية أو كلمة لم تكن عنده فيعجل عليه، ويخطئه فينسب ما يقرأ إلى أنه ليس بقران، ويجادله في ذلك، أو يجادله في تأويل ما يذهب إليه، ولم يكن عنده ويخطئه ويضلله لا ينبغي له إن فعل ذلك فإن اللجاج ربما أزاغه عن الحق ولا يقبله، وإن ظهر له وجه فيكفر، فلهذا حرم المراء في القران وسمي كفرا لأنه يشرف بصاحبه على الكفر وإن ذلك لو كان في نفي حرف، أو إثباته، أو نفي كلمة، أو إثباتها لكان الزائغ من الممارين عن الحق بعد
__________
(1) الطبراني في الأوسط (6/ 96) ، مرجع سابق.
(2) أحمد (4/ 169) ، مسند الحارث (2/ 732) ، مرجعان سابقان، وهو في مجمع الزوائد (7/ 150) ، مرجع سابق.
(3) مسند الطيالسي ص 302، شعب الإيمان (2/ 417) ، مرجعان سابقان.
(1/455)

ما تبين له كافرا» «1» وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلم قوما يتمارون في القران فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما ترك كتاب الله يصدق بعضه بعضا ولا يكذب بعضه بعضا ما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه» «2» ، فالمراء هنا هو «الإصرار على التغليط، والتضليل، وترك الإذعان لما يقام من الحجة فأما المباحثة التي لا يكاد المشكك ينصح إلا بها فليست بحرام» «3» .
عثمان رضي الله عنه ذكر الأمة بالمشروعية العامة لكل القراات ما دامت ثابتة عن النبي صلّى الله عليه وسلم حتى لا يقع أحد في التكفير:
وهذا الاختلاف والتغليط في أحرف القران حدث في زمن عثمان بن عفان فإن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك الناس قال: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرؤون بقراءة أبى بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضا «4» فأراد عثمان أن يبين للناس جواز القراءة بذلك كله دون إنكار أو مراء، ولذا استشهد الناس على سماعهم حديث الأحرف السبعة، كما جاء عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: بلغنا أن عثمان قال يوما- وهو على المنبر-:
أذكر الله رجلا سمع النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أنزل القران على سبعة أحرف كلها شاف كاف» لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) شعب الإيمان (2/ 417) ، مرجع سابق.
(2) شعب الإيمان (2/ 417) ، مرجع سابق.
(3) شعب الإيمان (2/ 417) ، مرجع سابق.
(4) انظر: فتح الباري (9/ 18) ، مرجع سابق.
(1/456)

«أنزل القران على سبعة أحرف كلها شاف كاف» فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم «1» .
وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلم قواعد جامعة في هذا الباب:
فسمع صلّى الله عليه وسلم قوما يتمارون في القران فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما ترك كتاب الله يصدق بعضه بعضا ولا يكذب بعضه بعضا، ما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه» «2» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «نزل القران على سبعة أحرف، المراء في القران كفر ثلاث مرات فما علمتم فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» «3» .

فظهر من ذلك عدة قواعد جامعة:
1- نزل القران على سبعة أحرف.
2- المراء في القران كفر، ويظهر ذلك في موضوعنا بنفي قراءة يسندها قارئها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم بحسب مناهج الإقراء المعتبرة.
3- فما علمتم فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه، ومن حيث موضوع البحث: ما علمه المرء من قراءة قرأ بها، وما لم يعلمه مما سمعه فأنكره في نفسه لجهله به، وصاحبه متأهل لأن يروي مثل ذلك فلا ينكره أما في عهد الصحابة فللتلقي المباشر من النبي صلّى الله عليه وسلم، ومدار القراات مخصور على عدد قليل منهم، وأما بعده فلوجود أهل الفن الذين يعرفون وينكرون فيرجع الأمر إليهم.
__________
(1) مسند الحارث (2/ 734) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (7/ 152) ، مرجع سابق.
(2) شعب الإيمان (2/ 417) ، مرجع سابق.
(3) ابن حبان (1/ 275) ، أحمد (2/ 300) ، مرجعان سابقان، وفي مجمع الزوائد (1/ 187) ، مرجع سابق: «رواه كله أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح ورواه البزار بنحوه» .
(1/457)

4- التيقن من عدم التناقض المعنوي بين القراات المتعددة، كعدم تناقض وصف الله بعدة أوصاف مثل: عليما حليما غفورا رحيما.
5- الخلافات بين القراات منحصرة منضبطة: فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه:
«إني سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرأوا كما علمتم» «1» ، والتقارب هنا يدل على أن الخلاف بين القراات محدودة جدا ومنحصرة فهي متقاربة بينها.
فنفي قراءة من صحابي لاخر مع إثبات تلقيها من النبي صلّى الله عليه وسلم خطأ رده النبي صلّى الله عليه وسلم، وبعد جيل الصحابة يكون الخطأ هو نفي قراءة مع تلقي أهل المصر لها بالقبول.
6- يجب عند الاختلاف في القراءة أن يكفوا: وليقوموا حتى لا يخطئ بعضهم بعضا في قراءة ثابتة مما قد يؤدي إلى التكفير فعن جندب بن عبد الله عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «اقرؤا القران ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه» «2» : فقوله: «فإذا اختلفتم» فيه نهي عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء فمنع هذا من قراءة أخيه، واتهمه باختلاقها، وأمرهم بأن يتفرقوا عند وقوع مثل هذا الاختلاف، ويستمر كل منهم على قراءته ومثله ما تقدم عن ابن مسعود لما ورقع بينه وبين الصحابيين الاخرين الاختلاف في الأداء فترافعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال كلكم محسن، وما وقع لأبي كذلك «3» ، وهذا أولى من الحمل على الاختلاف في فهم معانيه «4» ، وذلك لأن الاختلاف في استنباط فروع الدين منه ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة وإظهار الحق واختلافهم في
__________
(1) النسائي في الصغرى (1/ 566) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1929) ، مسلم (4/ 2053) ، ابن حبان (3/ 5) ، مراجع سابقة.
(3) وانظر: فتح الباري (9/ 101) ، مرجع سابق.
(4) انظر: فتح الباري (9/ 101) ، مرجع سابق.
(1/458)

ذلك ليس منهيا عنه بل هو مأمور به وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الان «1» ، وقال الزمخشري: «ولا يجوز توجيهه بالنهي عن المناظرة والمباحثة فإنه سد لباب الاجتهاد، وإطفاء لنور العلم، وصد عما تواطأت العقول والاثار الصحيحة على ارتضائه، ولم يزل الموثوق بهم من علماء الأمة يستنبطون معاني التنزيل ويستثيرون دقائقه ويغوصون على لطائفه وهو ذو الوجوه فيعود ذلك تسجيلا له ببعد الغور واستحكام دليل الإعجاز، ومن ثم تكاثرت الأقاويل واتسم كل من المجتهدين بمذهب في التأويل» «2» ، بل يكون النهي عن الاختلاف نهي عن اختلاف لا يجوز أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز كاختلاف في نفس القران بأن ينفي هذا قراءة الاخر، والعكس أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار ونحو ذلك «3» .
وبذلك أوصى عبد الله بن مسعود تلاميذه:
إذ لما أراد أن يأتي المدينة جمع أصحابه فقال: والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح اليوم فيكم من أفضل ما أصبح في أجناد المسلمين من الدين والفقه والعلم بالقران، إن هذا القران أنزل على حروف والله إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شيء قط فإذا قال القاري: هذا أقرأني قال: أحسنت وإذا قال الاخر: هذا أقرأني قال كلاكما محسن ... واعتبروا ذاك بقول أحدكم لصاحبه كذب وفجر وبقوله إذا صدقه صدقت وبررت إن هذا القران لا يختلف ولا يستثنى ولا يتفه لكثرة الرد فمن قرأه على حرف فلا يدعه رغبة عنه، ومن قرأه على شيء من
__________
(1) شرح النووي على مسلم (16/ 218) ، مرجع سابق.
(2) فيض القدير (2/ 63) ، مرجع سابق.
(3) شرح النووي على مسلم (16/ 218) ، مرجع سابق.
(1/459)

تلك الحروف التي علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلا يدعه رغبة عنه فإنه من يجحد باية منه يجحد به كله فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه اعجل وحي هلا «1» .

المطلب الثالث: أين الأحرف السبعة؟:

بحث هذه المسألة ينبني على معرفة معنى الأحرف السبعة:
وقد أجهد أهل العلم أنفسهم في القديم والحديث في محاولات تحديد المراد من الأحرف السبعة بدقة، وما زالت المطبعات تقذف بجديد تأليف في هذا الباب، حتى قال بعضهم: «وهكذا يستمر الأئمة في تقليب الوجوه والمعاني ويحاولون فهم المراد بالسبعة الأحرف في الحديث وإنى أرجّح أن هذا الحديث من متشابه الحديث الذي يصعب معناه على وجه يخلو من الأشكال ولعله مهما أستأثر الله بعلمه» «2» .
والقول بأنها من المشكل الذي استأثر الله بعلمه قاله السيوطي «3» من قبل، وخلاصة البيان في نظر الباحث أن يقال: إما أن العدد مقصود، وإما أنه غير مقصود وأن المراد السعة والتيسير فالمراد منه ظاهر لكن تحديده بدقة هو غير متوفر مهما قيل فيه ولكن لم لا يكون من التيسير: جمع أكبر قدر من المعاني واللغات في أصغر حيز، ولذا قال «اقرؤوا ما تيسر منه» فهي قاعدة أولى وقعد أخرى فقال: «كلها شاف كاف» أي كل واحد منها شاف كاف للمطلوب الشرعي لغة وأصولا وفقها وعقيدة، وكون الواحد منها ينوب عن الاخر ... ولو كانت الأحرف السبعة على هذا المفهوم حرفا واحدا لازداد حجم القران.
__________
(1) أحمد (1/ 405) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (7/ 153) ، مرجع سابق.
(2) مع المصاحف ص 28، مرجع سابق.
(3) الإتقان (1/ 130) ، مرجع سابق.
(1/460)

وغير ضائر عدم التحديد ما دام المعنى واضحا ومظاهره متمثلة في القراات فيقال الأحرف السبعة هي: «ما يشمل اختلاف اللهجات وتباين مستويات الأداء، ناشئة عن اختلاف الألسن، وتفاوت التعليم وكذلك ما يشمل اختلاف بعض الألفاظ وترتيب الجمل بما لا يتغير به المعنى المراد» «1» فليس ثم حاجة للحصر ... ويصعب الجزم بتحديد مدلول دقيق أكثر من ذلك.
والقائلون بأن المراد منها لغات لهم وجهتان:
إما لغات بمعنى اختلاف الكيفيات التصويتية أي الاختلاف اللهجي، وهو ما يدل عليه تعليل ابن قتيبة في بيان حكمة الأحرف السبعة «2» مع أن تفسيره لها مخالف لتعليله، وإما اللغات بمعنى المترادفات، وقد ذهب إلى هذا عدد كبير من أهل العلم بل يكاد من قال بأن المصحف العثماني كتب على حرف واحد يقول بهذا الرأي، ومن أشهرهم: ابن جرير الطبري «3» ، وعلى قولهم هذا فإن الأحرف السبعة قد ذهبت بإجماع الصحابة زمن عثمان رضي الله عنه، إلا شيئا يسيرا يتعلق بموضعين بكلمتين في ثلاثة مواضع من القران الكريم، جاء فيهما الترادف هما:
فَتَبَيَّنُوا في سورتي النساء والحجرات جاءت قراءة أخرى متناقلة لحمزة والكسائي، وخلف العاشر هي [تثبتوا] ، ولَنُبَوِّئَنَّهُمْ جاءت في العنكبوت قراءة هؤلاء أيضا [لنثوينهم] «4» .
__________
(1) تاريخ القران ص 42، مرجع سابق.
(2) ومن اخر من قال بهذا: حسن ضياء الدين عتر في كتابه: الأحرف السبعة في القران بعد بحث وترجيح.
(3) ومن اخر من قال بهذا: الأستاذ محمد محمد الشرقاوي في مقال له بعنوان: الأحرف السبعة التي أنزل عليها القران بمجلة الأزهر- المجلد الثالث والثلاثون- العدد الحادي عشر 1962 م.
(4) انظر: حرز الأماني (الشاطبية) في سور النساء ص 86، العنكبوت ص 127، وكذلك طيبة النشر في سورة النساء ص 70، والعنكبوت ص 90.
(1/461)

والرأي الثالث الشهير أن الأحرف بمعنى سبعة أوجه مختلفة، ومن أشهر القائلين بهذا ابن قتيبة في تفسيره لها، وأبو الفضل الرازي، وابن الجزري رحمهم الله تعالى-.

استبعاد أن تكون الأحرف السبعة محض لهجات:
والقول بأنها ليست محض لغات (لهجات) له وجاهته؛ إذ التيسير المتكأ عليه في كونها كذلك منخرم بأمور:
1- أن من القراات التي ترجع إلى الأحرف السبعة ما ليس بلغات.
2- أن ذلك محكوم بالتلقي، فيلزم الثبات عليه مع التلقي، فيصعب التيسير المراد «1» .
3- أن قبائل العجم أولى بهذه الحكمة من العرب، واشتد ابن حزم كعادته في الإنكار على من اتكأ على هذه الحكمة فقال: «كذب هؤلاء مرتين إحداهما على الله تعالى، والثانية على جميع الناس كذبا مفضوحا جهارا لا يخفى على أحد، أما كذبهم على الله عز وجل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لأجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها فمن أخبرهم بها عن الله تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صح أنه تعالى حكم به ... وأما كذبهم على الناس فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الأعجمي المسلم بلغة العرب التي بها نزل القران أشد مراما من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري والربعي على لغة القرشي» «2» .
__________
(1) انظر كلام القاري في عون المعبود (4/ 253) ، مرجع سابق.
(2) الإحكام (4/ 556) ، مرجع سابق.
(1/462)

استبعاد القول بأن الأحرف السبعة مترادفات سبع:
وواضح من الأحاديث أن الأمر لم يتعلق بالمترادفات اللغوية حال وجودها في القران الكريم، وذلك لمعرفة عمر وغيره بالسور التي كان يقرؤها من أنكروا عليه، فلو كانت مترادفات لكثرت، ولما أنكروا؛ إذ تصبح سورا جديدة لا معروفة عند السامع.
والقائل بالترادف يعسر على الأمة ويقلب الحكمة، إذ الترادف مستلزم لحفظ الأصل، وإذا كان بعض من ذهب المذهب يقول: «والذي وقر في أفهام الصحابة أن ذلك لا يتأتى بالتشهي في انتقاء المترادفات، أو الاختيار الشخصي في تطويع القران للغة ... ولو قد كان ذلك لما قال كل من عمر وهشام حين تجادلا في الموضوع أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم، بل المرجع الأول والأخير في ذلك» «1» ، فإن العسر يبلغ مبلغا كبيرا كما هو ظاهر.
وهذا كله حال تفسير الأحرف السبعة بالمترادفات، وهذا التفسير غير مرضي ولا متفق عليه.

المتبقي من الأحرف السبعة:
وبناء على اختلافهم في تحديد ماهية الأحرف السبعة اختلفوا في بقائها كلها، أو بقاء بعضها، فمنهم من ذهب إلى بقاء الأحرف السبعة برمتها كما يميل إليه ابن حزم «2» ، ومنهم من ذهب إلى بقاء حرف واحد وذهاب ستة أحرف حيث يتحقق القران بواحد منها وهو موجود وذلك شاف كاف كما ذهب إليه الطبري.
__________
(1) انظر: مقال للأستاذ محمد محمد الشرقاوي: الأحرف السبعة التي أنزل عليها القران بمجلة الأزهر، مجلد 33، عدد 11- 1962 م.
(2) الإحكام لابن حزم (1/ 71) ، مرجع سابق، ويسمي الأحرف قراات.
(1/463)

والقول ببقاء ما يحتمله رسم المصحف وتناقلته القراات المتناقلة من الأحرف السبعة هو المتبقي وليس كل الأحرف السبعة، ولا حرفا واحدا هو الذي ارتضاه كثير من المحققين، ونكتفي بهذا في هذا الموضوع لكثرة من بحثه.

وأما العلاقة بين القراات المتناقلة والأحرف السبعة:
فالأحرف السبعة أساس لشرعية هذه القراات؛ إذ القراات من الأحرف السبعة، والعلماء مجمعون على ذلك، فالذي يعنينا من الأحرف السبعة أنها تعطي التأصيل الشرعي للقراات أي تكسبها المشروعية كما ظهر من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم لوصف الأحرف السبعة مع بيان مشروعية القراءة التي قرأ بها أحد المختصمين من الصحابة ولم يشذ عن هذا إلا الطبري تنظيرا لا تطبيقا، حيث ذهب إلى أن عثمان كتب المصحف على حرف واحد، فلما ورد عليه القراات المتناقلة قال: «فأما ما كان من اختلاف القراءة، في رفع حرف وجرّه ونصبه، وتسكين حرف وتحريكه ونقل حرف الى اخر، مع اتفاق الصورة» .
فمن معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «امرت أن أقرأ القران على سبعة أحرف بمعزل» «1» ، ولكنه قال عند التطبيق كلاما وصفه مكي بأنه نقض أيضا به مذهبه وذلك في كتاب القراات له: «كل ما صح عندنا من القراات أنه علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته من الأحرف السبعة التي أذن الله له، ولهم أن يقرؤا بها القران، ليس لنا أن نخطئ من قرأ به إذا كان موافقا لخط المصحف، فإن كان مخالفا لخط المصحف لم نقرأ به، ووقفنا عنه، وعن الكلام فيه» «2» .
__________
(1) الطبري (1/ 31) ، مرجع سابق.
(2) الإبانة عن معاني القراات ص 60، مرجع سابق.
(1/464)

ولكن هل ترجع هذه القراات إلى حرف واحد؟:
نسب القرطبي إلى كثير من أهل العلم أن هذه القراات راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة «1» ، ولكن القول بأن القراات المتناقلة ترجع إلى حرف واحد إما أن يكون مرادهم عدم وجود المترادفات؛ إذ الأحرف السبعة هي المترادفات عندهم، فبقي لفظ ... وذلك محض تخمين لا يرجع إلى أساس علمي عند النظر كما ظهر، وإما أن يريدوا شيئا ليس له معنى، ومن ثم فالكاتب يجزم أن نفي بقاء الأحرف السبعة، أو إثباته مجرد تخمين.
والأسلم أن يقال إنه بقي من الأحرف السبعة ما يحتمله رسم المصحف ويحكم به التلقي، ولا يؤثر ذلك على حقيقة حفظ القران، فالقران متحقق بأحدها، فالذي عليه المحققون أن الذي جمع في «المصحف هو المتفق على إنزاله، المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلفت فيه الأحرف السبعة لا جميعها» «2» .
وعلى هذا فقد علمهم صلّى الله عليه وسلم أن القراات التي أقرأهم بها جزء مما تيسر من الأحرف السبعة «3» .

كتابة المصحف على قراءة العامة في كل مصر:
وكتابة المصحف إنما كانت على قراءة العامة في كل مصر أرسل إليها مصحف، وعندما نقول قراءة العامة في كل مصر، فلا يتوهم أن كل مصر تختلف قراءته تماما عن المصر الاخر، بل القران متماثل وذلك مادي محسوس، ولكن
__________
(1) القرطبي (1/ 46) ، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 30) ، مرجع سابق.
(3) انظر: الإبانة عن معاني القراات ص 34.
(1/465)

قراءة كل مصر تختلف عن غيرها اختلافا يسيرا في أمور محصورة مضبوطة كما سبق، فلا يهول في الاختلاف كأن كلا منهما كتاب متميز عن الاخر.
وقد زال المراء في قراات القران بنسخ المصاحف وتعميمها، ولكن ليس بجمع القران على قراءة واحدة، بل بإعطاء الشرعية للقراات المختلفة مادامت توافق خط المصحف بعد مجيئها تلقيا «1» ، وقد دفع ابن حزم ذلك دفعا شديدا، وقال بعض المحققين: المراد بكون عثمان رضي الله عنه جمع الناس على حرف واحد هي واحدة جنسية لا نوعية، أي لا أنه أخذ حرفا واحدا وترك بقية الحروف «2» .
ثم وجد الكاتب أن بعض كبار المحققين المعاصرين ارتضى الرأي ذاته في سبب نسخ المصاحف حيث قال: «وفى رأينا أن نشر القران بعناية عثمان كان لهدفين:
أولهما أن إضفاء صفة الشرعية على القراات المختلفة- التي كانت تدخل في إطار النص المدون، ولها أصل نبوي مجمع عليه- وحمايتها، فيه منع لوقوع أي شجار بين المسلمين بشأنها.
وثانيهما باستبعاد ما لا يتطابق تطابقا مطلقا مع النص الأصلي، وقاية المسلمين من الوقوع في انشقاق خطير فيما بينهم، وحماية للنص ذاته من أي تحريف نتيجة إدخال بعض العبارات المختلف عليها نوعا ما، أو أي شروح يكون الأفراد قد اضافوها لمصاحفهم بحسن نية» «3» .
__________
(1) وهذه المسألة: اشتمال المصاحف العثمانية على حرف واحد أو على سبعة أحرف «مسألة كبيرة اختلف العلماء فيها» كما يقول ابن الجزري، وليس من نطاق البحث تفصيلها بل له الإشارة إليها. وانظر فيها: النشر في القراات العشر (1/ 33) ، مرجع سابق.
(2) فقه النوازل قضايا فقهية معاصرة (1/ 34) ، مرجع سابق.
(3) محمد عبد الله دراز (دكتور) : مدخل إلى القران الكريم (عرض تاريخي وتحليل مقارن) ص 25، وانظر: هل واحد عثمان بن عفان القراات أم عمم شرعيتها؟ للكاتب.
(1/466)

معنى قولهم قرأ بحرف فلان:
ومن نافلة القول التأكيد على أن القراات السبع ليس هي الأحرف السبعة الواردة في الحديث فأما قول الناس: «قرأ فلان بالأحرف السبعة، فمعناه أن قراءة كل إمام تسمى حرفا، كما يقال: قرأ بحرف نافع، وبحرف أبي وبحرف ابن مسعود. وكذلك قراءة كل إمام تسمى حرفا، فهي أكثر من سبعمائة حرف لو عددنا الأئمة الذين نقلت عنهم القراءة من الصحابة فمن بعدهم» «1» .
وبناء على ما تقدم من العلاقة بين القراات والأحرف السبعة:
أفأقرأهم النبي صلّى الله عليه وسلم بتخفيف الهمز والأوجه الواردة فيها أم كانت سنة تقريرية؟:
الجواب: هذا يعود إلى ما تقدم في أصول التجويد، وأول أصوله: اللغة العربية ... والهمز أو تخفيفه لغتان مشهورتان عند العرب، واللغة الحجازية بالتخفيف لا بالتحقيق ...
فاستبعاد القراءة بالتخفيف كاستبعاد نطق الهمز، كاستبعاد النطق بأي حرف عربي ... وهذا خلف غريب من القول ... نتج عن الخلط بين مناهج العلوم، وبين منهج علم الإقراء ومنهج علم الحديث على الخصوص.
ونقل القرافي في الذخيرة أنه تستحب القراءة بتسهيل الهمزة لأن ذلك لغة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن العلماء اجمعوا على أن لغة النبي صلّى الله عليه وسلم لغة قريش ولغة قريش عدم تحقيق الهمز فيكون ذلك لغة النبي صلّى الله عليه وسلم صحيح «2» .
__________
(1) الإبانة عن معاني القراات ص 44، مرجع سابق.
(2) الحاوي للفتاوى في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون (ص 222) .
(1/467)

وأما الأوجه المتعددة فهي أوجه لغوية صرفة: وفيها التوسعة لعدم النص على وجه بعينه، وإن كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا ريب قد أقرأ بأوجه في ذلك بحسب المنهج القرائي.
وقد يسأل: أدخل الاجتهاد في القراءة باتباع الرسم المصحفي في قراءة حمزة عند الوقف على الهمز؟
والجواب: قول الشاطبي:
وقد رووا أنه بالخط كان مسهلا ففي اليا يلي والواو والحذف رسمه «1» .
«يريد أن بعض أهل الأداء رووا عن حمزة أنه كان يتبع في الوقف على الهمز رسم المصاحف العثمانية الصحيحة، وقيد ذلك الداني والناظم وجماعة من المتأخرين بشرط صحته في العربية، فتبدل الهمزة بذلك الشرط بما صورت به، فما صورت ألفا تبدل ألفا، وما صورت واوا تبدل واوا، وما صورت ياء تبدل ياء، وما لم تصور تحذف» «2» ، وكل ذلك بشرط الصحة لغة، ولذا أنكر ابن الجزري موافقة الرسم دون الصحة في اللغة «3» ، وحصر أهل العلم الكلمات التي جاز فيها ذلك «4» .
ولفقه الصحابة لذلك لم يضعوا للهمزة صورة بعينها في رسم المصحف؛ إذ «كل الحروف المذكورة له صورة في الخط يعرف الحرف بها اصطلاحا متفقا عليه،
__________
(1) حرز الأماني (الشاطبية) ص 43، مرجع سابق.
(2) الشيخ علي محمد الضباع: إرشاد المريد إلى مقصود القصيد ص 71، تحقيق وتقديم: إبراهيم عطوة عوض، ط 1، 1404 هـ/ 1974 م.
(3) النشر في القراات العشر (1/ 462) ، مرجع سابق.
(4) انظر في ذلك مثلا: علي محمد توفيق النحاس (دكتور) : الرسالة الغراء في الأوجه المقدمة في الأداء عن العشرة القراء ص 41، راجعها: الشيخ عبد الرازق السيد البكري- ومها القصيدة الحسناء، ط 1، 1412 هـ/ 1991 م.
(1/468)

لا تتغير تلك الصورة، إلا الهمزة فإنها لا صورة لها تعرف بها، وإنما يستعار لها صورة غيرها، فمرة يستعار لها صورة الألف، ومرة صورة الواو، ومرة صورة الياء، ومرة لا تكون لها صورة» «1» ، وذلك كله قائم على أساس أن الصحابة كتبوا المصحف على الظاهرة اللغوية «2» .

القراءة بالقياس (بالاجتهاد) :
وهنا ترد مسألة القراءة بالقياس، إذ لما كان اعتماد القراء على نقل القراءة خاصة أجمعوا على منعها بالقياس المطلق وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه، وتقدمت قاعدة التوقيف في القراءة، وأن القراءة سنة متبعة «فاقرأوا كما علمتم» ، وإن كان القياس على إجماع انعقد، أو أصل يعتمد فيصار إليه عند عدم النص وغموض وجه الأداء؛ فإنه مما يسوغ قبوله ولا ينبغي رده لا سيما إذا دعت الضرورة (ومست الحاجة إليه) ، (ومما يقوي وجه الترجيح ويعين على وجه التصحيح) ، بل لا يسمى ما كان كذلك قياسا على الوجه الاصطلاحي، (بل هو في التحقيق) «نسبة جزئي إلى كلي كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات» «3» .
ولهذا التفصيل فقد نفى الشاطبي- رحمه الله تعالى- القياس المطلق بقوله:
وما لقياس في القراءة مدخل ... فدونك ما فيه الرضا متكفلا «4»
__________
(1) الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة ص 95، مرجع سابق.
(2) يراجع: غانم قدوري الحمد: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية- ط 1، 1402 هـ- 1982 م، حيث أن الكتاب معقود لإثبات أن الرسم العثماني قائم على أسس تاريخية ولغوية.
(3) شرح طيبة النشر في القراات العشر (2/ 147) ، وانظر: النشر في القراات العشر (1/ 17) .
(4) حرز الأماني (الشاطبية) ص 57، مرجع سابق.
(1/469)

ولكنه أثبت القياس المقيد بقوله: فاقتس لتنضلا «1»
كما يدخل القياس (الاجتهاد) كثيرا في الوقف اصطحابا للمعنى والوجه النحوي، ومما يظهر ذلك اختلاف النحاة والقراء تبع لهم في الوقف على كلا ونعم وبلى، ولما أراد مكي بن أبي طالب بيان اختياره في ذلك قال: «فهذا الذي ذكرنا، هو الذي عليه أهل المعاني من النحويين، والحذاق من القراء، وهو الاختيار عندنا، وبه اخذ» «2» .

وهل أقرأ النبي صلّى الله عليه وسلم بالإمالة؟.
والجواب: اختلف في أصالة الإمالة والفتح وفرعيته في اللغة العربية «3» ، حتى كان اضطراب أقوال الأقدمين من القراء والنحاة في أصالة الفتح أو الإمالة دليلا على أنهم أدركوا أن الإمالة أحيانا تكون لها الأصالة «4» ، والقول بأصالة الإمالة يتفق مع المخطوطات الكوفية القديمة للخطوط العربية حيث كتبت الألف في رمى مثلا (ى) ، «وليس هناك من تعليل لهذه الظاهرة إلا قدم نطق رمى بالإمالة» «5» .
وأشهر من رويت عنه الإمالة من القراء: حمزة والكسائي، وعاصم من رواية شعبة، وأبو عمرو فأما حمزة فسنده إلى على بن أبي طالب سند كله شيوخ كوفيون، والكوفة نزل بها رجال من قبيلة أسد التي اشتهرت بالإمالة، وأفرادها يقرؤن القران بلهجتهم في الإمالة.
__________
(1) حرز الأماني (الشاطبية) ص 53، مرجع سابق.
(2) شرح كلا وبلى ونعم والوقف على كل واحدة منهن في كتاب الله عز وجل ص 45 لمكي بن أبي طالب.
(3) انظر: في الدراسات القرانية واللغوية: الإمالة في القراات واللهجات العربية ص 55.
(4) الإمالة في القراات واللهجات العربية ص 64، مرجع سابق.
(5) الإمالة في القراات واللهجات العربية ص 62، مرجع سابق.
(1/470)

وأما الكسائي فكان مولى هؤلاء الأسديين وربيبهم فهذا سبب إكثار حمزة والكسائي من الإمالة، إذ كان ذلك- في جماع من القول- «بهدى من شيوخهما الذين عنهم يقران، وبيئتهما التي كانا فيها يضطربان ويعيشان» «1» ، وقد قيل للكسائي: إنك تميل ما قبل هاء التأنيث فقال: هذا طباع العربية.
وأما عاصم فقرأ على شيخين كبيرين: على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، وهو يؤثر الفتح، وأقرأ قراءته هذه لحفص، والاخر هو زر بن حبيش عن ابن مسعود، ويؤثر عنه الإمالة، وأقرأ قراءته هذه لشعبة «2» ... وعلى ما ذكرنا عن هؤلاء القراء تعليل ظهور الإمالة عند غيرهم.
والإمالة في هاء التأنيث وما شابهها من نحو (همزة، ولمزة، وخليفة، وبصيرة) هي لغة الناس اليوم والجارية على ألسنتهم في أكثر البلاد شرقا وغربا وشاما ومصرا لا يحسنون غيرها ولا ينطقون بسواها يرون ذلك أخف على لسانهم وأسهل في طباعهم وقد حكاها سيبويه عن العرب «3» .
فلا يرد هذا السؤال: هل كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ بالإمالة.. «4» . أصلا لأنه سؤال عن صفة ذاتية للحرف عند قطاع عريض من العرب الفصحاء، وقد ورد عن «إبراهيم النخعي قال: كانوا يرون أن الألف والياء في القراءة سواء يعني بالألف والياء والتفخيم والإمالة فدل ذلك دلالة قاطعة على تساوي اللغتين وأنهما عند كل الصحابة رضوان الله عليهم في الفشو والاستعمال سواء، فلا وجه لاختيار شيء من ذلك وتفضيله على الاخر» «5» .
__________
(1) انظر: الإمالة في القراات واللهجات العربية ص 127، مرجع سابق.
(2) غاية النهاية (1/ 348) ، مرجع سابق، وانظر: الإمالة في القراات واللهجات العربية ص 123، مرجع سابق.
(3) النشر في القراات العشر (2/ 82) ، مرجع سابق.
(4) راجع: الإمالة في القراات واللهجات العربية ص 55، مرجع سابق.
(5) جمال القراء وكمال الإقراء 2/ 504 بتصرف، مرجع سابق.
(1/471)

وأما ما ورد عن زيد بن ثابت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال أنزل القران بالتفخيم كهيئة الطير عذرا أو نذرا والصدفين ألا له الخلق والأمر وأشباهها «1» ، فهو- حال صحته- قد بين المعنى وأن المراد بالتفخيم المعنوي ولذا أدخل قوله سبحانه وتعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ (الأعراف: 54) ، وليس المراد تحريك السواكن دون سكونها، ولا الفتح دون الإمالة.
وكل ما سبق أمثلة لما يستنكره بعضهم اليوم ويستوحشون من وجوده في القراات، والمرء عدو ما جهل ... ويقاس عليه ما لم يذكر كصلة ميم الجمع.. وفي الأصل تفصيل كثير في هذا الباب.
وأما كراهة الإمام أحمد- رحمه الله تعالى- لبعض القراات:
فهي كراهة قلبية وليس تحريما أصليا لعدم شيوع ما سمع على لسانه في عصره، وذلك كما يميل البعض إلى قراءة دون قراءة «وأثنى أحمد على قراءة أبي عمرو غير أنه كره إدغامه الكبير ... » «2» ، «ونقل عن أحمد أنه كان يختار قراءة نافع من طريق إسماعيل بن جعفر، قال: فإن لم يكن فقراءة عاصم من طريق أبي بكر بن بكر بن عياش، وأثنى على قراءة أبي عمرو بن العلاء، ولم يكره قراءة أحد من العشر إلا قراءة حمزة والكسائي لما فيها من الكسر الإدغام والتكلف وزيادة المد، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله إمام كان يصلي بقراءة حمزة أصلي خلفه قال: لا يبلغ به هذا كله ولكنها لا تعجبني قراءة حمزة» «3» ، ويعود الإعجاب وعدمه هنا إلى التفضيل القلبي، والصحيح جوازه ولذا قال سويد: مضيت أنا
__________
(1) المستدرك (2/ 264) ، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .
(2) المبدع (1/ 445) ، مرجع سابق.
(3) المغني (1/ 292) ، مرجع سابق.
(1/472)

وأحمد بن رافع إلى أحمد بن حنبل رحمه الله فقال: ما حاجتكما؟ قلنا: نحن نقرأ قراءة حمزة وبلغنا أنك تكره قراءته، فقال أحمد رحمه الله: حمزة قد كان من العلم بموضع، ولكن لو قرأتم بحرف نافع وعاصم، فدعونا له وخرجنا وخرج معنا الفضل بن زياد، فقال لنا: إني لا أصلي به وأقرأ قراءة حمزة، فما نهاني عن شيء منها قط «1» ، وحمزة هو الذي صار عظم أهل الكوفة إلى قراءته من غير أن تطبق عليه جماعتهم ... ودرس سفيان على حمزة القران أربع دراسات، وسفيان هنا هو الثوري وهو من هو فقها «2» ...
وعلى الرغم من تفضيل أحمد لقراءة عاصم إلا أن عاصما قد وصف في ترجمته بما ينسب لحمزة، فعن شريك قال: كان عاصم صاحب همز ومد وقراءة شديدة «3» ، فما عابه على حمزة هو فيمن فضله، وإنما كان حمزة يفعل ذلك تعليما للمبتدئ ليأخذهم بالتأني والترتيل، وينهاهم مع ذلك عن تجاوز الحد.
وقال محمد بن الهيثم النخعي: صليت خلف حمزة رحمه الله فكان لا يمد في الصلاة ذلك المد الشديد، ولا يهمز الهمز الشديد.
وقال سليم: قال حمزة: ترك الهمز في المحاريب من الأستاذية، وحمزة يقول في مسألة الهمز والسكت: إنا جعلنا هذا التحقيق ليستمر عليه المتعلم «4» .
__________
(1) جمال القراء وكمال الإقراء (2/ 471) ، مرجع سابق.
(2) طبقات القراء (1/ 113) .
(3) سير أعلام النبلاء (5/ 258) ، مرجع سابق.
(4) جمال القراء وكمال الإقراء (2/ 471) ، مرجع سابق، ويراجع كلام السخاوي القيم في الدفاع عن ابن عامر وحمزة.
(1/473)

ملحوظات هامة:

أولا: أصل المد هو المتواتر القراني:
أصل المد، أو اصل الإمالة أو أصل الغنة ينتمي إلى التواتر القراني لأنه جزء من الصوت الأساسي للكلمة، بخلاف التفصيل الدقيق فينتمي إلى التواتر القرائي، وقد يتساهل في أمره، ولذلك اختلفت فيه كتب القراات، ونظير ذلك الأوجه الجائزة في تخفيفات الهمز.

ثانيا: لا يقرأ بكل ما في الكتب الضابطة لعلم القراات:
بل فيها ما ينتمي إلى الشواذ «1» ... ولكن المعالم الكبرى لجمهرة التفصيلات في مسائل القراات متفق عليها بين هذه الكتب، فقد تختلف هذه الكتب في ترقيق راء في بضعة كلمات ولكنها متفقة في جمهرة تفاصيل الترقيق والتفخيم، وهي تفاصيل لا تؤثر بحال على الصوت الأساسي للكلمة، ولا على تواتره، ولا على معناه ... ومن اللافت للنظر أن التفاصيل المختلف فيها تنتمي غالبا للغات العربية (اللهجات) ولا تخرج عنها. وإذا كانت كتب القراات المتخصصة لا يقرأ بكل ما فيها، فكيف بما ورد في ثنايا كتب الحديث أو التفسير أو الحديث؟.

ثالثا: علم التحرير يضبط الجائز من الأوجه المتعددة السائغة في اللغة فيما هو موغل في تفصيلات النطق بالحروف:
الأوجه المتعددة والتي استخرجها علم (تحرير القراات) تنتمي إلى السنة التقريرية في القراءة على أوجه اللغة العربية مما يدخل في القياس المقيد الجائز في
__________
(1) (الصفاقسي) على النوري: غيث النفع في القراات السبع ص 6 بذيل سراج القارئ المبتدئ وتذكار المقرئ المنتهي.
(1/474)

علم القراات، ولكن علم التحرير ضبط السائغ في اللغة العربية مما ورد عن الرواة وأهل الأداء منها، وليست العملية خاضعة للضرب الحسابي على نحو ما يظهر في شرح ابن القاصح للشاطبية «1» ، وقد بين صاحب غيث النفع ضرورة ذلك واتخذه منهجا له فقال: «ماشيا في جميع ذلك على طريقة المحققين كالشيخ العلامة أبي الخير محمد بن محمد الجزري الحافظ رحمه الله من تحرير الطرق، وعدم القراءة بما شذ، وبما لا يوجد كما يفعله كثير من المتساهلين القارئين بما يقتضيه الضرب الحسابي؛ فإن ذلك غير مخلص عند الله عز وجل، وكان شيخنا رحمه الله يحذرني من ذلك كثيرا ويقول ما معناه إياك أن تميل إلى الراحة والبطالة وتقرأ كتاب الله بما يقتضيه الضرب الحسابي كما يفعله أهل الكسل» «2» على أن هذه الأوجه كلها أوجه تصويتية وليست إبدالا لكلمة مكان أخرى، بل الخلاف بينها داخلي في تخفيف حرف أو طروء أنواع التغيير الصوتي الداخلي عليه هو لا غيره مما يخضع لقواعد العربية كتبادل الفتح والإمالة الصغرى والكبرى على الألف ...

المطلب الرابع: القراءة التفسيرية:
هي التي وردت في ثنايا كلام السلف أثناء قراءتهم للقران في وعظ أو في مجلس تفسير، أو علم، دون فاصل بين ما هو من القران وما هو من كلامهم فيتوهم السامع أنه قراءة، وليس كذلك وهذا النوع يشبه الحديث المدرج، فتسمية الحديث المدرج بالحديث فيه تجوز كبير، وكذلك تسمية هذا النوع بالقراءة.
__________
(1) سراج القارئ المبتدئ وتذكر المقرئ المنتهي عند الكلام على أوجه حمزة على التخفيف الرسمي في هؤلاء مثلا- باب وقف حمزة وهشام.
(2) غيث النفع في القراات السبع ص 6، مرجع سابق.
(1/475)

أصل القراءة التفسيرية:
كان النبي صلّى الله عليه وسلم قد منع من كتابة غير القران معه كما فصل الباحث، ثم أذن لهم بعد ذلك، امرا لهم بأن يخلصوا القران ثم أطلق الإذن لهم، وبعد أن أذن لهم بكتابة غير القران معه ربما ترخصوا فكتبوا التفسير الذي سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلم أو استنبطوه بما دل على الجزم به عندهم، فيعدها من لا يعلم قراءة وهما كما جاء عن أبي يونس مولى عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الاية فاذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلما بلغتها اذنتها فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» ، فما الذي سمعته أيقرأ تلاوة أم يقرأ قراءة تفسير؟ ويدل لذلك اختلاف الألفاظ بين الصحابة فقد جاء هذا الحديث عن البراء ابن عازب قال: نزلت هذه الاية حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فقال رجل كان جالسا عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر؟ فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها «2» ، ومثله عن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدثهما أنه كان يكتب المصاحف في عهد أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم قال: فاستكتبتني حفصة مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الاية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني بها فأملها عليك كما حفظتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال فلما بلغتها جئتها بالورقة التي أكتبها فقالت اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة
__________
(1) مسلم (1/ 437) ، مرجع سابق.
(2) مسلم (1/ 438) ، مرجع سابق.
(1/476)

الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين «1» ، وفي لفظ: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الاية حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرؤها فلما بلغتها أمرته فكتبها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين «2» ... واختلاف ألفاظ الروايات وعدم استقرارها يوضح تمام التوضيح أنها قراات تفسير، ويشبه ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب:
«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا» «3» .
فبالتأمل يظهر للباحث المتجرد على أن كلام أمهات المؤمنين يراد به التفسير اختلاف ألفاظ الروايات في إثبات تفسير الصلاة الوسطى فيكون معنى قولهن سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي التفسير عند قراءة الاية، وليس الترتيل بقراءتها ضمن الاية، وحكمها في الأخير حكم المرفوع أو الموقوف من الأحاديث بحسب كل، ويدل على ذلك دلالة لا شبهة فيها رواية: صلاة الوسطى صلاة العصر «4» ، وهذا لفظ التفسير كما هو ظاهر، ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرؤها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر بغير واو «5» .

ويوضح هذه المسألة أكثر:
أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتجوزون في ذكر أن كذا من القران مع بقاء حدوده اللفظية واضحة كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لعن الله الواشمات
__________
(1) ابن حبان (14/ 228) ، مرجع سابق.
(2) الطبري (2/ 562) ، مرجع سابق.
(3) مسلم (1/ 436) ، مرجع سابق.
(4) سعيد بن منصور في سننه (3/ 913) ، مرجع سابق.
(5) أبو عبيد في الفضائل ص 293، مرجع سابق.
(1/477)

والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القران فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فقال عبد الله وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ... الحديث «1» .
ولأن القراءة الشاذة- في الغالب- تكون تفسيرا للقراءة المشهورة ... سميت قراءة هنا مجازا: كما قال أبو عبيد في الفضائل: «القصد من الشاذة تفسير المشهورة وتبيين معانيها كقراءة عائشة وحفصة: والصلاة الوسطى صلاة العصر» «2» .
ومثل ذلك ما قرره الغزالي- رحمه الله تعالى- في المنسوب إلى ابن مسعود من قراءة فصيام ثلاثة أيام متتابعات حيث قال: «تحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار» «3» ، وحملوا جميع ما جاء من الروايات مخالفا لخط المصحف إذا تيقنت صحنه على وجه التفسير، لا أنه من التلاوة «4» .
وجعل السيوطي هذا النوع شبيها بالحديث المدرج فقال:
«وظهر لي سادس يشبهه من أنواع الحديث المدرج وهو ما زيد في القراات على وجه التفسير كقراءة سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم أخرجها سعيد بن منصور» «5» .
__________
(1) مسلم (3/ 1678) ، مرجع سابق.
(2) فضائل القران لأبي عبيد ص 289، مرجع سابق.
(3) المستصفى ص 81، مرجع سابق.
(4) شرح الهداية ص 8، مرجع سابق.
(5) الإتقان (1/ 207) ، مرجع سابق.
(1/478)

وأبرز مثال يمكن اصطحابه هنا لتقريب هذا الموضوع:
ما جاء في حديث أبي سفيان عن ما حدث بينه وبين هرقل؛ إذ فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لهرقل: «فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) (ال عمران: 64) «1» ، فالواو هنا حكم عليها بأنها زيادة على الاية سابقا خضوعا لمنهج التواتر القراني؛ إذ وقعت (ويا أهل الكتاب الخ) هكذا بإثبات الواو في أوله، كأنها داخلة على مقدر معطوف على قوله أدعوك فالتقدير أدعوك بدعاية الإسلام وأقول لك ولاتباعك امتثالا لقول الله تعالى يا أهل الكتاب.. «2» ..
ولذا قال مجاهد- رحمه الله تعالى-:
«لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القران مما سألت» «3» ، وكلام مجاهد هنا يدل دلالة واضحة على أن «القراات الشاذة» التي تنسب إلى مصحف ابن مسعود تفسير من ابن مسعود وليست بقراءة قرانية.
ومثال ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج مع نظائر لهذه الحروف كثيرة» «4» ، وقرر ابن حزم
__________
(1) البخاري (1/ 9) ، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (1/ 39) ، مرجع سابق.
(3) الترمذي (6/ 411) ، مرجع سابق.
(4) انظر: القرطبي (1/ 84) ، مرجع سابق.
(1/479)

- رحمه الله تعالى- قاعدة جامعة لمثل هذه المواضع فقال: «كل ما ورد من قراءة خلاف المتلقى فهو تفسير أو نحو ذلك أو كذب» «1» .

بدهية القراات التفسيرية:
ولأن القراات التفسيرية معروفة معلومة صارت بديهية في كلام كثير من أهل العلم، وفيها قالوا:
والسبعة القراء ما قد نقلوا بغيره ... فمتواتر، وليس يعمل
في الحكم ما لم يجر ... مجرى التفاسير، وإلا فادر
قولين إن عارضها المرفوع ... قدمه. ذا القول هو المسموع «2»
ولذا طبع في نفوس المسلمين أن كتاب الله لم يشب أي لم تخالطه شائبة من قول بشر كما حدث في كتب اليهود والنصارى- فهو ما بين الدفتين لا ويادة ولا نقصان- فعن عبد الله بن عبّاس قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الّذي أنزل على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أحدث الأخبار بالله تقرؤنه لم يشب.. «3» ..
__________
(1) انظر: الأحكام لابن حزم (4/ 556) ، مرجع سابق.
(2) محمد يحي بن الشيخ أمان المدرس بمدرسة الفلاح الملكية: التيسير شرح منظومة التفسير للشيخ عبد العزيز الزمزمي ص 77.
(3) البخاري (2/ 953) ، مرجع سابق.
(1/480)

المطلب الخامس: القراءة بالمعنى:
أصل القول بذلك: يعود القول بجواز القراءة بالمعنى إلى:
1- اطّراح المنهج القرائي في ثبوت اللفظ القراني، وهذا كاف عما بعده؛ إذ كيف يتأتى القول بجواز القراءة بالمعنى مع كل ما تقدم مما يدل على أن التوقيفية والتلقي هو المنهج القرائي لا غير؟.
2- الاستدلال بأدلة لا أصل لها أو بأدلة ضعيفة.
3- الاستدلال بأدلة صحيحة توهم ذلك، مع أن حقيقتها غير ذلك ...
وكل الأدلة خارج نطاق المنهج القراني والقرائي، وتشبث بها المستشرقون «ليؤكدوا أن نظرية القراءة بالمعنى كانت بلا ريب أخطر نظرية في الحياة الإسلامية لأنها أسلمت النص القراني إلى هوى كل شخص يثبته على هواه» «1» .

الأدلة التي اعتمدوها على القول بجواز القراءة بالمعنى:

أولا: بتأويل الأحرف السبعة بمترادفات سبع بحسب اللغات:
وأيدوا قولهم هذا ببعض الروايات منها: منها: ما جاء عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ... حتى بلغ سبعة أحرف قال ليس فيها إلا شاف كاف قلت غفور رحيم عليم حكيم سميع عليم عزيز حكيم نحو هذا ما لم يختم اية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب «2» ، ومثله عن أبي بكرة رضي الله عنه أن جبريل عليه السّلام قال: كل شاف كاف ما لم يختم اية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع واعجل «3» ، ونحو ذلك من الروايات.
__________
(1) صبحي الصالح (دكتور) : مباحث في علوم القران ص 107، ط 3، 1964 م، دار العلم للملايين- بيروت.
(2) النسائي في الصغرى (1/ 567) ، أبو داود (2/ 76) ، مرجعان سابقان.
(3) أحمد (5/ 51) ، مرجع سابق.
(1/481)

الجواب على الاستدلال بهذه الروايات وأمثالها:
1- ليس في ذلك دليل ظاهر على الدعوى؛ إذ غاية ما فيها أنها مثلت الجواز في تعدد القراات، وعدم تضارب المعاني على الرغم من ذلك بهذين المثالين، فقوله: «سميعا عليما وغفورا رحيما ... » ونحو ذلك «أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القران عليها أنها معان متفق مفهومها مختلف مسموعها لا تكون في شيء منها معنى وضده ولا وجه يخالف وجها خلافا ينفيه» «1» .
2- وقرر القرطبي ذلك أيضا نقلا عن ابن الأنباري فقال: «هذا الحديث يوجب أن القراات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلّى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها واتفقت معانيها كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلم وتعال وأقبل فأما ما لم يقرأ به النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم رضي الله عنهم فإنه من أورد حرفا منه في القران بهت ومال وخرج من مذهب الصواب» «2» .
3- كما أن لهذا الحديث مدلولا اخر يتصل بعدم الغلو والتنطع في الإقراء، ويدل على التسامح وعدم الفزع عند وقوع الخطأ في اللفظ القراني أو في أدائه، ومثل ذلك ما روي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: ليس الخطأ أن تقرأ بعض القران في بعض ولا أن تختم اية «غفور رحيم» «بعليم حكيم» أو «بعزيز حكيم» ولكن الخطأ أن تقرأ ما ليس فيه أو تختم اية رحمة باية عذاب «3» ، ولعل هذا يتكلم عن الوقوع لا عن الجواز ابتداء، ولذا تكلم العلماء على الوقوع المفسد «4» وأن ضابطه تغير المعنى ...
__________
(1) التمهيد (8/ 283) ، مرجع سابق.
(2) القرطبي (19/ 42) ، مرجع سابق.
(3) عبد الرزاق (3/ 364) ، مرجع سابق.
(4) وراجع: كتاب الخطأ في القراءة للنسفي- مخطوط عند الباحث مصور عن كتب خانة- الهند.
(1/482)

4- وهذا ما قرره ابن مسعود ذاته عندما أراد أن يوضح أن الاختلاف اللفظي بين الأحرف السبعة لا يؤدي إلى التناقض فقال: «واعتبروا ذاك بقول أحدكم لصاحبه كذب وفجر وبقوله إذا صدقه صدقت وبررت إن هذا القران لا يختلف ولا يستشنى ولا يتفه لكثرة الرد فمن قرأه على حرف فلا يدعه رغبة عنه» ، وبين لهم ضرورة التوقيفية فقال: «إن هذا القران أنزل على حروف والله إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شيء قط فإذا قال القاري هذا أقرأني قال أحسنت وإذا قال الاخر قال كلاكما محسن ... » «1» .
ولذا قال ابن تيمية: «وأما من قال عن ابن مسعود أنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم أقبل وهلم وتعال فاقرؤوا كما علمتم» «2» ، وبين الجزري عذره- إن صح ما نقل عنه- فقال: «وأما من يقول إن بعض الصحابة كابن مسعود كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب ... نعم كانوا ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قرانا فهم امنون من الالتباس وربما كان بعضهم يكتبه معه لكن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره ذلك ويمنع منه» «3» .
5- وقال ابن عطية: «لم تقع الإباحة في قوله عليه السلام: «فاقرؤا ما تيسر منه» بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه، ولو كان هذا لذهب إعجاز القران ... وإنما وقعت
__________
(1) أحمد (1/ 405) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (7/ 153) .
(2) ابن تيمية (13/ 397) ، مرجع سابق.
(3) النشر في القراات العشر (1/ 32) ، مرجع سابق.
(1/483)

الإباحة في الحروف السبعة للنبي صلّى الله عليه وسلم ليوسع بها على أمته فأقرأ مرة لأبي بما عارضه به جبريل ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا ... » «1» .
6- حتى من مال إلى تفسير الأحرف السبعة بالمترادفات فإنه يقرر أن:
«الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته بل المراعى في ذلك السماع من النبي صلّى الله عليه وسلم ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام:
أقرأني النبي صلّى الله عليه وسلم» «2» .

ثانيا: واستدلوا بما ورد: عن أبي الدرداء:
أنه أقرأ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (الدخان: 43- 44) فقال الرجل: طعام اليتيم فقال أبو الدرداء: الفاجر «3» ، والظاهر أن الرجل قال طعام اليثيم بالثاء كما في مقدمة المباني والحاكم وتصحفت- وذلك ظاهر- ولكن ما كان لأبي الدرداء أن يضيق من قلب الهمزة ياء، وذلك وارد في العربية، قريب استعماله في قراات بعض القراات المتناقلة كحمزة- وإن كان يسهلها ولا يقلبها-، فيترجح أن الرد لا ليقرأ بل هو تفسير ليدرك المعنى، وهذا واضح.
ومثل ذلك يقال فيما روي عن ابن مسعود أقرأ رجلا طعام الأثيم فلم يفهمها؛ فقال له: طعام الفاجر، ويزاد بأن بعض الناس رووها قراءة وليست كذلك، على حد تعبير ابن العربي: «فجعلها النّاس قراءة» «4» ، وأما ما ورد عن مالك فالصحيح أن المنقول عنه: «أنّه لا يقرأ في الصّلاة بما يروى عن ابن مسعود. وقال ابن شعبان: لم
__________
(1) القرطبي (1/ 47) ، مرجع سابق.
(2) فتح الباري (9/ 27) ، مرجع سابق.
(3) الحاكم (2/ 489) ، مرجع سابق.
(4) أحكام القران لابن العربي (4/ 1692) عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ.
(1/484)

يختلف قول مالك إنّه لا يصلّى بقراءة ابن مسعود فإنّه من صلّى بها أعاد صلاته؛ لأنّه كان يقرأ بالتّفسير» «1» ومن أبرز أدلة عدم كونها قراءة أنها «لو صحّت قراءته لكانت القراءة بها سنّة، ولكنّ النّاس أضافوا إليه ما لم يصحّ عنه؛ فلذلك قال مالك: لا يقرأ بما يذكر عن ابن مسعود، والّذي صحّ عنه ما في المصحف الأصليّ» «2» .
وقال بعضهم: «باب الحجة في الصلاة بقراءة ابن مسعود وأبي وغيرهما ممن أثني على قراءته» «3» ، واحتج لذلك بنحو حديث: «خذوا القران من أربعة من ابن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة» «4» .
فهذه حجة مؤكدة على أخذ القراءة من ابن مسعود كما سبق على هيئة تفصيلية أكثر، ولكن ما هي قراءة ابن مسعود: أهي ما يتناقله القراء عبر منهج التلقي الصارم أم ما تتضمنه بعض الروايات الحديثية من نفي للمعوذتين ونحوها؟
والجواب ظاهر، وهل قراءة الناس في العراق إلا عن ابن مسعود ولكننا نقرأ المتناقل المتلقى عنه لا ما أورد على خلاف متهج التلقي القراني، على أن حرف عبد الله الصحيح أنه موافق لمصحفنا يدلك على ذلك أن أبا بكر بن عياش قال:
قرأت على عاصم، وقرأ عاصم على زر، وقرأ زر على عبد الله.

ثالثا: ومما قد يستدلون به:
ما روي عن الأعمش قال سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله عز وجل وأقوم قيلا قال وأصدق فقيل له إنها تقرأ وأقوم فقال: أقوم وأصدق
__________
(1) أحكام القران لابن العربي (4/ 1692) عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ.
(2) أحكام القران لابن العربي (4/ 1692) عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ.
(3) نيل الأوطار (2/ 261) ، مرجع سابق.
(4) البخاري (3/ 1385) ، مسلم (4/ 1913) ، مرجعان سابقان.
(1/485)

واخذ «1» ، والجواب: أن هذا كالسابق فإنما كان يقرؤها تفسيرا لا قراءة، ولعل الأعمش فهم ذلك حيث قال سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله عز وجل وأقوم قيلا ... لم يقل قرأها كذا، أو تلاها فأراد التفسير كما ذكر ذلك ابن كثير «2» .

القراءة بالمعنى تخالف حقيقة القران:
وكما أن القراءة بالمعنى تخالف منهج التلقي القراني، فكذلك تخالف ماهية القران: من حيث إنه كلام الله الذي لا يؤديه بشر إلا بلفظه، والقارئ بالمعنى يزعم أنه يحكيه بمعناه لا بلفظه.
وأنه معجز بالنظم، والقارئ بالمعنى يقرأ نظم بشر، وهذا من أوضح الأدلة على منع تغير اللفظ ففي «ذلك ما أبان أن نظم القران ليس من عند جبريل ولكنه من عند اللطيف الخبير» «3» .
والقارئ بالمعنى يجعله كلام بشر، والقران يدفع ذلك وينفيه، وبجعل القارئ به مفتريا محتقبا إثما وزورا.
والقارئ بالمعنى يجعله غير محفوظ الألفاظ، والقران يمنع ذلك قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ (يونس: 15) ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (الحاقة: 44- 46) ، والقران يجب ترتيله، والقارئ بالمعنى لا يلتزم لفظه فكيف يجب ترتيله؟.
__________
(1) الطبري (29/ 131) ، أبو يعلى (7/ 88) ، مرجعان سابقان.
(2) ابن كثير (4/ 436) ، مرجع سابق.
(3) شعب الإيمان (1/ 194) ، مرجع سابق.
(1/486)

والقران مكتوب كذلك في اللوح المحفوظ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (البروج: 21- 22) والقراءة بالمعنى تجعله متعدد الجهات بما لا يحصى ...
قال أبو بكر الأنباري: «وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القران فهو مصيب إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له ... ولا يلتفت إلى قائله لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القران إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها لجاز أن يقرأ في موضع الحمد لله رب العالمين الشكر للباري ملك المخلوقين ويتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القران ويكون التالي له مفتريا على الله عز وجل كاذبا على رسوله صلّى الله عليه وسلم» «1» .
والصحابة لم يكونوا يغيرون مواضع الايات، ولا يتركون اية قد وضح نسخ الحكم فيها فكيف هم فاعلون مع نصوص الايات ذاتها كما قال ابن الزّبير: قلت لعثمان ابن عفّان وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً قال: قد نسختها الاية الاخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغيّر شيئا منه من مكانه «2» .

زيادة نقل عن بعض أهل العلم:
وسئل ابن الصلاح- رحمه الله تعالى- في مسألة القراءة بالمعنى فقال السائل:
أيجوز لقارئ أن يقرأ في كتاب الله تعالى مكان اتينا أعطينا وفتجسسوا فتخبروا وسولت زينب وأن يستبدل تاء القسم بواوه أو بائه وأن يقرأ مكان موسى موشى منقوطا على أصل العبرانية وأن يحرك الدال في قوله تعالى المص وكهيعص بإحدى الحركات الثلاث ... وما يجري هذا المجرى، وأن يقرأ القران علي المعنى أعني يستبدل كل كلمة شاء بلفظ اخر يفيد معناها؟.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (19/ 41) ، مرجع سابق.
(2) البخاري (4/ 1646) ، مرجع سابق.
(1/487)

فأجاب: «أما القراءة بمجرد المعنى من غير تقييد بنقل من ذاكره عن من تقدمه فذلك إفراط في الزيغ زائد وكان وقع (من) ابن شنبوذ وابن مقسم، ووثب عليهما بمر الإنكار أهل العلم بالقران، واستتيبا وكفا فليتق الله الجليل عظم جلاله ولا يستجرئ على كتابه فقد علم ما علم على المحرف له» «1» .

من قال بالقراءة بالمعنى يكفّر لتغييره كلام الله جل جلاله:
ولذلك كله فإن الذي يقول بالقراءة بالمعنى يكفّر عند أهل العلم كما قال أبو بكر الأنباري: «فإذا قرأ قارئ تبت يدا أبي لهب وقد تب ما أغنى عنه ... في جيدها حبل من ليف فقد كذب على الله جل وعلا، وقوله ما لم يقل، وبدل كتابه، وحرفه وحاول ما قد حفظه منه، ومنع من اختلاطه به وفي هذا الذي أتاه توطئة الطريق لأهل الإلحاد ليدخلوا في القران ما يحلون به عرا الإسلام وينسبونه إلى قوم كهؤلاء القوم الذين أحالوا هذا بالأباطيل عليهم وفيه إبطال الإجماع الذي به يحرس الإسلام وبثباته تقام الصلوات وتؤدى الزكوات وتتحرى المتعبدات وفي قول الله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ دلالة على بدعة هذا الإنسان وخروجه إلى الكفر» «2» .

الإشارة إلى ما وقع من ابن شنبوذ:
وقد ذكر ابن النديم في ترجمة ابن شنبوذ أن «اسمه محمد بن أحمد بن أيوب بن شنبوذ، وكان دينا فيه سلامة وحمق قال لي الشيخ أبو محمد يوسف بن الحسن السيرافي أيده الله عن أبيه أنه كان كثير اللحن قليل العلم، وقد روى قراات كثيرة
__________
(1) فتاوى ومسائل ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه ومعه أدب المفتي والمستفتي (1/ 231) .
(2) انظر: القرطبي (1/ 84) ، مرجع سابق.
(1/488)

وله كتب مصنفة في ذلك وتوفي سنة ثمان وعشرين وثلثمائة في محبسه بدار السلطات، ومما كان يقرأ به: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله، وقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، وقرأ فلما خر تبينت الناس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين، وقرأ والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى ...
ويقال أنه اعترف بذلك كله ثم استتيب وأخذ خطه بالتوبة فكتب يقول: أنا محمد بن أحمد بن أيوب قد كنت أقرأ حروفا تخالف مصحف عثمان المجمع عليه والذي اتفق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قراءته ثم بان لي أن ذلك خطأ، وأنا منه تائب وعنه مقلع، والى الله جل اسمه منه بريء إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا يقرأ غيره» «1» .
__________
(1) الفهرست 2/ 47، مرجع سابق.
(1/489)

المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم «التواتر في نقل ألفاظ القران» :

تمهيد:
وهذا المبحث من أجل المباحث، وقد عني به العلماء الأعلام عناية شديدة، وأفاضوا فيه كثيرا، إلا أنه قد وقع في عبارات كثير منهم اضطراب شديد، وذلك يرجع لعدة أسباب:
1- منها غموض معنى التواتر في حد ذاته حتى إنه عرضت فيه شبه لبعض الباحثين عنه جعلتهم حيارى في أمره.
2- الخلط بين مناهج العلوم: حيث فهم بعضهم أن معنى التواتر القراني والتواتر القرائي هو معنى التواتر الحديثي تماما، وبناء على ذلك كرروا مصطلح (الأسانيد المتواترة) في بيان علم القران وعلم القراءة «1» ، وهذا فيه قصور شديد، ويسهل الاعتراض عليه تماما، ولذا قال الذهبي:
«ومن ادعى تواترها فقد كابر الحس» «2» ، والمراد أنه إذا ادعى تواتر القراات بحسب التواتر الحديثي ...
3- ومنها ظن بعضهم أن خبر الاحاد لا يفيد العلم، وإنما يفيد العلم الخبر المتواتر مع أن خبر الاحاد قد يفيد العلم، وذلك إن احتفت به قرائن توجب ذلك.
4- ومنها: أن بعضهم حصر حصول اليقين بالتواتر الحديثي، ومن فعل ذلك فإنه يحجّم دائرة واسعة تجتمع فيها ركائز علمية كثيرة يحدث منها اليقين.
__________
(1) كثر هذا جدا. انظر مثلا: سنن القراء ومناهج المجودين ص 110، مرجع سابق.
(2) سير أعلام النبلاء (10/ 171) ، مرجع سابق.
(1/490)

5- ومنها اعتماد بعضهم على أخبار رويت في ذلك لقول بعض المحدثين فيها أخبار صحيحة الإسناد تطعن بطريق أو بأخرى في دقة وصول القراءة القرانية إلينا، مع أن الحكم بصحة الإسناد لا يقضي الحكم بصحة الخبر وهو أمر مقرر في علم أصول الأثر «1» .
6- ومنها: عدم التفريق بين مراتب الأصوات في حروف القران، وهي:
أ- الفونيمات: وهي الأصوات الجامدة التي لا يعقل نطق الكلمة بدونها.
ب- الألفونات: وهي المصوتات (حروف المد واللين) في مرتبتها التي لا تعقل اللغة العربية بدونها، فلا تعقل العربية بدون شيء من المد الزائد عن الأصلي قبل الهمز والسكون ... فهذه لا يبحث عن تواترها لأنها من ذاتيات الحرف ومكوناته.
ج- التصويت بما هو زائد على ذلك، وقيام بعض الأصوات مقام بعض، كسكون ميم الجمع يقوم مقامه صلة الميم، وكتحقيق الهمز يقوم مقامه تخفيف الهمز، وكبعض الكلمات التي حل محلها غيرها بإبدال أو تقديم وتأخير ... فهذه محل بحث التواتر القرائي.
د- ما يدخل ضمن نطاق علم التحرير، وهو البحث عن الأوجه المتعددة لاجتماع الكلمات الممالة مع الراات المرققة والمفخمة لورش مثلا، والأوجه المتعددة لتخفيف الهمز وقفا ... فهذه كلها أوجه موغلة في الأداء ... والبحث فيها لغوي صرف، وإن كان أصلها قائم على التعليم المباشر من النبي صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) التبيان للجزائري ص 127.
(1/491)

وسنتكلم في هذا الكتاب- بصورة مختصرة- عن التواتر القراني حيث نذكر أن القران الكريم تناقلته الأمة عن الأمة على هيئة لا يمكن لعاقل بعدها أن يقول:
نقص من القران شيء أو زاد، وأما موضوع التواتر القرائي فلعلنا نعرضه بصورة مفصلة في كتاب اخر، ويمكن مراجعة الأصل للتوسع.
ومطالب هذا المبحث تنحصر في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: التواتر القراني.
المطلب الثاني: من أهم اثار منهج التواتر القراني (المنهج القراني في إثبات ما هو قران) .

المطلب الأول: التواتر القراني:
التواتر القراني أعظم أنواع التواتر بلا مقارنة مع التواتر الحديثي حيث تتناقل القران الأمة عن الأمة، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم ضرورة التناقل للقران الكريم اخرا عن أول فعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء قال فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله! وكيف يختلس منا وقد قرأنا القران فو الله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، وفي لفظ للحاكم: قال زياد: بأبي وأمي وكيف يذهب أوان العلم، ونحن نقرأ القران ونعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى أن تقوم الساعة ... الحديث «1» .
فقد حاز نقل القران أعلى درجات التوثيق بحيث بلغ مبلغا يضطر إلى التأكد من أنه هو كما أنزله الله جل جلاله، بل فاق أقوى وسائل النقل قطعية «لأنه المعجز في
__________
(1) الحاكم (1/ 179) ، الترمذي (5/ 31) ، مرجعان سابقان.
(1/492)

إثبات نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وطريق معرفته متوقف على القطع، ولذلك وجب على النبي صلّى الله عليه وسلم إشاعته وإلقاؤه على عدد التواتر» «1» .
ولأهمية موضوع التواتر القراني أراد الجويني تأليف كتاب فيه فقال: «ولا ينبغي أن ينسبنا الناظر والمنهي إلى هذا المقام إلى تقصير فيما يتعلق بمحل الإشكال في نقل القران العظيم فإنه قطب عظيم لم يشف القاضي «2» فيه الغليل في كتاب الانتصار وإن عد ذلك من أجل مصنفاته وفي نفسي أن أجمع من ذلك ما تقر به الأعين إن شاء الله تعالى» «3» .

مدلول التواتر:

التواتر لغة
هو التتابع بين شيئين مع وجود انقطاع، لكن لفظ التواتر صار واردا عرفا على التتابع دون انقطاع كما قال السرخسي: «مأخوذ من قول القائل تواترت الكتب إذا اتصلت بعضها ببعض في الورود متتابعا» «4» .

وأما المدلول الاصطلاحي للفظ التواتر:
فتلخصه مجلة الأحكام العدلية في التالي:
«مادة 1677: التواتر هو خبر جماعة لا يجوز العقل اتفاقهم على الكذب» «5» .

والعلاقة بين المعنى الاصطلاحي واللغوي:
أن اليقين يستلزم تتابع المخبرين على الإخبار بشيء معين.
__________
(1) الإحكام (2/ 127) ، مرجع سابق.
(2) يعني القاضي ابن الباقلاني، وكتابه الانتصار لنقل القران.
(3) البرهان (1/ 427) ، مرجع سابق.
(4) أصول السرخسي (1/ 282) ، مرجع سابق.
(5) مجلة الأحكام العدلية ص 338، وانظر: الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي (2/ 285) .
(1/493)

إفادة التواتر لليقين مطلقا:
«أكثر العقلاء على انه إذا تواتر الخبر أفاد العلم اليقين سواء كان خبرا عن أمور موجودة في زماننا كالإخبار عن البلدان البعيدة أو عن أمور ماضية كالأخبار عن وجود الأنبياء عليهم السلام وغيرهم في القرون الماضية» «1» ، ولذا حقق العلماء أن ضابط الخبر المتواتر إفادة العلم، وقرر الدهلوي بأنه ليس ميزان التواتر عدد الرواة ولا حالهم ولكن اليقين الذي يعقبه في قلوب الناس «2» .
ومن هنا نخلص إلى تقرير أن المتواتر القرائي يفيد العلم بضوابط التواتر التي لا يشترط فيه تحديد حد للعدد، ولئن وجد التفاوت بين الخبر المتواتر وبين غيره من المحسوسات والبديهيات فللتفاوت في العلوم أو لكثرة الاستعمال فلا يخرجه ذلك عن اليقين، وتفاوت اليقين لا يعني طروء الشك فيه كتفاوت الخيرية في الأنصار كما قال صلّى الله عليه وسلم: «أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار» «3» .

تعليمه صلّى الله عليه وسلم أن القران كتاب لا ريب فيه (قطعية وصول القران إلينا) :
صار من البدهيات العالمية أن يقال: إن القران الكريم وصل إلينا وصولا مقطوعا به، فهو كتاب لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: 2) ، وقد جعل أهل العلم هذه البدهية من المسلمات عند نقاش أي مسألة تحتاج إليها، أو ترتكز عليها، فيقال عند ذلك «لأن القران ثبت بطريق مقطوع به وهو التواتر» «4» .
__________
(1) انظر: المحلى، الإبهاج 2/ 287، الإحكام للامدي 2/ 31، البرهان 1/ 368، روضة الناظر 2/ 93، التبصرة في أصول الفقه ص 292، المحصول في علم الأصول 4/ 232.
(2) انظر: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص 50 للدهلوي.
(3) الموافقات (2/ 35) ، مرجع سابق، والحديث رواه البخاري (3/ 1380) ، مسلم (4/ 1785) ، مرجعان سابقان.
(4) المبدع (1/ 444) ، مرجع سابق.
(1/494)

ولذا فلا خلاف أن كل ما هو من القران يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه ... لأن هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم مما تتوفر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله فما نقل احادا ولم يتواتر يقطع بأنه ليس من القران قطعا ... ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط كثير من القران المكرر وثبوت كثير مما ليس بقران «1» ، ولذا عرف الأصوليون القران بأنه «ما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا» «2» ، وأجمع الأصوليون كافة على أن القران لا يثبت إلا بالتواتر «3» .

نوع التواتر القراني:
أما التواتر القراني فهو العلم العام، أو خبر العامة عن العامة كما سماه الشافعي «4» ، فالتواتر الذي عناه أهل العلم في نقل القران الكريم هو التواتر الذي يورث العلم الاضطراري مما تستعصي أعداد نقلته عن العد لكثرتهم، وليس التواتر الحديثي الذي يعود إلى عدد محدود، فقد «صح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القران هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الافاق كلها وجب الانقياد لما فيه، ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القران وأنه هو المتلو عندنا نفسه» «5» ، والناقلون له هم يكادون أن يكونوا كل أفراد الأمة الإسلامية،
__________
(1) الإتقان (1/ 209) ، مرجع سابق.
(2) القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ ص 55.
(3) القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ ص 57، مرجع سابق.
(4) (الشافعي) محمد بن إدريس الشافعي أبو عبد الله ت 204 هـ: جماع العلم ص 55، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ.
(5) الأحكام لابن حزم (1/ 92) ، مرجع سابق.
(1/495)

مع أن أغلبهم عالم بما نقله علما ضروريا، فمن لم يكن في ذلك من حفظه، فهو من كتابه الذي توجد منه عدة نسخ في بيته، «لأن الأمة رضي الله عنها لم تزل تنقل القران خلفا عن سلف والسلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه السلام المعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلة والمعجزات والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل فنقل القران في الأصل رسولان معصومان من الزيادة والنقصان ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلوه ويسمعونه لكثرة العدد» «1» .
فالقران هو الذي ينقله العامة والخاصة، والذكور والإناث، والمسلمون ويعرفه الكفار في شرق الأرض وغربها ... مكتوب في المصحف المعروف ... لا يستطيع أحد له حولا ولا فيه تبديلا.

تواتر المشافهة وتواتر الرسم:
وهذا التواتر القراني تعضده ركيزة أخرى: هي تواتر رسم المصحف تواترا عاما شائعا بما لا يستطاع وصفه، ورسم المصحف ركن ضابط للتلقي وليس حاكما عليه، ولذا جوزوا مخالفة الرسم فيما ثبت تواترا، والمصحف هو المصحف الذي لم يختلف من يوم أن كتب على الرغم من كثرة الخصوم وضرواتهم في الخصومة له حتى قال بعض المستشرقين: «بذلنا جهودا كبيرة خلال ثلاث أجيال في تتبع مخطوطات القران الكريم من أقدم ما هو محفوظ في دور الاثار والمكتبات العالمية، حتى الأوراق المفردة المقطوعة من مصاحف قديمة فقدت، وقارنا كل ذلك بالمصاحف المطبوعة، لكي نحصل على أي اختلاف بين المصاحف من مصحف عثمان إلى يومنا، ولو كان اختلافا في اية أو جملة أو كلمة، فلم نجد أي
__________
(1) القرطبي (1/ 72) ، مرجع سابق.
(1/496)

اختلاف، مما جعلنا نعتد مستيقنين أن القران الذي نطق به محمد باق إلى اليوم كما نطق به لم يتبدل فيه شيء!!» «1» .
فهذا هو منهج الإقراء، ومنهج إثبات شيء مقروء على أنه من القران، فلا نأتي بمنهج علم اخر لنثبت به شيئا من القران غيره.
ولهذا المنهج القراني الصارم رد الإمام الغزالي على من جعل (متتابعات) من القران بقوله: «أن جعله من القران فهو خطأ قطعا لأنه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به» «2» .
ولهذا المنهج القراني الصارم: تم تشذيذ كل ما يسمى قراءة مما يتناقل، ويأتي عن طريق غير طريق منهج التناقل القراني أو القرائي، والشذوذ هنا هو السقوط بمرة من النسب القراني المجيد، سواء كانت القراءة المذكورة ثابتة عن ضعيف أم عن أوثق الثقات.
ومن الاثار المستغربة الناتجة عن الخلط بين مناهج العلوم: أن ترد الزيادة الشاذة في الحديث، وتقبل أو يتوقف فيها في القران كما تقدم في مناقشة رواية أبي الدرداء: (والذكر والأنثى) في الفصل الثاني حيث خالف رجال سند هذا الحديث كل الأمة الإسلامية في هذه الرواية، وليست المخالفة لأربعة أو لخمسة من الثقات حتى تصير رواية الأقل شاذة لمخالفتها رواية الأكثر على ما هو مقرر في مصطلح الحديث ... فكيف لا يشذذ ما ورد في هذا الحديث؟.
__________
(1) هذا كلام المستشرق المعروف ماسينيون، ونقل هذه العبارة تلميذه محمد المبارك عنه مشافهة في زيارة له في بيته بباريس. انظر: حسني أدهم جرّار: محمد المبارك العلم والمفكر والداعية ص 157، دار البشير- مؤسسة الرسالة، ط 1، 1419 هـ- 1998 م.
(2) المستصفى ص 81، مرجع سابق.
(1/497)

وقد قال الشافعي: «من متناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القران، وبين رد الزيادة التي ينفرد بعض الرواة الثقات مع العلم بأن سبيل إثبات القران أن ينقل استفاضة وتواترا» «1» .
ولذا قال السخاوي ردا على من يزعم وجود سورة تسمى الخلع، أو ينفي المعوذتين: «فهذا أيضا مما أجمع المسلمون على خلافه» «2» ، وقرر الإمام الفخر الرازي ذلك فقال: «إن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، وكلام الله لا يجوز أن يكون لحنا وغلطا، فثبت فساد ما نقل عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما» «3» . وحسب المرء شذوذا ونكرا في فعله أن يخالف إجماع المسلمين جميعا فيما حفظوه سطرا وصدرا.
وهذا هو منهج السلف رحمهم الله عزّ وجلّ، ومن نصوصهم في ذلك:
قال خلاد بن يزيد الباهلي: قلت ليحي بن عبد الله بن أبي مليكة: إن نافعا حدثني عن أبيك عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ «إذ تلقونه، وتقول: إنما هو ولق الكذب، فقال يحي: ما يضرك إلا أن تكون سمعته من عائشة رضي الله عنها، نافع ثقة على أبي، وأبي ثقة على عائشة رضي الله عنها، وما يسرني أن قرأتها هكذا ولي كذا وكذا. قلت:
ولم؟ وأنت تزعم أنها قالت؟ قال: لأنها غير قراءة الناس ونحن لو وجدنا رجلا يقرأ بما ليس بين اللوحين ما كان بيننا وبينه إلا التوبة أو تضرب عنقه نجيء به عن الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقولون أنتم: حدثنا فلان الأعرج عن فلان الأعمى ما أدري ماذا؟ أن ابن مسعود يقرأ غيرها في اللوحين؟ إنما هو والله ضرب العنق، أو التوبة «4» .
__________
(1) البرهان للجويني (1/ 426) ، مرجع سابق.
(2) جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 39) ، مرجع سابق.
(3) مفاتيح الغيب (22/ 75) ، مرجع سابق.
(4) القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ ص 58، مرجع سابق.
(1/498)

ومن غريب مواقف بعض الفقهاء لوهلهم عن بعض الحقائق أن ابن القيم حكى تشنيع أحمد في قراءة حمزة لكثرة الإمالة والمد فيها، وتلك لا تعدو أن تكون لغات، وأما هذه المنسوبة للصحابة، مع ما فيها من انفراد راو قد يكون وهم، أو انقلب عليه الحديث، واخر شيء فيه أنه شذ عن الأمة بهذا الحديث ...
وعلى الرغم من ذلك فلا يشنع عليه، على أنه قد تقدم وجه كلام أحمد في ذلك.
ولذا يكفي في مناقشة كل جزئية مماثلة أن نقول: إن منهج إثبات القران الكريم سورا وايات منهج مستقل عن مناهج إثبات الحديث: منهج القران هو بالتلقي لحروفه وألفاظه فما خالفه فإما وهم أو كذب، أو له تأويل صحيح ...
فإثبات قران برواية حديثية مثلها كمثل اختلاق قران عند غلاة الروافض من رواية رووها.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن إجماع الصحابة على المصحف في عهد عثمان لا يمس قراءة ثابتة بل أجمعوا على تعميم المصحف حتى لا يقول قائل، أو يسول لنفسه أحد بالزيادة أو النقص لا أنهم قد اطرحوا شيئا من القران الكريم ... وأما أنهم اطرحوا شيئا من القراات فمحتمل ولا يضر بحسب ما كيفه البحث من العلاقة بين القران والقراات.

فينبغي عدم الخلط بين منهج القراء ومنهج المحدثين:
كما ينبغي النظر بعين الاعتبار إلى عوامل التفرقة بينهما مع كثرة بنود الاشتراك كذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفة بحسب ما حملته من الشرع فالقراء معصومون في حفظ القران وتبليغه والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام وهذا هو الواقع المعلوم الذي
(1/499)

أغنى الله به عن واحد معدوم» «1» ، وقال ابن الجزري: «أوقفت عليه- أي كلام أبي شامة في احادية سند القراات- شيخنا الإمام واحد زمانه شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب بيبرود الشافعي فقال لي: معذور أبن شامة حيث أن القراات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت احادية، وخفى عليه أنها نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحا وإلا فكل أهل بلدة كانوا يقرؤنها أخذوها أمما عن أمم ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل بلدة لم يوافقه ذلك أحد بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها» «2» .

كثرة الروايات الموضوعة وأثرها في علوم القران:
ينبغي التنبيه هنا إلى أن علوم القران تأثرت كغيرها بكثرة الموضوعات، فضلا عن الأوهام والشذوذ اللذين يعتريان الراوي عند الرواية، ثم جاء من أولع بتجميع الأخبار ولو كانت باطلة ... وربما عدّ ذلك من الإنصاف للحقيقة؛ إذ تجري عليها مناهج السبر والتقسيم الأصولية، أو مناهج علم المصطلح الحديثية الصارمة، أو مناهج تخريج المناط وتحقيقه وتنقيحه الأصولية، أو مناهج التواتر القراني ... فتبين الموضوع من الوضاعين، والوهم والشذوذ من الثقات، والمنكر من الضعاف ... وهذا هو العذر في التجميع، ولعله ينتمي إلى المناهج العلمية والمناهج الموضوعية بسبب وثيق، ولكنه فتح باب الطعن للطاعنين بسبب قبول كل ما يوري وتوجه همهم إلى كثرة الأخبار وسعة الاثار مع أنه كثير ما يدخلها الخلل بكثرة النسيان وكثرة الكذب وتلاعب الأغراض والأهواء وكثرة ما يدس فيها على الصحابة والسلف بطرق غريبة «3» .
__________
(1) منهاج السنة النبوية (6/ 461) .
(2) منجد المقرئين ومرشد الطالبين 67، مرجع سابق.
(3) انظر: كتاب الجواب المنيف (في الرد على مدعي التحريف في الكتاب الشريف) ص 109، مرجع سابق.
(1/500)

وبتأمل ذلك فيما روي عن ابن عباس فقط في التفسير- دعك مما رواه في مجال القراات عن أبي بن كعب- يظهر أن السقيم في ما ينسب إلى ابن عباس أصبح «غالبا على الصحيح، حتى ذكر علماء الحديث، نقلا عن الإمام الشافعي: أنه لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا نحو مائة حديث» «1» .

المطلب الثاني: من أهم اثار منهج التواتر القراني:

أولا: منع كل ما يخالف المصحف المحفوظ في الصدور المكتوب في السطور:
ف «ما يخرج من مصحف عثمان كقراءة ابن مسعود- أي المنسوبة إليه- وغيرها فلا ينبغي أن يقرأ بها في الصلاة لأن القران ثبت بطريق التواتر» «2» بل قالوا «وإن قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان لم تصح صلاته، وتحرم لعدم تواتره» «3» وتقدم ذلك، ومعنى هذا: عدم قبول أي قراءة حديثية لم تثبت بمنهج التواتر القراني.

ومن الأمثلة التي يستغنى بها عن غيرها في هذا الموضوع:
الخبر الوارد عن مصحف أبي بن كعب، وأن عدد سوره ست عشرة ومائة لأنه كتب في اخره سورتي الحفد والخلع فيما رواه عنه ابن سيرين قال: كتب أبي بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، واللهم إنا نستعينك واللهم إياك نعبد وتركهن ابن مسعود، وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين، ونحوه أخرج الطبراني في الدعاء عن عبد الله بن زرير الغافقي قال: قال لي عبد الملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب إلا أنك أعرابي جاف فقلت: والله لقد جمعت القران
__________
(1) التفسير ورجاله ص 335.
(2) المغني (1/ 292) ، مرجع سابق.
(3) الإنصاف 2/ 58، مرجع سابق.
(1/501)

من قبل أن يجتمع أبواك ولقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علمهما إياه رسول الله ما علمتهما أنت ولا أبوك اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق «1» .

والجواب عن ادعاء أن هاتين سورتين:
1- تأويل هذه الأخبار الصحيح- إن صحت وصحتها بعيدة- أن ذلك دعاء وهم الراوي فبات يسميه سورة، ويحسبه قرانا، وابن سيرين لم يدرك أبيا ليأخذ منه، وكيف انتقل مصحف أبي إلى ابن سيرين، وقد خرقت المصاحف وحرقت؟
إلا ما قامت الدولة بنشره بين المسلمين، وهو ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على أن ذلك دعاء ما أخرجه البيهقي أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك- إلى قوله: ملحق «2» ، ومثله ما جاء عن عبد الرحمن بن سويد الكاهلي قال: كأني أسمع عليا رضي الله عنه في الفجر حين قنت وهو يقول اللهم إنا نستعينك ونستغفرك «3» .
2- والبسملة لا تدل على أنهما سورتان، فالبسملة تدخل في أكثر الأمور العملية على ما هو معلوم بالاضطرار في حياة المسلمين، فحالها كدخول جملة الله أكبر في الدعاء وهي تكبيرة في الصلاة.
3- وأما ما أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين فذكرهما وأنه كان يكتبهما في مصحفه ... فكلمة (قنوت)
__________
(1) لم أجده مسندا في كتب الحديث المشهورة بعد لأي.
(2) وراجع جلاء الأفهام ص 362 ففيه بيان أن هذا كان من دعاء عمر وأبي في قنوت رمضان بعد الركوع.
(3) البيهقي في الكبرى (2/ 204) .
(1/502)

تصريح بأنهما دعاء، وأما الكتابة فتؤكد ما قرر عن أبي سابقا من تجوزه في كتابة تفسير أو حديث أو قراءته ضمن قراءة القران، وإلا فأين معارضته التي سيكفّر بها الناس لو لم يجعلوا هاتين السورتين ضمن ما يقرؤون؟.
4- ولذا ورد عن ابن مسعود أنه كان يأمر بهذا الدعاء في قنوت الوتر «1» .
5- ومثل ذلك تماما تلك الرواية المذكورة عن عبد الله بن زرير الغافقي، فإن قوله: ما علمتهما أنت ولا أبوك وقوله أن النبي صلّى الله عليه وسلم علمهما علي بن أبي طالب ربما «أرشدك إلى أنهما من العلوم الخاصة التي لا يعرفها كل الناس فيكونان ليسا من القران لأن القران لا يخص به واحد دون اخر» «2» ... فتتم محاكمتهما في ضوء التواتر القراني.
6- وهذا ما فعله القاضي ابن الباقلاني حيث حاكم هذه الروايات في كتاب الانتصار إلى منهج نقل القران الكريم، فقال: «أن كلام القنوت المروي أن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم الحجة بأنه قران منزل بل هو ضرب من الدعاء وأنه لو كان قرانا لنقل نقل القران، وحصل العلم بصحته» .
7- ومثل ذلك في انهما دعاء ما أخرجه الطبراني بسند صحيح- كما يقول السيوطي- عن أبي إسحاق قال أمنا أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بخراسان فقرأ بهاتين السورتين إنا نستعينك ونستغفرك، ويؤكد هذه الوجهة ما أخرجه البيهقي وأبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران أن جبريل نزل بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة مع قوله ليس لك من الأمر شيء الاية لما قنت يدعو على مضر «3» ...
__________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 95) ، مرجع سابق.
(2) كتاب الجواب المنيف (في الرد على مدعي التحريف في الكتاب الشريف) ص 151، مرجع سابق.
(3) الإتقان (1/ 179) ، مرجع سابق.
(1/503)

8- فال الأمر إلى أحد احتمالين: إما التجوز في لغة السلف في تسمية الشيء المحدد سورة من التسوير، خاصة أنه كتب في مصحف كما تكتب كثير من التوضيحات الخاصة بالمصاحف الان في أولها أو في اخرها، وحقيقة ذلك أنه دعاء، وإما الوهم في كلام الراوي وفعله ...
وهذا حال صحة هذه الأخبار وعدم شذوذها عن إجماع المسلمين ... وذلك تنزل شديد «1» .

ثانيا: ومن الاثار الهامة للتواتر القراني:
أننا لو قبلنا هذه الأخبار لاحتجنا إلى البحث عن حديث أو أحاديث تفرد لنا كلمات القران كلمة كلمة ... وهذا خلل في فهم مناهج العلوم.
وإلا فسيأتي يوم يقول فيه: إن عدم مجيء القران مرويا في الحديث أنه لم يثبت، ولذا فرواية «حديث عبد الله بن سلام الذي يسمى بالمسلسل بقراءة سورة الصف قال في المنح: هذا صحيح متصل الإسناد والتسلسل ورجاله ثقات وهو أصح مسلسل روي في الدنيا» «2» ... كله زيادة في الملاحة العلمية لا غير، ولا يعني أن هذا الحديث هو سبب ثبوت سورة الصف، بل ثبتت بمنهج التلقي والتواتر القراني.

ثالثا: ومن اثار التواتر القراني: تأويل كل رواية تخالف التواتر القراني لو صح سندها:
والمراد ليس الاطّراح الكلي، بل قد ينظر في تأويلها، فقد يعتري بعض سامعيها الغلط والوهم فيبنون عليها نتائج غير صحيحة:
__________
(1) ومن أهم أسباب انتشار هذه الأخبار إقبال بعض أهل العلم على الجمع، والولع بالغرائب في الجمع لما صح وما شذ وما كان فيه نكارة سند أو متن ... ومن طرائف الأمر هنا أن السيوطي راح بعد هذا السرد يقرر الخلاف هل السور في مصحف أبي ست عشرة ومائة أو أقل؟.
(2) تحفة الأحوذي (9/ 147) ، مرجع سابق.
(1/504)

وأبرز ما يبين ذلك مسألة المعوذتين: ونلخصها في التالي:
1- فقد ثبتت المعوذتان تواترا قرانيا وتلقيا متناقلا حسب منهج الإقراء في الإثبات عند جميع فرق المسلمين من السنة والشيعة والخوارج وغيرهم، ومنهج الإقراء كاف في رد كل ما خالف ذلك.
2- على أن الحديث النبوي قد وسمهما بالقرانية، فسماهما: ايات فيما جاء عن عقبة بن عامر وكان من رفعاء أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«ألم تر ايات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس» «1» ، وهذا استئناس إذا لا نحتاج أن تثبت في الحديث هذه التسمية حتى نتأكد من قرانيتهما، بل نقل الكافة عن الكافة هم المعول.
3- وقد ثبتت هذه القضية بموازين علم الحديث لا علم الإقراء فسميتا سورتين وطلب التعوذ بهما كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنزلت علي سورتان فتعوذوا بهن فإنه لم يتعوذ بمثلهن يعني المعوذتين «2» ، ومثل ذلك عن عقبة بن عامر قال: بينا أقود برسول الله صلّى الله عليه وسلم في نقب من تلك النقاب إذ قال ألا تركب يا عقيب فأجللت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أركب مركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال ألا تركب يا عقبيب فأشفقت أن يكون معصية فنزل وركبت هنيهة ونزلت وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال: ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس فأقرأني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (الفلق: 1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (الناس: 1) فأقيمت الصلاة فتقدم فقرأ بهما ثم مر بي فقال: كيف رأيت يا عقيب؟ اقرأ بهما كلما نمت وقمت «3» .
__________
(1) مسلم (1/ 558) ، مرجع سابق.
(2) أحمد (4/ 144) ، مرجع سابق.
(3) ابن خزيمة (1/ 267) ، النسائي في الصغرى (8/ 253) ، النسائي في الكبرى (4/ 438) ، مراجع سابقة.
(1/505)

4- وفي لفظ بصيغة الإقراء: فعنه رضي الله عنه قال أهديت للنبي صلّى الله عليه وسلم بغلة شهباء فركبها وأخذ عقبة يقودها به فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعقبة: اقرأ قال وما أقرأ يا رسول الله قال: «اقرأ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) (الفلق: 1) » فأعادها علي حتى قرأتها فعرف أني لم أفرح بها جدا قال: «لعلك تهاونت بها فما قمت يعني بمثلها» «1» ، وفي لفظ عنه رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت أقرئني سورة هود أقرئني سورة يوسف فقال: «لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله عز وجل من قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (الفلق: 1) » «2» .
5- وفي لفظ قرنهما مع سورة الإخلاص: فقرأهن النبي صلّى الله عليه وسلم حتى ختمها ثم قال: «ما تعوذ بمثلهن أحد» «3» ، وفي لفظ: عنه رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا عقبة بن عامر ألا أعلمك سورا ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلهن لا تأتي ليلة إلا قرأت بهن فيها وذكر الثلاث» «4» .
6- ولعل كونهما تعوذا في الوقت ذاته أدخل لبسا جعل عقبة يسأل عنهما النبي صلّى الله عليه وسلم شبيه بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: «إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» «5» أم هما من القران الكريم فعن عقبة بن
__________
(1) النسائي في الصغرى (8/ 252) ، مرجع سابق.
(2) النسائي في الصغرى (8/ 254) ، مرجع سابق.
(3) النسائي في الكبرى (4/ 439) ، مرجع سابق.
(4) أحمد (4/ 158) ، مرجع سابق.
(5) صحيح البخاري (3/ 1233) ، مرجع سابق.
(1/506)

عامر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن المعوذتين أمن القران هما فأمنا بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صلاة الفجر «1» .
7- ولعل ترتيب ذلك تمّ كالتالي: لما سمع عقبة النبي صلّى الله عليه وسلم يتعوذ بهما طرأ عليه اللبس حيث سمع عقبة النبي صلّى الله عليه وسلم يتعوذ بهما ابتداء فعنه قال: بينا أنا أسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم- كنت أقود برسول الله صلّى الله عليه وسلم ناقته في السفر- بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتعوذ ب أعوذ برب الفلق- أعوذ برب الناس ويقول يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما- ثم قال فقال لي يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا فعلمني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ قال: فلم يرني سررت بهما جدا- وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة- فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الصلاة التفت إلي فقال يا عقبة كيف رأيت- «2» وهذا دمج لروايتين عند أبي داود.
8- وورد التصريح بتلقين النبي صلّى الله عليه وسلم إياهما لبعض أصحابه رضي الله عنهم: فقد قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر والناس يعتقبون وفي الظهر قلة فحانت نزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونزلتي فلحقني من بعدي فضرب منكبي فقال فقرأهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقرأتها معه قال: إذا أنت صليت فاقرأ بهما «3» ، ولعل المذكور هنا هو عبد الله الأسلمي.
__________
(1) الحاكم (1/ 366) ، مرجع سابق.
(2) أبو داود (2/ 73) ، مرجع سابق.
(3) وقال ابن حجر في الفتح (8/ 742) : «وإسناده صحيح» ، وقال في مجمع الزوائد (7/ 148) : «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» .
(1/507)

9- وعن أبي مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لقد أنزل علي ايات لم ينزل علي مثلهن المعوذتين «1» ، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرأ يا جابر» قال قلت: ما أقرأ بأبي وأمي أنت؟ قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فقرأتهما فقال صلّى الله عليه وسلم اقرأ بهما ولن تقرأ بمثلهما «2» .
10- لم يرد عن ابن مسعود رضي الله عنه أي إنكار لكتابتهما في مصاحف المسلمين عند تكليف زيد بنسخ المصاحف، ولم يشنّع ابن مسعود على قصور زيد ومن معه في الكتابة من هذا الباب على الرغم من أن خصومته لتولية زيد كانت مشهورة، وإنما ورد إنكار ابن مسعود لذلك في مساق اخر.
11- التخمين بأنهما ليستا قرانا عند ابن مسعود جاء من سفيان بن عيينة فعن زر قال: قلت لأبي إن أخاك يحكهما من المصحف فلم ينكر قيل لسفيان: بن مسعود؟ قال: نعم! وليسا في مصحف بن مسعود كان يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته فظن أنهما عوذتان وأصر على ظنه وتحقق الباقون كونهما من القران فأودعوهما إياه «3» ، وهذا الظن مردود، وخاصة تلك التي ورد التصريح فيها بنفي ابن مسعود قرانيتهما فالشذوذ فيها ظاهر، وكذلك النكارة في المتن ... ولذا يرى الباحث اطراح ظاهر متن مثل هذه الروايات لأنها لا تقابل بما تناقله المسلمون وتلقوه عبر منهج الإقراء المعتمد ...
وقد اعتمد بعض الأئمة هذا النفي عن ابن مسعود لقرانيتهما، وراح يبين شذوذه في ذلك عن باقي المسلمين.
__________
(1) قال في مجمع الزوائد (7/ 149) : «رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات» .
(2) ابن حبان (3/ 76) ، مرجع سابق.
(3) أحمد (5/ 130) ، مرجع سابق.
(1/508)

تعارض ذلك مع أصلين كبيرين:
وعند الباحث أن بعض هذه الروايات صريحة في النفي عن ابن مسعود رضي الله عنه على أنها تحتاج زيادة سبر في أسانيدها، ثم في شذوذ المتن أو كونه محفوظا ... على الرغم من ذلك فإنها تعارض صراحة أصلين كبيرين:
أحدهما: حفظ ابن مسعود رضي الله عنه وتقدمه على جميع المسلمين في ذلك بما فيهم أبي عند بعض أهل العلم كما تقدم شرحه في الكلام عن العرضة الأخيرة من الفصل الثاني، وإكماله لحفظ القران الكريم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، فكيف يفهم قبول ظاهر هذه الروايات الغريبة، مع كثرة ما وضعه الزنادقة وأدخلوه في علوم الإسلام من إرجاف وتشكيك، وتلويث ... هذا خلف من القول، وأي شيء يكون لو ردّ متن هذه الروايات عند رؤيته لا يستقيم على حال مع حال ابن مسعود وحال الصحابة حوله، أو كان يغيب ذلك عن عمر حين بعثه مقرئا لأهل الكوفة؟ بل أكان ذلك يغيب عن النبي صلّى الله عليه وسلم حين أمر بالأخذ عنه؟.
وثانيهما: أن إنكار ابن مسعود رضي الله عنه لهما لم يكن زمن النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا ومن أبي بكر ولا عمر فما الذي استجد؟ ...
وما لابن مسعود لا ينكر على عمر؟ وقد كان عمر يقرأ بالمعوذتين في الوتر «1» ، ولو مثل ذا حدث لأشعل الدنيا لهيبا إنكارا أو إثباتا ... فأين ذاك؟ ... ثم تلاميذه الذين تتلمذ عليهم أهل الكوفة ... مالهم يقرؤون بهما ... أتشهيا؟.
ولذا أنكر أهل العلم صحة ما ورد عن ابن مسعود، ومن ذلك قول النووي: «وفيه- أي حديث عقبة- دليل واضح على كونهما من القران ورد
__________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 94) ، مرجع سابق.
(1/509)

على من نسب إلى ابن مسعود خلاف هذا» «1» ، وقال في المجموع شرح المهذب:
«أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القران، وأن من جحد منهما شيئا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح» «2» ، وقال ابن حزم:
«وكل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القران لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وفيها أم القران والمعوذتان» «3» .
ثم رجع ابن حجر إلى منهج الإقراء يعتمده للجواب عن الموضوع برمته فقال: «إلا أن في الإجماع على كونهما من القران غنية عن تكلف الأسانيد بأخبار الاحاد» «4» وليته فعل ذلك ابتداء.
وأما ما ذكر عن عبد الله رضي الله عنه أنه كان ينكر أن تكون فاتحة الكتاب من الكتاب فهو الذي يدفعنا إلى التأكيد على الحقيقة السابقة، على أن الباحث لم يجد نصا يمكن أن يناقش فيه إنكار ابن أم عبد للفاتحة، ونكتفي بما قاله ابن قتيبة في كتابه تأويل مشكل القران، فقال: «وأما فاتحة الكتاب فإني أشك فيما روى عن عبد الله من تركه إثباتها في مصحفه، فإن كان هذا محفوظا فليس يجوز لمسلم أن يظن به الجهل بأنها من القران، وكيف يظن به ذلك وهو من أشد الصحابة عناية بالقران، وأحد الستة الذين انتهى إليهم العلم ... وهو مع هذا متقدم في الإسلام بدري لم يزل يسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤم بها ... وهي السبع المثاني، وأم الكتاب ... ولكنه ذهب فيما يظن أهل النظر إلى أن القران إنما كتب وجمع بين
__________
(1) شرح النووي (6/ 96) ، مرجع سابق.
(2) المجموع شرح المهذب (3/ 350) .
(3) المحلى (1/ 13) ، مرجع سابق.
(4) فتح الباري (8/ 743) ، مرجع سابق.
(1/510)

اللوحين مخافة الشك والنسيان، والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد لقصرها، لأنها تثنى في كل صلاة وكل ركعة، ولأنه لا يجوز لأحد من المسلمين ترك تعلمها وحفظها كما لا يجوز تعلم غيرها وحفظه إذ كانت لا صلاة إلا بها، فلما أمن عليها العلة التي من أجلها كتب المصحف ترك كتابتها وهو يعلم أنها من القران» «1» .

رابعا: من اثار التواتر القراني:
نسبة طروء الخطأ والوهم على من روي عنهم روايات ولو صحيحة تخالف التواتر القراني: كما سبق.

خامسا: من اثار التواتر القراني:
رد كل ما اشتبه أمره في كل رواية حديثية إليه:
ومما يوضح ذلك: ما ورد في ايتي براءة، واية الأحزاب: فقد قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: نسخت الصحف في المصاحف ففقدت اية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بها فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين وهو قوله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (الأحزاب: 23) «2» .
وقال أيضا: فتتبعت القران أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة ايتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 128) «3» .
__________
(1) تأويل مشكل القران ص 34.
(2) البخاري (3/ 1033) ، مرجع سابق.
(3) البخاري (4/ 1720) ، مرجع سابق.
(1/511)

وقد يتعلق بذلك فيقال: إن الواحد يكفي في نقل الاية والحرف كما فعلتم فإنكم أثبتم بقول رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت واحده اخر سورة براءة وقوله:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ ... (الأحزاب: 23) «1» .
والجواب: أما معنى قوله: «وصدور الرجال» : أي كأساس للمكتوب:
وهذا- في نظر الكاتب- أولى من قول من قال: «أي حيث لا أجد ذلك مكتوبا» «2» ، لأن القران مكتوب، وعمل زيد في الجمعين في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما قائم على التعضيد للمقروء (القران) ، بالمكتوب (الكتاب) ، وللمكتوب بالمقروء، فتكون الواو بمعنى مع أي أكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدر «3» .
ومعنى قوله: «فقدت اية كذا فوجدتها مع فلان..» أنه كان يتطلب نسخ القران مما كتب بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يجد كتابة تلك الاية مع ذلك الشخص، وإلا فالاية كانت محفوظة عنده وعند غيره، وهذا المعنى أولى مما ذكره مكي وغيره: أنهم كانوا يحفظون الاية، لكنهم أنسوها فوجدوها في حفظ ذلك الرجل فتذاكروها وأثبتوا لسماعهم إياها من النبي صلّى الله عليه وسلم «4» وهو أولى أيضا من غيره من الأقوال «5» .
فالمراد: أي لم أجدهما مكتوبتين أما الحفظ فعام منتشر، فليس فيه ما يقتضي الثبوت بغير التواتر؛ إذ كان قصدهم أن ينقلوا من عين المكتوب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم يكتبوا من حفظهم «6» .
__________
(1) القرطبي (1/ 56) ، مرجع سابق.
(2) كما قال ابن حجر. انظر: فتح الباري (9/ 15) .
(3) وقد وجدت ابن حجر ذكر ذلك. انظر: فتح الباري (9/ 15) .
(4) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 51، مرجع سابق.
(5) القرطبي (1/ 56) ، مرجع سابق.
(6) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 57، مرجع سابق.
(1/512)

خامسا: ومن القواعد الكلية في التواتر القراني: أنه إذا كان لا بد في القران في مجموعه وتفاصيله من التواتر، فإذا نقل ما يضاد ذلك أو يجرحه فلا بد فيه من التواتر أيضا أو الاستفاضة على الأقل:
لتوفر الدواعي عند المسلمين والكفار على ذلك، وكم رام أعداء القران الطعن فيه، واللغو فيه، فلم يفلحوا ... وأساس ذلك أن «كل أمر خطير ذي بال يقتضي العرف نقله إذا وقع تواترا إذا نقله احاد فهم يكذبون فيه منسوبون إلى تعمد الكذب أو الزلل» «1» .
ولذا قال الجويني: «وتمام البيان فيه أنا إنما نكذب المنفرد بالنقل في كلى متواتر قطعا لو وقع أو في تفصيل يقضي العرف التواتر فيه ثم لا بد أن يتواتر نقيض ما نقله المنفرد بنقله» «2» .
وهل يؤثر في التواتر القراني جحود البعض؟.
الجواب: لا! لا يؤثر؛ لأن الجحود قد يوجد مع اليقين فإن بعض الناس يبحثون عن الإنكار لذات الإنكار، ومثل ذلك لا يضر القران في شيء، بل هو من عوامل تثبيته حين تكون المعارضة خاسرة، وهي كذلك دوما، وتحدث الله عن هؤلاء وبين حقيقة جدالهم في قوله جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (غافر: 56) وهذا ينبثق من خطة أعدها المخاصم الألد ذكرها الله عزّ وجلّ في: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
__________
(1) البرهان (1/ 426) ، مرجع سابق.
(2) البرهان (1/ 426) ، مرجع سابق.
(1/513)

فهل يؤثر حجود هؤلاء وأولئك على معرفتنا بوجود القاهرة وإن لم نشاهدها؟ لا ... وكذلك هنا ... على أن التواتر القراني تواتر محسوس لوجود المصحف في بيت كل مسلم من أكثر من مليار مسلم بحمد الله سبحانه وتعالى، وكذلك كان الأمر قبل ثورة الطباعة، وأساس ذلك تلاوة كل المسلمين له.
ولذا إذا قيل: «ما معنى لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: 2) وقد علمتم أن خلقا يشكون في ذلك فكيف يصح ذلك وإن أراد لا ريب فيه عندي وعند من يعلم فلا فائدة في ذلك؟، فجوابنا أن المراد أنه حق يجب ألايرتاب فيه وهذا كما يبين المرء الشيء لخصمه منه بعد البيان أن يقول هذا كالشمس واضح وهذا لا يشك فيه أحد كما يقال عند إظهار الشهادتين أن ذلك حق وصدق وإن كان في الناس من يكذب بذلك» «1» ، وكما قال بعض أساطين العلم في أروربا: «صحة القران التي لا تقبل الجدل تعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل، ولا يشترط مع نص القران في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد ... لسبب بسيط وهو أن القران قد ثبت في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم (وأنه) لم يتعرض لأي تحريف من يوم أن أنزل على الرسول صلّى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا» «2» .
__________
(1) (القاضي عبد الجبار) قاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد ت 415 هـ: تنزيه القران عن المطاعن ص 5، مصور دون ذكر معلومات.
(2) الإسلام والوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) ص 95 نقلا عن موريس بوكاي في كتابه (القران الكريم والتوراة والإنجيل والعلم) ، مرجع سابق.
(1/514)

وختاما
فقد حاول هذا الكتاب أن يصف معالم الجامعة القرانية النبوية منذ تأسست بمشرق الوحي حتى اكتملت باكتمال الدين، ونزول ختم الرسالة في أكبر عيد للمسلمين لما نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ... ورأينا المدى العظيم الذي بلغ به سيد ولد ادم صلّى الله عليه وسلم القران وحرض وجهد كما قال عمر رضي الله عنه، كما عاينا الركائز والنظم الإدارية التي اعتمدها لإنجاح الرسالة، وتبليغها لأهل الأرض إلى يوم القيامة، وظهرت لنا المنهجية النبوية في تعليم القران الكريم محضة لم تشبها أكدار الزمان، وتطورت الأحداث والحدثان ... وعشنا معه صلّى الله عليه وسلم وهو يعلّم القران على هيئة فردية، وفي صورة جماعية ... في قاعات المحاضرات الخاصة والعامة «الحلقات القرانية» ، وفي المراكز الرئيسية للإقراء، وخارج نطاقها ... كما رأينا ضخامة غرس المخرجات التعليمية التي زرعتها يده، وسقتها تربيته، وكيف وصل بعض أصحابه (تلاميذه) رضي الله عنهم إلى إنشاء جامعة قرانية مستقلة يدرس فيها ما لا يقل عن ألف وستمائة طالب يوميا كما في حالة أبي الدرداء رضي الله عنه:
وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني ... حنينا فزدني من حديثك يا سعد
هواههم هوى لم يعرف القلب ... غيره فليس له قبل وليس له بعد
وليس من زيادة حديث عن هذا الموضوع الجليل إلا الدخول إلى رياضه النضرة، وقراءة الكتاب من أوله إلى اخره ... فما كان فيه من صواب فمحض توفيق الله عزّ وجلّ والائه، وما كان من خطأ فذنب أقعد كاتبه، كما أقعد السابقين، وتقصير أبوء بهما ... سائلا الله أن يغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا هو.
(1/515)

ولعل الكتاب يمثل دعوة إلى أمور منها:
1- إعادة تطبيق المنهجية النبوية كاملة في تعليم القران الكريم، فهو دعوة للمقرئين، وطلاب القران الكريم، وللمؤسسات القرانية الحكومية والأهلية.
2- المطالبة بإدخال نص تفصيلي يجعل من الواجبات الدستورية للدولة الإسلامية تبليغ القران الكريم لمشارق الأرض ومغاربها، فلا ينبغي أن تكون للرياضة وزارة خاصة ويقل القران المجيد عن أن تكون له الرعاية ذاتها، وإن كانت المقارنة هنا غير قائمة ... والمراد الاعتناء بالجوانب القرانية اللفظية الخاصة وفق المنهجية النبوية، وإلا فالأصل صدور كل تصرفات الأمة عن هدي القران الكريم ...
والقران المجيد بحمد الله- تعالى ذكره- محل اهتمام حكومي وأهلي لا يختلف عليه اثنان، كما هو محل حفاوة عامة من قبل المسئولين في الدول الإسلامية.
3- تعاون المؤسسات العلمية القرانية على عقد مؤتمرات قرانية تؤسس لمجمع قراني عالمي هدفه الأساسي نشر القران الكريم تلقينا وتعليما وكتابة بالروايات المتناقلة، ورعاية الأنشطة الإعلامية والتعليمية والتوجيهية التي تسهم في ذلك، والقيام بإعداد المناهج المبسطة الميسرة التي يمكن إدماجها ضمن مناهج التعليم العالي لجميع الكليات الدراسية ذات التخصصات الفنية والعلمية بحيث يكون حيزها من المنهج التعليمي مناسبا غير مخل بأصل تخصص هذه الكليات ...
وإن كنا نرى اثار الحفظ الإلهي ماثلا في قيام المؤسسات الكثيرة في أرجاء العالم بهذه المهام.
وبعد: فإن هذا السير كان في أفنان ندية أحيط الزائر السائر فيها بثلاثة ... ما اجتمع ذكرهم إلا اخضر الزمان العبوس، وابتهج اليقين في كل فؤاد يؤوس ... :
الرسول صلى الله عليه وسلم، القران المجيد زاده الله رفعة وعلوا، الصحابة رضي الله عنهم ... ولقد صدقنا
(1/516)

الله وعده ... إذ يشعر القلب بذلك في زمن البأساء الشديدة والقرح المجهد ... وأنّى لعبد اجتمع له العيش معهم صافيا بلا كدر أن يملك نفسه عن عبرات الشوق:
ولمّا دنونا لتوديعهم ... بكوا لؤلؤا، وبكينا عقيقا
أداروا علينا كؤوس الفراق ... وهيهات من سكرها أن نفيقا
تولوا فأتبعتهم أدمعي ... فصاحوا: الغريق وصحت: الحريقا
وقد بقى كثير مما عزم الكاتب على تسطيره تلخيصا لمعالم المنهجية النبوية القرانية، وبيانا للحياة الجامعية القرانية التي تنبض بالعلم والتعليم، والنشر القراني ... ولعله أن يأتي في طبعات لاحقة- أو بإكمال ناصح من النصحة لكتاب الله المجيد ... بيد أني راج ممن يطلع عليه- من أهل الله وخاصته أو ممن يحبونهم- أ، يسددوا هذه المحاولة العلمية عسى أن ينفع الله بها الأمة في الدارين ...
فهذا تمام ما تيسرت كتابته يصحبه عجز صاحبه وذنبه ... «وإلى الله- تعالى ذكره- جزيل الضراعة والمنة بقبول ما منه لوجهه، والعفو عما تخلله من تزين وتصنع لغيره» «1» امين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى اله وصحبه أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم ال****، على الله ربنا توكلنا، والحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي
__________
(1) من خاتمة كتاب الشفا للقاضي عياض (2/ 312) ، مرجع سابق.
(1/517)

«فهرس المراجع»
1- إبراهيم أنيس (دكتور) : الأصوات اللغوية، ط 4، 1971 م، مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة.
2- في اللهجات العربية، مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة، ط 8، 1990 م.
3- إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي أبو إسحاق ت 884 هـ:
المبدع في شرح المقنع، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400 هـ.
4- إبراهيم محمد إسماعيل عوضين: موقف الدكتور محمد محمد حسين من الحركات الهدامة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1406 هـ/ 1985 م.
5- (أبو الحسين) محمد بن علي بن الطيب البصري أبو الحسين ت 436 هـ: المعتمد في أصول الفقه، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ.
6- (أبو السعود) محمد بن محمد العمادي ت 951 هـ: تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
7- (أبو المحاسن) يوسف بن موسى الحنفي أبو المحاسن: المعتصر من المختصر من مشكل الاثار، عالم الكتب، مكتبة المتنبي، بيروت، القاهرة.
8- (أبو حيان) محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي (654- 754 هـ) : البحر المحيط، ط 2 1411 هـ- 1990 م، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
9- (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (202 هـ- 275 هـ) :
سنن أبي داود، مراجعة: محمد محيي الدين عبد الحميد.
(1/519)

10- (أبو شامة) شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الدمشقي المقدسي ت 665 هـ: إبراز المعاني من حرز الأماني، دار صادر- بيروت.
11- كتاب البسملة، (دراسة وتحقيق) مخطوطة رسالة جامعية مقدمة لنيل درجة الماجستير من جامعة القران الكريم والعلوم الإسلامية، إعداد: عدنان عبد الرزاق الحموي، إشراف الأستاذ الدكتور أحمد إسماعيل البيلي.
12- المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز- حققه: طيار التي قولاج 1395 هـ- 1975 م، دار صادر، بيروت.
13- (أبو عبيدة) معمر بن المثتى التيمي: مجاز القران، ط 1، الخانجي الكتبي بمصر 1954 م. حققه د. محمد فؤاد سزكين
14- (أبو عوانة) يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني ت 316 هـ: مسند أبي عوانة، تحقيق: أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1998 م.
15- (أبو نعيم) أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني (ت 430 هـ) :
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، 1405 هـ، دار الكتاب العربي- بيروت.
16- المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم، محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1996 م.
17- مسند الإمام أبي حنيفة، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، مكتبة الكوثر، الرياض، ط 1، 1415 هـ.
18- (أبو يعلى) أحمد بن علي بن المثنى الموصلي التميمي (210- ت 307 هـ) :
مسند أبي يعلى، مراجعة: حسين سليم أسد، 1404 هـ- 1984 م، دار المأمون للتراث- دمشق.
(1/520)

19- (أبو يوسف) يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي ت 182 هـ: الاثار، دار الكتب العلمية، بيروت، 1355 هـ.
20- ابتسام مرهوان لصفار (دكتورة) : معجم الدراسات القرانية، ساعدت جامعة بغداد على نشره رقم تسلسل التعضيد 4 لسنة 83- 1984 م.
21- (أطفيش) محمد بن يوسف بن عيسى أطفيش: شرح النيل وشفاء العليل (في الفقه الأباضي) ، مكتبة الإرشاد.
22- (ابن أبي العز) صدر الدين محمد بن علاء الدين علي بن محمد الحنفي ت 792 هـ: شرح العقيدة الطحاوية، ط 9، 1408 هـ- 1988 م، خرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت.
23- (ابن أبي حاتم) عبد الرحمن بن محمد بن بن إدريس بن مهران الرازي أبو محمد ت 327 هـ: علل الحديث، تحقيق: محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت 1405 هـ.
24- (ابن أبي داود) : عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني أبو بكر ت 316 هـ: كتاب المصاحف، دراسة تحقيق ونقد: الدكتور: محب الدين عبد السبحان واعظ، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- قطر، ط 1، 1416 هـ- 1995 م.
25- (ابن أبي شيبة) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي أبو بكر ت 235 هـ: الكتاب المصنف في الأحاديث والاثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1409 هـ.
26- (ابن أبي عاصم) أحمد بن عمرو بن الضحاك الشيباني أبو بكر ت 287 هـ: الاحاد والمثاني، مراجعة: د. باسم فيصل أحمد الجوابرة، 1411 هـ- 1991 م، دار الراية الرياض.
(1/521)

27- الزهد، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، دار الريان للتراث، القاهرة، ط 2، 1408 هـ.
28- كتاب السنة، حققه: محمد ناصر الدين الألباني، ط 3، 1413 هـ- 1993 م، المكتب الإسلامي- بيروت.
29- (ابن أم قاسم) الحسن بن قاسم المرادي ت 749 هـ: المفيد في شرح عمدة المجيد في النظم والتجويد، تحقيق: د. علي حسين البواب، مكتبة المنار، 1407 هـ- 1987 م، الزرقاء- الأردن.
30- (ابن الأثير) المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن الأثير الجزري:
النهاية في غريب الأثر، مراجعة طاهر أحمد الزاوي محمود محمد الطباخي، 1399 هـ- 1979 م، دار الفكر- بيروت.
31- (ابن الأثير) عز الدين علي بن محمد الجزري، أبو الحسن (555 هـ- 630 هـ) : أسد الغابة في معرفة الصحابة، دار الفكر.
32- (ابن الجارود) عبد الله بن علي بن الجارود أبو محمد النيسابوري ت 307 هـ: المنتقى من السنن المسندة، تحقيق: عبد الله عمر البارودي مؤسسة الكتاب الثقافية، بيروت، ط 1، 1408 هـ- 1988 م.
33- (ابن الجزري) شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي أبو الخيرات 833 هـ: التمهيد في علم التجويد، تحقيق غانم قدوري الحمد- ط 3، 1409 هـ- 1989 م مؤسسة الرسالة- بيروت.
34- طيبة النشر في القراات العشر، ضبطه وصححه وراجعه: محمد تميم الزعبي، توزيع مكتبة دار الهدى، المدينة المنورة.
(1/522)

35- غاية النهاية في طبقات القراء، بعناية ج. برجستراسر، دار الكتب العلمية- بيروت.
36- منجد المقرئين ومرشد الطالبين- دار زاهد المقدسي، تفضل بقراءته بعد طبعه: الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ أحمد محمد شاكر.
37- النشر في القراات العشر، أشرف على تصحيحه ومراجعته- علي محمد الضباع، دار الكتاب العربي.
38- (ابن الجعد) علي بن الجعد بن عبيد أبو الحسن الجوهري البغدادي ت 230 هـ: مسند ابن الجعد، تحقيق: عامر أحمد حيدر، مؤسسة نادر، بيروت، ط 1، 1410 هـ- 1990 م.
39- (ابن الجوزي) عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله ابن حمادي بن أحمد بن جعفر أبو الفرج ت 597 هـ: زاد المسير في علم التفسير، المكتب الإسلامي بيروت، 1404 هـ، ط 3.
40- صفوة الصفوة، تحقيق: محمود فاخوري- د. محمد رواس قلعه جي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1399 هـ- 1979 م.
41- غريب الحديث، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1985 م.
42- (ابن العربي) محمد بن عبد الله أبو بكر: أحكام القران، تحقيق: علي محمد البجاوي- دار الجيل- بيروت.
43- (ابن الفراء) محمد بن أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء ت 521 هـ:
طبقات الحنابلة، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت.
(1/523)

44- (ابن القاصح) علي بن عثمان بن محمد بن أحمد بن الحسن العذري البغدادي أبو البقاء ت 801 هـ: تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد في شرح عقلية أتراب القصائد، مراجعة الشيخ عبد الفتاح القاضي، ط 1، 1949 م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
45- سراج القارئ المبتدئ وتذكر المقرئ المنتهي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
46- (ابن القيم) شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي أبو عبد الله ت 751 هـ: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: طه عبد الرؤف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973 م.
47- زاد المعاد في هدي خير المعاد، حقق نصوصه وخرج أحاديثه، وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، ط 8، 1405 هـ- 1985 م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
48- الفروسية، تحقيق: مشهور بن حسن بن محمود بن سلمان، دار الأندلس، السعودية- حائل، ط 1، 1414 هـ- 1993 م.
49- الفوائد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1393 هـ- 1973 م.
50- الفوائد المشوق إلى علوم القران، 1987 م، دار مكتبة الهلال، بيروت.
51- (ابن المبارك) عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي أبو عبد الرحمن ت 181 هـ: الجهاد، تحقيق: نزيه حماد، الدار التونسية، تونس، 1972 م.
52- كتاب الزهد، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية- بيروت.
(1/524)

53- (ابن الملقن) عمر بن علي بن الملقن الأنصاري ت 804 هـ: خلاصة البدر المنير في تخريج كتاب الشرح الكبير للرافعي، تحقيق: حمدي عبد المجيد إسماعيل السلفي، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1410 هـ
54- (ابن النديم) محمد بن إسحاق أبو الفرج ت 385 هـ: الفهرست، دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ- 1978 م.
55- (ابن بدران) عبد القادر بن بدران الدمشقي ت 1346 هـ: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1401 هـ.
56- (ابن تيمية) أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس ت 728 هـ:
الاستقامة، تحقيق: د. محمد رشاد سالم جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة، ط 1، 1403 هـ.
57- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق: محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ط 1، 1369 هـ.
58- الفتاوى الكبرى، تحقيق: حسنين محمد مخلوف، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1386 هـ.
59- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، دار عالم الكتب- الرياض، 1421- 1991 م.
60- مقدمة في أصول التفسير من تحقيق: الدكتور عدنان زرزور المدرس بكلية الشريعة جامعة دمشق، والكتاب ضمن كتاب مجموعة الرسائل الكمالية
(1/525)

«رقم 1» في المصاحف والقران والتفسير «خمسة كتب» - الناشر: مكتبة المعارف- محمد سعيد حسن الكمال- الطائف: شارع الكمال.
61- منهاج السنة النبوية، د. محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، ط 1، 1406 هـ.
62- (ابن جني) عثمان بن جني أبو الفتح ت 392 هـ: سر صناعة الإعراب، تحقيق مصطفى السقا، 1954 م، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
63- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراات والإيضاح عنها تحقيق: علي النجدي ناصف واخرون، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1415 هـ- 1994 م، لجنة إحياء كتب السنة- القاهرة.
64- (ابن الحاج) محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي أبو عبد الله ت 732 هـ: المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدعو العوائد التي انتحلت وبيان شناعتها وقبحها، دار الحديث بجوار إدارة الأزهر، 1401 هـ- 1981 م.
65- (ابن حبان) محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي ت 354 هـ:
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ت 354 هـ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت،، ط 2، 1414 هـ- 1993 م.
66- مشاهير علماء الأمصار، م. فلا يشهمر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1959 م.
67- (ابن حجر) شهاب الدين أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني أبو الفضل ت 852 هـ: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 هـ- 1992 م.
(1/526)

68- تقريب التهذيب، تحقيق: محمد عوامة، دار الرشيد، سوريا، ط 1، 1406 هـ- 1986 م.
69- تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، المدينة المنورة، 1384 هـ- 1964 م.
70- تهذيب التهذيب، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1404- 1984 م.
71- الدراية في تخريج أحاديث الهداية، السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، دار المعرفة، بيروت.
72- فتح الباري شرح صحيح البخاري، حقق أصولها: عبد العزيز بن باز رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي ط 1، 1410 هـ- 1989 م، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان، ط 1، 1410 هـ- 1989 م.
73- هدي الساري مقدمة فتح الباري، حقق أصولها: عبد العزيز بن باز رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي ط 1، 1410 هـ- 1989 م، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان، ط 1، 1410 هـ- 1989 م.
74- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تحقيق المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي.
75- (ابن حزم) علي بن أحمد بن حزم الأندلسي أبو محمد ت 456 هـ:
الإحكام في أصول الأحكام، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1404 هـ.
76- المحلى، دار الافاق الجديدة، بيروت، لجنة إحياء التراث العربي.
77- (ابن خالويه) الحسين بن أحمد بن خالويه أبو عبد الله ت 370 هـ:
الحجة في القراات السبع، تحقيق: د. عبد العال سالم مكرم، دار الشروق، بيروت، ط 4، 1401 هـ.
(1/527)

78- (ابن خزيمة) محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي أبو بكر ت 311 هـ: صحيح ابن خزيمة، مراجعة: د. محمد مصطفى الأعظمي (1390 هـ- 1970 م) ، المكتب الإسلامي- بيروت.
79- (ابن خلكان) شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان أبو العباس ت 681 هـ: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، حققه د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
80- (ابن دقيق العيد) تقي الدين أبو الفتح بن دقيق العيد ت 702 هـ: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت.
81- (ابن راهواه) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهواه الحنظلي (161، ت 238 هـ) : مسند إسحاق بن راهواه، مراجعة: عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي 1412 هـ- 1991 م، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة.
82- (ابن رجب) عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي أبو الفرج ت 795 هـ:
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، مكتبة دار البيان، دمشق، ط 1، 1399 هـ.
83- (ابن رشد الحفيد) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي أبو الوليد ت 595 هـ: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر، بيروت.
84- (ابن سعد) محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (168 هـ- ت 230 هـ) :
الطبقات الكبرى، دار صادر بيروت.
85- (ابن عبد الهادي) محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي أبو عبد الله ت 744 هـ: العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت.
(1/528)

86- (ابن عابدين) محمد أمين: حاشية رد المحتار على الدر المختار: شرح تنوير الأبصار، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1386 هـ.
87- (ابن عبد البر) يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري أبو عمر ت 463 هـ: الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والاثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار، ط 1، القاهرة المحرم 1414 هـ- تموز (يوليو) 1993 م.
88- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 هـ.
89- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكر، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب 1387 هـ.
90- (ابن عطية) عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن عطية أبو محمد الغرناطي ت 546 هـ: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق وتعليق: عبد الله ابن إبراهيم الأنصاري، السيد عبد العال السيد إبراهيم، ط 1، 1406 هـ- 1985 م.
91- مقدمتان في علوم القران (وهما مقدمة كتاب المباني، ومقدمة ابن عطية) ، نشرهما المستشرق الدكتور ارثر جفري- ووقف على تصحيح الطبعة الثانية: عبد الله إسماعيل الصاوي- مكتبة الناجي بالقاهرة.
92- (ابن عقيل) بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي ت 769 هـ: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد في حاشيته عليه المسماة: منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل، لم تذكر الطبعة ولا الدار.
(1/529)

93- (ابن فارس) أحمد بن فارس بن زكريا الرازي أبو الحسين ت 395 هـ:
الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، 1910 م، المكتبة السلفية- القاهرة.
94- معجم مقاييس اللغة، بتحقيق وضبط عبد السلام هارون، ط 1، 1411 هـ- 1991 م، دار الجيل.
95- (ابن قاضي شهبة) أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبة ت 851 هـ: طبقات الشافعية، تحقيق: د. الحافظ عبد العليم خان، عالم الكتب، بيروت ط 1، 1407 هـ.
96- (ابن قانع) عبد الباقي بن قانع أبو الحسين (265 هـ- 351 هـ) : معجم الصحابة، تحقيق: صلاح بن سالم المصراتي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، ط 1، 1418 هـ.
97- (ابن قتيبة) عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري أبو محمد ت 273 هـ: تأويل مشكل القران، شرحه ونشره السيد: أحمد صقر، المكتبة العلمية.
98- تأويل مختلف الحديث، مراجعة: محمد زهري النجار، 1972 م- 1393 هـ، دار الجيل- بيروت.
99- (ابن قدامة) موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي أبو محمد ت 620 هـ: روضة الناظر وجنة المناظر، مكتبة المعارف- الرياض.
100- الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 5، 1408 هـ- 1988 م.
(1/530)

101- المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1405 هـ.
102- (ابن كثير) عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي أبو الفداء ت 774 هـ: تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب، تحقيق: عبد الغني بن حميد بن محمود الكبيسي، دار حراء، مكة المكرمة، ط 1، 1406 هـ.
103- تفسير القران العظيم، تقديم: محمد عبد الرحمن المرعشلي، إعداد:
مكتب تحقيق دار احياء التراث العربي، أعد فهارسها: رياض عبد الله عبد الهادي ط 1، 1417- 1997 م، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
104- فضائل القران بذيل تفسير القران العظيم، تقديم: محمد عبد الرحمن المرعشلي- إعداد: مكتب تحقيق دار احياء التراث العربي- أعد فهارسها: رياض عبد الله عبد الهادي- دار إحياء التراث العربي بيروت- ط 1، 1417 هـ/ 1997 م.
105- (ابن ماجة) محمد بن يزيد القزويني أبو عبد الله ت 275 هـ: سنن ابن ماجه، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر- بيروت، عدد الأجزاء 2.
106- (ابن مجاهد) أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي أبو بكر ت 324 هـ: كتاب السبعة في القراات، تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف القاهرة، ط 2، 1400 هـ.
107- (ابن معين) يحيى بن معين أبو زكريا ت 233 هـ: تاريخ ابن معين (رواية الدوري) ، تحقيق: د. أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، ط 1، 1399 هـ- 1979 م.
108- (ابن مفلح) محمد بن مفلح بن محمد المقدسي أبو عبد الله ت 762 هـ:
الاداب الشرعية والمنح المرعية، عالم الكتب.
(1/531)

109- الفروع وتصحيح الفروع، تحقيق: أبو الزهراء حازم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ.
110- (ابن منجويه) أحمد بن علي بن منجويه الأصبهاني أبو بكر ت 428 هـ:
رجال صحيح مسلم، تحقيق: عبد الله الليثي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1407 هـ.
111- (ابن منده) محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده ت 395 هـ: الإيمان، تحقيق: د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1406 هـ.
112- (ابن منظور) محمد بن مكرم بن علي ت 711 هـ: لسان العرب، اعتنى بتصحيحها: أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، ط 1، 1416 هـ- 1995 م، دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي- بيروت.
113- (ابن هشام) عبد الله بن يوسف الأنصاري النحوي الأنصاري (ت 761 هـ) : مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، طبعة بدون 1407 هـ- 1987 م.
114- (ابن هشام) عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد ت 213 هـ: السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: طه عبد الرؤف سعد، دار الجيل، بيروت، ط، 1411 هـ.
115- (ابن وثيق) إبراهيم بن محمد الأموي الأندلسي أبو إسحاق ت 654 هـ: الجامع لما يحتاج إليه من رسم المصحف، تحقيق د. غانم قدوري حمد، ط 1، 1408 هـ- 1988 م، بغداد- العراق.
116- أحمد الدمنهوري: حلية اللب المصون، مكتبة اليمن الكبرى- صنعاء، الطبعة لم تذكر.
(1/532)

117- أحمد عبد العزيز الزيات: شرح تنقيح فتح الكريم، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م.
118- أحمد علي الإمام (دكتور) : الصحبة والصحابة، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم.
119- مفاتح فهم القران: تفسير لغريبه، وتأويل لمشكله، دار المنى، دمشق، ط 1، 1421 هـ- 2000 م.
120- أحمد مختار عمر (دكتور) : دراسة الصوت اللغوي، عالم الكتب- القاهرة، 1418 هـ- 1997 م.
121- أحمد مصطفى علي القضاة: الشريعة الإسلامية والفنون، دار الجيل، بيروت، ودار عمار في عمان، ط 1، 1408 هـ.
122- أحمد مكي الأنصاري (دكتور) : سيبويه والقراات دراسة تحليلية معيارية مثلا، توزيع دار المعارف 1392 هـ/ 1972 م.
123- من الدراسات القرانية: نظرية النحو القراني نشأتها وتطورها ومقوماتها الأساسية، دار النشر لم تذكر، ط 1، 1405 هـ.
124- (الأزدي) الربيع بن حبيب بن عمر الأزدي البصري: الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب، تحقيق: محمد إدريس- عاشور بن يوسف، دار الحكمة، مكتبة الاستقامة، بيروت، سلطنة عمان، ط 1، 1415 هـ.
125- (الأزدي) معمر بن راشد الأزدي ت 151 هـ: الجامع (منشور كملحق بكتاب المصنف للصنعاني، تحقيق: حبيب الأعظمي المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ
(1/533)

126- (الأزهري) محمد بن أحمد أبو منصور ت 370 هـ: تهذيب اللغة، 1964 م- القاهرة.
127- (الإسكندري) ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير المالكي ت 683 هـ:
كتاب الانتصاف فيما تضمنه من الاعتزال بذيل الكشاف، دار المعرفة، بيروت.
128- (الأسنوي) جمال الدين عبد الرحيم ابن الحسين الأسنوي ت 772 هـ:
زوائد الأصول، ط 1 1413- 1993 م، دراسة وتحقيق: محمد سنان سيف الجلالي، مكتبة الجيل الجديد- صنعاء.
129- نهاية السول في شرح منهاج الأصول- للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، عالم الكتب.
130- (الأشموني) أحمد بن محمد بن عبد الكريم: منار الهدى في بيان الوقف والابتدا، ط 2، 1393 هـ/ 1973 م.
131- (الأصبحي) مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي ت 179 هـ: المدونة الكبرى، دار صادر، بيروت، الإيمان.
132- موطأ الإمام مالك، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء التراث العربى، مصر.
133- (الأصبهاني) إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي (ت 457 هـ- 535 هـ) :
دلائل النبوة، تحقيق: محمد محمد الحداد، 1409 هـ، دار طيبة- الرياض.
134- (الأصبهاني) عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني أبو محمد ت 369 هـ: العظمة، تحقيق: رضاء الله بن محمد إدريس المباركفوري دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1408 هـ.
(1/534)

135- أكرم بركات العاملي: حقيقة مصحف فاطمة عند الشيعة، دار الصفوى، بيروت، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م.
136- (الألباني) محمد ناصر الدين (ت 1421 هـ) : أحاديث المزارعة والمؤاجرة والرد على المفترين على الصحابة والتابعين والعلماء ضمن كتاب البرهان في رد البهتان والعدوان، إشراف: أعضاء قسم التصحيح في المكتب الإسلامي، ط 1، بيروت 1413 هـ/ 1992 م.
137- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 4، 1405 هـ- 1985 م.
138- صحيح الجامع الصغير وزيادته، أشرف على طبعه: زهير الشاويش، ط 14083 هـ- 1988 م، المكتب الإسلامي- بيروت.
139- (الالوسي) محمود شكري البغدادي ت 1275 هـ: روح المعاني في تفسير القران العظيم والسبع المثاني- دار الفكر- بيروت، 1417 هـ- 1997 م- قرأه وصححه: محمد حسين العرب.
140- (الامدي) علي بن محمد الامدي أبو الحسن ت 631 هـ: الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1404 هـ.
141- (الأنباري) محمد بن القاسم بن بشار الأنباري أبو بكر ت 328 هـ:
كتاب إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عزّ وجل، تحقيق محي الدين عبد الرحمن رمضان، 1971 م، مجمع اللغة العربية- دمشق.
142- الزاهر في معاني كلمات الناس، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، اعتنى به: عز الدين البدوي النجار- ط 1، 1412 هـ- 1992 م، مؤسسة الرسالة بيروت.
(1/535)

143- (الأندرابي) أحمد بن أبي عمر: قراات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين، حققه وقدم له: الدكتور: أحمد نصيف الجنابي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 3، 1407 هـ- 1986 م.
144- (الأنصاري) زين الدين زكريا الأنصاري الشافعي أبو يحيى ت 926 هـ:
الدقائق المحكمة في شرح المقدمة المقدمة (شرح المقدمة الجزرية في التجويد) ، ويليه متن الجزرية- لشمس الدين محمد بن محمد الجزري المتوفي سنة 833 هـ- ضبط ومراجعة: عبد الله عمر البارودي- دار الجنان- ط 1، 1411 هـ/ 1990 م.
145- المقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف والابتدا- بذيل منار الهدى ط 2، 1393 هـ/ 1973 م.
146- (الأهدل) محمد بن أحمد بن عبد الباري: الكواكب الدرية شرح الشيخ محمد بن أحمد الرعيني الشهير بالحطاب على متممة الأجرومية، ط 1، 1410 هـ- 1990 م- مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
147- (الباقلاني) محمد بن الطيب ت 403 هـ: إعجاز القران، قدم له وشرحه وعلق عليه: الشيخ محمد شريف سكر، بيروت- دار إحياء العلوم، ط 1، 1408 هـ- 1988 م.
148- (البجيرمي) سليمان بن عمر بن محمد البجيرمي: حاشية البجيرمي على الخطيب في الفقه الشافعي (تحفة ****** على شرح الخطيب) ، دار الفكر، بيروت.
149- حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (التجريد لنفع العبيد) ، المكتبة الإسلامية، ديار بكر- تركيا.
150-
(1/536)

151- (البخاري) محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن المغيرة الجعفي أبو عبد الله، (194 هـ- ت 256 هـ) : خلق أفعال العباد، مراجعة: د. عبد الرحمن عميرة، دار المعارف السعودية- الرياض 1398 هـ- 1978 م.
152- صحيح البخاري، مراجعة د. مصطفى ديب البغا، 1407 هـ- 1987 م، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت.
153- (البزار) أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار أبو بكر ت 292 هـ:
البحر الزخار، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، مؤسسة علوم القران، مكتبة العلوم والحكم، بيروت، المدينة، ط 1، 1409 هـ.
154- (البغوي) حسين بن مسعود الفراء ت 516 هـ: شرح السنة، تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤط، المكتب الإسلامي، ط 2، 1403 هـ- 1983 م.
155- (البقاعي) برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر (ت 885 هـ) : كتاب الضوابط والإشارات لأجزاء علم القراات، تحقيق: د. محمد مطيع الحافظ، دار الفكر دمشق، ط 1، 1416 هـ/ 1996 م.
156- نظم الدرر في تناسب الايات والسور، 1413 هـ، 1992 م، ط 3، المكتبة التجارية، مكة المكرمة.
157- بكر بن عبد الله أبو زيد (دكتور) : فقه النوازل قضايا فقهية معاصرة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1416 هـ/ 1996 م
158- معجم المناهي اللفظية ويليه فوائد في الألفاظ، دار العاصمة، الرياض، ط 3، 1417 هـ/ 1996 م.
159- (بلا شير) ريجيس: القران: نزوله، تدوينه، ترجمته، وتأثيره، نقله إلى العربية: رضا سعادة، ط 1، 1974 م، دار الكتاب اللبناني- بيروت.
(1/537)

160- (البهوتي) منصور بن يونس بن إدريس البهوتي: كشاف القناع عن متن الإقناع، تحقيق: هلال مصيلحي مصطفى هلال، دار الفكر، بيروت، 1402 هـ.
161- (البيضاوي) ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي أبو الخير ت 685 هـ: تفسير البيضاوي المسمى بأنوار التنزيل وأسرار التأويل، تحقيق عبد القادر عرفات حسونة، دار الفكر، بيروت، 1416 هـ- 1996 م.
162- (البيهقي) أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي أبو بكر ت 458 هـ: السنن الصغرى، د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1410- 1989.
163- السنن الكبرى، مراجعة: محمد عبد القادر عطا، 1994 م- 1414 هـ، مكتبة دار الباز- مكة المكرمة.
164- شعب الإيمان، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 هـ.
165- (التبريزي) يحي بن علي التبريزي أبو زكريا ت 502 هـ: شرح القصائد العشر، علق عليه: السيد أحمد الخضر، مكتبة الثقافة الدينية- القاهرة.
166- (الترمذي) محمد بن سؤرة السلمي الترمذي أبو عيسى ت 279 هـ:
الجامع الصحيح سنن الترمذي، مراجعة: أحمد محمد شاكر واخرون، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
167- مختصر الشمائل المحمدية، اختصره وصححه: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط 4، 1413 هـ.
(1/538)

168- (التفتازاني) سعد الدين مسعود بن عمر الشافعي ت 792 هـ: التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه- ضبطه، وخرج آياته، وأحاديثه:
الشيخ زكريا عميرات ط 1، 1416 هـ- 1996 م، دار الكتب العلمية، بيروت.
169- (الثعالبي) عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري: الجواهر الحسان في تفسير القران، دار القلم، بيروت.
170- (الجرجاني) عبد القادر بن عبد الرحمن الجرجاني: دلائل الإعجاز في علم المعاني، صحح أصله الأستاذ محمد عبده، والأستاذ محمد محمود التركزي، وقف على تصحيح طبعه: السيد محمد رشيد رضا- 1402 هـ- 1982 م، دار المعرفة- بيروت.
171- (الجرجاني) علي بن محمد بن علي: التعريفات، حققه، وقدم له، ووضع فهارسه: إبراهيم الأبياري، ط 1، 1405 هـ- 1985 م، دار الكتاب العربي- بيروت.
172- (الجصاص) أحمد بن علي الرازي الجصاص أبو بكر ت 370 هـ:
أحكام القران، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 هـ.
173- الفصول في الأصول، تحقيق: د. عجيل جاسم النشمي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، ط 1، 1405 هـ.
174- (الجويني) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني إمام الحرمين ت 478 هـ: البرهان في أصول الفقه، ت 478 هـ، تحقيق: د. عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء، المنصورة- مصر، ط 4، 1418 هـ.
175- الورقات، تحقيق: د. عبد اللطيف محمد العبد.
(1/539)

176- جمعية المجلة: مجلة الأحكام العدلية، تحقيق: نجيب هواويني، كارخانه تجارت كتب.
177- جولد تسهير: مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة عبد الحليم النجار، 1956 م، مكتبة الخانجي- مصر.
178- (حاجي خليفة) مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي ت 1067 هـ: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، 1992 م- 1413 هـ، دار الكتب العلمية- بيروت.
179- (الحاكم) محمد بن عبد الله بن البيع النيسابوري أبو عبد الله ت 405 هـ: المستدرك على الصحيحين، مراجعة: مصطفى عبد القادر عطا، 1411 هـ- 1990 م، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة لم تذكر.
180- حسن ضياء الدين عتر: الأحرف السبعة ومنزلة القراات منها، دار البشائر الإسلامية- بيروت، ط 1، 1409 هـ- 1988 م.
181- المعجزة الخالدة، ط 2، 1409 هـ- 1989 م، مكتبة الطالب الجامعي- مكة.
182- (الحصري) محمود خليل ت 1401 هـ: أحكام قراءة القران الكريم، ضبط نصه وعلق عليه: محمد طلحة بلال منيار- دار البشائر الإسلامية بيروت- ط 2، 1417 هـ/ 1996 م.
183- حسني أدهم جرّار: محمد المبارك العلم والمفكر والداعية، دار البشير- مؤسسة الرسالة، ط 1، 1419 هـ- 1998 م.
184- حسني شيخ عثمان: حق التلاوة كتاب منهجي تطبيقي لتعلم تجويد القران وتعليمه على رواية حفص عن عاصم، مكتبة المنار، ط 6، 1405 هـ.
(1/540)

185- (الحموي) أحمد بن عمر بن محمد بن أبي الرضا الحموي أبو العباس ت 791 هـ: القواعد والإشارات في أصول القراات، د. عبد الكريم محمد الحسن بكار، دار القلم، دمشق، ط 1، 1406 هـ.
186- (الحميدي) عبد الله بن الزبير أبو بكر ت 219 هـ: مسند الحميدي، مراجعة: حبيب الرحمن الأعظمي، 1381 هـ، دار الكتب العلمية- بيروت.
187- (الخادمي) محمود بن محمد بن مصطفى الخادمي: بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية، دار إحياء الكتب العربية.
188- (الخراساني) سعيد بن منصور أبو عثمان ت 227 هـ: سنن سعيد بن منصور، تحقيق: د. سعد بن عبد الله بن عبد العزيز ال حميد.
189- كتاب السنن، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الدار السلفية، الهند، ط 1، 1982.
190- (الخطيب) أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي أبو بكر ت 463 هـ:
تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت.
191- الجامع لأخلاق الراوي واداب السامع، تحقيق: د. محمود الطحان، مكتبة المعارف، الرياض، 1403 هـ.
192- الكفاية في علم الرواية، تحقيق: أبو عبد الله السورقي، إبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة المنورة.
193- (الخلال) أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال أبو بكر ت 311 هـ:
السنة، تحقيق: د. عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، ط 1، 1410 هـ.
194- خالدون الأحدب (دكتور) : زوائد تاريخ بغداد على الكتب السنة، دار القلم- دمشق ط 1، 1996 م- 1417 هـ.
(1/541)

195- (الدارقطني) علي بن عمر بن أحمد البغدادي أبو الحسن ت 385 هـ:
ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايتهم عن الثقات عند البخاري ومسلم، دراسة وتحقيق: بوران الضناوي، وكمال يوسف الحوت، ط 1، 1406 هـ 1985 م، مؤسسة الكتب الثقافية.
196- سنن الدارقطني، السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1386 هـ- 1966 م.
197- (الدارمي) عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد (181 هـ- 255 هـ) :
سنن الدارمي، تحقيق: أحمد فواز زمرلي، خالد السبع العلمي، 1407 هـ، دار الكتاب العربي- بيروت.
198- (الداني) عثمان بن سعيد أبو عمروت 444 هـ: الأحرف السبعة، تحقيق د. عبد المهيمن الطحان 1408 هـ، مكتبة المنارة، مكة المكرمة.
199- التحديد في الإتقان والتجويد، دراسة وتحقيق: الدكتور غانم قدوري حمد ساعدت جامعة بغداد على طبعه، مكتبة دار الأنبار- مطبعة الخلود- بغداد، ط 1، 1407 هـ- 1988 م.
200- التيسير في القراات السبع، صححه أوتوبرتزل.
201- المحكم في نقط المصاحف، تحقيق د. عزة حسن، 1960 م، مديرية إحياء التراث القديم، وزارة الثقافة والإرشاد- دمشق.
202- المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، تحقيق محمد أحمد دهمان، 1940 م، مكتبة الدراسات الإسلامية- دمشق.
203- (الدسوقي) محمد عرفه الدسوقي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، تحقيق: محمد عليش، دار الفكر، بيروت
(1/542)

204- (الدمياطي) الشيخ أحمد بن محمد الشهير بالبنا (ت 1117 هـ) :
إتحاف فضلاء البشر في القراات الأربع عشر، صححه علي محمد الضبّاع، 1359 هـ مطبعة عبد الحميد أحمد حنفي بمصر.
205- (الدهلوي) أحمد بن عبد الرحيم ولي الله الدهلوي ت 1176 هـ:
الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة دار النفائس، بيروت، ط 2، 1404 هـ.
206- الفوز الكبير في أصول التفسير، نقله من الأصل الفارسي إلى اللغة العربية ووضع عناوينه الجانبية: سلمان الحسيني الندوي- دار البشائر الإسلامية بيروت- 1407 هـ/ 1987 م.
207- (الديريني) عبد العزيز أحمد الدميري: التيسير في علوم التفسير، وبهامشه ألفية أبي زرعة العراقي في تفسير غريب ألفاظ القران، صورة عند الباحث عن مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم 7 ك.
208- (الديلمي) شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي الهمذاني أبو شجاع ت 509 هـ: الفردوس بمأثور الخطاب، تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1986 م.
209- (الذهبي) شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان أبو عبد الله ت 748 هـ:
سير أعلام النبلاء، إشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، ط 2، 1404 هـ- 1984 م، مؤسسة الرسالة.
210- طبقات القراء، تحقيق: د. أحمد خان 1418 هـ- 1997 م، دار الفيصل.
211- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، تحقيق: محمد عوامة، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ط 1، 1413 هـ- 1992 م.
(1/543)

212- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، تحقيق: بشار عواد معروف وشعيب الأرناؤوط وصالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1404 هـ.
ملحوظة: كتاب طبقات القراء، وكتاب معرفة القراء الكبار هما كتاب واحد لمحققين مختلفين، وهناك اختلاف في اسم هذا الكتاب ... والأول أكمل ويقع في ثلاث مجلدات، والثاني يتضمن بعض اللفتات المفيدة من قبل المحققين وهو يقع في مجلدين.
213- المعين في طبقات المحدثين، د. همام عبد الرحيم سعيد، دار الفرقان، عمان- الأردن، ط 1، 1404 هـ.
214- (الرازي) محمد بن أبي بكر بن عبد القادر ت 721 هـ: مختار الصحاح، مراجعة: محمود خاطر، مكتبة لبنان بيروت 1415 هـ- 1985 م.
215- (الرازي) محمد بن عمر بن الحسين الرازي ت 606 هـ: المحصول في علم الأصول، تحقيق: طه جابر فياض العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط 1، 1400 هـ.
216- (الراغب) الحسين بن محمد الأصفهاني أبو القاسم ت 502 هـ:
المفردات في غريب القران، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة- بيروت.
217- مقدمة التفسير، طبعت على نفقة: محمد سعيد الرافع- صاحب المكتبة الأزهرية- الطبعة الأولى سنة 1329 هـ- طبعت بمطبعة الجمالية بمصر.
218- (الرحيباني) مصطفى بن سعد بن عبدة: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، المكتب الإسلامي.
219- (الروياني) محمد بن هارون الروياني أبو بكر ت 307 هـ: مسند الروياني، تحقيق: أيمن علي أبو يماني، مؤسسة قرطبة، القاهرة، 1416 هـ، ط 2.
(1/544)

220- (الزرقاني) محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ت 1122 هـ: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 هـ.
221- (الزرقاني) محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القران، ط 3، 1943 هـ، دار إحياء الكتب العربية.
222- (الزركشي) بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي ت 794 هـ:
البحر المحيط، قام بتحريره عبد القادر عبد الله العاني، راجعه: د. عمر سليمان الأشقر- ط 2، 1413 هـ- 1992 م، دار الصفوة.
223- البرهان في علوم القران، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، 1957 م، دار إحياء الكتب العربية- القاهرة.
224- المنثور في القواعد، تحقيق: د. تيسير فائق أحمد محمود وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، ط 2، 1405 هـ.
225- (الزركلي) خير الدين الزركلي: الأعلام، الطبعة العاشرة 1992 م.
226- (الزمخشري) جار الله محمود بن عمر الخوارزمي أبو القاسم ت 538 هـ:
أساس البلاغة، دار الكتب المصرية- القاهرة، 1922 م.
227- الفائق في غريب الحديث، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، ط 2، توزيع دار الباز.
228- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار المعرفة، بيروت.
229- (الزيلعي) عبد الله بن يوسف أبو محمد الحنفي الزيلعي ت 762 هـ:
نصب الراية لأحاديث الهداية، تحقيق: محمد يوسف البنوري، دار الحديث، مصر، 1357 هـ.
(1/545)

230- زين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن بكر ت 970 هـ: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، دار المعرفة، بيروت.
231- (الساعاتي) أحمد عبد الرحمن البنا: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد ابن حنبل الشيباني، مصر 1374 هـ.
232- (السبكي) عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي أبو نصر ت 771 هـ: طبقات الشافعية الكبرى، د. عبد الفتاح محمد الحلو د. محمود محمد الطناحي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الجيزة، ط 2، 1992 هـ.
233- (السبكي) علي بن عبد الكافي السبكي ت 756 هـ: الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1404 هـ.
234- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، دار البيان العربي، بيروت، ط 4، 1412 هـ- 1992 م.
235- (السخاوي) علم الدين علي بن محمد السخاوي أبو الحسن ت 643 هـ:
جمال القراء وكمال الإقراء، تحقيق: الدكتور على حسين البواب، مكتبة التراث، مكة المكرمة، ط 1، 1408 هـ/ 1987 م.
236- فتح الوصيد في شرح القصيد، دراسة وتحقيق، - رسالة لنيل درجة العالمية العليا ((الدكتوراه)) إعداد الطالب: أحمد عدنان الزعبي- بإشراف:
الأستاذ الدكتور أحمد علي الإمام- العام الجامعي 1418 هـ/ 1998 م.
237- هداية المرتاب وغاية الحفاظ والطلاب في تبيين متشابه الكتاب، حققه عبد القادر الخطيب الحسني، مطبوعات مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، دار الفكر المعاصر- بيروت، ط 1414، 1 هـ- 1994 م.
(1/546)

238- (السرخسي) محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي أبو بكر ت 490 هـ:
أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، دار المعرفة، بيروت، 1372 هـ
239- (السعدي) محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل السعدي أبو عبد الله ت 643 هـ: اختصاص القران بعوده الى الرحمن الرحيم، تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1989 م.
240- (السمرقندي) محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي ت 539 هـ:
تحفة الفقهاء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ.
241- (السندي) نور الدين بن عبد الهادي أبو الحسن ت 1138 هـ: حاشية السندي على النسائي، مراجعة: عبد الفتاح أبي غدة 1406 هـ- 1986 م، مكتبة المطبوعات الإسلامية- حلب.
242- (السيواسي) محمد بن عبد الواحد السيواسي ت 681 هـ: حاشية على كتاب الهداية للمرغيناني، دار الفكر، بيروت، ط 2.
243- (السيوطي) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر أبو الفضل ت 911 هـ:
الإتقان في علوم القران، المكتبة الثقافية، بيروت.
244- ألفية السيوطي في علم الحديث، صححه وشرحه أحمد شاكر، المكتبة العلمية.
245- تدريب الراوي في تقريب النواوي، ط 4، حققه وراجع أصوله: عبد الوهاب عبد اللطيف الأستاذ المساعد بكلية أصول الدين- جامعة الأزهر، دار نشر الكتب الإسلامية
246- تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، 1389- 1969 م، المكتبة التجارية الكبرى- مصر.
(1/547)

247- الحاوي للفتاوى في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون ت 911 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ/ 1983 م.
248- الديباج على صحيح مسلم، مراجعة: أبو إسحاق الحويني الأثري- دار ابن عفان- الخبر- السعودية.
249- شرح سنن ابن ماجه (ومع حاشية السيوطي حاشية عبد الغني فخر الحسن الدهلوي) قديمي كتب خانة، كراتشي.
250- طبقات الحفاظ، ط 1، 1403 هـ- 1983 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
251- قطف الأزهار في كشف الأسرار، تحقيق د. أحمد بن محمد الحمادي، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- قطر، 1414 هـ- 1994 م.
252- لباب النقول في أسباب النزول، دار إحياء العلوم العربية- بيروت، ط 6، 1408 هـ- 1988 م.
253- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، الطبعة لم تذكر، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت.
254- (الشاشي) الهيثم بن كليب الشاشي أبو سعيد ت 335 هـ: المسند للشاشي، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 1، 1410 هـ.
255- (الشاطبي) إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي أبو إسحاق ت 790 هـ: الموافقات في أصول الشريعة، المقدمة الثالثة، توزيع عباس أحمد الباز، الطبعة لم تذكر.
(1/548)

256- (الشاطبي) القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي أبو القاسم أو أبو محمد ت 590 هـ: حرز الأماني ووجه التهاني (متن الشاطبية) ، ط 1، 1412 هـ- 1992 م، المكتبة الثقافية- بيروت.
257- (الشافعي) محمد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي ت 204 هـ: أحكام القران، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400 هـ.
258- الأم، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1393 هـ.
259- جماع العلم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ
260- الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر القاهرة، 1358 هـ- 1939 م.
261- مسند الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت.
262- (شعلة) محمد بن أحمد بن محمد ابن أحمد بن محمد بن الحسين الموصلي أبو عبد الله ت 656 هـ شرح شعلة على الشاطبية المسمى كنز المعاني شرح حرز الأماني، المكتبة الأزهرية للتراث.
263- (الشنقيطي) محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي: أضواء البيان في إيضاح القران بالقران، عالم الكتب- بيروت.
264- نثر الورود على مراقي السعود- تحقيق وإكمال تلميذه الدكتور: محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي- الناشر: محمد محمود محمد الخضر القاضي- دار المنارة جدة ط 1، 1415- 1995 م.
265- مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر لابن قدامة، دار القلم، بيروت.
266- (الشوكاني) محمد بن علي بن محمد (ت 1255 هـ) : إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، دار المعرفة- بيروت.
(1/549)

267- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دار المعرفة- بيروت.
268- السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، تحقيق: محمود إبراهيم زايد واخرون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 4، 1405 هـ.
269- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، دار الفكر، بيروت.
270- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، دار الجيل، بيروت، 1973 هـ.
271- (الشيباني) أحمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله ت 241 هـ: علل أحمد ابن حنبل، تحقيق صبحي البدري السامرائي، مكتبة المعارف، الرياص، ط 1، 1409 هـ.
272- فضائل الصحابة، تحقيق: د. وصي الله محمد عباس مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1403 هـ- 1983 م.
273- مسند الإمام أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر.
274- (الشيرازي) إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز ابادي الشيرازي أبو إسحاق ت 476 هـ: التبصرة في أصول الفقه، د. محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1403 هـ.
275- طبقات الفقهاء، تحقيق: خليل الميس، دار القلم، بيروت.
276- اللمع في أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ، 1985 م.
277- صبحي الصالح (دكتور) : مباحث في علوم القران، ط 3، 1964 م، دار العلم للملايين- بيروت.
(1/550)

278- (الصفاقسي) على النوري: غيث النفع في القراات السبع بذيل سراج القارئ المبتدئ وتذكار المقرئ المنتهي، دار الفكر للطباعة والنشر.
279- (الصيداوي) محمد بن أحمد بن جميع الصيداوي أبو الحسين ت 402 هـ:
معجم الشيوخ، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، مؤسسة الرسالة، دار الإيمان، بيروت، طرابلس، 1405 هـ.
280- طالب عبد الرحمن (دكتور) : نحو تقويم جديد للكتابة العربية (المقدمة) ، كتاب الأمة رقم 69، ط 1، المحرم 1420 هـ، السنة التاسعة عشرة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- قطر.
281- الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، بدون ذكر للدار ولا للطبعة.
282- طاهر الجزائري الدمشقي (1268 هـ- 1328 هـ) : التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقران على طريق الإتقان، اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية- حلب.
283- (الطبراني) سليمان بن أحمد بن أيوب، مسند الدنيا أبو القاسم ت 360 هـ: الروض الداني (المعجم الصغير) ، تحقيق: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، دار عمار، بيروت، عمان، ط 1، 1405- 1985 م.
284- مسند الشاميين، مراجعة: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ- 1984 م.
285- المعجم الأوسط، مراجعة: محمود الطحان، مكتبة المعارف- الرياض، 1405- 1985 م.
286- المعجم الكبير، مراجعة: حمدي عبد الحميد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، 1404 هـ- 1983 م.
(1/551)

287- (الطبري) محمد بن جرير الطبري أبو جعفر ت 310 هـ: جامع البيان في تأويل القران، ط 3، 1388 هـ- 1968 م، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
288- (الطحاوي) أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر ت 321 هـ: شرح مشكل الاثار، حققه وضبط نصه وخرج أحاديثه وعلق عليه شعيب الأرناؤوط، ط 1، 1415 هـ/ 1994 م.
289- شرح معاني الاثار، مراجعة محمد زهري النجار، ط 1، 1410 هـ- 1990 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
290- مختصر اختلاف العلماء، تحقيق: د. عبد الله نذير أحمد، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 2، 1417 هـ.
291- (الطيالسي) سليمان بن داود الفارسي البصري أبو داود ت 204 هـ:
مسند الطيالسي، دار المعرفة، بيروت.
292- عامر السيد عثمان: كيف يتلقى القران؟ اداب التلاوة وأحكام التجويد ص 7، دار ابن كثير، بيروت، مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، ط 2، 1406 هـ/ 1986 م.
293- (العبدري) محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري أبو عبد الله ت 897 هـ: التاج والإكليل لمختصر خليل، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1398 هـ.
294- (عبد الرزاق) بن همام الصنعاني أبو بكر ت 211 هـ: المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ.
295- عبد الحميد صالح حمدان (دكتور) : طبقات المستشرقين، مكتبة مدبولي.
(1/552)

296- عبد السلام مقبل المجيدي: تلقي النبي صلّى الله عليه وسلم ألفاظ القران الكريم، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1421 هـ- 2000 م.
297- عبد الصبور شاهين (دكتور) : تاريخ القران، دار القلم 1966 م.
298- عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ (دكتور) : سنن القراء ومناهج المجودين، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1414 هـ.
299- عبد الفتاح أبو غدة: الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، ط 2، 1417 هـ/ 1997 م دار البشائر الإسلامية بيروت.
300- عبد الفتاح إسماعيل شلبي (دكتور) : الإمالة في القراات واللهجات العربية ط 1، مكتبة نهضة مصر، القاهرة 1957 م.
301- الاختيار في القراات منشؤه ومشروعيته وتبرئة الإمام الطبري من تهمة إنكار القراات المتواترة، مطبوعات جامعة أم القرى.
302- في الدراسات القرانية واللغوية: رسم المصحف العثماني وأوهام المستشرقين في قراات القران الكريم دوافعها، ودفعها، دار المنارة جدة- ط 3، 1410 هـ/ 1990 م.
303- عبد الفتاح القاضي ت 1403 هـ: بشير اليسر شرح ناظمة الزهر في علم الفواصل للإمام الشاطبي، 1397 هـ- 1977 م، مطبوعات الأزهر- مصر.
304- الوافي في شرح الشاطبية في القراات السبع، ط 5- 1414 هـ- 1994 م، مكتبة السوادي- جدة، مكتبة الدار- المدينة المنورة.
305- عبد الله بن محمد الحبشي اليمني (معاصر) : معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي وبيان ما ألف فيه، دار البارودي للطباعة والنشر والتوزيع، إصدارات المجمع الثقافي، أبو ظبي، طبعة 1997 م- 1418 هـ.
(1/553)

306- عبد المعطي محمد رياض طليمات: الحلقات القرانية، دراسة منهجية شاملة، ط 1، 1417 هـ- 1997 م، إصدار برنامج تحفيظ القران الكريم- جدة.
307- عبد الهادي الفضلي (دكتور) : القراات القرانية، ط 2، دار القلم- بيروت.
308- عبد المهيمن الطحان (دكتور) : الإمام أبو عمرو الداني كتابه جامع البيان، مكتبة المنارة، ط 1، 1408 هـ- 1988 م.
309- عبد الوهاب حمودة: القراات واللهجات، ط 1، 1948 م، مكتبة النهضة المصرية- القاهرة.
310- عبده الراجحي (دكتور) : اللهجات العربية في القراات القرانية، 1969 م، دار المعارف بمصر.
311- (العدوي) علي الصعيدي العدوي المالكي: حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ.
312- (العراقي) عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن أبو الفضل ت 806 هـ:
المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأخبار، دار المعرفة، بيروت (في هامش الإحياء) .
313- (العز) عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمى أبو محمد ت 660 هـ: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار الكتب العلمية، بيروت.
314- (العسكري) الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري أبو أحمد ت 382 هـ:
تصحيفات المحدثين تحقيق: محمود أحمد ميرة المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، ط 1، 1402 هـ.
(1/554)

315- (العسكري) الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد أبو هلال ت بعد 395 هـ: الفروق في اللغة، لجنة إحياء التراث العربي في دار الافاق الجديدة، دار الافاق- بيروت، ط 1403، 5 هـ- 1983 م.
316- (العظيم ابادي) محمد شمس الحق العظيم ابادي أبو الطيب: عون المعبود شرح سنن أبي داود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1415 هـ.
317- (العكبري) محب الدين عبد الله بن أبي عبد الله الحسين بن أبي البقاء عبد الله بن الحسين أبو البقاء ت 616 هـ: التبيان في إعراب القران، المحقق: علي محمد البجاوى، إحياء الكتب العربية.
318- (عليش) محمد بن أحمد بن محمد: فتح العلي المالك، دار المعرفة، بيروت.
319- علي محمد الضباع: إرشاد المريد إلى مقصود القصيد، تحقيق وتقديم:
إبراهيم عطوة عوض، ط 1، 1404 هـ/ 1974 م.
320- علي محمد توفيق النحاس (دكتور) : الرسالة الغراء في الأوجه المقدمة في الأداء عن العشرة القراء ص 41، راجعها: الشيخ عبد الرازق السيد البكري- ومنها القصيدة الحسناء، ط 1، 1412 هـ/ 1991 م.
321- عماد الدين خليل (دكتور) : الإسلام والوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) نقلا عن موريس بوكاي في كتابه (القران الكريم والتوراة والإنجيل والعلم) ، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م.
322- عودة خليل عودة (معاصر) : التطور الدلالي بين لغة الشعر، ولغة القران، مكتبة المنار- الزرقاء- الأردن، ط 1، 1405 هـ- 1985 م.
323- (الغافقي) محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم ت 619 هـ: لمحات الأنوار ونفحات الأزهار وري الظمان لمعرفة ما ورد من الاثار في ثواب قارئ القران،
(1/555)

تحقيق د. رفعت فوزي عبد المطلب، دار البشائر الإسلامية- بيروت، ط 1، 1418 هـ- 1997 م.
324- غانم قدوري حمد (دكتور) : الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، مطبعة الخلود- بغداد، ط 1، 1406 هـ- 1986 م.
325- رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية- ط 1، 1402 هـ- 1982 م.
326- (الغزالي) محمد بن محمد الغزالي أبو حامد ت 505 هـ: إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت.
327- جواهر القران، تحقيق: د. محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 1، 1985 م.
328- المستصفى من علم الأصول، دار الفكر- بيروت.
329- (الفارسي) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي ت 377 هـ:
الحجة في علل القراات السبع، تحقيق علي النجدي ناصف، ود. عبد الحليم النجار، ود. عبد الفتاح شلبي، دار الكتاب العربي، 1965 م، المجلد الأول.
330- (الفاكهي) محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي أبو عبد الله ت 275 هـ:
أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، تحقيق: د. عبد الملك عبد الله دهيش دار خضر، بيروت، ط 2، 1414 هـ.
331- (الفراء) يحي بن زياد ت 207 هـ أبو زكريا: معاني القران، دار السرور- تحقيق: أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجار.
332- (الفريابي) جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي ت 301 هـ: صفة المنافق، بدر البدر، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، ط 1، 1405 هـ.
(1/556)

333- فضل حسن عباس (دكتور) : إتقان البرهان في علوم القران، ط 1، 1997 م، دار الفرقان.
334- (القاضي عبد الجبار) عماد الدين عبد الجبار بن أحمد أبو الحسن ت 415 هـ: تنزيه القران عن المطاعن، طبعت على نفقة: محمد سعيد الرافع- صاحب المكتبة الأزهرية- ط 1 1329 هـ- طبعت بمطبعة الجمالية بمصر.
335- (القرطبي) محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي أبو عبد الله: الجامع لأحكام القران، 1405 هـ- 1985 م، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
336- (القضاعي) محمد بن سلامة بن جعفر ت 454 هـ أبو عبد الله: مسند الشهاب، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1407 هـ- 2986 م.
337- (القفال) محمد بن أحمد الشاشي القفال ت 507 هـ: حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، تحقيق: د. ياسين أحمد إبراهيم درادكة، مؤسسة الرسالة، دار الأرقم، بيروت، عمان- الأردن، ط 1.
338- (القنوجي) صديق بن حسن خان: أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، ت 1307 هـ، تحقيق: عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978 م.
339- (القيسراني) محمد بن طاهر بن القيسراني ت 507 هـ: تذكرة الحفاظ (أطراف أحاديث كتاب المجروحين لابن حبان) ، تحقيق: حمدي عبد المجيد إسماعيل السلفي، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1415 هـ.
340- (القيسي) مكي بن أبي طالب حموش ابن محمد بن مختار القيرواني القرطبي أبو محمد ت 437 هـ/ 1045 م: الإبانة عن معاني القراات، قدم له
(1/557)

وحققه، وعلق عليه، وشرحه، وخرج قرااته: الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شبلي: المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة.
341- التبصرة في القراات السبع، تحقيق: الدكتور المقرئ محمد غوث الندوي- نشر وتوزيع الدار السلفية- ط 2، 1402 هـ- 1982 م.
342- الرعاية (لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة) تحقيق الدكتور: أحمد حسن فرحات- دار عمار الأردن- ط 2، 1404 هـ/ 1984 م.
343- شرح كلا وبلى ونعم والوقف على كل واحدة منهن في كتاب الله عز وجل ص 45، ضمن كتاب مجموعة الرسائل الكمالية «رقم 1» في المصاحف والقران والتفسير «خمسة كتب» - الناشر: مكتبة المعارف- محمد سعيد حسن الكمال- الطائف: شارع الكمال.
344- (الكاساني) علاء الدين ت 587 هـ: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1982.
345- (الكتاني) عبد الحي الإدريسي الحسني الفاسي: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، دار الكتاب العربي- بيروت.
346- (الكرماني) محمود بن حمزة بن نصر الكرماني ت 500 هـ: البرهان في متشابه القران، تحقيق أحمد عز الدين عبد الله خلف الله، دار صادر- بيروت، ط 2، 1417 هـ- 1996 م.
347- (الكسي) عبد بن حميد بن نصر أبو محمد ت 249 هـ: المنتخب من مسند عبد بن حميد، مراجعة: صبحي البدري السامرائي- محمود محمد خليل الصعيدي، مكتبة السنة- القاهرة، 1408 هـ- 1988 م.
(1/558)

348- (الكناني) أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل الكناني ت 840 هـ: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، تحقيق: محمد المنتقى الكشناوي، دار العربية، بيروت، ط 2، 1403 هـ.
349- (الكيا الهراسي) عماد الدين بن محمد الطبري (ت 504 هـ) : أحكام القران، ط 1، 1403 هـ- 1983 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
350- لؤي محمد قبيصي علي الشريف: القسطاس المستقيم في بيان مدى مشروعية صدق الله العظيم عقب تلاوة القران الكريم، المجموعة المتحدة للطباعة، القاهرة، ط بدون.
351- لبيب السعيد: الجمع الصوتي الأول للقران الكريم، دار الكتاب العربي- القاهرة.
352- (المارغني) إبراهيم بن أحمد التونسي: دليل الحيران على مورد الضمان في فني الرسم والضبط، وهو شرح على منظومة محمد بن محمد الشريشي ثم الفاسي الشهير بالخراز- دار الكتب العلمة بيروت، ط 1، 1415 هـ/ 1995 م.
353- (المباركفوري) محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم أبو العلا: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، ط 1، 1410 هـ- 1990 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
354- (المحاملي) الحسين بن إسماعيل الضبي أبو عبد الله ت 330 هـ: أمالي المحاملي، تحقيق د. إبراهيم القيسي، المكتبة الإسلامية، عمان، ط 1، 1412 هـ.
355- (المحبوبي) عبد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي: التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه: الشيخ زكريا عميرات، ط 1، 1416- 1996 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
(1/559)

356- محمد الشهير بالحداد ابن علي ابن خلف الحسيني المالكي الأزهري شيخ القراء والمقارئ: الكواكب الدرية فيما ورد في إنزال القران على سبعة أحرف من الأحاديث النبوية والأخبار المأثورة في بيان رسم المصاحف العثمانية للقراات المشهورة ونصوص الأئمة الثقات في ضابط المتواتر من القراات وما يناسب ذلك، طبعة بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر- محرم 1344 هـ.
357- محمد الصادق عرجون عميد كلية أصول الدين، جامعة الأزهر: بحث علمي لنقد مزاعم حول قراات القران في رسالة: (أصوات المد في القران الكريم) بكلية الاداب- جامعة الإسكندرية، اتحاد الطلاب بكلية أصول الدين، اللجنة الاجتماعية 1386 هـ- 1966 م.
358- محمد الفاضل ابن عاشور: التفسير ورجاله، ضمن كتاب مجموعة الرسائل الكمالية «رقم 1» في المصاحف والقران والتفسير «خمسة كتب» الناشر:
مكتبة المعارف- محمد سعيد حسن الكمال- الطائف: شارع الكمال.
359- محمد بخيت المطيعي (ت 1354 هـ) : الكلمات الحسان في الحروف السبعة وجمع القران، ط 1، 1323 هـ، المطبعة الخيرية- القاهرة.
360- محمد طاهر عبد القادر الكردي المكي: تاريخ القران وغرائب رسمه وحكمه، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
361- محمد عبد القادر هنادي (دكتور) : ظاهرة التأويل في إعراب القران الكريم: دراسة تحليلية لموقف النحاة من القراات القرانية المتواترة التي تتعارض مع القواعد النحوية، جامعة الملك عبد العزيز، كلية الاداب، جدة، ط 1، 1408 هـ/ 1988 م.
(1/560)

362- محمد عبد الله دراز (دكتور) : مختصر مدخل إلى القران الكريم (عرض لقضايا القران- جمعه انتشاره محتواه مصدر علاقته بالكتب السابقة) ، ترجمة وتلخيص: محمد عبد العظيم علي- دار الدعوة القاهرة- ط 1، 1417 هـ/ 1996 م.
363- مدخل إلى القران الكريم (عرض تاريخي وتحليل مقارن) ، وهو في المختصر- ترجمة: محمد عبد العظيم علي- مراجعة: دكتور السيد محمد بدوي، دار المعرفة الإسكندرية.
364- النبأ العظيم، اعتنى به وخرج أحاديثه: عبد الحميد الدخاخيني، ط 1، 1417 هـ- 1997 م، دار طيبة- الرياض.
365- محمد محمد عبد اللطيف (يلقب نفسه بابن الخطيب) : الفرقان، الطبعة لم تذكر- دار الكتب العلمية- بيروت.
366- محمد مطيع الحافظ (دكتور) : شيخ القراء الإمام ابن الجزري، دار الفكر المعاصر، ط 1، 1416 هـ- 1995 م.
367- محمد مكي نصر: نهاية القول المفيد في علم التجويد، طبع بمطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر: راجع هذه النسخة وصححها على محمد الضباع حفظه الله ربيع الثاني 1349 هـ.
368- محمد يحي بن الشيخ أمان المدرس بمدرسة الفلاح الملكية: التيسير شرح منظومة التفسير للشيخ عبد العزيز الزمزمي، مطبعة مصطفى بن محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
369- محمود السعدني: ألحان السماء، كتاب اليوم يصدر عن دار أخبار اليوم أول كل شهر، عدد يناير 1996 م.
(1/561)

370- (المرداوي) علي بن سليمان المرداوي أبو الحسن ت 885 هـ:
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
371- (المزي) جمال الدين يوسف بن الزكي عبد الرحمن أبو الحجاج ت 742 هـ: تهذيب الكمال، مراجعة: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة- بيروت 1400 هـ- 1980 م.
372- (المغربي) محمد بن عبد الرحمن المغربي أبو عبد الله ت 954 هـ:
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، دار الفكر، ط 2، بيروت، 1398 هـ.
373- (مسلم) بن الحجاج النيسابوري أبو الحسين ت 261 هـ: صحيح مسلم، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت 1374 هـ- 1954 م.
374- (المقدسي) محمد بن أحمد ت 390 هـ: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق: غازي طليمات، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1980 م.
375- (المقدسي) محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي أبو عبد الله ت 634 هـ: الأحاديث المختارة، تحقيق: عبد الملك بن عبد الله دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1410 هـ.
376- (ملا جيون) أحمد بن أبي سعيد بن عبيد الله الحنفي الصديقي الميهوي (ت 1130 هـ) : نور الأنوار وبهامشه كشف الأسرار، ط 1 1406 هـ- 1986 م، دار الكتب العلمية- بيروت.
(1/562)

377- (المناوي) محمد عبد الرؤوف المناوي ت 1031 هـ: التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق: د. محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر، دار الفكر، بيروت، دمشق، ط 1، 1410 هـ.
378- فيض القدير شرح الجامع الصغير المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط 1، 1356 هـ.
379- (المنذري) عبد العظيم بن عبد القوي المنذري أبو محمد ت 656 هـ:
الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 هـ
380- (المهدوي) أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي ت 440 هـ: في توجيه القراات: شرح الهداية، تحقيق ودراسة الدكتور: حازم سعيد حيدر- مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1416 هـ/ 1995 م.
381- كتاب هجاء مصاحف الأمصار، تحقيق: محي الدين عبد الرحمن رمضان.
382- (الميداني) عبد الرحمن حسن حبنكة: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، ط 4، 1414 هـ- 1993 م، دار القلم- بيروت.
383- (النحاس) أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي النحاس أبو جعفر ت 339 هـ: الناسخ والمنسوخ، تحقيق: د. محمد عبد السلام محمد، مكتبة الفلاح، الكويت، ط 1، 1408 هـ.
384- (النسائي) أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن ت 303 هـ: السنن الكبرى، مراجعة: د. عبد الغفار سليمان البنداري- سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية- بيروت، 1411 هـ- 1991 م.
(1/563)

385- فضائل القران، تحقيق: د. فارروق حمادة، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 2، 1992 م.
386- المجتبى من السنن، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية حلب، ط 2، 1406- 1986.
387- (النسفي) عمر بن محمد بن أحمد النسفي أبو حفص: اللحن في القراءة، مصورة مخطوطة للشيخ في ملك الباحث، والصورة مست***ة من مخطوطات كتب خانة بالهند.
388- نظام الدين البلخي (ولجنة من العلماء) : الفتاوى الهندية، دار الفكر.
389- (النووي) محيي الدين يحيى بن شرف بن مري النووي أبو زكريا ت 676 هـ: التبيان في اداب حملة القران، الوكالة العامة للتوزيع، دمشق، ط 1، 1403 هـ- 1983 م.
390- روضة الطالبين وعمدة المفتين، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1405 هـ.
391- صحيح مسلم بشرح النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 هـ.
392- المجموع شرح المهذب، تحقيق: محمود مطرحي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1417 هـ- 1996 م.
393- (النويري) محمد بن محمد بن محمد بن أبو القاسم: شرح طيبة النشر في القراات العشر، تحقيق وتعليق: عبد الفتاح السيد سليمان أبو سنه خبير التحقيق بمجمع البحوث الإسلامية، مراجعة لجنة إحياء التراث الإسلامي، بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1406 هـ- 1986 م.
(1/564)

394- القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ- مطبوع في مقدمة شرح طيبة النشر، تحقيق وتعليق: عبد الفتاح السيد سليمان أبو سنه خبير التحقيق بمجمع البحوث الإسلامية، مراجعة لجنة إحياء التراث الإسلامي، بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1406 هـ- 1986 م.
395- (الهذلي) علي بن جبارة أبو القاسم: الكامل، مصورة مخطوطة عن نسخة في ملك الشيخ سعيد عبد الله المدرس بجامعة أم القرى.
396- (الهروي) القاسم بن سلام أبو عبيد ت 224 هـ: غريب الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، 1396 هـ، تحقيق: د. محمد عبد المعيد خان.
397- فضائل القران، حققه: مروان العطية محسن خرابة وفاء تقي الدين، دار ابن كثير- دمشق، ط 1، 1415 هـ- 1995 م.
398- كتاب لغات القبائل الواردة في القران الكريم، ضمن كتاب مجموعة الرسائل الكمالية «رقم 1» في المصاحف والقران والتفسير «خمسة كتب» - الناشر: مكتبة المعارف- محمد سعيد حسن الكمال- الطائف: شارع الكمال.
399- (الهيتمي) شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر ت 973 هـ:
الفتاوى الفقهية الكبرى، المكتبة الإسلامية، عمان.
400- المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية في الفقه الشافعي.
401- (الهيثمي) نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي أبو الحسن ت 807 هـ:
بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، للحارث بن أبي أسامة ت 282 هـ، تحقيق د. حسين أحمد صالح الباكري، 1413 هـ- 1992 م، مركز خدمة السنة والسيرة النبوية- المدينة المنورة.
402- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الريان للتراث، دار الكتاب العربي، القاهرة، بيروت، 1407 هـ.
(1/565)

403- موارد الظمان إلى زوائد ابن حبان، محمد عبد الرزاق حمزة، دار الكتب العلمية، بيروت.
404- (الواحدي) علي بن أحمد النيسابوري أبو الحسن ت 468 هـ: أسباب النزول، تعليق وتخريج. د. مصطفى ديب البغا، ط 1، 1408 هـ- 1988 م، دار ابن كثير- دمشق.
405- (الوزير) محمد بن إبراهيم الوزير ت 840 هـ: إيثار الحق على الخلق، دار الكتب العلمية- بيروت.
406- (اليحصبي) عياض بن موسى اليحصبي ت 544 هـ أبو الفضل:
الشفا تعريف حقوق المصطفى، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.
407- يوسف إبراهيم النور: مع المصاحف دون ذكر لبقية المعلومات.
408- يوسف أحمد نصر الدجوي: كتاب الجواب المنيف (في الرد على مدعي التحريف في الكتاب الشريف) ، طبع بمطبعة النهضة الأدبية «لصاحبها محمود حماده» ، بدون.
409- يوسف خليفة أبو بكر (دكتور) : أصوات القران: كيف نتعلمها، ونعلمها، دار المركز الإسلامي الأفريقي للطباعة، ط 2، 1414 هـ- 1994 م.

ومن المراجع الاخرى:
410- مجلة الأزهر- المجلد الثالث والثلاثون- العدد الحادي عشر 1962 م.
مصورة مخطوطة لمجهول عن باب وقف حمزة وهشام ضمن مجموع قرائي يمتلك الباحث صورة منه، والصورة مست***ة من مخطوطات كتب خانة بالهند.
(1/566)

«الفهرس الموضوعي»
الموضوع الصفحة الإهداء 3
المقدمة 5
الفصل الأول: شخصية النبي صلّى الله عليه وسلم التعليمية:
وفيه ثلاثة مباحث المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم: وفيه ثلاثة مطالب: 16
المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي صلّى الله عليه وسلم 16
المطلب الثاني: تحليل دلالات الوصف الإجمالي للوظيفة النبوية 22
المطلب الثالث: تفصيل الوظيفة الرسالية للنبي صلّى الله عليه وسلم 25
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة: وفيه أربعة مطالب: 32
المطلب الأول: مدلول التلاوة 32
المطلب الثاني: علاقة التلاوة بالتعليم: والمراد هنا هل التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها؟ وما خصائصها الدالة على ذلك؟ 36
المطلب الثالث: المنهج المقرر للتلاوة والتعليم 45
المطلب الرابع: قيامه بوظيفة تعليم القران على أوسع نطاق 55
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه: وفيه مطلبان 66
(1/567)

المطلب الأول: على النبي صلّى الله عليه وسلم 66
المطلب الثاني: على الأمة 67
الفصل الثاني: أصول تعليم النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه ألفاظ القران:
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم كيفية تعلمه لكلام الله القراني: وفيه ثلاثة مطالب: 82
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم كيفية نزول ألفاظ القران وتلقيها 82
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أماكن القراءة 87
المطلب الثالث: مقتضيات ذلك: إلزامهم الاقتداء به في هيئة تلاوته للفظ القراني 91
المبحث الثاني: وسائل تعليم ألفاظ القران الكريم كما وضعها النبي صلّى الله عليه وسلم: وفيه ستة مطالب: 95
المطلب الأول: الحلقات القرانية 96
المطلب الثاني: تعليمهم هيئة التعلم الواجبة لألفاظ القران الكريم (التلقي) 105
المطلب الثالث: العرضة الأخيرة 114
المطلب الرابع: التعليم القراني العام 129
المطلب الخامس: التدرج في التعليم 141
المبحث الثالث: وسائل النشر التعليمية لألفاظ القران الكريم في عموم المجتمع المسلم كما قام بها النبي صلّى الله عليه وسلم: وفيه أربعة مطالب: 146
(1/568)

المطلب الأول: وسائل النشر العامة 146
المطلب الثاني: (الصلاة) وسيلة لنشر القران وتعليمه 154
المطلب الثالث: منح قراء القران الصدارة في الألقاب العلمية وقيادة الناس 160
المطلب الرابع: تعليمهم تسمية السور وألقابها 169
المبحث الرابع: القواعد التربوية المصاحبة لعملية الإقراء (من حيث اللفظ) : والمراد هنا الاداب اللازمة للقارئ كقارئ كما وضعها النبي صلّى الله عليه وسلم، وذلك ينحصر في أربعة مطالب: 173
المطلب الأول: الانفعال بالقران الكريم 173
المطلب الثاني: لزوم أبجديات منهج التلقي 178
المطلب الثالث: تعليمهم تعظيم القران الكريم 178
المطلب الرابع: تعليمهم الهيئة التي يكون عليها قارئ القران إذا أراد القراءة 184
الفصل الثالث: جماع منهجية النبي صلّى الله عليه وسلم في تحفيظ الألفاظ وترتيلها: وفيه ستة مباحث وهي:
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أساسات الدرس القراني «منهج الحلقات القرانية» : وفيه أربعة مطالب: 194
المطلب الأول: القراءة نظرا من المصحف 194
المطلب الثاني: القراءة عن ظهر قلب 197
(1/569)

المطلب الثالث: التعاهد (المراجعة) 202
المطلب الرابع: تعليمهم مقدار الورد اليومي 211
المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ماهية التجويد وحكمه: وفيه ثلاثة مطالب: 216
المطلب الأول: الأصول الشرعية لعلم التجويد 216
المطلب الثاني: مكونات علم التجويد- كما علمها النبي صلّى الله عليه وسلم- 222
المطلب الثالث: حكم التجويد كما علمه النبي صلّى الله عليه وسلم 227
المبحث الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أهمية التجويد وضوابطه الشرعية: وفيه ثلاثة مطالب: 233
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أهمية التجويد 233
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم اجتناب اللحن 239
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ضوابط التجويد 242
المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ترتيل ألفاظ القران الكريم: وفيه ثلاثة مطالب: 247
المطلب الأول: الترتيل وأركانه 247
المطلب الثاني: مثال على فروع الترتيل التي علمها النبي صلّى الله عليه وسلم (المد) 255
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم مراتب الترتيل 260
المبحث الخامس: تعليمه صلّى الله عليه وسلم مراتب الأداء الأعلى من التجويد: وفيه أربعة مطالب: 269
(1/570)

المطلب الأول: تعليمهم تزيين التصويت بألفاظ القران الكريم 269
المطلب الثاني: تعليمهم التغني بألفاظ القران الكريم 275
المطلب الثالث: تعليمهم الترجيع لألفاظ القران الكريم 282
المطلب الرابع: القراءة بالألحان 290
المبحث السادس: تعليمه صلّى الله عليه وسلم الملحقات بأحكام التجويد: وفيه أربعة مطالب: 301
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الابتداء 301
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الختم 310
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الوقف 330
المطلب الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أحكام الجهر والإسرار بقراءة القران الكريم 333
الفصل الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم جمع القران الكريم حفظا وكتابة:
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه (منهجية النبي صلّى الله عليه وسلم في تعليم الصغار) : 338
المبحث الثاني: تعليمهم صفات حامل القران (القارئ) : وفيه مطلبان 343
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم تلقيب القراء والمقرئين بألقاب مميزة 343
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم صفات حامل القران الذي يستحق هذه الألقاب 352
(1/571)

المبحث الثالث: أصحاب (تلاميذ) النبي صلّى الله عليه وسلم من أئمة الإقراء (المخرجات التعليمية) : وفيه مطلبان: 369
المطلب الأول: مؤشرات وقواعد عامة في عدد حفاظ القران الكريم في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم 369
المطلب الثاني: من أشهر أئمة الإقراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل 385
المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم جمع القران: وفيه أربعة مطالب: 410
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم كتابة القران 411
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم ترتيب ايات القران الكريم وسوره 421
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم تحزيب القران 329
المطلب الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلم عد الاي (علم الفواصل) 434
الفصل الخامس: تعليمه صلّى الله عليه وسلم قراءة القران على أحرفه المنزلة:
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم القراءة بما تيسر من الأحرف السبعة: وفيه ثلاثة مطالب: 438
المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلم مشروعية قراءة القران على سبعة أحرف 438
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أن الحرف الواحد شاف كاف 443
المطلب الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلم عدم التناقض المعنوي بين هذه الأحرف 447
(1/572)

المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول:
وفيه خمسة مطالب: 450
المطلب الأول: التلقي والتوقيفية في القراات 450
المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلم عدم التنازع في رواية القراءة ما دامت قد ثبتت عنه 455
المطلب الثالث: أين الأحرف السبعة؟ 460
المطلب الرابع: القراءة التفسيرية 475
المطلب الخامس: القراءة بالمعنى 481
المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم (التواتر في نقل ألفاظ القران) : وفيه مطلبان: 490
المطلب الأول: التواتر القراني 492
المطلب الثاني: من أهم اثار منهج التواتر القراني (المنهج القراني في إثبات ما هو قران) 501
وختاما 515
فهرس المراجع 519
الفهرس الموضوعي 567
(1/573)





http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الحزن, الصدر, السقيم, إذهاب, وشفاء


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
التمر غذاء وشفاء Eng.Jordan الزراعة 3 10-03-2015 08:21 PM
عجوة المدينة غذاء وشفاء ووفاء عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 03-15-2015 08:46 AM
سقيم يعتلي وجع السقيم زهير شيخ تراب الشاعر زهير شيخ تراب 0 08-09-2014 10:53 AM
حديث الصقيل عبدالناصر محمود أخبار ومختارات أدبية 0 05-03-2013 03:45 PM
عام الحزن جاسم داود شذرات إسلامية 0 04-08-2012 11:11 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:53 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59