#8  
قديم 12-21-2020, 10:42 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

السبب بطل العجب فهي أولاً ثورة زيدية والزيدية كما علم شقائق المعتزلة.
وثانيًا: هي ثورة (اشتراكية) تدعو إلى الاشتراكية في المال ومساواة العبيد بغيرهم كما يوهم كلام الدكتور. فهل هي حقًّا كذلك؟ وهل يستحق أهلها أن يسموا (ثوارًا) "أم هم شراذم من قطاع الطريق والمفسدين في الأرض؟ انظر "الفتنة السوداء أو ثورة الزنج" للأستاذ محمد جمال.

9 - الدكتور عمارة وعبد الله بن سبأ:
- قال الشيخ سلمان العودة في كتابه "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام".
"ويرى الدكتور محمد عمارة أن ابن سبأ أقرب إلى الخرافة" (1).

10 - الحشوية:
نبز بها الدكتور محمد عمارة السلفيين أهل السنة والجماعة، ودمغ فكر أهل السنة بالحشو اتباعًا لشيوخه (الثقات) من أهل الاعتزال قال: "أطلق هؤلاء المجبرة على أنفسهم اسم أهل السنة وأهل الجماعة وشاعت عند عامة المسلمين وجماهيرهم التفسيرات التي تجعل كلمة السنة بمعنى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتجعل كلمة الجماعة منصرفة إلى جماعة المسلمين ولكن المعتزلة يسمون هذه الفرقة بالجبرية والمجبرة والمجورة وأهل الحشو" "المعتزلة" (29).
وقال: "المعتزلة يسمون هذه الفرقة (أي أهل السنة) بالحشوية وأهل الحشو ويقولون عنهم أنهم يسمون أنفسهم بأنهم أصحاب الحديث وأنهم أهل السنة والجماعة وهم بمعزل من ذلك وليس لهم مذهب معروف! ولا كتاب تعرف منهم مذاهبهم! إلا أنهم مجمعون على الجبر والتشبيه ويدعون أن أكثر السلف منهم وهم براء من ذلك وينكرون الخوض في الكلام والجدل ويقولون على التقليد وظواهر الروايات" "المعتزلة" (34).
__________
(1) "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام" للعودة (ص 89) - دار طيبة.
(2/281)
________________________________________
وأما أهل السنة والسلفيون من الأئمة فقد ردوا هذا اللقب ولم يقبلوا إطلاقه عليهم؛ لأنه من الألقاب التي يقصد بها التنفير عن الحق. كما قال الشاعر.
تقول ذا جنى النحل تمدحه ... وإِن شئت قلت ذا قيء الزنابير
مدحًا وذمًا ما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير
- قال ابن القيم: "هكذا شأن كل مبتدع وملحد، وهذا ميراث من تسمية كفار قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الصبأة، وصار هذا ميراثًا منهم، لكل مبطل وملحد ومبتدع، يلقب الحق وأهله بالألقاب الشنيعة المنفرة.
وإذا قالوا: حشوية، صوروا في ذهن السامع قومًا قد حشوا في الدين ما ليس منه، وأدخلوه فيه، وهو حشو لا أصل له. فتنفر القلوب من هذه الألقاب وأهلها، ولو ذكروا حقيقة قولهم، لما قبلت العقول السليمة، والفطر المستقيمة سواه والله يعلم وملائكته ورسله وهم أيضًا أنهم براء من هذه المعاني الباطلة. وأنهم أبعد الخلق منها، وأن خصومهم جمعوا بين أذى الله ورسوله، بتعطيل صفاته، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقعدوا تحت قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1).
وقال في موضع آخر: "ما ذنب أهل السنة والحديث إذا نطقوا بما نطقت به النصوص وأمسكوا عما أمسكت عنه ووصفوا الله بما وصف به نفسه ووصفه رسوله وردوا تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين الذين عندوا ألوية الفتنة
__________
(1) "الصواعق" لابن القيم (3/ 950).
(2/282)
________________________________________
وأطلقوا عنه المحنة وقالوا على الله وفي الله بغير علم فردوا باطلهم وبينوا زيفهم وكشفوا إفكهم ونافحوا عن الله ورسوله فلم يقدروا على أخذ الثأر منهم إلا بأن سموهم مشبهة ممثلة مجسمة حشوية" (1).
- وقال أبو حاتم الرازي: "علامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية" (2).

11 - نهج البلاغة:
يعتمد الدكتور عمارة كثيرًا في كتبه على كتاب "نهج البلاغة" للشريف المرتضي بدعوى أنه يحتوي على خطب وكلمات لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وتجده ينقل من هذا الكتاب الروايات والآثار والخطب العديدة المخالفة لمنهج أهل السنة والتي تحتوي على طعون في الصحابة الأجلاء ممن لا تواليهم الشيعة (3)، ويأخذ الدكتور ذلك كله مسلمًا به .. بل يبني عليه أحكامه وإن لم يبن أحكايه فكفى به إثمًا أن ينشر مثل تلك الروايات الفادحة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقرأها العالم والجاهل في كتبه فتكون بابًا لسوء الظن بهم أو زلل اللسان عليهم. فمثلاً هو يقول عن معاوية - رضي الله عنه - في تصوير مدى عدائه للأنصار!! "لم ينس معاوية ولا الأمويون للأنصار موقفهم هذا ففي عهد معاوية وفدت جماعة من الأنصار على رأسهم النعمان بن بشير يشكون الفقر وضيق العيش وقالوا له: لقد صدق رسول الله في قوله لنا: ستلقون بعدي أثرة. فقد لقيناها، فقال لهم معاوية: فماذا قال لكم؟ قال لنا: فاصبروا حتى تردوا على الحوض قال فافعلوا ما أمركم به عساكم أن تلاقوه
__________
(1) "الصواعق" (1/ 137).
(2) "اللالكائي" (1/ 182).
(3) كعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص - رضي الله عنهم -.
(2/283)
________________________________________
غدًا عند الحوض كما أخبركم! وحرمهم ولم يعطهم شيئًا" "الإسلام وفلسفة الحكم" (381).
مرجعك يا دكتور؟ .. "شرح نهج البلاغة" (6/ 32)!!!.
روايات كثيرة يسردها الدكتور العقلاني وينثرها في كتبه خاصة ما يتعلق منها بالصحابة - رضي الله عنهم - فيها الألفاظ الجارحة والحزازات والحقد والغدر والخيانة والظلم لآل البيت وتجبر الأمويين والأغنياء المترفين والفقراء المساكين إذا قرأتها تشعر أنك تقرأ عن حفنة من اللصوص والمتصارعين على السلطة كما نرى في زماننا فتنكر قلبك بعدها وتستغفر الله أنك قرأتها فما بالك بمن تجرأ فنقلها وشهرها .. ثم ما بالك بمن كذبها؟ وليت الدكتور كان غافلاً عن رأي أهل السنة في هذا الكتاب ولكن اسمعه يقول: "إن المعارضين لفكر الشيعة في علم الإمام يستطيعون أن يشككوا في نسبة هذه العبارة لعلي بن أبي طالب؛ لأن نهج البلاغة قد جمعه الشريف الرضي نقيب الطالبيين ورأس الشيعة الإمامية في عصره" "الإسلام وفلسفة الحكم" (381).
ويقول: "الذين يطالعون نهج البلاغة المنسوب للإمام علي بن أبي طالب - والذي نعتقد بصدق نسبته إليه .. " "تيارات الفكر" (218).
- قلت: قال الذهبي في الشريف المرتضي: "هو جامع كتاب نهج البلاغة المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي - رضي الله عنه - ولا أسانيد لذلك وبعضها باطل وفيه حق ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها. ولكن أين المنصف؟ وقيل بل جمع أخيه الشريف الرضي" (1).
وقال أيضًا: "من طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ففيه السب الصريح والحط على السيدين أبي بكر وعمر
__________
(1) "السير" (17/ 589).
(2/284)
________________________________________
- رضي الله عنهما - وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفه بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل" (1).
- قال شيخ الإسلام: "أهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب قديم ولا لها إسناد معروف فهي بمنزلة من يدعي أنه علوي أو عباسي ولا نعلم أحدًا من سلفه ادعى ذلك قط فيعلم كذبه، فإن النسب يكون معروفًا من أصله حتى يتصل بفرعه. وفي هذه الخطب أشياء قد علم يقينًا من علي ما ينقاضها ولم يوجب الله على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه، وإن ذلك من تكليف ما لا يطاق" (2).
وقال السيد محب الدين الخطيب تعليقًا على هذا القول: "أكثر التزوير الذي عني به الرضي وأخوه المرتضي في نهج البلاغة يدور على الشيء الذي له أصل فيضيفان إليه ما لم يكن له أصل من أمثال لقد تقمصها فلان بينما الصحيح الثابت بالسند عن علي هو جميل الثناء على فلان فيقع التناقض بين قوله المستقيم الثابت عنه وبين القول الملتوي المعزو إليه بلا سند ولا دليل على صحته فأساءوا إلى علي بإظهاره متناقضًا ومتحاملاً وأنانيًا وحاشا لله أن يكون كذلك" (3).

12 - الدولة العبيدية:
خصص الدكتور كما علمنا كتابًا كاملاً في تمجيد الدولة العبيدية الرافضية وعدّ توليها على مصر اكتمالاً لعروبتها .. وفي هذا تفضيل لها على
__________
(1) "الميزان" (3/ 124).
(2) "المنتقى" (430).
(3) المصدر السابق.
(2/285)
________________________________________
ما سبقها من حكم إسلامي ومن ضمنه حكما الخلفاء الراشدين بعد عمر - رضي الله عنه -! والذي زاد إعجاب الدكتور بهذه الدولة الرافضية أنها جعلت (مصر) مركزًا لها بعد أن كانت مجرد ولاية تابعة لدولة الخلافة .. فقد اختلطت عنده (الوطنية) بالنزعة (الشيعية) في هذا الكتاب.
- قال ابن كثير -رحمه الله-: "كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرًا، فصاروا كأمس الذاهب {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}. وكان أول ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حدادًا اسمه عبيد، وكان يهوديًّا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بعد الأربعمائة كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم، والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة، وصارت له دولة وصولة، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكًا مطاعًا، يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض. ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الطاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشرة ملكًا، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة، وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضًا، ولكن كانت مدتهم نيفًا وثمانين سنة، وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد، في سنة ست وخمسين وستمائة، كما سيأتي.
(2/286)
________________________________________
وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أعتى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكمالها، حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشويك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وأنطاكية وجميع ما والى ذلك، إلى بلاد إياس وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك، وقتلوا من المسلمين خلقًا وأممًا لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار الإسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق، ولكن الله سلم، وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته" (1).

- محمد عمارة عقلاني مستنير كما يقول ليس على منهج أهل السلطة والجماعة:
لقد انتقل الدكتور عمارة من تيار الفكر الماركسي الشمولي إلى تيار اليسار الإسلامي، أو تيار الأفغاني أو التيار الحضاري أو التيار المستنير أو العقلانية الإسلامية المعاصرة .. سَمّه ما شئت من هذه الأسماء فهي تصدق عليه.
أما إنه عاد إلى الإسلام بمعناه الصحيح وهو منهج أهل السنة
__________
(1) "البداية والنهاية" لابن كثير (12/ 286)، وانظر إلى ما كتبه أيضًا في سنة 402 هـ.
(2/287)
________________________________________
والجماعة .. فلا والله! لم يعُد.
وهذه الدراسة خير شاهد على ذلك.
فإن قلت: لعل الدكتور قد تراجع عن التعلق بهذا التيار أيضًا ورجع إلى منهج الحق. فحاله مال الأشعري في تنقلاته الثلاث.
فأقول: لا! لم يصنع ذلك.
ْويشهد لهذا أمور قد ذكرت بعضها عند الحديث عن مقالاته في اليمامة .. ومنها:
1 - أن كتبه التي اعتمدت عليها في هذه الدراسة لا زالت تطبع دون تغيير أو تنبيه على مثل هذا التراجع المزعوم .. فقد طبع (تيارات الفكر) وغيره طبعة جديدة في العام الماضي وما قبله.
2 - أن الدكتور قد جمع أفكاره المعتادة التي يرددها دائمًا وضمّنها واحدًا من أواخر ما كتب وهو "معالم المنهج الإسلامي" الذي طبعه المعهد العالمي للفكر الإسلامي محتسبًا الأجر والنصح للمسلمين!!.
3 - أنه يردد هذه الأفكار كثيرًا في مقالاته ومقابلاته كما نقلت ذلك عنه مرارًا .. وتابع مجلة المجتمع أو جريدة المسلمون تنبئك بصدق ادعائي! فهما لا تبخلان علينا بين الحين والآخر تبشران الأمة بمشروع عمارة الحضاري. والذي سينقذنا من مستنقعات التخلف التي يجرنا إليها .. النصوصيون المتزمتون الجامدون .. ! فلعلهما يتبصران الأمر بعد هذه الدراسة.
4 - أن الدكتور الشاعر عبد الرحمن العشماوي .. قد أيدني في هذا عندما ردّ على الدكتور بعض أفكاره الجريئة .. وذلك عندما قال: "قيل عن الرجل ما قيل من أنه قد تراجع عن بعض آرائه العقلانية التي طرحها في كتبه .. "، ثم قال: "ثم إنني ما كدت أنتهي من حوار (المسلمون) الذي
(2/288)
________________________________________
أشرت إليه حتى برزت أمامي صورة الرجل بملامحه القديمة" (1).
- قلت: فالرجل هو الرجل لم يتراجع عن (أي) شيء من أفكاره (المستنيرة) فيشترط لتوبته ما قاله ابن القيم -رحمه الله-: " .. فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الاعتقادات الفاسدة: بمحض اتباع السنة. ولا يكتفى منهم بذلك أيضًا حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة. إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده. ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى: البيان؛ لأن ذنبهم لما كان بالكتمان، كانت توبتهم منه بالبيان. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم؛ لأن ذاك كتم الحق. وهذا كتمه ودعا إلى خلافه. فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس" (2).
قلت: ويضاف إلى هذا الشرط (التبيين) الشروط المعلومة في التوبة (ترك الفعل -الندم- العزم على عدم العود) ثم قال -رحمه الله-: "القول على الله بلا علم صريح افتراء الكذب عليه (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا؟ ) فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس فلا تتحقق التوبة إلا بالتوبة من البدع. وأنى بالتوبة منها لمن لم يعلم أنها بدعة، أو يظنها سنة، فهو يدعو إليها، ويحض عليها؟ فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة. وكثرة اطلاعه عليها، ودوام البحث عنها والتفتيش عليها. ولا ترى صاحب بدعة كذلك أبدًا. فإن السنة -بالذات- تمحق البدعة. ولا تقوم لها. وإذا طلعت شمسها في قلب العبد قطعت من قلبه ضباب كل بدعة، وأزالت ظلمة كل ضلالة. إذ لا سلطان للظلمة مع
__________
(1) "المسلمون" (377).
(2) "المدارج" (1/ 363).
(2/289)
________________________________________
سلطان الشمس. ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة، ويعينه على الخروج من ظلمتها إلى نور السنة، إلا المتابعة، والهجرة بقلبه كل وقت إلى الله، بالاستعانة والإخلاص، وصدق اللجوء إلى الله والهجرة إلى رسوله، بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنته "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، ومن هاجر إلى غير ذلك حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة. والله المستعان" (1).
- قلت: وليعلم الدكتور -هداه الله- أني لم أبادله الرد في هذا الكتاب إلا دفعًا لفساد بدعته (بل بدعه) التي أراد نشرها بين عامة المسلمين وإيقافًا له عن الترسل فيها ..
- قال شيخ الإسلام في حديث له: " .. كذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية فهذا إذا تكلم فيه الإنسان، بعلم وعدل وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيًا إلى بدعة فهذا يجب بيان أمره للناس فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق".
- وقال -رحمه الله-: "إذا كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإن دُفع صيالهم وبُيِّن ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله" غافر الله لمحمد عمارة وهداه إلى عقيدة أهل السنة والجماعة.
***
__________
(1) "المدارج" (1/ 374).
(2/290)
________________________________________
* عفوًا ومعذرة يا إِقبال .. فكُلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إِلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
- قال عنه السيد أبو الحسن الندوي: "إن إقبال أنبغ عقل أنتجته الثقافة الجديدة، التي ظلت تشتغل وتنتج في العالم الإسلامي من قرن كامل، وأعمق مفكر أوجده الشرق في عصرنا الحاضر" (1).
- وقال عنه الدكتور أحمد مظهر -رئيس قسم اللغة العربية بجامعة البنجاب بلاهور-: "لم يكن إقبال شاعر مسلمي شبه القارة وحدهم أو شاعر العالم الإسلامي الشرقي وحده، وإنما كان من هؤلاء الآحاد الأفذاذ الذين قلما يجود الزمان بهم، فهو شاعر الإسلام وشاعر الشرق، وشاعر الإنسانية كلها" (2).
- قال عنه الدكتور عبد الوهاب عزام: "محمد إقبال شاعر نابغة، وفيلسوف مبدع، شاع ذكره وانتشر شعره وفلسفته في الهند، ولا سيما بين المسلمين فيها، ثم اتسع صيته وشاعت آراؤه في العالم، ولا سيما بعد أن قامت دولة باكستان العظيمة، وهي حقيقة تخيلها والناس منه يضحكون، ويقظة حلم بها والبائسون منه يسخرون، ولا يزال أنصاره وتلاميذه يكثرون على مر الأيام إعجابًا بفلسفته، فلسفة الحياة والأمل والعمل، وإكبارًا للمفكر المؤمن، والفيلسوف الذي لا يأسره الزمان، ولا يخضعه تقلب الحدثان، والشاعر الذي ينفخ الحياة في الموات، وينضر في القفر ألوان النبات، ويشعل الجمر الخامد في الرماد الهامد" (3).
__________
(1) "روائع إقبال" لأبي الحسن الندوي (ص 68).
(2) مقدمة كتاب "إقبال العرب على دراسات إقبال" جمع الدكتور أحمد مظهر، نقلاً عن كتاب "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي" لمحمد العربي بوعزيزي - دار الفكر المعاصر - لبنان - دار الفكر سورية.
(3) "فلسفة إقبال وأساسها" للدكتور عبد الوهاب عزام (ص 13) من كتاب "إقبال العرب على دراسات إقبال".
(2/291)
________________________________________
- وقال عنه الدكتور أحمد مظهر: "ولو كان إقبال شاعرًا نابغًا لكفاه، ولو كان فيلسوفًا مبدعًا لكفاه، ولو كان مصلحًا اجتماعيًّا أو زعيمًا سياسيًّا لكفاه، ولكن الله سبحانه وتعالى قد وهبه شخصية جامعة لهذه الأوصاف النبيلة".
واعتبره الدكتور نجيب الكيلاني أحد أولئك القلائل الذين بعثوا النور في سماء الشرق من أمثال الأفغاني!!! ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم (1).
وقال أيضًا: "إن إقبال شاعر الإسلام وفيلسوفه الكبير، وصاحب فكرة إنشاء دولة باكستان، هو أول أديب مسلم في العصر الحالي، استطاع أن يستلهم الإسلام في وضع فلسفته المشهورة -فلسفة الذات أو (خودي) - وكان شعره وعاءً لهذه الفلسفة التي آمن بها ودعا إليها في صدق وحرارة، ولم يحظ شاعر أو فيلسوف مسلم بشهرة تضارع شهرة شاعرنا الكبير في هذا العصر" (2).
- وكانت شخصية إقبال الإصلاحية مثار اهتمام الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور فأبرز ما قام به من دور فعال في سبيل الدعوة إلى تأسيس الباكستان من ناحية، وحفظ كيان المجتمع الإسلامي من الذوبان والتلاشي من ناحية أخرى (3).
- وقال" عنه محمد علي جناح أول رئيس لباكستان: "كان شاعرًا منقطع النظير، طبق صيته الآفاق، وستبقى كلماته حية أبدًا. إن مساعدته لأمته وبلده لتضعه في صف أكبر كبراء الهند".
__________
(1) "إقبال الشاعر الثائر" لنجيب الكيلاني (ص 6) - مؤسسة الرسالة.
(2) "الإسلامية والمذاهب الإسلامية" لنجيب الكيلاني (ص 49).
(3) "محاضرة ألقاها الشيخ ابن عاشور حول محمد إقبال بتاريخ 24/ 4/1961 تحت إشراف سفارة باكستان.
(2/292)
________________________________________
كتب إلى محمد علي جناح: "إنه ينبغي على مسلمي الهند من أجل أن يتيسّر عليهم حلّ مشكلاتهم إعادة توزيع البلاد، وإقامة دولة إسلامية -أو أكثر- فيها أغلبية ساحقة لهم. أولاً: تعتقد أن الوقت لمثل هذا المطلب قد حان بالفعل؟ ولعلّ هذا هو أقصر رد يمكن أن تردّ به على الاشتراكية الإلحادية لجواهر لال لنهروا" (1).
وتحقق أمله ويكفيه هذا فخرًا.
- وقال الدكتور نظير قيصر الباكستاني: "هو بدون شك شاعر الشرق وحكيم المله فيلسوف العالم الإسلامي وهو في الوقت نفسه شاعر الكون بأسره".
- ولقبّه شعراء الهند (ترجمان حقيقت) أي (ترجمان الحقائق).
- وأبرز الأستاذ أحمد حسن الزيات دور إقبال في الدفاع عن المحمدية فقال: "فإذا كان حسّان شاعر الرسول فإن إقبالاً شاعر الرسالة، وإذا كان لحسّان من نازعه شرف الدفاع عن - صلى الله عليه وسلم - فليس لإقبال من ينازعه شرف الدفاع عن المحمدية" (2).
- وقال عنه الدكتور عبد الودود شلبي: "فإذا كان للعرب في عصرهم الحاضر شاعر يلقب بأمير الشعراء هو أحمد شوقي، فقد كان أمير شعراء الإسلام في عصرنا الحاضر من غير منازع هو العلاّمة الدكتور محمد إقبال" (3).
__________
(1) "رسائل إقبال إلى جناح" (ص 17 - 18).
(2) "تحية لذكرى إقبال" للأستاذ الزيات (ص 27)، من مقال له ضمن كتاب "إقبال العرب على دراسات إقبال".
(3) مقال: "محمد إقبال أمير شعراء الإسلام" للدكتور عبد الودود شلبي بمجلة الأزهر (ص 206) السنة 50، الجزء الأول - مارس 1978 - الذكرى المئوية لميلاد إقبال.
(2/293)
________________________________________
- وقال عنه الأستاذ فتحي رضوان: "محمد إقبال رمز لأحسن ما في الحياة الإنسانية".
- وذهب طه حسين إلى أن إقبال فرض نفسه على الدنيا وعلى الزمان، وأن المسلمين احتاجوا إلى نحو عشرة قرون ليوجد بينهم ثان لأبي العلاء.
- وذهب توفيق الحكيم إلى أن "الشاعر محمد إقبال هو مفخرة من مفاخر الشرق في عصوره الحديثة، فهو الخلاصة للمعرفة الكونية النابعة من الشرق، وللمعرفة العقلية الصادرة عن الغرب .. لذلك كان إقبال هو بحق المفكر المجدد في فهم الإسلام والكاشف الصادق لجوهره العظيم" (1).
- ويرى الدكتور طه حسين أن إقبال كان ينظر إلى العرب ويشيد بهم ويثني عليهم، ويتخذهم المثل الأعلى للإنسانية الجديرة بالوجود والحياة والبقاء (2).
- ولقد عرّى إقبال حضارة الغرب ونقدها وهو العليم بها وقال: "يا ساكني ديار الغرب ليست أرض الله حانوتًا، إن الذي توهَّمتموه ذهبًا خالصًا سترونه زائفًا، وإن حضارتكم ستبعج نفسها بخنجرها، إن العزّ الذي يُبنى على غصن غض رقيق لا يثبت" (3).
- ولقد أشار إقبال إلى أنه اكتوى بنار التعليم الغربي وخاض في دراسته، ولكنه مع ذلك خرج سالمًا وازداد إيمانًا بخلود الإسلام ومبادئه
__________
(1) من مقال: "إقبال العظيم" لتوفيق الحكيم ضمن كتاب "محمد إقبال قصائد ودراسات".
(2) مقال بعنوان "إقبال فرض نفسه على الدنيا والزمان" لطه حسين (ص 3) مجلة الوعي الباكستانية العدد 31 - السنة 6 - مايو 1988 م.
(3) "فلسفة إقبال" للدكتور حسون (ص 12)، و"إقبال الشاعر الثائر" لنجيب الكيلاني (ص 32 - 33).
(2/294)
________________________________________
السامية، كما خرج إبراهيم عليه السلام من نار نمرود، فقال: "كسرت ظلم العصر الحاضر، وأبطلت مكره، التقطت الحبة وأفْلتُ من شبكة الصياد، يشهد الله أني كنت في ذلك مقلدًا لإبراهيم، فقد خضت في هذه النار واثقًا بنفسي، وخرجت منها سليمًا محتفظًا بشخصيتي" (1).

* إِقبال حبيب إِلى النفوس ولكن الحق أحب إِلينا منه:
- قوله في صفات الله عز وجل:
الحق أن إقبالاً يؤيد مسلك السلف وما أرشد إليه الكتاب والسنة في هذا الباب، ولكنه تأثر كثيرًا بتفسير الصوفية وتفسير بعض فلاسفة الغرب في ذلك. مثل كانط وهيجل وهوايتهيد وبرجسون. ومن الصحيح كذلك أنه لم يستند كثيرًا إلى أقوال المفسرين والمحدثين والمتكلمين المسلمين في شرح نصوص القرآن والسنة، في محاضراته ومقالاته ودواوينه. ولذلك نجد أن كلامه غامض في غالب الأحيان، ومثقل باستخدام مصطلحات التصوف وفلسفة الغرب في شرح أفكاره.
ومن الصفات التي وصف بها إقبال الله سبحانه وتعالى، أنه الذات الحقيقية والنهائية والأولى وواجبة الوجود، وهو الذات العليا والنفس العظمى والفرد الكامل الأعظم. وهو الإرادة الخالقة والقوة المحركة والنور الأصلي والأزلي الأحد، الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد (2).
ويقول: " .. صفة العلم وصفة الخلق أمر واحد" (3).
__________
(1) "روائع إقبال" (ص 78).
(2) "تجديد الفكر الديني في الإسلام" لمحمد إقبال (ص 75)، و"محمد إقبال موقفه من الحضارة الغربية" لخليل الرحمن عبد الرحمن (ص 172 - 173) - دار حراء.
(3) "تجديد الفكر الديني" (ص 91 - 94).
(2/295)
________________________________________
وانظر إلى كلامه عن العلم والقدرة. والواقع أن إقبالاً قد حار في كلامه هذا حيرة الفلاسفة والمتصوفة.

* وحدة الوجود ووحدة الشهود:
لقد تضاربت آراء دارسي فكر إقبال حول موقفه من فكرة وحدة الوجود. فمنهم من رأى أنه ظل معتقدًا بها طوال حياته، ومن بين من قال بذلك تلميذ إقبال وشارح دواوينه الأستاذ يوسف سليم جشتي، ومنهم من رأى أنه كان يعتقد بها في أول عهده، ثم رفضها وندد بها حين رتب منظومة "الأسرار والرموز" بعد رجوعه من أوربا، وذلك رأي معظم الكتاب عن فكر إقبال ومن بين من رأى ذلك الدكتور سيد عبد الله وخليفة عبد الحكيم والدكتور ظ. الأنصاري (1). ومنهم من رأى أن إقبالاً لم يكن يعتقد بها في أول عهده ولكن اعتنقها خلال الفترة الأخيرة من حياته. والقائل بذلك الأستاذ ميكش أكبر آبادي في كتابه "نقد إقبال" (2)، ويرى الأستاذ جكن نات آزاد الهندوكي أن إقبالاً ظل يعتقد بتلك الفكرة طيلة حياته، ما عدا فترة ما بين رجوعه من أوروبا في عام 1908 م، وبين نشر ديوانه" "رسالة المشرق" (3).
ويرى السيد نذير نيازي صاحب إقبال لمدة طويلة ومترجم محاضراته "تجديد التفكير الديني" إلى الأردية تحت إشراف إقبال نفسه، أنه لم يعتنق تلك الفكرة ليوم واحد لا في أول عهده ولا في آخره، غير أنه وجد بيئة صوفية
__________
(1) انظر مجلة "نقوش" لاهور، العدد 121، (ص 122 - 125)، و"إقبال كي تلاش" للدكتور ظ. أنصاري، (ص 9، 26 و120)، و"فكر إقبال" للدكتور خليفة عبد الحكيم، الناشر ايجوكيشنل بك هاؤس عليكره، ط 1977، (ص 274 - 275).
(2) انظر نقد إقبال للأستاذ ميكش أكبر آبادي، الناشر آثينة أدب، لاهور ط 1970 م، (ص 306، 307).
(3) انظر": "إقبال أوراس كاعهد" للأستاذ جكن نات آزاد، الناشر مكتبة الأدب لاهور، ط 1977 م، (ص 83 - 84).
(2/296)
________________________________________
في أسرة نشأ بها، فسمع شيئًا عنها وتأثر بها تأثرًا ما، كما أنه وجد معظم الشعر الأردي والفارسي مصطبغًا بتلك الفكرة، فنسمع صداها في بعض أبيات نظمها إقبال خلال الفترة الأولى لشعره، بينما نجد أن أستاذه المولوي السيد مير حسن كان معروفًا باتجاهاته الوهابية وكان يتهم أحيانًا بالطبيعية.
ففكرة وحدة الوجود لم تصل إلى مستوى العقيدة في فكر إقبال وشعره في يوم من الأيام (1).
ورأي السيد نذير نيازي هذا يبدو لنا أقرب إلى الصواب، فإن إقبالاً كان متأثرًا بحركة السيد المجدد السرهندي لتطهير التصوف من الأفكار غير الإسلامية أو العجمية، على ما يسميه إقبال. والسيد السرهندي قد ردّ ردًّا عنيفًا على أفكار محي الدين بن عربي الأندلسي، رأس القائلين بوحدة الوجود. فكان من قوله ضمن بعض رسائله: إن ابن عربي قد زلقت رجله في أثناء الطريق، وانخدع بما يعترى السالك من الأحوال في سفره الروحي ويتراءى له من وحدة هذا الوجود فلو تقدم خطوة لشاهد أن لا وحدة بين وجود العبد والمعبود، وأن الله هو الوراء ثم وراء الوراء ثم وراء الوراء. وقد سمى السيد المجدد هذه الوحدة التي تتراءى أثناء سلوكه بمرحلة وحدة الشهود لا بوحدة الوجود في الحقيقة. وكذلك جاء ضمن بعض رسائله: "إننا نحتاج إلى النصوص لا إلى الفصوص" (2).
وانظر قوله ضمن مقدمة "الأسرار والرموز" (3).
__________
(1) انظر "دانأي راز" للسيد نذير نيازي (ص 428 - 451).
(2) انظر "تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند" لمسعود عالم الندوي" (ص 112 - 113) ومجلة "نقوش" العدد 121، (ص 120 - 121)، ويقصد السيد المجدد بالنصوص نصوص الكتاب والسنة وبالفصوص كتاب "فصوص الحكم" لابن عربي.
(3) مقدمة "الأسرار والرموز" لإقبال تعريب الدكتور عزام ضمن كتابه "محمد إقبال" (ص 86 - 88).
(2/297)
________________________________________
* رأي إِقبال في النبوّة:
محبة إقبال للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعنى حبه لديه اتباع سنته واقتفاء أثره - صلى الله عليه وسلم -:
- يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي عن حب إقبال للرسول - صلى الله عليه وسلم -:
"لقد عاش الدكتور محمد إقبال شاعر الإسلام وفيلسوف العصر -مدة حياته- في حب النبي - صلى الله عليه وسلم - والأشواق إلى مدينته، وتغنى بهما في شعره الخالد. وقد طفح الكأس في آخر حياته، فكان كلما ذُكِرت المدينة فاضت عينه وانهمرت الدموع. ولم يقدر له الحج وزيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بجسمه الضعيف، الذي كان من زمان يعاني الأمراض والأسقام. ولكنه رحل إلى الحجاز بخياله القوي، وشعره الخصب العذب، وقلبه الولوع الحنون، وحلق في أجواء الحجاز وتحدّث إلى الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - بما شاء قلبه وحبه وإخلاصه ووفاؤه (1)، وتحدّث إليه عن نفسه، وعن عصره، وعن أمته وعن مجتمعه. وقد فاضت في هذا الحديث قريحة الشاعر، وانفجرت المعاني والحقائق التي كان الشاعر يغالبها ويمسك بزمامها وينتظر فرصة إطلاقها، وقد رأى أن فرصتها قد حانت .. فكان شعره في النبي الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، من أبلغ أشعاره وأقواها، وكان حشاشة نفسه وعصارة عمله وتجاربه، وكان تصويرًا لعصره وتقريرًا عن أمته وتعبيرًا عن عواطفه" (2).
- وفي معنى حاجة المسلمين إلى التمسك بتعاليم السنة، يقول إقبال في "رموز اللاذاتية" تحت عنوان "الرسالة":
"بالرسالات بدا تكويننا ... شرعنا منها ومنها ديننا
__________
(1) يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: ليس هذا الحديث من الاستعانة في شيء. إنما هو أسلوب من أساليب الشعر والحب، استعمله شعراء إيران والهند قديمًا وحديثًا.
(2) "روائع إقبال" للأستاذ أبي الحسن علي الندوي (ص 170 - 171).
(2/298)
________________________________________
ذاك من "يهدي إِليه من يريد" ... حلقة منها حوالينا يشيد
خلقة ذات محيط يعجز ... ساحة البطحاء فيها مركز
نحن مما جمعتنا أمة ... أرسلت للناس فيها الرحمة
موجنا في بحرها متصل ... موجة من موجة لا تفصل
أمة في حرز سور الحرم ... في حفاظ مثل "أسد الأجم"
نظرة الصديق رب الفهم ... وإِلى القلب من الربّ أحب
فالنبي الروح فينا والعصب ... شرعه حبل وريد الأمة" (1)
- ويقول، تحت عنوان "إن حسن سيرة الأمة المسلمة من التأدب بالآداب المحمدية":
"أنت كمّ في فروع المصصفى ... فتفتح في ربيع المصطفى
نظرة من روضه فالتمس ... وسنا من خلقه فاقتبس
مرشد الروم الذي قطرته ... قد حوت بحرا، سمت قولته:
"لا تجدّ الحبل من خير البشر ... لا تقل عندي فنون وبصر"
فطرة المسلم طرا رأفة ... قوله والفعل كل رحمة
__________
(1) ترجمة "الأسرار والرموز" للدكتور عزام (ص 96)، وراجع للنص الفارسي، م/26، و"يهدي إليه من يريد" إشارة الى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج: 16]، و"أسد الأجم" إشارة إلى بيت البردة:
"أحل أمته في حرز ملته ... كالليث حل مع الأشبال في أجم"
وأما ما قاله إقبال من أن النبي قد يكون أحب إلى قلوبنا من الرب تعالى فلعل قصده به أن النبي أقرب إلى مداركنا ومشاعرنا لكونه من جنسنا فالقلب يعشق إليه بسهولة وبأدنى معرفة به بينما الله سبحانه تعالى أحب إلى المؤمنين من كل شيء فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .. } [البقرة: 165]، فيمكن أن يكون الرسول أحب عاطفيًّا لا عقليًّا وواقعيًّا.
(2/299)
________________________________________
لعظيم الخلق من شق القمر ... رحمة عمّت ونور للبشر
لست من معشرنا فاعتزل ... إِن تكن منه بعيد المنزل" (1)

* جُهوده في الرّد على القاديانية في مسألة ختم النبوة:
قام إقبال ببذل جهود جبارة في الرد على القاديانية القائلة بأن سلسلة النبوة لم تنته برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ففي مايو 1935 م نشر إقبال مقالة في الرد على القاديانية، تحت عنوان "القاديانية والمسلمون" فقام الزعيم الهندوكي البانديت جواهر لال نهرو، يرد عليه مدافعًا عن القاديانية فكتب إقبال عدة مقالات بالإنجليزية في جواب نهرو، دافع فيها عن مسألة ختم النبوة برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ببالغ حماسة وحكمة (2).
- يقول الأستاذ مسعود عالم الندوي عن جهاد إقبال في ردّ القاديانية:
"ولصاحبنا (إقبال) مأثرة جليلة أخرى في باب الدعوة الدينية والدفاع عن حرمة الدين المبين، لا تنسى أبد الدهر. ولو لم يكن من أعماله الجليلة الخالدة إلا هذه المأثرة العظيمة لكفته فخرًا في الدنيا وذخرًا في الآخرة، ألا وهو موقفه الجليل المشهود بإزاء النحلة القاديانية الضالة المضلة، في السنين الأخيرة من حياته .. إن الزعيم جواهر لال نهرو كتب مقالتين .. ينكر فيهما على الجمعيات المسلمة الدينية حركتها ضد القاديانية ويؤيد جانب القاديانية.
وفي مثل هذه الأحوال انبرى المسلم المؤمن محمد إقبال للدفاع عن حظيرة الإسلام وردّ كيد القاديانية في نحورها. وتطهير الدين المبين من أرجاسها
__________
(1) ترجمة "الأسرار والرموز" للدكتور عزام" (ص 119 - 120)، وراجع للنص الفارسي (م/27)، ونسب شق القمر إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجازًا والمعنى الحقيقي أن الله تعالى شقّ القمر معجزة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(2) "سيرة إقبال" للفاروقي (ص 426 - 428).
(2/300)
________________________________________
وأدناسها. فنشر تصريحات عديدة في الصحف، بين فيها موقف الإسلام بإزاء هذه النحلة المارقة التي تؤمن بنبوة الغلام القادياني الكذاب، وكشف عن عورات القاديانيين، وأماط اللثام عن خدماتهم للاستعمار البريطاني وتمسكهم بأذياله" (1).

* مناقشة رأي إِقبال في النبوة:
"إذا نظرنا في تفسير إقبال للنبوة نظرة دقيقة، وجدنا أنه أخطأ في عديد من الأمور. منها:
أولاً: أن النبوة ليست ضربًا من الوعي الصوفي، كما توهم إقبال، فإنه يقول في تعريف النبوّة: "إنها ضرب من الوعي الصوفي ينزع ما حصّله النبي في مقام الشهود إلى مجاوزة حدوده وتلمس كل سانحة لتوجيه قوى الحياة الجمعية توجيهًا جديدًا، وتشكيلها في صورة مستحدثة" (2).
- وهذا القول منه ليس بصواب فإن الله تعالى يختار النبي من عباده ويصطفيه من بينهم حسب إرادته وحكمته فإنه تعالى أعلم حيث يجعل رسالته. فالنبوة موهبة ومكرمة وتكليف من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده ويحمّلها من يختاره منهم، على خلاف أمر الوعي الصوفي فإنه يحصل عليه بممارسة الرياضة الصوفية كل من يجتهد في الحصول عليه. فالنبوة مرتبة لا يمكن أن يتشرف بها أحد من اختياره وكسبه ورياضته، والوعي الصوفي يمكن الحصول عليه بالكسب والاجتهاد، وإذا كانت الولاية بالمصطلح الصوفي، ليس من الضروري الحصول عليها بالكسب والاجتهاد، مع أنها
__________
(1) "تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند" لمسعود عالم الندوي (ص 219 - 220) بتصرف في العبارة.
(2) "تجديد الفكر الديني" (ص 143).
(2/301)
________________________________________
أدنى رتبة من النبوة، فليست كل صوفي وليًا، كما أنه ليس كل ولي صوفيًّا، فكيف بالنبوة؟ ويوهم تفسير إقبال للنبوة المبيّن في "تجديد الفكر الديني" أنه يمكن التشرف بها بالكسب والاجتهاد، وذلك خطأ واضح، فإن الأنبياء قد وهبوا النبوة مفاجأة، مثل قصة سيدنا موسى عليه السلام، فإنه لم يكن على معرفة أن الله تعالى قد اختاره للنبوة حتى لحظة أن رأى نارًا في طور سيناء، وكلمه الله تعالى وأخبره باختياره نبيًّا، وكذلك سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على معرفة من أنه سوف يُختار للنبوة حتى إذا نزل عليه الروح الأمين في جبل حراء، وألقى إليه رسالة الله تعالى، رجع إلى البيت وهو خائف، يقول: زمّلوني ودثّروني. فلو كان الوحي نوعًا من وعي يتحصل بقطع المدارج الصوفية وسلوك المناهج الروحية المعتادة لدى الصوفية، لما حدثت تلك المفاجأة عند نزول الوحي في أول الأمر، على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسيدنا موسى عليه السلام. ففي هذا التفسير انخدع إقبال بآراء الصوفية الذين يفسرون النبوة والولاية بتفاسير ليس لها برهان منزل من الله تعالى، حتى قد اغتر بعضهم إلى حد أنه قال: إننا، معشر الصوفية أفضل من الأنبياء؛ لأن اتصالنا بالله تعالى مباشر واتصال الأنبياء به تعالى يحتاج إلى واسطة وهي الملائكة.
ثانيًا: أن إقبالاً لم يشرح في تفسيره كيفية نزول الوحي بواسطة الملائكة والروح الأمين، فإن الروح الأمين هو الذي يقوم بنقل الوحي إلى الأنبياء، ولم يشر إقبال في تفسيره إلى هذه المسألة مطلقًا.
ثالثًا: يوهم تفسير إقبال كأن النبوة عمل خاص للنبي وله فيه رغباته وتصرفاته وليس ذلك حقًّا، فإن النبيّ مأمور بأوامر الله تعالى، فإنه تعالى يربيه للتجرد إليه والعمل من أجل مرضاته حتى لم تعد للنبي رغبة ذاتية، ولو للهداية، فقد قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
(2/302)
________________________________________
* وقال تعالى: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.
* وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].
والفارق الذي أوضحه إقبال بين عمل الصوفي وعمل النبي من أن عمل الصوفي يبقى فرديًّا، وعمل الرسول ينتقل إلى المجتمع، صحيح ولكن عمل الرسول ليس من عند نفسه، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاد خائفًا حين نزل عليه الوحي في بدء الأمر، وقال: دثروني وزملوني ولم يقل: إني مارست هذه التجربة، فتعالوا، أيها الناس، وأوجدوها في حياتكم.
رابعًا: لا شك في أن للعقل دورًا بالغًا في بناء المجتمع وتوجيهه وتطوير العلوم والتجارب ولكن له مجال محدد وليس في استطاعته إقامة ميزان ثابت يميز به الحق من الباطل. فدور العقل في الإسلام مقيد بالوحي والأمة المسلمة مسئولة أن تحمل رسالة الإسلام في ضوء ذلك الوحي المنزل، وليس العقل في المنهج الإسلامي حرًّا طليقًا في تصرفاته يحرم ما يشاء ويحلل ما يشاء كما يوهم تفسير إقبال هذا.
- والواقع أن إقبالاً متأثر ومنخدع في رأيه أن العقل حلّ محلّ الوحي في العصر الحاضر، بأفكار الغربيين. والواقع كذلك أن هذا الرأي لا يمثل وجهة نظره الشاملة في هذا الشأن، فإنه قد أعطى القرآن الكريم حقه والسنة النبوية حقها في أكثر من موضع من دواوينه ومقالاته، فقال مثلا، ضمن منظومة "رموز اللاذاتية":
"إن دين محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو دين الحياة وشرعه شرح لنظام الحياة. وإذا فقدت الأمة أسوة الرسول تفقد وجودها وبقاءها".
وقال كذلك، تحت عنوان "إن الأمة لا تنتظم بدون شريعة وشريعة
(2/303)
________________________________________
الأمة المحمدية القرآن الكريم:
"لكتاب الله حق، فاقرأن ... كل ما تبغيه، منه فاطلبن"
وقال:
"وحدة الشرع حياة الأمة ... فمن القرآن روح الملة
نحن طين وهو قلب لا جرم ... هو "حبل الله" من شاء اعتصم
فانتظم في سلكه كالدرر ... أو غبارا في الرياح انتثر" (1)
- يرى إقبال أن النبوة ضرب من الوعي الصوفي يستعمل فيه النبي ما حصّله في مقام الشهود في سبيل توجيه قوى الحياة توجيهًا جديدًا. ورغبة النبي في أن يرى رياضته الدينية تتحول إلى قوى عالمية حية رغبة تعلو على كل شيء. واختبارها ليس إلا اختبار هذه القوى الحية التي أوجدها النبي في إطار إنشائي بالميزان التاريخي فعندما يتغلغل النبي فيما يواجهه من أمور مستعصية وينفذ إلى أعماقها تتجلى له حينئذ نفسه، فيعرفها ويزيح القناع عنها فتراها أعين التاريخ. ولهذا كان من بين ما يحكم به على قيمة دعوة النبي ورسالته، البحث في نوع البطولة الإنسانية التي ابتدعها، والفحص عن العالم الثقافي الذي انبعث عن روح دعوته.
ثم يوضح إقبال طبيعة الوحي باعتباره الصلة القائمة بين الله والنبي، ويرى أنه ظاهرة عامة من ظواهر الوجود. فالظواهر البيولوجية والفسيولوجية في عالمي الحيوان والنبات إنما تستمدّ اتجاهها من الإلهام الذي يوجه الحياة كلها
__________
(1) ترجمة "الأسرار والرموز" للدكتور عبد الوهاب عزام، و"محمد إقبال مفكرًا إسلاميًّا"
لمحمد الكتاني (ص 71 - 73). و"تجديد الفكر الديني في الإسلام" لإقبال (ص 142 - 144)، و"محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية" لخليل الرحمن عبد الرحمن (ص 182 - 189).
(2/304)
________________________________________
في اتجاهها الخلاق. والقرآن نفسه يستعمل الوحي لعوالم مختلفة، كقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68].
وهكذا يعتبر إقبال النبوة ظاهرة طبيعية أملتها المراحل التطورية للبشرية. ففي طفولة البشرية كانت القوى ********ة تتطور أحيانًا، إلى ذروة الوحي النبوي لتوجيه الناس وتحقيق مصالحهم. فالنبوة التي هي ثمرة القوى ********ة الفطرية، كانت وسيلة للاقتصاد في التفكير وتمييز النافع من الضار، غير أنه بنمو ملكة العقل والتفكير لدى الإنسان أخذت الحياة نفسها تعمل لكبت تلك القوى التي لا تعتمد في معارفها على التفكير الاستدلالي.
وهكذا عرفت الإنسانية في تاريخها طورين عظيمين:
1 - طورًا اعتمدت فيه على قواها الروحية، ممثلة في الوحي.
2 - طورًا نسخ ذلك الطور السابق وتميز باعتمادها على القوى العقلية المنظمة. ورسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - صلة وصل بين الطورين أو العالمين، عالم الفطرة وعالم العقل. فهو من عالم الفطرة باعتبار مصدر رسالته وهو الوحي، وهو من العالم الحديث، عالم العقل، باعتبار مضمون رسالته يعني ما احتوته رسالة الإسلام والنص القرآني من دعوة صريحة إلى استعمال العقل، وحث على النظر في الكون، بحيث اعتبرت هذه الدعوة فريضة دينية قائمة. وهكذا ينص إقبال على أن النبوة في الإسلام تبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على زمام يقاد منه، وأن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو، وأن مخاطبة القرآن للعقل وحثه على التجربة على الدوام، وإصراره على أن النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة
(2/305)
________________________________________
الإنسانية، كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة (1).

* قضية الجبر والقدر في فكر إقبال:
في مسألة كون الإنسان مختارًا أو مجبرًا في إرادته وأعماله، يذهب إقبال إلى أن الله تعالى قد منح الإنسان حرية واسعة لإبراز إمكانياته واختيار أعماله ومراداته. وعمل القضاء والقدر ليس من خارج الأشياء أو النفوس، بل من داخل إمكانياتها واستعداداتها، ويؤثر القدر تأثيره داخل حدود الزمان والمكان. يقول إقبال في "تجديد التفكير الديني":
"الزمان باعتباره كلاً مركبًا، هو الذي يسميه القرآن، "التقدير" وهي كلمة أسيء فهم معناها كثيرًا في كل من العالم الإسلامي وفي خارجه.
والتقدير هو الزمان عندما ننظر إليه على أنه سابق على وقوع إمكانياته: هو الزمان الخالص من شباك تتابع العلة والمعلول .. والزمان بوصفه تقديرًا هو ماهية الأشياء ذاتها، كما جاء في القرآن {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، فتقدير شيء إذن ليس قضاءً غاشمًا يؤثر في الأشياء من خارج، ولكنه القوة الكامنة التي تحقق وجود الشيء، وممكناته التي تقبل التحقق، والتي تكمن في أعماق طبيعته وتحقق وجودها في الخارج بالتالي، دون أي إحساس بإكراه من وسيط خارجي" (2).
ويرى إقبال كذلك أن قوة الاستبصار والسيطرة المدبرة الملحوظتين في نشاط النفس تكشفان عن حقيقة الحرية التي منحها الله للإنسان، بعد أن هيأه لتحمل مسئوليته من تلقاء نفسه في اختيار تشكيل مصيره وتحديد سلوكه
__________
(1) انظر "محمد إقبال، مفكرًا إسلاميًّا" لمحمد الكتاني (ص 171 - 173)، و"تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 142 - 144).
(2) "تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 60 - 61).
(2/306)
________________________________________
مستدلاً بمثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
وإذا كان من غير الممكن إنكار مبدأ القضاء والقدر السابق لحرية الإنسان، كما يقرره القرآن، فإن إقبالاً يرى أن معنى هذا القدر أو التقدير يعطي للنفس الإنسانية قوة عظيمة على مواجهة الضرورات التي لا مفر منها.
والقرآن نفسه -في رأي إقبال- يقرّ بحقيقة من حقائق النفس الإنسانية، وهي الارتفاع والانخفاض في قدرة الإنسان على اختيار أفعاله.
وحاول إقبال أن يفسر ذلك على ضوء نظرية اشبنجلر Spengler-1880 - 1936 القائلة بأن الإنسان يمارس حياته بطريقتين: طريقة عقلية تقوم على فهم الكون باعتباره نظامًا ثابتًا من علة ومعلول وطريقة حيوية تقوم على الاستجابة المطلقة لضرورات الواقع الذي يعكس الزمان المتجدّد بما ينطوي عليه من خلق وإبداع. وهذه الطريقة الأخيرة هي التي يواجه بها المسلم الحياة، مفعمًا بالإيمان بضرورة ما يمليه التجدد الزماني الخلاَّق، وتبلغ نزعة الإيمان لديه بهذه الضرورة درجة من الخصب والعمق بحيث تفنى إرادته في إرادة الله المطلقة (القضاء والقدر) فتكتسب من ذلك حيوية وصلابة.
أما النزعة الجبرية التي سادت العالم الإسلامي، فيرى إقبال أن مرجعها إلى ما عرفه تاريخ المسلمين من أنظمة الحكم الجائر، وإلى تأثير الفلسفة التي طبعت النظام الكوني بالسببية المفضية إلى اعتبار العلة الأولى في إرادة الله وعنها يصدر كل شيء. فالمادية العملية التي ظهرت عند أمراء دمشق من بني أمية النهازين للفرص، احتاجت إلى سند يستندون إليه في سوء صنيعهم بكربلاء فقالت بقدر الله -يُروى أن معبد الجهني قال للحسن البصري: إن بني أمية يسفكون دماء المسلمين ويقولون إنما تجري أعمالهم على قدر الله
(2/307)
________________________________________
تعالى. فأجابه الحسن أنهم أعداء الله، وأنهم لمفترون. وهكذا نشأ -على الرغم من معارضة علماء الدين في الإسلام معارضة صريحة- القول بالقدر (1).

* مناقشة رأيه هذا في القدر:
يبدو أن إقبالاً قد حاول في تفسيره للقضاء والقدر أن يوفق بين طرفي الجبر والاختيار. فبكونه مسلمًا مؤمنًا بالله تعالى وبقدره، لم يستطع أن ينكر قدر الله وقضاءه إطلاقًا، ولكنه حين رأى أن القول بقدر الله والاتكاء عليه، قد دفع المسلمين خلال القرون الأخيرة، إلى ترك العمل والكفاح في حياتهم، وإلى الفشل في مقاومة التحديات التي واجهت العالم الإسلامي منذ قرون عديدة، ورأى كيف أن المستعمرين المستبدين استغلوا هذه النزعة وكيف انتهزوا هذه الفرصة لنهب الشعوب المتمسكة بهذا المبدأ، حاول أن يفسر عقيدة القضاء والقدر تفسيرًا يستطيع أن يوفق به بين الاعتقاد بقضاء الله تعالى، وبين كون الإنسان حرًا مختارًا في فكره وعمله، فرأى أن عملية تقدير الله تعالى لا تقوم بالأشياء والنفوس من خارجها، بل تأتي من داخل إمكانياتها، ولكنه في تفسيره ذلك، قد يندفع أحيانًا إلى القول: بكون واجب الوجود تعالى موجبًا في إرادته وأعماله، كما يزعم الفلاسفة، وأحيانًا إلى القول: بعدم وجود قضاء سابق من عند الله تعالى، قال:
"لا شك في أن ظهور ذوات لها القدرة على الفعل التلقائي، ومن ثم يكون فعلها غير متنبأ به، يتضمن تحديدًا لحرية الذات المحيطة بكل شيء.
ولكن هذا التحديد لم يفرض على الذات الأولى من خارج، بل نشأ
__________
(1) "تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 125 - 127)، "محمد إقبال، مفكرًا اسلاميًّا" لمحمد الكتاني (ص 83 - 84).
(2/308)
________________________________________
عن حريتها الخالقة التي شاءت أن تصطفي بعض الذوات المتناهية لتقاسمه في الحياة والقوة والاختيار" (1).
- والواقع أن إقبالاً ينزع إلى القول بقدر الإنسان وكونه حرًا مختارًا في سلوكه وتصرفه، كما ذهب إليه المعتزلة، فهو معتزلي النزعة في هذا الأمر.
وقد أخطأ في رأيه أن القول بقدر الله تعالى بدأ في الإسلام أيام بني أمية، فإن ذلك إنكار لبعض نصوص الكتاب والسنة الصريحة. ولعل الصحيح أن استغلال هذا المبدأ بدأ في تلك الأيام. وكذلك أخطأ إقبال في فهم أن بعض الذوات المتناهية مشاركة للذات اللامتناهية، في الخلق والاختيار، وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] فالخالقون في رأيه أكثر من واحد، والله تعالى أحسنهم.
ويرجع هذا الخطأ إلى عدم معرفته أسلوب اللغة العربية جيدًا وعدم إمعان الدراسة في ضوء الآيات الأخرى مثل قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] فالآية صريحة في حصر الخلق والأمر على الله تعالى.
* وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].
* وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40]. وأمثالها من الآيات.
ولم ينكر إقبال مبدأ القضاء والقدر على الإطلاق فإنه قد أوضح في عديد من المواضع أن الذات في نفسها بين اختيار وجبر، ولكنها إذا قاربت الذات المطلقة، نالت الحرية الكاملة. والحياة جهاد لتحصين الاختيار ومقصدًا لذات أن تبلغ الاختيار بجهادها، فإذا قاربت الذات المطلقة نالت
__________
(1) "تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 94).
(2/309)
________________________________________
الحرية الكاملة (1).
ويرى إقبال كذلك أن العبد ينال الحرية والاختيار، متقربًا إلى الله تعالى بأداء الصلاة وامتثال أوامره تعالى. وقد أريد بتعيين مواقيت للصلاة في كل يوم تخليص النفس من آثار الآلية الموجودة في النوم والعمل. فالصلاة في الإسلام خلاص للنفس ينقذها من الآلية إلى الحرية (2).
وأوضح إقبال وجهة نظره تجاه مسألة القضاء والقدر والاختيار والجبر ضمن شعره في عدة مواضع. منها ما قاله على لسان الحكيم المريخي ضمن ديوان جاويد نامه، حيث يتساءل: "زنده رود" (إقبال) الحكيم المريخي عن أن السائل والمحروم بقضاء الله وقدره، والحاكم والمحكوم بقضاء الله وقدره.
وليس من خالق للقدر سوى الله تعالى، فلا ينفع تدبير للخلاص من القدر ولا يغني منه حذر. فيردّ الحكيم المريخي عليه بقوله:
"إنك مخطئ تمامًا في فهم القدر. إن عليك لا أن ترضى فحسب بقدر الله، بل تطلب المزيد منه. فادع الله أن يحكم بقدر آخر إذا رمى قلبك بفعل قدر واحد، فإنك إذا طلبت. قدرًا جديدًا، كان ذلك أمرًا مشروعًا تمامًا، إذ لا نهاية لأقدار الله تعالى. حقًّا لقد فات أهل الأرض الشيء الكثير؛ لأنهم لم يعرفوا المعنى الدقيق للقدر، فأضاعوا بذلك قيمتهم الذاتية (نقود الذات) التي يمكنهم بها أن يتعاملوا مع الكون من ناحية ومع الخالق من ناحية أخرى.
فالقدر لا يعني أن يصبع الإنسان مجبرًا جبرًا خالصًا شأنه في ذلك شأن الجماد والنبات، فإن هذه السلبية طبيعة الفطرة الإنسانية.
أأقول لك سر القدر؟ إن هذا السر الدقيق تنطوي عليه جملة واحدة: إذا غيرت نفسك سيتغير هو الآخر، فلقد قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
__________
(1) انظر: "محمد إقبال" لمحمد الكناني (ص 85).
(2) "تجديد الفكر الديني" (ص 94).
(2/310)
________________________________________
ثم يضرب الحكيم المريخي بضعة أمثلة لتوضيح هذه القضية الدقيقة، فيقول:
كُن ترابًا يهبك القدر الرياح، كن حجرًا يقذف بك الزجاج. إذا كنت قطرة من الندى فالسقوط قدرك، وإذا كنت محيطًا من المحيطات فالثبات قدرك".
- ويستطرد الحكيم قائلاً:
"ربما أُلقي في روعك أن القدر حكم على بعض الناس أن يكدحوا طيلة حياتهم، دون أن يصلوا في النهاية إلى تكون الثروات، وأنه حكم بأن يحصل البعض الآخر على كنوز وثروات طائلة دون جهد يذكر .. ، إذا كانت هذه عقيدتك أيها الغافل، فإنها تؤدي بنا إلى القول بأن المحتاج سيظل أبدًا أكثر احتياجًا، ولن يصبح أي محتاج وفقير ثريًا أو غنيًا. فتبًّا لعقيدة تظل بك حتى تنام وما تزال تبقيك في نوم عميق. أهذا دين أم سحر وخرافة؟ أهذا دين أم حبة أفيون؟ ".
- ومنها قوله ضمن ديوان رسالة المشرق:
"لا يمكن الحكم بأنني مختار أو مجبر، فإنني تراب حيّ لا أزال أتقلب وأتحرك".
- ومنها قوله ضمن منظومة "حديقة الأسرار الجديدة":
"لقد كان من قول قائد معركة بدر (يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم -) الحق أن العبد حر من جهة ومجبر من جهة. فالإيمان بين الجبر والقدر".
وقد عدّ أبو عمران الشيخ إقبالاً ثالث ثلاثة ممن سعوا إلى النهل من الفكر الاعتزالي العقلاني، والدعوة إلى الحرية الإنسانية وما هؤلاء الثلاثة الذين سعوا إلى إحياء روح الفكر الاعتزالي مع مطلع القرن التاسع عشر
__________
(1) "محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية" (ص 189 - 194).
(2/311)
________________________________________
وبداية القرن العشرين سوى جمال الدين الأفغاني، ومحمد إقبال (1)

* البعث وخلود النفس لدى إِقبال (2):
يرى إقبال عن المصير الإنساني أن فكرة الإسلام الكلية عن الإنسان تؤكد البعث والخلود، إلا أن الحياة في هذه الدنيا هي التي تهيئ للإنسان مجال العمل من أجل تلك الغاية. وما الموت إلا ابتلاء نشاط يعقبه البعث.
وكان على إقبال أن يواجه مشكلة "البعث" ما دام قد انتهى إلى اعتبار النفس حقيقة قائمة، أو جوهرًا روحيًا يجاهد جهادًا موصولاً إلى اكتساب الوحدة والتكامل والحرية والخلود. فيقول في شرح تلك الفكرة:
"إن النهاية أي انقضاء الأجل ليس بلاء {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
وهذا أمر بالغ الأهمية ينبغي أن يفهم على وجهه الصحيح .. فالإنسان .. أو الذات المتناهية -بشخصيته المفردة التي لا يمكن أن يستعاض عنها بغيرها، سيقت بين يدي الذات غير المتناهية، ليرى عواقب ما أسلف من عمل وليحكم بنفسه على إمكانيات مصيره {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13 - 14]- فأيا كان المصير النهائي للإنسان، فإنه لا يعني فقدان فرديته. والقرآن لا يعد التحرر التام من التناهي أعلى مراتب
__________
(1) "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي" لمحمد العربي بوعزيزي - (ص 412 - 413) - دار الفكر.
(2) انظر رسالة الخلود ترجمة "جاويد نامه" للدكتور محمد السعيد جمال الدين (ص 195 - 198).
(2/312)
________________________________________
السعادة الإنسانية، بل "جزاؤه الأوفى" هو في تدرجه في السيطرة على نفسه، وفي تفرده وقوة نشاطه بوصفه روحًا، حتى أن منظر الفناء الكلي الذي يسبق يوم الحساب مباشرة، لا يمكن أن يؤثر في كمال اطمئنان الروح التي اكتملت نموًا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} [الزمر: 68].
ومن يكون أولئك الذين ينطبق عليهم هذا الاستثناء، إلا الذين بلغت أرواحهم منتهى القوة. فالإنسان في نظر القرآن متاح له أن ينتسب إلى معنى الكون وأن يصير خالدًا .. إن كائنًا اقتضى تطوره ملايين السنين ليس من المحتمل إطلاقًا أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع. وليس إلا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار، إذ يمكن أن ينتسب إلى معنى الكون: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10].
وكيف تكون تزكية النفس وتخليصها من الفساد؟ إنما يكون ذلك بالعمل {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2]، فالحياة تهيئ مجالاً لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب.
وليست هناك أعمال تورث اللذة، وأعمال تورث الألم، بل هناك أعمال تكتب للنفس البقاء أو تكتب لها الفناء. فالعمل هو الذي يعدّ النفس للفناء أو يكيفها لحياة مستقبلة. ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء هو احترامي للنفس فيّ وفي غيري من الناس. فالخلود لا نناله بصفته حقًّا لنا، وإنما نبلغه بما نبذل من جهد شخصي.
والبعث إذن ليس حادثًا يأتينا من خارج. بل هو كمال لحركة الحياة في داخل النفس. وسواء أكان البعث للفرد أم للكون، فإنه لا يعدو أن يكون نوعًا من جرد البضائع أو الإحصاء لا أسلفت النفس من عمل، وما بقيت
(2/313)
________________________________________
أمامها من إمكانيات.
"يجنح إقبال إلى تأويل حدوث البعث تأويلاً لا يخلو م مباينة لما عليه حقيقته في التصور الإسلامي، فهو يقول: "على أنه لا مفر للنفس من أن تكافح كفاحًا موصولاً حتى توفق إلى التماسك وإلى الفوز بالبعث" (1).
وعلى ذلك الأساس فالبعث ليس حادثًا يأتينا من الخارج، بل هو كمال لحركة الحياة داخل النفس كما يصرّح إقبال.
وتبدو مباينة وجهة نظر إقبال للتصور الإسلامي للبعث بوضوح في قوله: "وسواءً أكان البعث للفرد أم للكون فإنه لا يعدو أن يكون نوعًا من - جرد البضائع أو الإحصاء لما أسلفت النفس من عمل، وما بقي أمامها من إمكانات" (2) ا. هـ (3).

* الجنة والنار عند إِقبال حالتان لا مكانان:
أما الجنة والنار فهما حالتان، لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني أو لصفة أو حال. فالنار في تعبير القرآن: {نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 6، 7]، هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان لوصفه إنسانًا. أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الانحلال.
وليس في الإسلام لعنة أبدية. ولفظ الأبدية، الذي جاء في بعض الآيات وصفًا للنار، يفسره القرآن نفسه، بأنه حقبة من الزمان: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23]، والزمان لا يمكن أن يكون مقطوع النسبة إلى تطور الشخصية انقطاعًا تامًا. فالخلق ينزع إلى الاستدامة، وتكييفه من جديد يقتضي زمانًا.
__________
(1) "تجديد الفكر الديني" (ص 138)
(2) المصدر نفسه.
(3) "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي" (ص 442).
(2/314)
________________________________________
وعلى هذا فالنار، كما يصورها القرآن، ليست هاوية من عذاب مقيم يسلطه إله منتقم. بل هي تجربة للتقويم، قد تجعل النفس القاسية المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله. وليست الجنة كذلك إجازة أو عطلة.
فالحياة واحدة ومتصلة، والإنسان يسير دائمًا قدمًا، فيتلقى على الدوام نورًا جديدًا من الحق غير المتناهي الذي هو {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
ومن يتلقى نور الهداية الإلهية ليس متلقيًا سلبيًّا فحسب؛ لأن كل فعل لنفس حرة، يخلق موقفًا جديدًا، وبذلك يتيح فرصًا جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد" (1).
- لقد جانب إقبال الحقيقة الدينية المتعارف عليها في البعث والخلود في بعض الجزئيات، فهو مثلاً قد جعل من البعث فترة "لجرد البضائع"، وجعل الدار الآخرة موصولة بالدار الدنيا في حياة الإنسان، وأنه يمكن للمرء بعد موته أن يواصل عمله لمزيد من استكمال نموه النفسي وكماله الروحي، وهذا ما لا يقرّ به الإسلام الذي يرى الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وهي وحدها دار فرصة للعمل، وبموت الإنسان ينقطع عمله. والآخرة دار قرار وسكون وانقطاع عن العمل وجزاء عما قدّم الإنسان في الحياة الدنيا (2).

* يقول الدكتور خليل الرحمن عبد الرحمن فى كتابه "محمد إِقبال موقفه من الحضارة الغربية" (ص 197 - 199):
قد أخطأ إقبال في تفسيره لقضية البعث والخلود خطأين أساسيين:
أولاً: أنه رأى أن الجنة والنار حالتان لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني أو لصفة أو حال. وذلك رأي يعارض ما جاء به الكتاب والسنة. فإن الجنة والجحيم مكانان محسوسان، وليسا نفسيين
__________
(1) انظر "تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 140 - 141)، و"الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي (ص 398 - 400) - مكتبة وهبة بمصر.
(2) انظر "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي" (ص 445).
(2/315)
________________________________________
فحسب، على ما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلافًا، وعلى ما يشهد بذلك كثير من الآيات والأحاديث، مثل قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 30، 31].
* وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 27 - 30].
ثانيًا: إنه فسر الخلود والأبدية بحقبة من الزمن، تمنح النفس بعدها فرصة أخرى لاستئناف نشاطها وكفاحها، وليس في الإسلام، على ما يراه هو، لعنة أبدية، فالنار ليست هاوية من عذاب مقيم بل هي تجربة للتقويم، قد تجعل النفس القاسية تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله .. إلخ. وهذا تفسير يخالف، كذلك، إجماع الأمة، كما يعارض نصوص الكتاب والسنة الصريحة. فإن الآخرة ليست دار عمل وكفاح للنفس وإنما هي دار جزاء على أعمالها في الدنيا، فيما ينص عليه الكتاب والسنة. يقول الدكتور محمد البهي في هذا الخصوص:
"يلاحظ على تفكير إقبال أنه في محاولته شرح استمرار العالم، أو شرح خلوده وبقائه يرتفع في هذا الشرح عن المستوى الديني الذي يصوره الإسلام نفسه. وبذلك يبعد في تفسير النصوص التي استعان بها، عن مدلولاتها الطبيعية التي تلائم هذا المستوى .. فإذا جعل البعث فترة "لجرد البضائع"، وربط الدار الآخرة بالدار الدنيا في حياة الإنسان، فإنه يثير تساؤلاً عن (التكليف) من قبل الشرع ومدته، أهو في الدنيا والآخرة معًا؟. وتفسيره الخلود في النار عندئذ في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا}، بأنه حقبة وفترة ما، يعطي بعدها الإنسان فترة أخرى للبقاء، أو للعمل يدعو لبقاء الإنسان خلوده - يشرح أن الإنسان في نظر إقبال مكلف في الدارين معًا .. ولكن الإسلام ينظر إلى الدنيا على أنها دار ابتلاء وامتحان، وينظر إلى الآخرة على أنها دار
(2/316)
________________________________________
قرار وسكون، أي دار ينقطع فيها الامتحان والاختبار .. " (1).
- ويقول سيد قطب -رحمه الله- منبهًا إلى أن دفعة الحماسة لمقاومة انحراف معين، قد تنشئ انحرافًا آخر:
" .. أراد (إقبال) أن ينفض عن الفكر الإسلامي وعن الحياة الإسلامية ذلك الضياع والفناء والسلبية، كما أراد أن يثبت للفكر الإسلامي واقعية (التجربة) التي يعتمد عليها المذهب التجريبي ثم المذهب الوضعي!، ولكن النتيجة كانت جموحًا في إبراز الذاتية الإنسانية، اضطر معه إلى تأويل بعض النصوص القرآنية تأويلاً تأباه طبيعتها. كما تأباه طبيعة التصور الإسلامي.
لإثبات أن الموت ليس نهاية للتجربة، ولا حتى القيامة فالتجربة والنمو في الذات الإنسانية مستمران أيضًا، عند إقبال - بعد الجنة والنار. مع أن التصور الإسلامي حاسم في أن الدنيا دار ابتلاء وعمل، وأن الآخرة دار حساب وجزاء. وليست هنالك فرصة للنفس البشرية للعمل إلا في هذه الدار. كما أنه لا مجال لعمل جديد في الدار الآخرة بعد الحساب والجزاء" (2).
ومما يبدو أن إقبالاً في رأيه هذا متأثر تأثرًا ما، بفكرة التناسخ لدى الهندوس وبنظرية التطور الدائم المستمر لدى نيتشه، مع أنه يؤمن بانفصال الدارين، الدنيا والآخرة إيمانًا لا غموض فيه ولا شك، وذلك واضح من كتاباته وشعره. وقد تراجع إقبال عن رأيه هذا في آخر حياته على ما شهد به الأستاذ المودودي بأنه عاد صحيح العقيدة في أيامه الأخيرة (انظر إقباليات للمودودي ص 33).

* مفهوم التجديد عند إِقبال:
"إن العمل العظيم الذي أداه الدكتور محمد إقبال في مجال الإصلاح له
__________
(1) "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي (ص 425).
(2) "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" لسيد قطب، الناشر دار الشروق ط 1980، (ص 23).
(2/317)
________________________________________
قيمة كبرى لا ينساها التاريخ الإسلامي، والعمل المهم الذي أنجزه محمد إقبال هو أنه أعلن حربًا لا هوادة فيها ضد الغرب وحضارته المادية، فقد كان الرجل الوحيد في عصره الذي لا يدانيه أحد في تعمقه في فلسفة الغرب ومعرفته بحضارته وحياته، فلما نهض يفند فلسفته وأفكاره المادية بدأ يذوب سحر الحضارة الغربية الذي كان يبهر القلوب ويستولي على النفوس" (1).
بهذه الكلمات وصف الأستاذ أبو الأعلى المودودي جهود محمد إقبال (1877 - 1938) في مجال الإصلاح والتربية وهي شهادة لها وزنها من رجل عاصره وعرفه. ويضيق نطاق هذه الدراسة عن تعداد إصلاحات إقبال، إنما نعرض هنا لأحد كتبه الذي لا يذكر اسم إقبال في العالمين العربي والغربي إلا ويقرن به. ذلك الكتاب الذي كان في الأصل ست محاضرات ألقاها عام 1928 في الجامعات الهندية بطلب من الجمعية الإسلامية في مدراس وجمعت في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان:
(Reconstruction of Religious Thought Islam) وترجم إلى العربية بعنوان "تجديد الفكر الديني في الإسلام" فهذا الكتاب في بعض محتوياته يناقض ويهز الصورة التي رسمها العلامة المودودي لإقبال.
فهو في بعض فقرات الكتاب يحبذ صراحة تلك السرعة الكبيرة التي يتجه بها المسلمون روحيًّا نحو الغرب، بعد أن ظل التفكير الديني راكدًا خلال القرون الخمسة الأخيرة، ويرى أنه لا غبار على هذا الاتجاه؛ لأن الثقافة الأوربية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارًا لبعض الجوانب الهامة في ثقافة الإسلام، ورغم أنه أضاف أنه يخشى أن ينخدع المسلمون بالمظهر الخارجي
__________
(1) مجلة البعث الإسلامي - العدد الرابع - المجلد السادس عشر شوال 1391 هـ (ص 15) واقرأ نفس الرأي للعلامة أبي الحسن الندوي في الصراع بين الفكر الإسلامي والفكرة الغربية (ص 82 - 93).
(2/318)
________________________________________
البراق للثقافة الأوربية ويعجزوا عن إدراك كنهها وحقيقتها (1)، إلا أنه لم يخف إعجابه البالغ بالإصلاحات التركية التي لا يماري أحد أنها كانت حركة تغريب وقعت فيما خشاه إقبال نفسه، وهو الانبهار بالمظهر الخارجي للحضارة الغربية، ولكن إقبال كان يعتبرها حركة (اجتهاد) لإعادة بناء الشريعة من جديد على ضوء الفكرة والخبرة في العصر الحديث، ويصفها بأنها أكثر اتفاقًا مع روح الإسلام (2).

* كلام لا يُقبل من إقبال: ثناؤه على ما فعله أتاتورك وأقزامه:
ويشيد بالطريقة التي يمارس بها التركي (الاجتهاد) في قضاياه السياسية والدينية مستوحيًا على النحو الذي يفعله حقائق التجربة وحدها، لا التفكير الفلسفي المدرسي لفقهاء عاشوا وفكروا تحت ظلال أحوال من الحياة متباينة (3).
ويقول: إن نهضة الإسلام المرتقبة لا بد أن تحذو حذو المثال التركي وأن تفعل ما فعله الترك فتعيد النظر في تراث الإسلام العقلي (4).
ويستطرد للقول: إن معظم الأمم الإسلامية اليوم يكررون القول بالقيم التي قال بها السلف بطريقة آلية، أما تركيا فهي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية، وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، وهذه النقلة وهذه الحياة الجديدة الفسيحة الأرجاء المفعمة بالحركة لا بد أن تستحدث لتركيا مواقف توحي بآراء جديدة،
__________
(1) "تجديد الفكر الديني" إقبال (ص 14) والطبعة الإنجليزية P. 7.
(2) المصدر نفسه (ص 180) والإنجليزية P. 157.
(3) المصدر نفسه (ص 182) والإنجليزية P. 158.
(4) المصدر نفسه (ص 176)، والطبعة الإنجليزية P. 153.
(2/319)
________________________________________
وتقتضي تأويلات مستحدثة للأصول والمبادئ، تلك الأصول والمبادئ التي كانت لها قيمة نظرية فقط عند قوم لم يمارسوا الانفتاح (1).
من هذه الآراء تتكشف معالم التجديد الذي يدعو إقبال الأمم الإسلامية إليه، فالتغير والحركة والنمو الذي يصيب العالم الإسلامي من اتجاهه نحو الغرب، يقتضي إعادة النظر في الترات وإعادة بناء الشريعة من جديد على ضوء الفكر والتجربة المعاصرة، واستحداث تأويلات جديدة للمبادئ والأصول. وهذه هي معالم العصرانية Modernism بعينها فهل كانت تلك حقًا هي أفكار إقبال؟ وهل كان حقًّا يدعو إلى هذا النوع من التجديد؟

* تناقض إِقبال:
تصف مريم جميلة هذه الآراء بأنها "من الأخطاء الفكرية التي وجدت طريقها إلى مؤلفات محمد إقبال النثرية باللغة الإنجليزية" وتقول: "إن أسوأ ما في الأمر في العالم الذي يتكلم الإنجليزية "ينبغي أن تضاف العربية أيضًا" والذي يجهل أشعاره بالأردية والفارسية (2) يعتقد أن هذا الكتاب يمثل بدقة أفكار العلامة محمد إقبال، وتؤكد أن إقبال نفسه اعترف في آخر حياته أنها خطأ كبير، وتسوق مقتطفات من شعره تناقض الآراء التي طرحها في الكتاب، وتعضد مريم جميلة أقوالها، برسالة شخصية بعثها إليها المودودي جاء فيها:
" .. ولكن محمد إقبال بكل عبقريته الشعرية، لم يكن ينجو من الأخطار، ولسوء الحظ فإن كتاباته لا تخلو كلية من المتناقضات، لقد كان إقبال يمر دومًا بمراحل مختلفة للتطور العقلي أثناء حياته، ولم يستطع أن
__________
(1) المصدر نفسه (ص 186) P. 162.
(2) للشاعر إقبال سبعة دواوين شعر.
(2/320)
________________________________________
يكون فكرة صافية عن الإسلام إلا في السنوات القليلة الأخيرة من حياته، ففي السنوات الأولى من حياته تداخلت أفكار ومؤثرات غربية مع أفكاره الإسلامية" (1).
ونمضي قدمًا في قراءات أخرى لفكر إقبال في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام. والكتاب في الأصل كتاب فلسفي وهو محاولة كما يقول عنه مؤلفه لإعادة بناء الفلسفة الإسلامية بناءً جديدًا أخذًا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة (2)، ويبحث إقبال في هذا الكتاب المعرفة المكتسبة عن طريق التجربة الحسية، والمعرفة المكتسبة عن طريق ما يسميه التجربة الدينية (الصوفية)، ويقارن بين نوعي المعرفة هذين، ويناقش أيضًا حقيقة النفس وحريتها وخلودها والألوهية والنبوة وختم الرسالة ومبدأ التغير والحركة في الكون والمجتمع.
وأقدم مثالين يظهر بهما ما عند إقبال من نظرة عصرانية. ويطالعنا المثال الأول في تلك التأويلات التي يقدمها لبعض العقائد والتي تشأبه تأويلات سيد خان والفلاسفة الأولين. يقول عن قصة هبوط آدم:
"وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من الشهوة الغريزية إلى الشعور بأن له نفسًا حرة قادرة على الشك والعصيان (3).
__________
(1) انظر "الإسلام بين النظرية والتطبيق" مريم جميلة (ص 182 - 196) والطبعة الإنجليزية Islam in Theory & Preactice, P. 246 - 259
(2) "تجديد الفكر الديني" (ص 2).
(3) "تجديد الفكر الديني" (ص 99) والطبعة الإنجليزية P. 85.
(2/321)
________________________________________
- أما المثال الثاني للنزعة العصرانية عند إقبال فتظهر واضحة في الفصل الذي كتبه عن الاجتهاد وسماه "مبدأ الحركة في الإسلام" (1)، ويقصد أن المبدأ الذي يواجه به الإسلام التغير والحركة هو الاجتهاد. ويعرف إقبال الاجتهاد ثم يقول: "وأصل الاجتهاد على ما أعتقد هو قول القرآن في آية مشهورة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وهذا الاستدلال يكشف أن إقبال، لم يكن -آنذاك على الأقل- عميق المعرفة بالثقافة الإسلامية (2).
ويطرح إقبال في ذلك الفصل هذا السؤال الذي هو شغل العصرانية الشاغل " .. وأنتقل الآن إلى النظر فيما إذا كان تاريخ الشريعة الإسلامية وبناؤها يتبين فيهما إمكان تفسير الشريعة ومبادئها تفسيرًا جديدًا، وبعبارة أخرى الموضوع الذي أود أن أثير البحث فيه هل شريعة الإسلام قابلة للتطور؟ ".
وعنده أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى جهد عقلي عظيم، ويرى أن العالم الإسلامي عليه أن يواجه هذا السؤال بالروح التي كان يواجه بها عمر مشكلات الدين ويصفه بأنه أول عقل ممحص مستقل في الإسلام ولا ريب عنده أن التعمق في دراسة كتب الفقه والتشريع الهائلة العدد لا بد من أن تجعل الناقد بمنجاة من الرأي السطحي الذي يقول بأن شريعة الإسلام شريعة جامدة غير قابلة للتطور.
ثم يناقش تجديد أصول الفقه الإسلامي من أجل أن يتبخر الجمود المزعوم ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد.
* تجديد أصول الفقه:
إنه يرى أن القرآن هو الأصل للشريعة الإسلامية، وليس من شك في
__________
(1) (ص 168 - 208) pp. 196 - 180.
(2) انظر "الفكر الإسلامي الحديث" لمحمد البهي (ص 483).
(2/322)
________________________________________
أن القرآن يقرر بعض المبادئ والأحكام العامة في التشريع، ولكن القرآن ليس مدون في قانون، فغرضه الأساسي هو أن يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتب الشعور بما بينه وبين الله وبينه وبين الكون من صلات. على أن الأمر الجدير بالملاحظة في هذا الصدد هو أن القرآن يعتبر الكون متغيرًا، ومن الواضح الجلي أن القرآن بما له من هذه النظرة لا يمكن أن يكون خصمًا للتطور، وأن المبادئ التشريعية في القرآن رحبة واسعة وأبعد ما تكون عن سد الطريق على التفكير الإنساني والنشاط التشريعي، وأن الرعيل الأول من الفقهاء اعتمدوا على هذه المبادئ واستنبطوا عددًا من النظم التشريعية، على أن مذهبهم مع إحاطتها وشمولها ليست إلا تفسيرات فردية، وهم لم يزعموا أبدًا أن تفسيرهم للأمور واستنباطهم للأحكام هو آخر كلمة تقال فيها، وبما أن الأحوال قد تغيرت والعالم الإسلامي يتأثر اليوم بما يواجهه من قوى جديدة، فالرأي عنده "أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا، على ضوء تجاربهم وعلى هدي ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة هو رأى له ما يسوغه كل التسويغ".
ثم ينتقل إلى أحاديث الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي هي الأصل الثاني العظيم للشريعة، وينقل رأي المستشرق جولد زهير بأن إخضاع الأحاديث للفحص الدقيق على ضوء القوانين المستحدثة في النقد التاريخي، يظهر أنها في جملتها لا يوثق بصحتها ..
ثم يتناول بالبحث مسألة يعتبرها هامة، وهي أن الفرق بين الأحاديث التي تتضمن أحكامًا تشريعية والأحاديث التي ليس لها طابع تشريعي .. وحتى السنّة التشريعية يرى أن يبحث عن مدى ما تضمنته من عادات كانت للعرب قبل الإسلام، فتركها الإسلام دون تغيير، وأخرى أدخل فيها النبي
(2/323)
________________________________________
تعديلاً. وهل قبول النبي لها تصريحًا أو ضمنًا قد أريد بها أن تكون ذات صفة عامة في تطبيقها.
ويستشهد بأن أبا حنيفة لم يكن أحيانًا يعتمد على هذه الأحاديث، وذلك في نظره موقف جد سليم ثم يقول: "إذا رأى أصحاب النزعة الحرة في التفكير العصري، إنه من الأسلم ألا تتخذ هذه الأحاديث من غير أدنى تفريق بينها، أصلاً من أصول التشريع، فإنهم يكونون بذلك قد نهجوا منهج رجل من أعظم رجال التشريع أهل السنة".
- والإجماع عند إقبال الذي هو الأصل الثالث من أصول التشريع الإسلامي قد يكون من أهم الأفكار التشريعية في الإسلام، وهو يرى ضرورة انتقال حق الاجتهاد من الأفراد إلى هيئة تشريعية إسلامية؛ لأن ذلك هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة؛ لأن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين ممن يكون لهم بصر نافذ في شئون الحياة. وهو يتوقع لمثل هذه الهيئة التشريعية أن تخطئ خطأ فاحشًا في تفسير الشريعة؛ لأنها قد تتألف من رجال ليست لهم دراية بوقائع التشريع الإسلامي، ولكنه يستبعد أن يكون الحل تأليف لجنة دينية مستقلة، تكون لها سلطة الرقابة ويرى أن العلاج الوحيد الناجح للتقليل من وقوع الأخطاء في التأويل، هو إصلاح نظام التعليم القانوني وتوسيع مداه.
ثم يتساءل عن إجماع الصحابة، وهل إذا انعقد إجماعهم على أمر ما يكون ملزمًا للأجيال التي بعدهم؟ ويخلص إلى أن القول الجريء في ذلك هو أن الأجيال اللاحقة ليست ملزمة بإجماع الصحابة.
- والأصل الرابع من أصول الفقه هو القياس ويرى إقبال أن القياس كان في الأصل ستارًا يتوارى خلفه الرأي الشخصي للمجتهد، وأن النقد
(2/324)
________________________________________
الدقيق الذي وجه لمبدأ القياس كان يهدف إلى كبح الميل إلى إيثار النظر المجرد والفكرة التي تدور في العقل على الأمر الواقع، على أن المنتقدين أنفسهم وقعوا في خطأ آخر، وهو أنهم رغم إدراكهم ما للواقع من شأن، إلا أنهم في الوقت نفسه جعلوه ثابتًا إلى الأبد وقصروا نظرهم على (السابقات) التي وقعت بالفعل في أيام النبي وصحابته، ثم يدعو إلى إحسان فهم وتطبيق مبدأ القياس وهو أنه حق طليق في حدود النصوص الملزمة" (1).

* ملاحظات على آراء إِقبال حول الاجتهاد:
وبعد أن استعرضنا آراء إقبال حول الاجتهاد والتشريع ومصادره الرئيسية المتفق عليها، يجب أن نعلق على نقاط الضعف في هذه الآراء بما رأيناه صوابًا وحقًا في ميزان التعليم الإسلامي الصحيح فنقول:
أولاً: ليست مشكلة الاجتهاد النظري مشكلة أساسية كما ظن إقبال بل المشكلة الأساسية هي العقبات القائمة في طريق تطبيق أحكام الإسلام وتحكيم ْالشريعة وتنفيذها في الأوضاع الحالية. فإن الغرب بجميع وسائله وعملائه وكامل سلطته ودهائه يحارب أي محاولة تقوم لتطبيق الشريعة ويفشلها فليس الإسلام في حاجة اليوم، إلى مجتهد نظري أو مقنن منطقي أكثر مما هو في حاجة إلى ما يقوم بتنفيذ الشريعة وتطبيق الأحكام المدونة في القرآن وكتب السنة والفقه. فإقبال يبدو متأثرًا إلى حد بالغ بدعاية المستشرقين الكذابين بأن الفقه الإسلامي لا يستطيع أن يتكفل بحاجات المجتمع المعاصر المتقدم في مجالات الاقتصاد والاجتماع والسياسة وغيرها.
ثانيًا: لو فتح المجال للاجتهاد والاجتماع، كما يراه إقبال، بغض النظر عن الشروط والصلاحيات التي لا بد من توفرها في المجتهد عند الفقهاء
__________
(1) "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي محمد سعيد (ص 135 - 141) دار الدعوة - الكويت.
(2/325)
________________________________________
المتقدمين لكان ذلك فتحًا لباب الفتنة والفساد، فيأخذ كل متبع لهواه أو عميل لأعداء الإسلام يدعي لنفسه حق الاجتهاد ويبدي رأيه الفاسد باسم الاجتهاد والإصلاح، ويصير الدين عرضة للأهواء والفتن. فلا بد من الإصرار على توفر شروط الفقهاء عند من يدعي الاجتهاد. فالعودة إلى الاجتهاد مطلوبة، ولكن بنفس الشروط وبنفس الروح التي اجتهد بها فقهاؤنا القدامى الكبار.
ثالثًا: ما يراه إقبال حول السنة من أن بعضها ذو صفة عامة في تطبيقها والأخرى ليست كذلك، وحول الأمور التي أبقاها الإسلام دون تغيير، من تقاليد الجاهلية وكونها تعتبر تشريعًا أم أمورًا محلية، فهذا رأي خطير يفتح المجال للفتنة والفوضى والفساد؛ لأن كل شيء لم يغيره الإسلام من تقاليد الجاهلية عاد إِسلاميًّا مصطبغًا بصبغة الإسلام، فإن الشريعة التي تركها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إسلامية من أولها إلى آخرها. فإذا فتح المجال للتفرقة بين أمور الشريعة بأن بعضها من عادات العرب وتقاليد الجاهلية والأخرى ذات طابع إسلامي وأن بعضها ذو طبيعة وقتية وبعضها الآخر ذو صفة دائمة، يكون ذلك مدخلاً للفتن والأهواء والفساد على ما هو واضح فإنه لا يمكن وضع حد لهذا التمييز والتفرقة.
رابعًا: ردد إقبال ضمن هذا الباب غير مرة، كلمة الجمهورية والديمقراطية الروحية، فإذا كان قصده بذلك التآخي والتعاون الإسلامي وتشاور علماء الإسلام في أمور دينهم ودنياهم لكان من الأفضل أن يستخدم لذلك لفظ الشورى؛ لأن الشورى لها أصل ومكانة في الإسلام، وإذا قصد به تقليد أساليب الغرب في التقنين ووضع الأنظمة فذلك شيء ليس له مجال في الإسلام، فإن البشر ليس لهم حق في وضع القوانين. "هما بلغ عددهم ومهما تطورت علومهم.
وقد عارض هذه الفكرة إقبال نفسه وفندها في معظم شعره ومؤلفاته
(2/326)
________________________________________
فإنه كشف زيف الديمقراطية الغربية في مواضع لا تكاد تحصى، وقال في موضع أن مخ مائتي حمار لا تساوي مخ إنسان واحد.
وأخيرًا فإن إقبالاً بعرضه هذا البحث قد فتح مجالاً واسعًا، أمام طلبة الشريعة الإسلامية وعلمائها ليفكروا فيما يواجهه العالم الإسلامي من المشاكل والتحديات في العصر الحاضر وما سيواجهه في المستقبل، وما يتحملونه من المسئوليات تجاه ربهم ودينهم وأمتهم. ولا حاجة بنا أن نسيء الظن في كون إقبال صادقًا، ولكنه متأثر بأفكار المستشرقين من جهة، ويبدو قليل المعرفة بروح الشريعة الإسلامية الخالصة من جهة أخرى.
- يقول الدكتور محمد البهي في هذا الشأن:
"ويلاحظ على إقبال أنه يقف في تفسيره لبعض آيات القرآن عند الحد العامي لمدلول اللفظ .. وقد يذهب في تفسير بعض آيات أخرى مذهبًا علميًّا أو فلسفيًّا ويبعد المعنى عن أن يكون في مستوى توجيه الإنسان المتوسط .. وحسن ظنه بالمستشرقين جعل فيه نقطة ضعف أخرى، وهي ثقته فيما يكتبون وتقبله له دون امتحان لما يكتبونه (1).

* ويُحمد لإِقبال تحفّظه حين يقول:
"إننا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن ينبغي لنا أن نقرر أيضًا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي من أدق اللحظات في تاريخه .. فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال ..
أضف إلى هذا أن زعماء الإصلاح في الدين والسياسة قد يتجاوزون في تحمسهم لتحرير الفكر الحدود الصحيحة للإصلاح إذا انعدم ما يكبح
__________
(1) "الفكر الإسلامي الحديث" للدكتور محمد البهي (ص 425، 426، 437).
(2/327)
________________________________________
جماح حميتهم الفتية .. " (1).

* رأي بعض معاصري إِقبال فيه:
- قال مولانا أبو الكلام أزاد عند وفاة إقبال: "إن الهند الحديثة لم تستطع إنتاج شاعر عظيم مثله، وإن وفاته خسارة للشرق بأكمله، وليست للهند فحسب".
- وقال الشيخ أبو الأعلى المودودي ضمن مقابلته مع مندوب مجلة "سيارة" التي نشرت خلال فبراير - مارس 1978 م:
"إنه يوجد لدى إقبال تطور مستمر في الأفكار، فنجد مثلاً أنه يؤيد مصطفى كمال ويُظهر أنه رجل عبقري مثالي، ولكن عندما رأى تفاصيل الأحوال، عدّل رأيه. وفي الحقيقة هناك ثلاثة أطوار في حياة إقبال، وقد عاد قلبه، وفكره مسلمًا كاملاً في الطور الثالث والأخير من حياته" (2).
- ويقول الأستاذ السيد أبو الحسن علي الندوي تحت عنوان "صلتي بمحمد إقبال وشعره": "أما بعد، فإني لا أعتقد في إقبال عصمة ولا قدسًا ولا إمامة ولا اجتهادًا في الدين .. إنني أعتقد أن الحكيم السنائي، وفريد الدين العطار، والعارف الرومي (3)، كانوا أرفع منه مكانة بكثير، في التأدب بآداب الشرع والجمع بين الظاهر والباطن، والدعوة والعمل، وقد كانت في محاضراته التي ألقاها في مدراس أفكار فلسفية وتفسيرات للعقيدة الإسلامية لا نوافقه عليها .. إنني لم أزل -والحق أحق أن يُقال- في كل دور من أدوار
__________
(1) انظر "مفهوم تجديد الدين" (ص 141 - 142).
(2) "إقباليات" للمودودي ترتيب سميع الله وخالد همايون (ص 33).
(3) هذا الجانب الصوفي والثناء على رجال الصوفية الذين عندهم الأخطاء الكثيرة في اعتقادهم مما يُعاب على الشيخ أبي الحسن الندوي.
(2/328)
________________________________________
حياتي وثقافتي معتقد أنه لا يزيد على أن يكون تلميذًا من تلاميذ الثقافة الإسلامية النجباء الأذكياء، درسها دراسة مخلصة، وكان لا يزال في حاجة إلى التعمق والرسوخ فيها، والاستفادة من معاصريه الكبار. وكانت في شخصيته الكبيرة النادرة جوانب ضعف لا تتفق مع عظمته العلمية وعظمة رسالته وشعره لم يجد وقتًا كافيًا وجوًّا ملائمًا لإكمالها وتسديدها. إن أجل ما أعتقده أن إقبال شاعر أنطقه الله ببعض الحكم والحقائق في هذا العصر .. وأنه كان صاحب فكرة واضحة وعقيدة راسخة، عن خلود الرسالة المحمدية وعمومها، وعن خلود هذه الأمة وصلاحيتها للبقاء والازدهار، وعن كرامة المسلم، وأنه خُلِق ليقود ويسود، وعن تهافت المبادئ والفلسفات والدعوات التي ظهرت في هذا العصر، كالقومية الوطنية والشيوعية والرأسمالية، ووجدت فيه من وضوح الفكرة وشدة الاقتناع والتحمس لها، والشجاعة في نشرها، وفي نقد هذه الفسلفات، ما لم أجده مع الأسف في كثير من رجال الدين لعدم اكتناههم بحقيقتها واطلاعهم على نواياها وأهدافها وأسسها وتاريخها. وأخيرًا لا آخرًا، وجدته شاعر الطموح والحب والإيمان. وأشهد على نفسي أني كلما قرأت شعره جاش خاطري وثارت عواطفي، وشعرت بدبيب المعاني والأحاسيس في نفسي، وبحركة للحماسة الإسلامية في عروقي، وتلك قيمة شعره وأدبه في نظري" (1).

* رجوع إِقبال عن رأيه ومدحه أولاً لمصطفى كمال أتاتورك:
كان من رأي إقبال أن حركة التجديد -كما يزعمون- التي قام بها بعض الأتراك المحدثين -وفي مقدمة الدعاة لها الشاعر ضيا كوك آلب (1875 - 1924) - هي حركة مثالية في إصلاح الفكر الديني في الإسلام،
__________
(1) "روائع إقبال" لأبي الحسن الندوي (ص 20 - 22).
(2/329)
________________________________________
فقال: "وإذا كانت نهضة الإسلام أمرًا واقعًا، وأنا أعتقد أنها أمر واقع، فلا بد من أن نفعل يومًا ما فعله الترك، فنعيد النظر في تراثنا العقلي .. " (1).
فكان هذا رأيه حول الثورة القومية التركية التي نادى بها الشاعر ضيا ومصطفى كمال أتاتورك (1881 - 1938 م) ضمن محاضراته "تجديد الفكر الديني" التي نشرت في عام 1930 م، بينما أنه نبّه المسلمين كذلك في نفس المحاضرة إلى الأخطار التي يمكن حدوثها من حرية الفكر وعدم التقيد بأحكام الشريعة فقال:
"إنا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث "يعني الفترة الحديثة في حياة الأمة المسلمة" ولكن ينبغي لنا أن نقرر أيضًا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللحظات في تاريخه، فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال، وفكرة القومية الجنسية -التي يبدو أنها تعمل في الإسلام العصري أقوى مما عُرف من قبل- قد ينتهي أمرها إلى القضاء على النظرية الإسلامية العامة الشاملة التي تشرّبتها نفوس المسلمين من دين الإسلام" (2).
كما أنه أخذ كذلك في نفس المحاضرة على دعوة الشاعر ضيا إلى المساواة بين الرجل والمرأة في الزواج والطلاق والميراث، فقال:
أما فيما يتعلّق بما ينادي به الشاعر التركي (ضيا) فإني أخشى أنه يبدو قليل العلم بقانون الأسرة في الإسلام، كما يظهر أنه لا يفهم المعنى الاقتصادي لقاعدة التوريث كما جاءت في القرآن" (3).
- وقد أُعجِب إقبال بمصطفى كمال أتاتورك وعلّق آمالاً كبيرة بعزمه
__________
(1) "تجديد الفكر الديني" (ص 176).
(2) "تجديد الفكر الديني" (ص 187).
(3) المصدر السابق (ص 194 - 195).
(2/330)
________________________________________
وإقدامه كما يتبيّن ذلك من نشيده الذي يتضمّنه ديوان بيام مشرق بعنوان "خطاب إلى مصطفى كمال باشا -أيدّه الله-!! (يوليو 1922 - بيام مشرق، ص 138)، ولكنه عندما عرف حقيقة هذه الثورة ودعاتها، تراجع عن رأيه السابق فقال على لسان سعيد حليم باشا، في ديوان "جاويد نامه" الذي نشر في 1932 م "إن مصطفى كمال قد تغنّى بالتجدّد وقال: ينبغي أن تُنسخ الشريعة الإسلامية وتمسح الآثار العتيقة. ولكن يا صاحبي لن تتجدد الحياة في الكعبة المشرفة إذا استوردت الأصنام من لاة ومناة، إليها من أوروبا، فليس في قيثارة التركي (مصطفى كمال) لحن جديد فإن ما توهمه جديدًا إنما هو نغمة تركتها أوروبا وراء ظهرها وأصبحت قديمة بالية لديها" (1).
وكذلك استنكر إقبال أعمال مصطفى كمال في ديوان ضرب الكليم الذي نشر في عام 1936 م، فقال: أنا شدوت حتى مزّقت شقائق النعمان جيوبها وجدًا، ونسيم الصبح لا يزال يطلب روضًا ينضر أزهاره، لا مصطفى كمال ولا رضا شاه بهلوي مظهر لروح الشرق، فإنها تطلب الآن شخصية تظهر فيها:
جيب الشقائق من شدوي غدا مزقا ... ونسمة الصبح روضا تطلب الآنا
ما "مصصفى" أو "رضا" جلّى حقيقتها ... فالروح في الشرق جسمًا تطلب الآنا (2)
فعاد إقبال -وهذا حسن الظن- عن مدحه لأتاتورك الطاغية والعود أحمد.
***
__________
(1) "جاويد نامه" (ص 66).
(2) "ضرب كليم" (ص 142).
(2/331)
________________________________________
الكفر ملة واحدة عنوانها العداء للإسلام
(2/333)
________________________________________
الكفر ملة واحدة عنوانها العداء للإِسلام

* المعلم "يعقوب" أو الجنرال يعقوب الخائن لمصر:
في إطار المخادعة وإلباس التاج أو وضعه فوق رأس الخونة ومن لا يستحقون، يقدم لنا (لويس عوض) شخصًا نصرانيًّا اسمه (المعلم يعقوب) أو (الجنرال يعقوب) كما يسميه، علامة على نمو النزعة القومية لدى المصريين -كما يزعم- نتيجة للثورة الفرنسية وحملة نابليون على مصر، ويخصص لويس الباب الرابع من "الخلفية السياسية" في كتابه "تاريخ الفكر المصري الحديث" للحديث عن يعقوب تحت عنوان "مشروع الاستقلال الأول" (1)، ويخبرنا أن (يعقوب) كان يحمل في جعبته مشروعًا خطيرًا كان في نيته عرضه على الإنجليز والفرنسيين، وهو مشروع استقلال مصر (2)، ويوحي كلامه بأن (يعقوب) كان يمثل المسلمين والنصارى (3)، ويربط بين الحركات الثورية التي قامت في أرجاء العالم العربي، وبخاصة الحركات الباطنية (الزنج والقرامطة والكورانية والنصيرية والشعشاعية وغيرها) وبين حركة المعلم يعقوب، كما يشير إلى تشابهها مع جمهورية همام التي قامت في الصعيد ويعدها نموذجًا لنظام الحكم الذي يقترح يعقوب قيامه في مصر (4).
والسؤال هو: استقلال مصر عن من؟ ولماذا؟ ومن الذي كان يحكم مصر؟ وهل لا بد من أن يأتي الاستقلال على يد الخائن يعقوب؟
إن لويس يقصد باستقلال مصر انفصالها عن الخلافة العثمانية أو الباب
__________
(1) نفسه (80).
(2) "تاريخ الفكر المصري الحديث" للويس عوض (ص 149) وما بعدها.
(3) السابق (ص 151)، وانظر "مقالات في النقد والأدب" (ص 117).
(4) "تاريخ الفكر المصري الحديث" (ص 155).
(2/335)
________________________________________
العالي؛ لأن ارتباط مصر بالشعوب الإسلامية، يجور على استقلالها، أما ارتباطها بالاستعمار الفرنسي، فهو بداية القومية المصرية والعصر الديمقراطي، وإذا كان المماليك والأتراك، يحكمون مصر، فلا بد من التخلص منهم أولاً -وليس من الحملة الفرنسية- ليكون نظام الحكم على غرار جمهورية الأمير همام في الصعيد الذي أعلن استقلاله بعد استنفار قواته لمواجهة الترك والمماليك جميعًا .. ومن ثم. فإن الاستقلال على يد الخائن يعقوب، يصبح هو طوق النجاة، الذي بشَّر به من خلال مشروعه الذي عرضه على الدول الأوربية ..
ترى ما الذي جعل المعلم يعقوب يبدو بطلاً لاستقلال مصر كما صوره لويس عوض؟
كان المعلم يعقوب يعمل في مجال الصرافة (تحصيل الأموال من المصريين)، وعندما جاءت الحملة الفرنسية استغلت نفرًا من طائفة النصارى المصريين والشوام، واستمالتهم إلى جانبها والقتال معها أو تأمين قواتها، ويشير (عبد الرحمن الرافعي) إلى أن نابليون أصدر أمره بتكليف كتيبة من الأروام المقيمين في ذلك العهد بالقاهرة ورشيد ودمياط وعهد إليها حراسة السفن الفرنسية أثناء مرورها بالنيل، وأراد نابليون من هذا الأمر أن يوفر بعض الجنود الفرنسيين، وأن يستخدم في هذه المهمة الأروام الذين أظهروا ولاءهم للجيش الفرنسي، لكن الأروام لم يتطوعوا لهذه المهمة بالعدد الذي كان ينتظره الفرنسيون (2).
ويلاحظ أن الرافعي لم يشر إلى تشكيل الفيلق القبطي بقيادة المعلم
__________
(1) السابق (ص 26).
(2) "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" لعبد الرحمن الرافعي (1/ 295).
(2/336)
________________________________________
يعقوب، الذي أسهب الجبرتي في الحديث عنه، وعن خيانته لوطنه .. يذكر الجبرتي في حوادث سنة 1521 هجرية (1800 - 1801 م) أن "يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية، وجعلوه ساري عسكر الضبطة، جمع شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية، مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رءوسهم، مشابه لشكل البرنيطة، وعليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم .. في غاية البشاعة! وصيرهم عسكره وعزوته، وجمعهم من أقصى الصعيد وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى -التي هو ساكن بها- خلف الجامع الأحمر، ربنى له قلعة، وسورها بسور عظيم وأبراج، وباب كبير يحيط به بدنات عظام. وكذلك بنى أبراجًا في ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية، وفي جميع السور المحيط والأبراج طيقانًا للمدافع وبنادق على هيئة سور مصر الذي رمّه الفرنساوية، ورتب على باب القلعة -الخارج والداخل- عدة من العسكر الملازبين للوقوف ليلاً ونهارًا، وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية" (1).
هذا هو المعلم يعقوب الذي أعدّ أول مشروع استقلال لمصر كما يرى لويس عوض أنه يكوّن فيلقًا عسكريًّا على الطريقة الفرنسية يتكون من شباب النصارى ويشيّد التحصينات والقلاع ليحارب!! يحارب من؟ يحارب الفرنسيّين أم غيرهم؟ لو حارب الفرنسيّين، فإن مشروعه الاستقلالي يصبح ذا موضوع، ولكن الجبرتي يقول إنه: "تظاهر مع الفرنساوية"، أي صار ظهيرًا لهم، أي واحدًا منهم، أي عدوًّا لشعبه ووطنه الذي يزعم لويس أنه يريد أن يحقق له الاستقلال!.
والجبرتي -كما يصفه عبد الرحمن الرافعي- كان يتحرى الصدق والدقة
__________
(1) "المختار من تاريخ الجبرتي" اختيار محمد قنديل (ص 424) - دار الشعب.
(2/337)
________________________________________
ويتوخى الحق، ولم يكن يتحيز لطائفة أو دولة، أو لأي إنسان مهما عظم نفوذه، ثم يقول الرافعي: "وإنك لتستطيع أن تتحق نزاهة الجبرتي من مطالعة كتابه وإمعان النظر فيه" (1).
والجبرتي هو الذي يصف لنا ما أنزله يعقوب -تحت ظلال حملة نابليون- بالشعب المصري، من خلال نزعته الطائفية التعصبية، فقد "كرنك في داره بالدرب الواسع جبهة الرويعي، واستعدّ استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصّن بقلعته التي كان قد شيدها بعد الواقعة الأولى (أي ثورة القاهرة الأولى ضد بونابرت وجيشه). فكان معظم حرب حسن بك الجداوي (من زعماء المماليك) معه" (2).
- ويذكر الجبرتي في حوادث سنة 1216 هجرية (20 من المحرم = يونيه 1801 م):
"توكل رجل قبطي يقال له عبد الله -من طرف يعقوب- بجمع طائفة من الناس لعمل المتاريس، فتعدّى على بعض الأعيان، وأنزلهم من على دوابهم، وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه .. فتشكى الناس من ذلك القبطي، وأنهوا شكواهم إلى "بليار" قائمقام، فأمر بالقبض على ذلك القبطي، وحبسه بالقلعة، ثم فردوا -لعلها فرضوا- على كل حارة رجلين يأتي بهما شيخ الحارة وتدفع لهما أجرة من شيخ الحارة" (3).
ويشير الجبرتي في حوادث سنة 1214 هـ (20 من ذي الحجة = 15
__________
(1) "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" (ص 417) وما بعدها - ط 5 طبع دار المعارف.
(2) "المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة" لأحمد حسين الصاوي (ص 26) - دار الفكر - القاهرة.
(3) "المختار من تاريخ الجبرتي" (ص 436).
(2/338)
________________________________________
مايو 1800 م) إلى التعنّت الذي مارسه الفرنسيون بإرشاد القبطة وطوائف البلاد (أي بمساعدتهم) "لأنهم هم الذين تقلّدوا المناصب الجليلة، وتقاسموا الأقاليم، والتزموا بجمع الأموال، ويضيف "وانضم إليهم الأسافل من القبط والأراذل من المنافقين" (1).
ويتحدث الجبرتي في حوادث السنة ذاتها إلى تطاول النصارى القبط والشوام على المسلمين بالسب والضرب والنيل منهم وإظهار الحقد عليهم "ولم يبقوا للصلح مكانًا، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحّدين" (2).
هذا هو المعلم يعقوب أو الجنرال يعقوب وجماعته الذين كوّنوا جيشًا يتحالف مع نابليون لإذلال المصريين، فهل يمكن لعاقل أن يفهم بعد ذلك طبيعة المشروع الاستقلالي الذي يتحدث عنه لويس عوض؟
لقد تناول عدد من الكتاب مسألة المعلم يعقوب بالشرح والتحليل، منهم محمد جلال كشك، في كتابيه "ودخلت الخيل الأزهر" الذي أشرنا إليه من قبل، و"الغزو الفكري" حيث خصص له فصلاً كاملاً (من صفحة 84 إلى ص 130)، ويردّ فيهما على مزاعم لويس حول يعقوب وبطولاته، واستشهد بما قاله "محمد شفيق غربال" الذي نقل عنه لويس ما قاله في يعقوب، واستشهد أيضًا بالجبرتي لدحض هذه المزاعم، ويعترف محمد جلال كشك أنه شارك في خطيئة الإشادة بالجنرال يعقوب عندما كتب مؤلفه "مصريون لا طوائف"، ويرجع ذلك إلى أنه كان صغير السن آنئذٍ" (3).
ويخصص (أحمد حسين الصاوي) كتابًا كاملاً عن يعقوب، ويتناول الآراء التي قيلت فيه، ويصل إلى نتيجة تقول: "إنه لم يكن مجرد خائن
__________
(1) السابق (ص 370، 372).
(2) نفسه (ص 368، 396، 445).
(3) "الغزو الفكري" (ص 106).
(2/339)
________________________________________
لقومه وبلاده، فوصفه بذلك من قبيل إطلاق الأحكام العامة التي تفتقر إلى التحديد، والأدق أن يوصف بأنه منشق على نظام الحكم القائم وبنيته رافض له، ولكن ما أساء إلى موقفه أبعد الإساءة أن هذا الانشقاق والرفض اتخذ من البداية بُعْدًا طائفيًّا مذمومًا، فضلاً عما امتزج به من طموحات شخصية" (1).
ولا أدري بم نصف مواطنًا انحاز لعدوّ البلاد الذي قتل أبناءها واغتصب نساءها ونهب أموالها وخيراتها وأهلك قراها ومدنها .. ثم حارب إلى جانبه، وأسفر عن وجهه الطائفي المتعصّب، وآذى -كما أخبرنا الجبرتي- مواطنيه وشعبه؟ هل يكفي أن نصفه بالمنشق على نظام الحكم؟ أليست القرائن الدالة والسلوكيات التي مارسها يعقوب خير برهان على خيانته وعمالته؟
إن الصاوي نفسه يزيد هذه القرائن والسلوكيات توضيحًا عندما يقول: "لقد رفض يعقوب إذ واتته الفرصة أن يستمر في الخضوع لنظام الحكم الإسلامي، الذي كان في رأيه يمثل طغيان الأغلبية على الأقلية، وفي ظلّه تضطهد طائفته القبطية وتمتهن حقوقها، وانشق يعقوب على أمته، فصانع -كما رأينا- الحاكم الفرنسي منذ البداية، وذهب في مصانعته إلى أبعد مدى، وكان له من رفضه وانشقاقه موقف لم يحد عنه، بل راح ينتهز كل فرصة لإثباته وتأكيده، وهو موقف اتسم بنظرة طائفية متطرفة كانت لها مظاهرها التعصبية الحادة" (2).
والصاوي نفسه هو الذي يصفه يعقوب بالشذوذ عن مألوف طائفته، وارتداء الزيّ المخالف، واتخاذ امرأة من غير جنسه بطريقة غير شرعية (كانت سورية)، ولم يكن رجال الدين راضين عن غروره وخروج تصرفاته معهم
__________
ْ (1) "المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة" (ص 81).
(2) السابق، الصفحة نفسها.
(2/340)
________________________________________
ومع الكنيسة عما تنبغي مراعاته من الأصول والتقاليد (1).
لقد كان يعقوب خائنًا بكل المقاييس، والأمر. ينطبق على أي مسلم ينضم إلى قوات العدو الغازية، أيًّا كانت الأسباب وراء هذا الانضمام، فما بالك برجل باع نفسه تمامًا للحملة الفرنسية، وقَبِلَ من أحد قادتها (كليبر) رتبة الجنرال، وبعد انهزام الحملة هرب معها؟
إن يعقوب ليس مجرد منشق، وإنما كان خائنًا، ألبسه (لويس عوض) تاج الوطنية، وأسند إليه شرف البطولة في البحث عن استقلال مصر عن الباب العالي ودولة الخلافة، وفضّله على واحد من أعظم أبطال مصر الحقيقيين وهو السيد (عمر مكرم) نقيب الأشراف الذي عزل (خورشيد باشا) وولّى (محمد علي) وألبسه الكرك ونزل الخليفة العثماني على رأيه ورأي علماء الإسلام، وإن كانت نتيجة بطولته أن نفي إلى دمياط!
ومع أن الذين ناقشوا آراء لويس حول يعقوب، قد اعتمدوا الأسلوب العلمي في مناقشة، وبيان تهافت ما ذهب إليه مع تفاوت آرائهم في الحكم على يعقوب، ألا أنه يكتفي بوصفهم بالرجعية والتعصب الديني، ويتوعدهم بحساب التاريخ، ويقول: وسوف يحاسب التاريخ الرجعية العربية حسابًا عسيرًا، لأنها سجدت أمام التمثال الذي أقامه شفيق غربال للجنرال يعقوب، ثم مزقتني إربًا لمجرد أنني رددت آراءه وترجمت وثائقه. ونقادي لا يستطيعون ادعاء الجهل؛ لأني أصلت لهم كل شيء قلته عن الجنرال يعقوب في شفيق غربال، فإذا كانوا قد رجعوا إليه، ومع ذلك تعمّدوا تمزيقي لطرق قضيّة (يعقوب اللعين) بهذه الحيدة أو بشيء من التعاطف، فإن هذا يثبت سوء نيتهم، وإذا كانوا لم يهتموا بالرجوع فهذا يثبت انحطاطهم لإصرارهم على
__________
(1) السابق أيضًا (ص 18).
(2/341)
________________________________________
الإدانة رغم وجود شهود النفي. وعلى كل فقضية الجنرال يعقوب أخطر من أن تصرف بكلمتين فلي إليها عودة في مكانها الطبيعي" (1).
بالطبع، لم يعد لويس إلى القضية أبدًا، ولم يكن ردّه الانفعالي الذي سبّ فيه منتقديه، وصفهم. بالانحطاط وسوء النية والرجعية والتعصب الديني، كافيًا لإثبات حسن نيته .. فالعلم حجة وأخرى مضادة .. ومن يملك الدليل والبرهان لا يرد عليه إلا بالدليل والبرهان .. وكون شفيق غربال قد سبق إلى الكتابة عن يعقوب وصديقه الحميم لاسكاريس بالفرنسية أو نقلاً عنها، فهذا لا يعفي لويس من المؤاخذة؛ لأن القضية التي يناقشها لا تقتصر على شخص يعقوب، بل تمس تاريخ أمة وكيانها وحاضرها ومستقبلها، ولويس أبدى آراءه القاطعة، وأحكامه الجازمة، بل جعل عنوان الحديث عن يعقوب "مشروع الاستقلال الأول"، وربط هذا المشروع بما زعمه من تقديم الحملة الفرنسية معالم حضارية حديثة لمصر القومية والديمقراطية .. فهل يحق له بعدئذ أن يصرخ من تمزيقه إربًا؟ وهل هذا اعتراف ضمني بهشاشة موقفه؟ ألم يكن من الأولى أن يحدثنا عن بشاعة الحملة الفرنسية ودمويتها وكيفية مقاومتها، وقبح الانضمام إلى المستعمر الغازي أيًّا كانت الأسباب، وأيًّا كان الأشخاص المنضمين إليه؟ " (2).

* الدكتور فيليب حتّى صاحب "تاريخ العرب" وتزييفه لتاريخ المسلمين والعرب:
"ما يزال كتاب "تاريخ للعرب" للدكتور فيليب حتى، مرجعًا من المراجع الهامة التي يعتمد عليها الباحثون وأساتذة الجامعات والكتاب،
__________
(1) "أوراق العمر" (ص 597 - 598).
(2) "لويس عوض .. الأسطورة والحقيقة" (ص 240 - 245).
(2/342)
________________________________________
كمصدر سهل ميسور بالرغم مما يحمل في تضاعيفه من أخطاء وشبهات، وقد حاول الدكتور عبد العزيز الدوري مواجهة انحرافات هذا الكتاب في دراسة شاملة فأشار إلى أن تسمية مؤلفة (تاريخ العرب) تشعر بوجهة نظر مؤلفه الخاصة، فلم يسمه تاريخ الإسلام مثلاً، وهي تسمية تباين الكتاب في استعمالها بحسب تقديرهم لطبيعة هذا التاريخ، ومع أن نظرته لدور العرب الحضاري فيها مجال لإعادة النظر، إلا أنه يشعرك بأن العرب هم محور هذا التاريخ وقاعدته، أما مادة الكتاب فلا تشعر بوجهة نظر تاريخية، ولكنا نشعر أن مؤلفه وقع تحت تأثير مصادره أكثر مما تشعر بوجهة له، ونحن نرى في بعض النواحي الكتاب تلخيصًا لآراء حديثة لبعض المستشرقين أوردها لبعضهم تبين أنها واهية. لم يحاول المؤلف وضع مفهوم جديد للفتوحات ولم يخرج عن هيكل نظرية (كايتاني) رغم ما تعرضت له من هزات.
وتحدث المؤلف عن مناحي الحياة الفكرية في العصر الأموي وردد مع غيره أن العرب الفاتحين لم يكن لهم "أي ثقافة أو تراث فكري"، وأنهم تعلقوا بحضارة الأمم التي غلبوها فنقلوا عنها، وكانوا مهرة في النقل وأظهروا قابلية للغذاء العقلي. ويرى أن شجرة الفكر (العربي) التي ازدهرت في العصر العباسي تأصلت جذورها في ثقافات العهود السابقة في الإغريق والفرس واليونان. ونحن نعرف النشاط الفكري في العصر الأموي كما بان في عرف المؤلف نفسه -في الدراسات العربية الإسلامية، وظهر في مراكز عربية صرفة وهي المدينة والكوفة والبصرة، وأن الخطوط العامة لهذه الدراسات وضعت في العصر الأموي، أما الأخذ عن الحضارات القديمة فكان في حقل الإدارة (خاصة الضرائب)، وإن تسربت بعض الآراء فقد كان ذلك عرضًا وبطريق الاتصال الشفوي، ولم يحصل الأخذ المنظم إلا في زمن العباسيين، وهذا يصدق على "علوم الأوائل" ولا يمكن تعميمه على نواحي
(2/343)
________________________________________
الفكر المختلفة.
ويتابع (فيليب حتى) نفس الوجهة حين يتحدث عن (الأندلس) فهو يرى أن سبب تأخر أسبانيا في نشوء فقه اللغة العربية والعلوم الدينية وكتابه التاريخ؛ "لأنه لم يكن عند الأسبان أهل البلاد من العلم والفن ما يفيدون به العرب بخلاف ما كانت عليه الحالة في الشام والعراق حين دخلهما الفاتحون"، ونسي المؤلف أن مراكز الدراسات العربية الخالصة وليس في المدن القديمة كدمشق والإسكندرية، وأنها كانت على يد العرب ولم يشارك فيها غير العرب جديًا إلا بعد أن تعربوا. وبعد هذا يحق لنا أن نتساءل: هل أن العرب خرجوا من الجزيرة وهم دون أي ثقافة أو تراث فكري، وماذا حل بعرب المدن في جنوب الجزيرة وشمالها. إن النقوش تكشف لنا تدريجيًّا عن نواح حضارية كانت مجهولة لدينا، كما أننا تحت تأثير مصادرنا - لم نعن بدراسة أثر عرب الجنوب في الحضارة العربية، وإذا كانت معلوماتنا الآن محدودة فإن هذا لا يخير لنا الحكم السلبي.
- كتابة التاريخ عند العرب:
ويذهب (فيليب حتى) إلى أن لكتابة التاريخ عند العرب أصولاً شيدت على أسس الطريقة الفارسية.
- ويقول الدكتور الدوري: وقد تبين لي من دراسة نشأة علم التاريخ عن العرب أن هذا العلم عربي النشأة والأصول، وأن خطوطه الأساسية تحددت قبل الترجمة عن الفارسية، ولذا فإن قول فيليب حتى بأن (المثال) الذي احتذاه المؤلفون فارسيًّا في الأصل على طريقة (خذ اينامه) مردود لأننا نعرف أن كتابة التاريخ على أساس السير وعلى أساس الأسر الحاكمة عرف قبل ترجمة "الخد اينامه" وقد بدأ علم التاريخ عند العرب من أصول تتصل بدراسة الحديث (المغازي) من جهة، وبمتابعة الاهتمام الموروث من الجاهلية بالأيام كما ظهر لدى الإخباريين.
(2/344)
________________________________________
- ويقول: الدكتور الدوري: أن ما أورده حتى عن المذاهب الفقهية فيه قلق، ومن الحديث يشعر بأنه لم يدقق ولم يستفد من بعض الباحثين المبرزين، وما كتبه عن الإسماعيلية والقرامطة يعكس ببساطة بعض الروايات الشائعة، وكأنه لم يستفد من الدراسات الحديثة.
وحديثه عن الشيعة قلق، وهو أحيانًا يلخص بعض المعلومات عن المصادر الأولية دون نقد، وتفسيره لانتشار الإسلام بأسباب مادية (ص 441) يحتاج إلى إعادة نظر، وقد فاته أن انتشار الإسلام في أدوار ضعفه السياسي كان أوسع من انتشاره قبل ذلك، ويكفي أن تشير إلى كتاب أرنولد "الدعوة إلى الإسلام". وتفسيره للشعوبية (ص 488) بعيد كل البعد عن تحليل دوافعها واتجاهاتها، فهو يراها مجرد دعوة للتسوية في حين أن الحركة لها جذور عميقة في الوعي القومي والديني للشعوب الأخرى، وخاصة الإيرانيين وأنها بدأت بنبرة التسوية في العصر الأموي فإنها سرعان ما انتقلت إلى تفضيل العجم على العرب وإلى مهاجمة التراث والكيان العربي الإسلامي، وكانت وثيقة الصلة بالزندقة. ولكنها برزت في حركة أدبية فكرية قوية.
- كما قبل المؤلف أسطورة العبّاسة لتفسير نكبة البرامكة دون تمحيص" (1) اهـ.

* غاندي .. الهندوسي المتعصب يسرق الحركة الوطنية من المسلمين:
"الهندوسي المتعصب الذي أخفى هندوسيته البغيضة وراء المغزل والشاة.
وكان أول سياسي طالب بتأجيل الاستقلال مناديًا بمهادنة السلطة، وعدم مناوأة حكومة الاستعمار.
وكانت فلسفة غاندي التي استقاها من تولستوي ولقنوها لنا في الشرق
__________
(1) "مقدمات العلوم والمناهج" (1/ 402 - 404).
(2/345)
________________________________________
هي التغاضي عن تصرفات المستعمر والاستسلام له.
- والحقيقة أن الزعماء المسلمين هم الذين أعلنوا استقلال الهند الحقيقي وعينوا قضاة المحاكم وحكام المقاطعات وتجاهلوا جميع كل السلطات وقد ظهرت آثار المسلمين واضحة في الحركة الوطنية وضعفت وطنية الهندوك فحاربوا المسلمين بكل سلاح حتى سلاح الفتنة الوطنية والدس الرخيص.
ا"كان السؤال: حول غاندي وتكريمه، والأحاديث التي تنشر عنه في الصحف، وتصويره بصورة البطل: ومحاولة القول بأنه كان رمزًا للمصريين إبان الحركة الوطنية المصرية بعد ثورة 1919 وكانت الإجابة كالآتي:
بدأت الحركة الوطنية لتحرير الهند في أحضان الحركة الإسلامية، وقد أزعجت الاستعمار البريطاني هذه الخطوة فعمدوا إلى القضاء عليها بأسلوب غاية في المكر والبراعة فقد نحى المسلمين عن قيادة الحركة الوطنية وأسلمها إلى الهندوس، وأجراها على الأسلوب الذي سيطر على الهند بعد ثورة 1857 التي قادها المسلمون وكان الاستعمار البريطاني حريصًا على ألا تتحقق للمسلمين السيطرة على الهند بعد أن ظل الإسلام يحكم الهند أكثر من خمسمائة عام إلى أن أزاله الإنجليز.
والمعروف أن المسلمين قاطعوا مدارس الاحتلال وعزفوا عنها حتى أتيح لهم إقامة نهضة تعليمية داخل إطار دينهم وثقافتهم وذلك بإنشاء عدد من المعاهد الإسلامية، انتشرت في "لاهور" و"لكنؤ" ولم تلبث أن حققت تقدمًا واضحًا واسع المجال. ثم اتجه العمل لتحرير الهند فألفت الجمعية الإسلامية العامة في الهند لكنؤ (بومباي) وكان يشرف عليها كبار المسلمين في الهند مطالبين بحقوق المسلمين في الهند كوطنيين وكان الهندوك قد أعلنوا إنشاء المؤتمر الوطني العام وسموه المجلس الملّي الوطني الهندي العام. وكان غايته أن ينالوا حقوقًا سياسية تخولهم السيادة على الأقليات (وهم لا يريدون من
(2/346)
________________________________________
كلمة الأقليات غير المسلمين)، وفي عام 1910 نبهت حكومة الاحتلال إلى حركة الجمعية الإسلامية فأوعزت إلى محمود الحسيني أن يغادر الهند وقبض على أعوانه: أبو الكلام أزاد، حسرت مهاني، ظفر الله خان، محمد علي، شوكت علي. ولما عقدت الهدنة في 11 نوفمبر 1918 أعلنت الحكومة البريطانية استعدادها لإجراء إصلاحات في قانون الهند. فاتفق الفريقان (المسلمون والهندوس) على عقد مؤتمر في لكنؤ يجتمع فيه زعماء الفريقين.
وفي عام 1919 أطلقت الحكومة سراح المسجونين السياسيين المسلمين، فاجتمع زعماؤهم في لكنؤ بدعوة مولاي عبد الباري رئيس علماء أفرنجي محل فتداولوا في تأسيس جمعية إسلامية لتنظيم مطالب الاستقلال وكان قد ظهر في هذا الوقت تآمر الدول الكبرى على تمزيق شمل الدولة العثمانية.
فأطلق على هذه الجماعة (جمعية إنقاذ الخلافة من مخالب الأعداء الطامعين) وتأسست جمعية الخلافة في بومباي (18 فبراير 1920) برئاسة غلام محمد فتو، ميان حاجي خان. ودخل في عضويتها الزعماء المسلمون المعروفون في الهند، ودعت اللجنة المسلمين إلى جمع الإعانات للدفاع عن حوزة الخلافة، فأقبل المسلمون بسخاء وجمع ما لا يقل عن سبعة عشر مليون روبية إلى أضعاف ذلك كما يقول السيد عبد العزيز التفالي الزعيم التونسي الأشهر في تقريره الذي قدمه للأزهر الشريف في يونيو 1937 بعد زيارته للهند ودراسته لأحوال المسلمين هناك.
كان (غاندي) إلى تلك الآونة غير معروف في الهيئات السياسية في الهند، وكان متطوعًا في فرقة تمريض الجنود، ولما انتهت الحرب وانفصل عنها كانت جمعية الخلافة في بدء تآليفها فأقبل عليها وكان اسمه غير معروف إلا بين الأفراد القلائل الذين عرفوه في جنوب أفريقيا. فتيامن به زعماء المسلمين رغم تحذير المولوي (خوجندي) وكان على صلة به من قبل، ويعلم من أمره
(2/347)
________________________________________
ما لا يعلمون وبالأخص من ناحية تعصبه للهنادكة مع المسلمين. وشاءت الغفلة أن تنطوي هذه الحركة العظيمة على يديه. فقعد في جمعية الخلافة مقعد الناصح الأمين وجعل يشير عليها باستئلاف الهنادكة فقبل الأعضاء نصحه عن حسن نية، وندبوه للسعي إلى ذلك فقام وطاف الهند علي حساب الجمعية يدعو إلى الوفاق ويقول المطلعون على خفايا الأمور أنه كان يتصل بالهنادكة، ويتآمر معهم على شل الحركة الإسلامية ولما عاد من الرحلة سعى إلى إقناع جمعية الخلافة بانضمام إلى الكونجرس (المؤتمر الوطني) الذي تأسس لملاحقة المسلمين وانتزاع حقوقهم في الهند فانضمت إليه جمعية الخلافة وتبعتها بقية الأحزاب الإسلامية المعروفة ارتكازًا على الثقة في (غاندي) وعقد الكونجرس اجتماعًا فوق العادة بعد انضمام المسلمين إليه في مارس 1920 في بلدة باكبور حضره 25 ألف مندوب أكثرهم من المسلمين ولما تُلي عليهم القانون الأساسي اقترحوا تعديل المادة التي تقول: بإصلاح حالة الهند إلى عبارة (استقلال الهند) فوافق على ذلك المؤتمر، وشرعت الأحزاب الهندوكية منذ ذلك الوقت تطالب بالاستقلال التام طبق رغبة المسلمين، وكانوا قبل ذلك لا يطالبون إلا بإجراء إصلاحات. فارتاعت الحكومة (البريطانية) لهذا التعبير وعدته فاجعة في سياسة البلاد وعلى أثره ألقت القبض على الزعماء، وزجتهم في السجون.
واجتمع قادة الحركة وعرض أبو الكلام آزاد اقتراحًا باسم الأعضاء المسلمين يتضمن إعلان (الأمة الهندية) وبأن الحكومة الحاضرة غير شرعية.
مع دعوة البلاد إلى مقاطعتها فوافقت الجمعية، وانعقد على أثره (مؤتمر جمعية الخلافة) فأعلن موافقته أيضًا بالإجماع. وبعد أن جرى تصديق المؤتمر على قرار المقاطعة قام غاندي خطيبًا وقال: إن اتحاد الهنادكة مع المسلمين يبقى متينًا ما لم يشرع المسلمون في مناوأة الحكومة، ويشهروا السلاح في وجهها.
(2/348)
________________________________________
ورد عليه أبو الكلام آزاد فقال:
"إن غاندي يتصور أن أعمال المسلمين في الهند لا تقوم إلا على مساعدة الهنادكة فقد آن له أن يخرج هذه الفكرة من دماغه وليعلم غاندي أن المسلمين لم يعتمدوا قط على أحد إلا الله عز وجل وعلى أنفسهم".
وشرعت الأمة الهندية عقب ذلك في مقاطعة الحكومة، وإظهار العصيان المدني فامتنعت عن دفع الضرائب والرسوم، وتخلى المحامون عن الدفاع أمام المحاكم. وأعاد الناس الرتب والنياشين، والبراءات للحكومة، وأحرق التجار المسلمون جميع ما في مخازنهم من البضائع الإنجليزية، وترك المسلمون الموظفون مناصبهم في الحكومة فحل الهنادكة محلهم وهاجر كثير من المسلمين إلى الأفغان بعد أن تركوا أملاكهم وأرضهم في الهند واشتدت المقاطعة في البنغال اشتدادًا عظيمًا ليس له مثيل، فقد امتلأت سجونها بالمقاطعين من المسلمين حتى إذا أعيى الحكومة أمرهم صارت تقبض كل يوم على ألف شخص في الصباح وتطلقهم في المساء؛ لأن السجون لم تعد تتسع للمعتقلين. وخطب اللورد ريدنج (الحاكم العام) في كلكتا فقال:
إنني شديد الحيرة من جراء هذه الحركة ولست أدري ماذا أصنع فيها.
ومن هذا السياق تستطيع أن تتصور قوة المسلمين في الحركة الوطنية، وضعفها في الهندوكية ولا شك أن الهندوكي بالغًا ما بلغ من النشاط السياسي لا يستطيع أن يجابه الحكومة، كما لا يستطيع أن يحارب المسلمين إلا بسلاح الدس. وقد اجتمع الزعماء المسلمون في عام 1921 وأعلنوا استقلال الهند استقلالاً فعليًّا وعينوا ولاة الولايات، وحكام المقاطعات، وقضاة المحاكم في جميع المدن.
فكان الوطنيون يرفعون قضاياهم أمامهم، ويتجاهلون محاكم الحكومة وبسبب ذلك تعطلت أعمال الحكومة والبوليس، وحدث ارتباك شديد في
(2/349)
________________________________________
الدوائر العالية بالهند غير أنها بدلاً من أن تستعمل سلاح القوة القاهرة لكفاح الشعب الأعزل لجأت إلى المناورات السياسية وهي أشد خطرًا، وكان بطل هذه المناورات المهاتما غاندي، فقد اتفق اللورد ريدنج مع غاندي على حل الوفاق القومي بين المسلمين والهندوك وقد أذيع الحديث بواسطة المصادر البريطانية بعد ستة أشهر. فقد نقل إلى اللورد الذي قال لغاندي:
"إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون، وأهدافها بأيدي زعمائها فلو أسرعنا وأجبناهم إلى طلباتكم وسلمنا لكم مقاليد الأحكام ألا ترى أن مصائر البلاد آيلة للمسلمين. فماذا يكون حال الهنادكة بعد ذلك؟ هل تريدون الرجوع إلى ما كنتم عليه قبل الاحتلال البريطاني وهل تفيدكم يومئذ كثرتكم وأنتم محاطون بالأمم الإسلامية من كل جانب، وهم يستمدون قوتهم منها عليكم. إذا كنتم تريدون أن تحتفظوا لأنفسكم باستقلال الهند فعليكم أن تسعوا أولاً لكسر شوكة المسلمين وهذا لا يمكنكم بغير التعاون مع الحكومة وينبغي لكم أيضًا تنشيط الحركات الهندوكية للتفوق على المسلمين في جميع الأعمال الحيوية وفي بلوغهم الدرجة المطلوبة فإني أؤكد لكم أن حكومة بريطانيا لا تتمهل في الاعتراف لكم بالاستقلال".
وقبل انصراف غاندي أوعز اللورد إليه أن يشير على (مولانا محمد علي) كتابة تعليق على خطاب كان ألقاه في مؤتمر الخلافة، وحمل فيه على الحكومة حملة عنيفة. يقول في هذا التعليق:
"إن ما فهمته الحكومة كان مخالفًا لمرادي" فصدع غاندي بالأمر ودعا محمد علي لكتابة هذا البيان بعد أن أفهمه أن الكتاب سيكون سريًا لا يطلع عليه أحد غير اللورد فكتب البيان تحت التأثير *****ي الذي كان لغاندي عليه. وما كاد الخطاب يصل إلى اللورد حتى أذيع في جميع أقطار الهند بعد أن صورته الحكومة بمقدمة قالت فيها:
(2/350)
________________________________________
إن محمد علي تقدم إلى الحكومة يطلب منها العفو عن الهفوة التي ارتكبها".
واتهم محمد علي من المسلمين بالتراجع، ورُمي بالخور والضعف غير أنه لم يحاول أن يصحح موقفِه إلا حين عقد مؤتمر في كراتشي (أغسطس ْ1920) حين أعلن سياسة المناوأة للحكومة لا موالاتها. فتلقى منه الهنادكة والمسلمون هذا التصريح بالارتياح التام ولكن عقب انفضاض المؤتمر أمرت الحكومة باعتقاله مع ستة آخرين من الزعماء، شوكت علي، حسين أحمد، كثار أحمد، ببرغلام محمد، الدكتور سيف الدين كتشلو. وساقتهم جميعًا إلى المحكمة المخصوصة للمحاكمة. فرفضوا الاعتراف بالحكومة وهيبة المحكمة عملاً بقرار المؤتمر السابق وامتنعوا عن الدفاع عن المتهم. ولكن المحكمة أدانتهم بمجرد الاتهام، وحكمت عليهم بالحبس عامين مع الأشغال الموجهة إليهم. وبعد الحكم أصدر محمد علي، وسيف الدين كتشلو منشورًا بتوقيعهما يخاطبان فيه الشعب وينصحانه بعدم الاهتمام بما حصل ويعدانه بأن الزعماء المعتقلين سيحضرون اجتماع الكونجرس القادم في ديسمبر بمدينة (أحمد أباد) سواء رضيت الحكومة أم كرهت لاعتقادهما أن الكونجرس سيعلن بصفة رسمية استقلال الهند، وتأليف حكومة وطنية هي التي ستقرر الإفراج عنهم. ولكن الحكومة لم تأبه لهذا المنشور؛ لأنها كانت واثقة من أن الكونجرس لن يفعل. ولما عقد اجتماع الكونجرس (ديسمبر سنة 1920) حضر غاندي وقال:
"بما أن الزعماء معتقلون، ولا سبيل للدولة معهم في منهاج أعمال المؤتمر فأقترح عليكم تعييني رئيسًا للمؤتمر، وتخويلي السلطة المطلقة لتنفيذ ما أراه صالحًا من الإجراءات".
فوافقته اللجنة على ذلك دون أن تنتبه إلى ما كان يضمره هو من
(2/351)
________________________________________
المقاصد التي قد لا تتفق مع خطة المؤتمر، وتقرر فيها أيضًا إسناد رئاسة مؤتمر الخلافة إلى أجمل خان، ومؤتمر مسلم ليك إلى حسرت مهاتي. وقبل اجتماع مؤتمر الخلافة قال غاندي للحكيم أجمل خان:
"إن إعلان الاستقلال في الظروف الراهنة غير مناسب".
وما زال به حتى أقنعه بالعدول عن إعلان ذلك مع أن الزعماء المسلمين كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، وكانت الحكومة تتوقع صدوره من أحزاب المسلمين بقلق شديد وما عساها تصنع لو تخلف غاندي عن الوفاء لها بوعده. وفي أغسطس 1921 أجمع الكونجرس تحت رئاسة غاندي في أحمد أباد فأعلن أن الوقت الذي يصرح فيه المؤتمر باستقلال الهند لم يحن بعد، فهاج الأعضاء وماجوا. وعقب انتهاء جلسات المؤتمر انعقد مؤتمر الخلافة، وتهيب الحكيم أجمل خان أن يثير عاصفة من قبل المسلمين فأمسك عن إعلان الاستقلال. أما حسرت مهاتي فقد أعلن في مؤتمر مسلم ليك أن الهند تريد أن تعرب بواسطتهم عن إرادتها في الاستقلال. فعلى الهنود أن يشعروا اليوم بأنهم مستقلون وألا يعترفوا بقوانين الحكومة الملغاة. فأمرت الحكومة بالقبض عليه وحكم عليه بالسجن عشر سنين مع الأشغال، وأجمعت الصحف الهندية على نقده ووصفه بالشدة وخفضت العقوبة إلى سنتين.
وعقب ظهور هذا الفشل الكبير في سياسة البلاد اعترت المسلمين شكوك في تصرفات غاندي، واستيقنوا أن زعماء الهنادكة متفقون على ذلك فدب الانشقاق بين الطرفين.
هذا هو النص الذي أورده العلامة الزعيم عبد العزيز الثعالبي عن دور المسلمين في الحركة الوطنية الهندية وكيف قضى عليه غاندي بالتآمر مع النفوذ البريطاني فانهار مخطط الاستقلال. وفي خلال سجن زعماء الحركة المسلمين تسلم غاندي الحركة وحولها إلى وجهة أخرى مخالفة مما دعا المسلمين من
(2/352)
________________________________________
بعد إلى المطالبة بكيان خاص لهم.
هذا هو غاندي في حقيقته التي لم تعرف في بلادنا وفي المشرق. والتي أخفيت عنا تمامًا خلال تلك الفترة التي كان المصريون بتوجيه من السياسة البريطانية يعجبون بغاندي وبدعوته إلى الاستسلام للنفوذ الأجنبي وقبول ما يعرض وعدم العنف.
وهذه هي الفلسفة التي استقاها غاندي من تولستوي وذاعت كثيرًا في بلاد المسلمين معارضة لمفهوم الإسلام الصحيح من الجهاد المقدس في سبيل استخلاص الحقوق المغتصبة إبان الحركة الوطنية المصرية حيث كانوا يجدون في غاندي وأخباره ما يؤيد النفوذ الأجنبي ويدفع الوطنيين المصريين ناحية التفاهم مع الاستعمار البريطاني، ولذلك فإن هذه الصفحات التي ينشرها بعض الكتاب لرسم صورة مزخرفة لغاندي يجب أن لا تخدعنا كثيرًا فإنه رجل هندوسي متعصب لهندوسيته كاره للمسلمين. وقد كان هو وتلميذه نهرو أشد عنفًا وقسوة في معاملة مسلمي الهند، وكانت أنديرا غاندي ابنة نهرو إبان حكمها قد حكمت على المسلمين في بعض المناطق بتعقيمهم عن طريق العمليات الجراحية عملاً على الحد من تعداد المسلمين في الهند.
فيجب علينا أن نعرف الحقائق ولا تخدعنا الأوهام الكاذبة والصور البراقة التي يراد بها تغطية حقيقة واضحة وجريمة كبرى هي أن غاندي في الحقيقة سرق الحركة الوطنية من الزعماء المسلمين وتآمر عليهم مع الحكومة البريطانية وأدخل أمثال محمد علي وشوكت علي وأبو الكلام آزاد وهم من أقطاب المسلمين، أدخلهم السجون، وسحب بساط الحركة الوطنية بالتآمر من تحت أرجلهم، وحال دون قيام حكومة هندية حرة يكون المسلمون فيها سادة.
وذلك لخدمة الاستعمار البريطاني وتسليم الهند إليه لتحويل المسلمين إلى أقلية فيها مما دعا المسلمين إلى العمل على قيام باكستان والتحرر من نفوذ
(2/353)
________________________________________
غاندي والهندوكية والاستعمار البريطاني.
راجع تقرير الشيخ عبد العزيز الثعالبي (البلاغ 1937) " (1).

* بطرس غالي الجد .. والحفيد وسجل الخيانات القذرة:
مسلسل لا ينتهي من مسلسلات الخيانة الصليبية ..
آية ذلك أن بطرس (بيتر) غالي كان مع التصور الغربي الصليبي الاستعماري قلبًا وقالبًا، مما يمكن معه القول أنه كان تلميذًا مخلصًا للمدرسة الاستعمارية التي رعاها (كرومر) وكان جده من طلائعها".
- "يحكي محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية السابق، في كتابه "السلام الضائع" عن فترة وجوده بكامب ديفيد برفقة أنور السادات عام 1978 م فيقول (2): "ومن النوادر التي حدثت في ذلك الوقت، كان بطرس غالي يحكي عن خطابات التهديد التي وُجِّهت له بعد مرافقته للرئيس السادات في القدس، ثم أردف قائلاً بالفرنسية: "إنهم يتهموني بأني الجيل الثالث من الخونة في عائلة غالي" فقتلت ضاحكًا: "كيف؟ إني لا أعرف إلا اثنين فقط، هما جدك، وأنت، فمن الثالث؟ "أجاب بطرس: فيقولون إن عمي نجيب باشا غالي، قد تورط مع الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى".

* الجد بطرس قاتل المسلمين في دنشواي الجيل الأول من الخونة في عائلة غالي:
- يقول آرثر إدوارد جولد سميث (الابن) (3).
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 297 - 304).
(2) "السلام الضائع" لمحمد إبراهيم كامل (ص 529).
(3) "الحزب الوطني المصري" ترجمة فؤاد دوارة، الهيئة العامة للكتاب 1983.
(2/354)
________________________________________
أطلق صيدلي شاب يدعى إبراهيم ناصف الورداني النار على بطرس غالي وأصابه بجراح خطيرة. على الرغم من نقله إلى المستشفى وإجراء عملية جراحية سريعة له لإخراج الرصاصات فقد أزهقت روحه، وتوفي في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي.
وقُبِض على الورداني في موقع الجريمة واستجوبته النيابة العامة، واعترف بجريمته، وقرر أن دافعه للجريمة هو خيانة بطرس للأمة بتوقيع اتفاقية الحكم الثنائي للسودان، وبرئاسة لمحكمة دنشواي، وإحياء قانون المطبوعات، والحث على قبول اتفاقية قناة السويس (1).
ورفض مفتي الديار المصرية إصدار فتوى تؤيد إعدام الورداني، وبُذِلت جهود عديدة لإنقاذ حياته، وبالرغم من أن الجميع توقعوا أن ينجو الورداني من الموت بطريقة ما، فإنه شنِقَ في سرية تامة في 28 يونيو 1910.
بعد أربع سنوات تمامًا من تنفيذ أحكام دنشواي، وقبل أربع سنوات تمامًا من وقوع حادث اغتيال أخطر (2).
- وكان بطرس غالي وزيرًا للخارجية في وزارة مصطفى فهمي وظل يشغل هذا المنصب لمدة 13 عامًا، وكان طوال الخمس عشرة سنة السابقة حريصًا على إبقاء حسن الروابط سواء مع الاحتلال أو مع القصر (3).
ويقال إنه من قبل كان جاسوسًا على الحركة الوطنية لحساب الإنجليز (4)، "قبل أن يتولى وزارة الخارجية في وزارة الاستسلام والولاء المطلق للاحتلال
__________
(1) المصدر السابق (ص 202) نقلاً، عن محفوظات وزارة الخارجية البريطانية، من جورست إلى جراي، القاهرة 24 فبراير 1910، رقم 22.
(2) "بطرس بيتر غالي" لأبي إسلام أحمد عبد الله (ص 31) - بيت الحكمة.
(3) "تاريخ الوزارات المصرية" للدكتور يونان لبيب.
(4) "الحزب الوطني والنضال السري".
(2/355)
________________________________________
البريطاني" (1).
وقد رأس بطرس غالي بنفسه، المحكمة الإنجليزية الكافرة التي شُكلت للنظر في حادثة دنشواي، وكانت تضم في عضويتها:
مستر (وليم جود) المستشار القضائي بالنيابة.
ومستر (بوند) **** محكمة الاستئناف، والكولونيل (لاولو) القائم بأعمال المحاماة والقضاء في جيش الاحتلال.
و (أحمد فتحي زغلول) (2) رئيس محمكة مصر الابتدائية الأهلية.
و (عثمان رفقي بك) سكرتير الجلسة (3).
وكانت المشانق قد وصلت قرية دنشواي لإعدام المتهمين، قبل صدور حكم المحكمة (4)، وكان هذا واحدًا من الأسباب الرئيسية التي دفعت (إبراهيم الورداني) لاغتياله وفقًا لما جاء بأقواله.
أما السبب الثاني فهو امتياز شركة قناة السويس الذي كان مقررًا انتهاؤه في عام 1969، ولكن بطرس غالي إرضاء للقصر الحاكم من ناحية، ولسلطات الاحتلال من ناحية أخرى قد وافق على مشروع المستشار المالي البريطاني بول هارفي بحجة سد حاجة الحكومة المصرية إلى المال المستباح الذي يغترف منه الخديوي وحاشيته ووزرائه بلا رقيب أو حساب، فاتفق مع شركة القناة لمد عقد امتيازها لمدة أربعين عامًا، لقاء أربعة ملايين من الجنيهات تدفعها الشركة للحكومة إلى جانب جزء من الأرباح من سنة 1921 حتى سنة 1968.
__________
(1) "محمد فريد" لعبد الرحمن الرافعي.
(2) أحد تلامذة محمد عبده!! وشقيق سعد زغلول.
(3) أشهر القضايا المصرية.
(4) "تراجم مصرية وعربية" للدكتور محمد حسين هيكل.
(2/356)
________________________________________
وقد ظل المشروع سريًا بينهم وكأن مصر عزبة خاصة بهم وحدهم يبيعون فيها ويشترون، حتى كشفه محمد فريد، عندما حصل على نسخة منه، ونشرها بجريدة اللواء ليشهد كل شعب مصر على طغمة ممن تآمروا عليه وخانوه.
وافتضح سر فكرة المشروع الذي نص على أن يُجدد عقد امتياز الشركة، بحيث تبدأ التسعة والتسعون عامًا، من تاريخ توقيع العقد الجديد، فيمتد أجل الامتياز حتى 31 ديسمبر سنة 2008.
أما ثالث خيانات بطرس، إعادة قانون المطبوعات القديم، الصادر أثناء الثورة العرابية -والذي أُبطل العمل به- لردع الصحف التي تجاوزت الحدود، وأجادت عملها في كشف المستور من الخيانات والمؤامرات، بحيث تحول التهم الصحفية إلى محكمة الجنايات مباشرة.
ثم تجيء رابع الخيانات الكبرى عندما وقع بطرس غالي اتفاقية السودان، التي أعطت الإنجليز حق الحصول على نصف حقوق مصر في السودان، وأصبح حاكم السودان تحت وصاية الخديوي، بناء على طلب حكومة إنجلترا.
ولذا كله، عندما سُئل إبراهيم الورداني عن دوافع ما فعله، قال:
"لقد قتلته؛ لأنه خائن وجزاء الخائن هو البتر" (1).
ومن قبل لما شرعت النظارة العدلية (وزارة العدل) المصرية عام 1874 م، في التحضير لإنشاء المحاكم المختلطة -استجابة لأطماع النصارى التي تتجدد في صمت ودهاء بلا هوادة- بعد أن كانت تطبق نظم الشريعة الإسلامية فقط، أسندت إلى الجد بطرس باشا غالي بمعاونة محمد باشا قدري، ترجمة قوانين هذه المحاكم -التي احتوت على كثير من التشريعات
__________
(1) "الثائر الصامت" لعبد العزيز علي.
(2/357)
________________________________________
الفرنسية- إلى اللغة العربية، وهي التي ما زلنا نُحكَم بها حتى اليوم (1).

* الجيل الثاني من الخونة في عائلة غالي: نجيب وواصف غالي:
ظل نجيب غالي المسئول عن الخارجية المصرية طوال فترة الحماية البريطانية على مصر ومن أجل عيون الاحتلال، كان عينًا لهم بين صفوف الوطنيين، وكان عونًا لهم على تمثيل مصر في المحافل الدولية المشاركة في التآمر على تاريخ مصر.
ثم جاء شقيقه واصف بطرس غالي أفندي، ليشغل المناصب التالية على الترتيب في نفس التخصص:
- وزيرًا للخارجية في وزارة سعد زغلول باشا الأول.
(18 يناير 1924 - 24 نوفمبر 1924)
ولقد لعب دورًا ضخمًا في تحقيق أهداف الإنجليز لدى وزارة سعد الوفدية، والتي تمثلت في الاعتراف بوجود بريطاني فعال في مصر عن طريق المفاوضات، إذ أن مثل هذا الاعتراف أدى بشكل قوي إلى تحقيق مرمى الاستراتيجية البريطانية حينذاك في تثبيت دعاماتها بأرض مصر.
- وزيرًا للخارجية في وزارة النحاس باشا الأولى.
(16 مارس 1928 - 25 يونيه 1924)
- وزيرًا للخارجية في وزارة النحاس باشا الثانية.
(1 يناير 1930 - 19 يونيه 1930)
- وزيرًا للخارجية في وزارة النحاس باشا الثالثة.
(9 مايو 1936 - 31 يوليو 1937)
__________
(1) "بطرس بيتر غالي" (ص 37).
(2/358)
________________________________________
- وزيرًا للخارجية في وزارة النحاس باشا الرابعة.
(أغسطس 1937 - 30 ديسمبر 1937)
ويلاحظ أن واصف بطرس غالي كان أول وزير خارجية ممثلاً لحزب الوفد مع سعد زغلول في وزارته الأولى، ثم اختفى ليعود ثانية ملازمًا للتشكيلات الأربع لوزارات النحاس، ثم انتهى بانتهاء النحاس ولم يُسمَع له صوتٌ بعد ذلك.
ولم يحتفظ له التاريخ بسطر واحد، يمكن أن يشهد له أنه كان لمصر قبل الإنجليز، أو أنه تمثل موقفًا وطنيًا أعلن من خلاله رفضه للاحتلال والوصاية.
وحتى لا تترك أسرة غالي مجالاً لتَلَمُّس براءتها من هذه الأدوار المشبوهة في تاريخ مصر، أصدر (مترى بطرس غالي) عام 1938 كتابًا على غاية من الخطورة في تلك الحقبة الخطرة، تحت عنوان "سياسة الغد" وضع فيه الخطوط العريضة للسياسة الوطنية المصرية تجاه الوجود الاستعماري، ظهرت من خلال سطوره، روح تعاونية مع البريطانيين، ثم تَذَمَّر من اهتمام المصريين وقادتهم، بالاستقلال والوطنية (1).

* بطرس غالي الحفيد ودوره الجهنمي في الصلح مع إسرائيل واليهود أصهاره:
- قال الباحث عبد العاطي محمد أحد تلاميذ بطرس غالي الأوفياء في حديث له بمجلة السياسة الدولية أن بطرس غالي كان "من أشد المتحمسين للسلام بين العرب وإسرائيل" (2).
__________
(1) المصدر السابق (ص 27 - 28).
(2) مجلة السياسة الدولية أبريل 1992 (ص 77).
(2/359)
________________________________________
* بطرس غالي الخائن فرعون السلام مع اليهود:
- ومن مذكرات موشى ديان (1) يقول ديان:
"اقترحت على غالي أن يطلب من السادات ألا يتكلم في نقاشه مع الحكومة الإسرائيلية، عن اشتراك هذه المنظمة في المفاوضات؛ لأن رد الحكومة سيكون بالنفي، ووعدني بذلك، وفعلاً لم يذكر السادات منظمة التحرير الفلسطينية في خطابه الذي ألقاه في اليوم التالي.
.. وعند مدخل فندق الملك داود، استطعنا بصعوبة بالغة اختراق جموع المضيفين والصحفيين. وقد رافقت بطرس غالي حتى غرفته ثم تركته وذهبت" (2).
كما أشار ديان في مذكراته أيضًا، إلى أنه شعر بالارتياح لمحادثاته مع غالي، حيث قال: "إننا نظمنا خلافاتنا، وطالب ديان غالي عوضًا عن بحث المشاكل، الكلام عن العلاقات التي ترغب إسرائيل في إنشائها مع مصر .. فركز غالي على تحديد إطار للتسوية الشاملة" (3).
ولما تبادل ديان مع غالي الكلام حول مدينة القدس الشريفة.
- قال ديان لغالي:
"إننا عندما نبحث مستقبل القدس، فإننا سنعمل جيدًا إذا لم نبدأ البحث بسيادة القدس، بل نعالج مشاكل الأماكن المقدسة" (4).
وبدلاً من أن يغضب بطرس غالي في وجه ديان، والذي أثار دهشة
__________
(1) "أيبقى السيف الحكم" ترجمة لكتاب "الاختراق" لموشى ديان ط 2 1990.
(2) السابق (ص 65).
(3) "بطرس غالي" (75).
(4) المصدر السابق.
(2/360)
________________________________________
ديان، أن بطرس علق قائلاً:
- نعم، إنه يجب أن نتطلع لمحاولة إيجاد مفهوم جديد يتعلق بسيادة القدس.
كانت الإجابة غامضة، لكنها على كل حال تسير في نفس اتجاه ديان، مما شجعه على طرح السؤال الأكبر.
- إذا كان بإمكانك أن تبحث مع ( ... ) مسألة السيادة على القدس، ذلك أن اهتماماتهم ومفهومهم عن القدس قد أصبح مفهومًا قديمًا وقد طواه النسيان؟
فتأمله غالي ثم أجابه بهدوء:
- إنك على حق" ا. هـ.
"وشارك غالي في المركز الأكاديمي المصري -الإسرائيلي بالقاهرة كعضو عامل وفعال، من خلال محاضراته وجهوده الدءوبة لبث ثقة متبادلة بين الشعبين" وحث تلاميذه على ترسيخ مفاهيم التطبيع، وإنشاء المصطلحات السياسية والثقافية والفكرية التي تعمل على إذابة الجليد بين المصريين والصهاينة.
- ثم يضيف الدكتور نبيل السمان (1) قائلاً:
"وَأحَبَّ الدكتور غالي أن تُلتَقط له صور تمثل معركة قاديش التي جرت عام 299 قبل الميلاد، والتي جرت بين مصر الفرعونية وإمبراطورية الحيثيين، ونتج عن هذه المعركة الفاصلة، قناعة لدى فرعون مصر، رمسيس الثاني، والذي تمتع بشهرة عالمية واسعة، وأول من وقع معاهدة سلام مع خصومه من منطق قوة، وليس ضعف، إذ كان يشعر بسطوته، وضعف أعدائه، ولكن
__________
(1) في كتابه "بطرس غالي والحكومه العالمية".
(2/361)
________________________________________
السلام الذي أرسى رمسيس دعاتمه، يمكن أن يمتد ليومنا هذا حسب ما يشير إليه الدكتور غالي:
"ما توصل إليه سكان المنطقة قبل ثلاثة آلاف سنة، يمكن لأبنائهم أن يحاكوه ويقلدوه" (1).
ولكن مقولة الدكتور غالي، لا تنطبق على المصريين أو العرب، حسبما نرى ويرى هو، ولكنها تنطبق تمامًا -وهذا ليس بغائب عن فهم الدكتور- على الإسرائليين الذين يملكون من أسباب المنعة والقوة من الأسلحة النووية، والتقليدية .. ما لا يملكه خصومهم العرب.
ونظرًا لكون الدكتور غالي أحد مهندسي معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، والتي أدت إلى توقيع معاهدات كامب ديفيد -السرية والعلنية- فإنه يشعر أن من حقه وضع الفرعون رمسيس -كمثله الأعلى- في التسامح والسلام الواقعي ولذا، كان سباقًا، فقبل مشاركته السادات في رحلته التاريخية إلى القدس وضع تصورًا كاملاً لتفاصيل اتفاقية السلام مع الصهاينة، وحدد نقاط اهتمامه بضرورة التعايش السلمي بين مصر الفرعونية (!! ) والصهيونية ذات الأصول الفرعونية أيضًا، ويشير إلى ذلك قائلاً:
"لقد عملت في المفاوضات مع إسرائيل لسنوات طويلة، حتى أن الإسرائيليين اتهموني بأني المهندس الأكاديمي لمبادرة الرئيس السادات ( ... ) لكن ما حدث أن الإسرائيلبن بحثوا في مقالاتي، ووجدوا مقالاً كنت قد كتبته في مجلة السياسة الدولية، وذكرت فيه صراحة، أنه لا بد من إيجاد صيغة للتعايش السلمي مع إسرائيل.
ووجدوا أيضًا أنني قمت في عام 1975 بعمل ندوة في مركز
__________
(1) المصدر السابق (ص 66).
(2/362)
________________________________________
الدراسات السياسية والاستراتيجية (بمؤسسة الأهرام)، ودعوت فيها بعض العناصر الصهيونية، وعلى هذا الأساس بنوا افتراضهم هذا ( ... ) " (1).

* بطرس غالي وما أدراك ما بطرس؟
كانت نقطة التحول الكبرى في حياته العملية، تدريسه في جامعة كولومبيا الأمريكية من خلال منحة فولبرايت الأمريكية وهي هيئة صليبية صهيونية ومركزها وتمويلها المالي من أمريكا.
- وعندما تسلم بطرس ملف أفريقيا في الخارجية المصرية كانت الغالبية العظمى من الدول الأفريقية ملتزمة بقطع علاقاتها مع الكيان اليهودي ثم تغيرّ الوضع على يد بطرس صدق أو لا تصدق؟!
ففي إحدى ندوات مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجامعة القاهرة سأل أحد الباحثين بطرس غالي:
- كيف تذهب إلى إسرائيل في إطار العلاقات المصرية الإسرائيلية، وتطالب الأفريقيين بعدم إقامة علاقات مع إسرائيل؟!
كان السؤال في موضعه الصحيح حيث تزامن مع تهافت عدد من الدول الأفريقية لاستعادة علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، استجابة للضغوط الأمريكية عليها، وكان رد بطرس عجيبًا، فقال:
- أنا أقول للأفريقيين أن مصر أقامت علاقاتها مع إسرائيل لاستعادة أراضيها، أما أنتم فإن إسرائيل لا تحتل أراضيكم، وبالتالي لماذا تقيمون معها علاقات!!
واندهش بطرس من طرح إحدى معيدات كلية الاقتصاد والعلوم
__________
(1) "بطرس غالي والحكومة العالمية" (ص 67 - 68).
(2/363)
________________________________________
السياسية يومها حول حتمية توظيف مصر للعنصر الإسلامي لمحاصرة التغلغل الصهيوني في القارة السوداء، وأنه بدون الاستناد إلى الظهير الإسلامي، فإن التنافر بين مصر والكيان الصهيوني في أفريقيا سيكون في صالح الأخيرة التي تحرص على توظيف عقيدتها اليهودية وتحظى بدعم الولايات المتحدة ومنظمات التبشير في آن واحد.
وكان مثار دهشة بطرس أن علاقات الكيان الصهيوني مع أفريقيا تنحصر في مجال التعاون الأمني والزراعي، حيث تقوم بتدريب أطقم الحراسة لعدد من الرؤساء الأفارقة، وترسل عددًا من خبرائها في الزراعة إلى عدد من الدول الأفريقية .. فقط ليس أكثر من هذا!! وهل هناك تعاون أكثر من هذا!! (1).

* كفى كفى يا بطرس:
صدرت عن الدكتور بطرس غالي سكرتير الأمم المتحدة عدة تصريحات منذ بدأ مهام منصبه أثارت غضب واستياء الكثيرين؟ فقد صرح بأن القرار 242 غير ملزم لإسرائيل. وقد قال هذه العبارة باللغة العربية، والمعنى واضح تمامًا، وليس هناك أي مجال للتحجج بأن الترجمة غير دقيقة.
وعلى مدى 25 عامًا في صدور القانون 242 تولى خلالها منصب السكرتير العام للأمم المتحدة عدة أشخاص، لم يصدر عن أي منهم مثل هذه العبارة التي قالها الدكتور غالي والتي تفتح الباب أمام إسرائيل لمزيد من التبجح والتهرب من تنفيذ قرار الأمم المتحدة.
__________
(1) مجلة الإصلاح الخليجية/عدد 30/ 12/1992، ويقصد بطرس هنا أن الكيان الصهيوني لم يعلن أنه يوظف تمسكه بعقيدته اليهودية في تدريبه لأطقم حراسة الرؤساء الأفارقة، أو خبراء الزراعة التابعين لجهاز الموساد الصهيوني مباشرة.
(2/364)
________________________________________
طلب المسئولون الفرنسيون من الدكتور بطرس غالي بعد انتهاء العدوان الهمجي البربري للصرب على جمهورية البوسنة والهرسك بأن ترسل الأمم المتحدة قوات لحفظ السلام ومنع اعتداءات الصرب على البوسنة والهرسك، فرفض الدكتور بطرس غالي إرسال قوات من الأمم المتحدة؛ لأن القدرات الحالية للأمم المتحدة لا تسمح بذلك! وهو أمر لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال.
ويثير الشكوك حول حياد الأمم المتحدة في التعامل مع دول العالم المختلفة، إرسال أكثر من أربعة عشر ألف جندي من القوات تحت أعلام الأمم المتحدة بسلاحهم ومدرعاتهم إلى كرواتيا قبل أن يصدر عن الدكتور غالي رفضه إرسال قوات إلى البوسنة والهرسك بأسابيع قليلة.
ثم رفض الدكتور غالي طلب مجلس الأمن بإشراف الأمم المتحدة على عملية تسليم الأسلحة الثقيلة بمقتضى اتفاقية لندن، وبعث بخطاب شديد اللهجة، لأعضاء مجلس الأمن يحتج فيه على عدم إشراكه في اتخاذ القرار، وقال: إنه لن يوصي بتنفيذه، موضحًا أن أحد أسباب رفضه يرجع إلى مسألة الأولويات.
وبعد ذلك بأيام تقدم الدكتور غالي يطلب من مجلس الأمن الموافقة على زيادة عدد قوات الأمم المتحدة في كرواتيا، وتمت الموافقة على ذلك، أي أنه بكل وضوح يكيل بمكيالين.
يرفض إرسال قوات عددها ألف ومائة رجل إلى البوسنة والهرسك للسيطرة على الأسلحة الثقيلة، وفي نفس الوقت يطلب زيادة القوات في كرواتيا التي يوجد بها بالفعل أكثر من أربعة عشر ألف رجل من قوات الأمم المتحدة.
إن الاختلاف الجذري الذي حدث في تقييم العالم للدكتور بطرس غالي
(2/365)
________________________________________
يوم توليه مهام منصبه كسكرتير عام للأمم المتحدة والتقييم الذي تردده الصحافة الدولية الآن، ليس من قبيل الصدفة، بل على ما أعتقد أنه عقاب من السماء للدكتور بطرس، على رفضه منذ شهور إرسال قوات من الأمم المتحدة لحفظ السلام في البوسنة والهرسك مثل ما تم في كرواتيا.
- إن عشرات الآلاف من القتلى قد صعدت أرواحهم إلى الله تشكو وأن عشرات الآلاف من الجرحى الذين يتألمون لا يكفون عن التوجه إلى الله بالدعاء ( ... ) وقد نقلت شبكة تلفزيونية أمريكية عدة مشاهد تصور فظائع معسكرات الاعتقال الصربية لأبناء البوسنة والهرسك من المسلمين، وصفها مراسل الشبكة التلفزيونية بأنها وحشية لا مثيل لها في التاريخ".

* قبل أن نفقد الذاكرة:
نشرت مجلة الدعوة السعودية (25/ 2/1993) الخبرين التاليين:
- (جثمان) مجلس الأمن:
قام المبعدون الفلسطينيون في مخيم مرج الزهور بالجنوب اللبناني، بتشييع جثمان مجلس الأمن إلى القبر وذلك بعد أن رضخ المجلس لشروط ومطالب إسرائيل ورفض تنفيذ قراره رقم 799 الذي يقضي بعودة جميع المبعدين إلى الأراضي المحتلة فورًا.
قام المبعدون بمسيرة في موقع إبعادهم، حملوا فيها (جثمان) مجلس الأمن، وقد كتبت عليه عبارة "مصداقية مجلس الأمن إلى مثواها الأخير" وألصق على وجه (الجثمان) علم الأمم المتحدة.
وتقدم المسيرة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي المتحدث باسم المبعدين والدكتور عزيز دويك والشيخ حامد البيتاوي خطيب المسجد الأقصى .. نعم هذا هو مجلس الأمن!!.
(2/366)
________________________________________
* بطرس والمُبْعَدُون!!
من الواضح أن الأمين العام للأمم المتحدة بطرس بطرس صرف نظره عن قضية المبعدين، كما صرف نظره عن الأعمال الإجرامية البشعة التي يقوم بها الصرب ضد المسلمين. كما غفا بصره عن الأعمال الإجرامية التي تقوم بها الهند في كشمير والتي يقوم بها راموس في الفلبين ضد المسلمين، والتي تقوم بها السلطات البورمية ضد مسلمي أركان .. ولكن بطرس بطرس متيقظ تمامًا لأي تحرك مسلم حتى ولو كان للدفاع عن النفس .. فمنذ أيام أصدر بطرس بيانًا شديد اللهجة ندد فيه بالهجوم الذي شنته القوات المسلمة على مواقع صربية قرب مطار سراييفو .. وكان لسان حاله يقول: "على المسلمين أن يسلموا أعناقهم لتقطعها خناجر الصرب ولا يجوز لهم حتى التأوه".
القوات المسلمة في البوسنة شنت هجومًا كبيرًا على الصرب في منطقة ابليدزا القريبة من المطار .. !!

* بطرس يذبح فلسطين على مذبح الأمم المتحدة الماسونية وفي ظل حكومته العالمية:
- نتيجة من النتائج:
إن قول بطرس بأن قرار الأمم المتحدة كانت رقم 242 غير ملزم هو وصف لم تستطع إسرائيل نفسها أن تدعيه، بل كانت تلف وتدور حوله بالادعاء بأنها كانت في حالة دفاع عن النفس في حرب 1967.
وكانت أول مرة تشير إسرائيل إلى شيء قريب مما قاله بطرس غالي، عندما خرج الإرهابي مناحم بيجين بعد اجتماعه مع السادات في الإسماعيلية ليقول في مؤتمر صحفي:
(2/367)
________________________________________
"إن الرئيس السادات اعترف لي بأن قرار عبد الناصر مطالبة سحب القوات الدولية من سيناء، يحمل معنى العدوان وأن إسرائيل كانت محقة فيما اتخذته من إجراءات".
ولم يعلق السادات على هذا الكلام وقتئذ!!
وكان هذا التقسيم لقرارات الأمم المتحدة إلى قرارات ملزمة وأخرى غير ملزمة هو الأول من نوعه في تاريخ المنظمة الدولية (1).

* بطرس غالي صاحب فكرة جامعة سنجور التنصيرية:
- قال بطرس غالي: "إن الدائرة التي يجب أن تنال اهتمامنا يجب أن تكون الدائرة الأفريقية؛ لأن مصر دولة أفريقية بالأساس، ليس فقط كذلك، ولكنها دولة أفريقية ممتدة جنوبًا حيث تظهر منابع النيل".
ولم يكتف د. بطرس بطرح هذا التوجه السياسي المشبوه، على شعب مصر الإسلامية العربية لسلخ مصر عن الأمة التي تنتمي إليها، لغة وعقيدة وجغرافية وتاريخًا وحضارة، بل أراد وحقق ما أراد، بوضع أسس عملية لهذه العلاقة التاريخية" (2).
- فلقد أعاد الجسور بين الكنيسة المصرية وبعض الكنائس الأفريقية التي كانت قد اتخذت مواقف عكسية بعد انفصال الكنيسة الأثيوبية عنها.
- ثم إنه هو صاحب فكرة إنشاء الجامعة الدولية الناطقة بالفرنسية، على غرار الجامعة الأمريكية في مصر والتي تحرر عقد إنشائها في 27/ 5/1989 بالعاصمة السنغالية داكار وبذل جهدًا جبارًا ليكون مقرها الإسكندرية، وأطلق
__________
(1) "بطرس بيتر غالي" (ص 173).
(2) "بطرس بيتر غالي" (ص 8).
(2/368)
________________________________________
عليها اسم "جامعة سنجور" ومن مهامها الأولى بعد مهمة التنصير، صناعة زعماء المستقبل للدول الأفريقية في ظل النظام الدولي الجديد الذي تم التخطيط له منذ سنوات.
وقد قام الرئيس مبارك بافتتاحها في 4/ 11/1990 وحضر الافتتاح الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، والرئيس السنغالي عبده ضيوف، والرئيس الزائيري موبوتو سيسي سيكو، وولي العهد البلجيكي، والرئيس السنغالي السابق ليوبولد سنجور الذي أطلق -بطرس- اسمه على الجامعة.

* ضيوف بطرس يوم افتتاح جامعة سنجور التنصيرية:
وإذا كانت فكرة إنشاء هذه الجامعة تشكل أهمية في التدليل على خيانات بطرس للتاريخ ودأبه على زرع هذه القلاع الكنسية في بلاد المسلمين، فإن الدليل الذي لا يصح إغفاله، هو تسليط الضوء بإيجاز شديد على ثلاثة ممن استضافهم بطرس لافتتاح الجامعة.

* سنجور:
هو (ليوبولد سنجور) الذي تحمل الجامعة اسمه تعبيرًا من بطرس عن اعتزازه به وإشادة بدوره التنصيري في أفريقيا.
وهو صليبي متعصب يكره الإسلام والمسلمين.
- ولد من أبوين مسلمين في السنغال، ثم خطف إلى فرنسا منذ صغره، وأُعد إعدادًا متميزًا ليكون هو أول رئيس لجمهورية السنغال بعد تحررها الشكلي من الاحتلال العسكري الفرنسي الصليبي، فمارس كل أشكال الإرهاب والقهر ضد المسلمين هناك، ومنع إنشاء المساجد، ولم يسمح بأي نشاط اجتماعي للمسلمين في غير الأطر التنظيمية التي تسمح بها الكنائس هناك.
(2/369)
________________________________________
وبذلك فإن اختيار اسم الجامعة التي أقيمت على أرض الإسكندرية،
بأن يكون اسمًّا لصليبي، ذي أصول إسلامية، فإنما يحمل رسالة ودلالة، لمسلمي مصر من ناحية، ولنصارى فرنسا وما يتبعهم من كنائس في بلاد المسلمين من ناحية أخرى.

* موبوتو سيسي سيكو:
هو القديس (62 عامًا) الذي تمر أشعة الشمس من خلال أشجار الغابة والزجاج الملون لنوافذ كنيسته، فتصنع حول رأسه هالة من الضوء متعددة الألوان، قابضًا يديه الاثنتين معًا على صدره، منحنيًّا يصلي في صمت الرهبان.
تولى الحكم الديكتاتوريَ المطلق لأكثر من 35 مليون زائيري منذ 27 عامًا، لم يغب فيها مرة واحدة عن قُداس يوم الأحد إلا لسفره خارج بلاده، وما خرج يومًا من قداسه، إلا واجتمع بحاشيته في القصر الرئاسي المجاور للكنيسة، ليحتسي شرابه المقدس من الخمر (شمبانيا لوران بيرون الوردية).
اتخذ لنفسه اسمًا يصعب على أي بشر أن يحمله، أو يترك سلطانًا لحكم وقع تحت يديه، وهو: "موبوتو سيسي سيكو كوكو نغبيندو وازا بانغا".
ومعناها: "المحارب شديد المراس الذي وبسبب قوة تَحَمُّله وصلابته، سيفوز خارجًا من نصر إلى نصر مخلفًا النار في أثره".

* فرانسوا ميتران:
أما عن فرانسوا ميتران ذلك الصليبي المتعصب، فيكفي أن نذكر عبارته الوقحه التي بثها عن طريق وكالات الإعلام الصهيونية في ديسمبر الماضي 1992 وتناقلتها أجهزة الإعلام العربية بغباء شديد قوله:
"إنني لا أرضى على ما يحدث في البوسنة من جرائم بشعة، لكنني لن
(2/370)
________________________________________
أسمح بأن تكون البوسنة دولة إسلامية في قلب أوربا".

* بطرس وميوله الصليبية للغرب:
في ندوة نظمتها جمعية القانون الدولي في لاهاي عام 1956 "وقف بطرس غالي الأستاذ بكلية الحقوق جامعة القاهرة وقتها؛ ليؤيد التدخل الفرنسي والإنجليزي في قناة السويس .. وعندما كرر بطرس غالي ترديد هذه الآراء غير الشريفة لم يتمالك الدكتور عز الدين فودة -أستاذ المنظمات الدولية في جامعة القاهرة نفسه، وطرح بطرس غالي أرضًا، وانهال عليه ضربًا بالأيدي والنعال، ولم يخلّصه منه إلا عم "حسّان" مسئول المطبعة بالكلية" (1).

* اختيار بطرس سكرتيرًا وأمينًا عامًا للأمم المتحدة بيت صهيون:
- تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) (2):
"إن الذي قد يغيب عن الوعي العام، هو أن هيئة الأمم المتحدة هي البديل الصهيوني الأمريكي من عصبة الأمم المتحدة، التي قامت بعد إعلان هدنة الحرب العالمية الأولى في الحادي عشر من نوفمبر سنة 1918، ونيط بها تنفيذ الميثاق الذي أعلنه مؤتمر السلام من قصر فرساي بجنيف في العالم التالي للهدنة، وفيه تقرر وضع فلسطين تحت انتداب بريطانيا العظمى التي سبق أن أعلنت (وعد بلفور) من لندن في نوفمبر سنة 1917.
من شهود العصر، الكونت دي سان أوكلير (السفير الفرنسي بلندن وقتئذ) وقد سجل في كتابه: "في جنيف نحو السلام" نص برقية من ألف
__________
(1) مجلة الإصلاح الخليجية 30/ 12/1962.
(2) صحيفة الأهرام 4/ 2/1993.
(2/371)
________________________________________
* كلمة تلقاها "الرئيس الأمريكي نيلسون" -رئيس مؤتمر السلام- يوم 18/ 3/1919 م من (يعقوب شيف) ممثل المنظمة اليهودية في الولاية المتحدة الأمريكية، عن القضايا الخمس المعروضة على مؤتمر السلام، وأولاها قضية فلسطين.
وأكد السفير أن النصوص التي تضمنتها معاهدة فرساي، هي من وضع (يعقوب شيف) وأبناء جلدته، وذلك ما صرح به (حاييم وايزمان) في خطابه في المؤتمر الصهيوني في بودابست سنة 1919، قال:
"إن منظمتنا ستلعب دورها في تنظيم العالم الجديد بعد الحرب، إننا نحن الذين صنعنا عصبة الأمم، وسوف نتابع السير وراء هذه المنظمة الدولية لتوجيهها ( ... ).
ومن ثم كانت المنظمة الصهيونية وراء نقل عصبة الأمم من جينيف إلى نيويورك باسم هيئة الأمم المتحدة، مفيدة بمجلس الأمن، الذي يحكم العالم الجديد بحق (الفيتو)، ينقض ما لا ترضاه الشرعية الدولية لهيئة الأمم المتحدة.
وجاء في محاضر مؤتمر المحافل الماسونية العالمية المنعقد في 28، 29، 30/ 6/1917 - أي قبل أن يفكر أحد من غير اليهود في تأسيس عصبة الأمم:
"إنه لمهم جدًّا أن نبني مدينة المستقبل السعيدة. ومن أجل تلك المهمة الماسونية الصادقة دعيتم اليوم. لقد حولنا هذه الحرب إلى نزاع رهيب بين الديمقراطيات المنظمة والقوى العسكرية الجبارة. لقد تحطمت في هذا الإعصار القوى القديمة (القياصرة) ولسوف تجرف رياح الحرية (المزيفة) بقية الحكومات، فلا مندوحة إذن من صنع سلطة عالمية عليا. إن الماسونية صانعة السلام، تطرح على بساط البحث موضوع هذه الهيئة الجديدة: عصبة الأمم".
(2/372)
________________________________________
* بعد قيام عصبة الأمم:
- قال اليهودي جسي سامتر في كتابه "الدليل إلى الصهيونية": "إن عصبة الأمم فكرة يهودية قديمة".
- وقال اليهودي الماسوني لينهوف في جريدة "واينر فريمور رازايتنج" عدد 6 عام 1927 م:
"لقد صدق الذين يربطون بين عصبة الأمم والماسونية؛ لأن عصبة الأمم كما هي اليوم مشتقة من تعاليم الماسونية وأفكارها".
- وقالت جريدة (Judische Rundschau) اليهودية في عددها 83 عام 1921 م.
"المكان الصحيح لعصبة الأمم ليس "جنيف" أو "لاهاي" .. لقد حلم جينزبرج بهيكل على جبل صهيون حيث يدشن ممثلو جميع الأمم الهيكل (المزعوم) في المكان الأبدي. ولا يمكن أن يقوم سلام ما لم يتوجه جميع الناس في العالم لزيارة ذلك الهيكل كسيّاح".
- وقال المؤرخ اليهودي إسرائيل زانجويل في جريدة "الجويش جارديان"
اللندنية بتاريخ 11/ 6/1920 م: "إن معاهدات الأقليات هي المحك لعصبة الأمم، وذلك هو اهتمام اليهود وطموحهم".
وقال الصهيوني ناحوم سوكولوف في المؤتمر اليهودي الذي عقد في كارلسباد بتاريخ 27/ 1/1922 م ونشرته جريدة نيويورك تايمز في اليوم التالي:
"إن عصبة الأمم فكرة يهودية، لقد صنعناها بعد كفاح دام 25 سنة.
وستكون القدس يومًا ما عاصمة للسلم العالمي. إن ما حققناه نحن اليهود بعد كفاح 25 سنة، يرجع الفضل فيه إلى زعيمنا الخالد تيودور هرتسل".
(2/373)
________________________________________
* الأمم المتحدة:
أنشأ اليهود عصابة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى التي دبروها وخططوا لها، لتقرر بدء عملية تهويد فلسطين، ولتشرف على تنفيذ تلك العملية الإجرامية.
ثم دبر اليهود وخططوا للحرب العالمية الثانية، وبعد انتهائها أنشأوا الأمم المتحدة لتقوم بالمرحلة الثانية في جريمة اغتصاب فلسطين، بإصدار قرار تقسيمها وإنشاء دولة لليهود على أرضها المقدسة.
ومنذ إعادة تأسيس بيت صهيون باسمه الجديد (الأمم المتحدة) وهي تضم 60% من موظفيها من اليهود الصهاينة مع أن نسبة عدد اليهود إلى سكان العالم لا تزيد على 0. 5% أي نصف في المائة.
وكانت الأمم المتحدة من إنشائها حتى يومنا هذا أداة في خدمة فكرة الصهيونية، وكل قرار لها يتعارض مع رغبة اليهود يُجمَّد، ولا تجد من يثيره أو يطالب بتنفيذه؛ لأن أكثر من 100 دولة تعترف بإسرائيل وتتبادل معها التمثيل السياسي والقنصلي وترسل سفراءها إلى مقر الحكومة اليهودية في القدس.
وليس هذا فقط وحسب، بل إن الأخطبوط اليهودي المحتل ينشب أظفاره في كيان الأمم المتحدة، يوجه نشاطها إلى مصلحة الصهيونية العنصرية، والإحصائية التالية تثبت جانبًا من قوة ذلك الأخطبوط، وهذه الإحصائية عن السنوات الأولى التي أعقبت تأسيس هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945 م تثبت جانبًا من قوة ذلك الأخطبوط، الذي ما زال باسطًا أذرعه على كل إدارات الجمعية، ومسيطرًا على كل مناطق النفوذ والقرار فيها، وبيانها كما يلي:
تريجفي لي: أول سكرتير عام للمنظمة، يهودي ويظن الناس أنه عميل يهودي فقط.
(2/374)
________________________________________
بنجامين كوهين: مساعد السكرتير العام لشئون الإعلام - يهودي.
ك. ويتز: مدير المكتب الإداري - يهودي.
أ. روزنبرج: مستشار خاص للإدارة الاقتصادية - يهودي.
د. وينتروب: مدير الإدارة الاقتصادية - يهودي.
بنويت ليفي: مدير قسم الأفلام - يهودي.
ماكس أبراموفتش: نائب مدير الهيئة الإدارية - يهودي.
أ. فيلر: مدير الإدارة القانونية - يهودي.
د. زابلودسكي: مدير إدارة المطبوعات، قسم الوثائق - يهودي.
ج. رابينوفتش: مدير قسم الترجمة - يهودي.
ج. شابيرو: مدير مركز الأمم المتحدة في جنيف - يهودي.
م. بيرجمان: مدير التنفيذات - يهودي.
د. مورس: مدير عام مكتب العمل الدولي في جنيف - يهودي.
م. مندلز: سكرتير البنك الدولي - يهودي.
ك. جت: مدير إدارة الاعتمادات المالية الدولية - يهودي.
و. التمان: مساعد إدارة الاعتمادات المالية الدولية - يهودي.
م. برنشتاين: مدير الأبحاث في الاعتمادات المالية الدولية - يهودي.
جوزيف جولد: المستشار الثاني في الاعتمادات المالية - يهودي.
ج. ماير: المدير الفني لهيئة الصحة العالمية - يهودي.
م. كوهين: مدير مؤسسة اللاجئين الدولية - يهودي.
***
(2/375)
________________________________________
* وتم تعيين بطرس غالي أمينًا عامًا للأمم المتحدة وهذه أقوال صحف الغرب:
- نشرت صحيفة الفيجارو الفرنسية مقالاً تحت عنوان:
بيتر غالي الأمين العام الجديد (الرجل الذي قاد السادات إلى القدس) (1).
- وفي مقال لصحيفة "انترناشيونال هيرالد تريبيون" (2) تحت عنوان:
(اختيار مصري من قِبَل الأمم المتحدة ... ).
حدد الكاتب ثلاثة عناصر أساسية، هي التي أهَّلت الدكتور (بطرس) للنجاح وهي:
1 - انتماؤه إلى المسيحية:
وهو أمر جعله "مقبولاً لدى العديد من الأعضاء في الأمم المتحدة".
2 - أن زوجته يهودية:
وهو أمر جعله مقبولاً لدى اللوبي الصهيوني الذي يحكم بيت الأمم هذا.
3 - دوره الجهنمي:
أثناء موافقته للرئيس السادات في زيارته التاريخية للقدس 1977 م، ثم محادثات كامب داود، ثم تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.
- وهي العناصر الثلاثة نفسها التي ذكرها الكاتب الإنجليزي جيمس بون في صحيفة "التايمز" اللندنية تحت عنوان: بطرس غالي يواجه تحدي الإصلاح.
__________
(1) "بطرس بيتر غالي" (ص 89 - 93، 100 - 101).
(2) في 24/ 11/1991.
(2/376)
________________________________________
* قصاصات من الصحافة العربية والدولية:
- مجرد تساؤل: ماذا يريد بطرس غالي؟
نعم نتساءل: ماذا يريد بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة؟ قبل مدة ومع تصاعد مذابح القوات والميلشيات الصربية ضد مسلمي البوسنة والهرسك اعتذر الأمين العام للمنظمة التي يفترض فيها أن تكون "دولية" عن عدم تمكن المنظمة من إرسال قوات سلام إلى الجمهورية "المسكينة"؛ لأنه لا يملك المال الكافي لتمويل إرسال تلك القوات، مع أن الأمين "المحترم" كان قد أرسل قبل ذلك ما يقرب من 14 ألف جندي إلى كرواتيا لحمايتها من الصرب! فهل مسيحو كرواتيا أكثر إنسانية من مسلمي البوسنة حتى يستحقوا إرسال قوات سلام إليهم؟!
واليوم يعلن بطرس غالي بعد اطلاعه على تقرير مبعوثه إلى يوغسلافيا "أنه لا يمكن إرسال قوات دولية إلى البوسنة بسبب غموض الموقف. كما أنه ليس بالمستطاع تلبية طلب المسئولين في البوسنة في شأن نشر هذه القوات ما دام القتال مستمرًا".
ونحن لا نفهم لماذا يصر الأمين العام على أن الموقف في البوسنة غامض؟! فأي غموض هذا الذي يتحدث عنه؟! آلاف من الأبرياء يحاصرون ويذبحون ذبح النعاج وهم لا حول لهم ولا قوة ولا يزال الموقف غامضًا؟!
ثم إذا لم يكن مستطاعًا نشر قوات السلام ما دام القتال مستمرًا، فمتى تنشر، بعد أن يبيد الصرب آخر مواطن مسلم في البوسنة ويدمروا كل قرية فيها، ويسقطوا عاصمتها؟! إنه منطق عجيب.
وأخيرا -وليس آخرًا في عجائب بطرس غالي اقتراحه أن تترك جهود التفاوض وأنشطة ***** السلم في البوسنة للمجموعة الأوربية وليس لمجلس الأمن والأمم المتحدة ولا يستنفر مجلس الأمن لحماية مسلمي البوسنة، كما
(2/377)
________________________________________
يفعل المجلس مع شعوب أخرى ليس آخرها كرواتيا وكمبوديا، أم أن مسلمي البوسنة لا يستحقون اهتمام المنظمة "الدولية" لمجرد أنهم مسلمون؟!
نعم نتساءل: ماذا يريد بطرس غالي؟ إنه يتعلل بأن المنظمة "الدولية" لا تملك المال الكافي لإرسال قوات سلام إلى البوسنة مع أن مصادر مطلعة في جامعة الدول العربية تؤكد أن السعودية عبرت عن استعدادها عبر منظمة المؤتمر الإسلامي للإسهام في توفير الإمكانات المالية اللازمة لعمليات الأمم المتحدة في البوسنة (1).

* بطرس غالي وإِريتريا المسلمة:
لم يلتفت هذا الصليبي أبدًا إلى كفاح الشعب الإريتري المسلم، مع أن كثيرين طالبوه بذلك، ولكنه عندما تأكد أن "أسياس أفورقي الصليبي" قد حسم الموقف لصالحه في إرتيريا، بدأ يهتم بالشعب المظلوم على أساس نظرته الطائفية (2).

* بطرس الصليبي ودوره الكالح في مأساة البوسنة:
أما موقفه من البوسنة فلا يحتاج إلى إيضاح؛ لأن الدنيا كلها تعلم أن بطرس الحفيد تآمر مع سادته الذين يخدمهم حتى تم تحقيق الهدف الصليبي المرحلي للصرب والغرب .. لقد استقال رئيس المحكمة الدولية في "لاهاي" لمحاكمة مجرمي الصرب والكروات عندما تأكد من المؤامرة، ولم يحتمل ضميره أن يستمر في متابعة المهزلة" (3).
- إن الذي لم تُفصح عنه الصحافة الغربية ولا العربية، أن القرار
__________
(1) جريدة المسلمون العدد 381 (22/ 5/1992).
(2) "دفاعًا عن الإسلام والحرية" لحلمي القاعود (ص 136).
(3) المصدر السابق (ص 136 - 137).
(2/378)
________________________________________
الدولي الصادر عن بيت صهيون بمنع السلاح، يسري على البوسنة فقط، وتلتزم به كافة الدول الإسلامية، برغم تدفق السلاح في نفس الوقت على الصرب من جمهوريات صربيا وروسيا.
كما أن طلب وقف إطلاق النار المفروض قهرًا، إنما هو للمسلمين فقط، حتى أن الرئيس البوسني علي عزت، قد اتهم مباشرة، مبعوث الأمم المتحدة (سايروس فانس) بأنه يساعد الصرب للقضاء على المسلمين، بعد أن أقر خطة الغرب لتقسيم البوسنة، وضم كل أرض يقف عليها الصربيون.
- فنقلاً عن صحيفة الاتحاد القطرية 17/ 12/1992:
وجه الأمين العام للأمم المتحدة رسالة خاصة إلى وزراء الخارجية ورؤساء وفود 34 دولة، المجتمعون أمس في جنيف لمناقشة قضية البوسنة.
"دعا فيها لاستمرار المفاوضات، وتجنب أي شيء من شأنه تصعيد أعمال العنف -!!! - وقال: أنه يعارض الإجراءات التي قد تدفع قوى أجنبية -يقصد إسلامية- إلى التدخل في الحرب، وطالب الدول الكبرى بعدم الاستجابة للضغوط المتزايدة من أجل التدخل العسكري ضد الصرب" هكذا بوضوح شديد.
كما ناشد (سيروس فانس) مبعوث (بطرس غالي) الدول الكبرى، عدم اتخاذ أي إجراء لوقف الانتهاكات الصربية للحظر المفروض على الطيران العسكري فوق البوسنة". ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* ومن أفضح أشكال مكرهم:
أنهم عندما قرروا إسقاط المعونات الغذائية جويًا للمسلمين المحاصرين في البوسنة من ارتفاعات عالية (في أول فبراير الماضي 1993)، ففرح وهلل المسلمون بذلك القرار، فلما جاء وقت التنفيذ، سقطت كل المعونات فوق
(2/379)
________________________________________
معسكرات الصليبيين الصرب، إذ اكتشف فجأة الخبراء الأمريكان الصهاينة، أن إمكاناتهم التكنولوجية التي حددت ماركة الملابس الداخلية لصدام حسين أيام عاصفة الصحراء (!! )، لم تستطع أن تحدد موقع المتضورين جوعًا تحت حصار مجرمي الصرب والكروات على أرض البوسنة المسلمة" (1).

* قرارات الأمم المتحدة غير محترمة:
عمرو موسى - وزير الخارجية المصري (2).
- قال عمرو موسى:
قضية البوسنة والهرسك لفهمها، تحتاج إلى أن نستخدم بعض النقاط البسيطة في التوضيح:
النقطة الأولى ودعنا نبدأ من استقلال الصرب عن يوجوسلافيا، فإن البوسنة والهرسك تطلعت هي الأخرى إلى الحصول على الاستقلال، ولكن عند النظر إلى أرضية البوسنة والهرسك، نجد أن داخلها جالية صربية يقدر عددها بنحو 18 في المائة من إجمالي السكان، بينما يصل عدد المسلمين إلى نحو 55 في المائة والباقي من الكروات.
هذا التوزيع في السكان، لا يقابله توزيع مماثل في ملكية الأرض، فالـ 18% من الصرب استطاعوا بالقوة الاستيلاء على 80% من مساحة الأرض، بينما الـ 55 في المائة من المسلمين لا يملكون سوى خمسة في المائة من الأراضي، والباقي للكرواتين، وهذا بالطبع وضع شاذ، وهو في حقيقته أساس المشكلة، فالصرب من ناحيتها تتطلع إلى ما تسميه صربيا الكبرى،
__________
(1) "بطرس بيتر غالي" (ص 124 - 125).
(2) في حوار صحفي بمجلة أكتوبر 27/ 2/1992. أجرى الحوار معه الكاتب الصحفي/ صلاح منتصر، رئيس تحرير مجلة أكتوبر.
(2/380)
________________________________________
ولذلك فهي تؤيد الأصراب في البوسنة والهرسك لتكرس الوضع الحالي، بحيث تكون مكونة من ثلاثة كانتونات، كانتون صربي وآخر مسلم وثالث كرواتي، وفي النهاية فيما بعد يمكن ضم الكانتون الصربي الذي" له تقريبًا كل أراضي البوسنة والهرسك. وهذا وضع غير عادل لا يمكن قبوله.
نقطة ثانية وهي أن الصرب في تأييدها للصربيين في البوسنة الهرسك بدأت ممارسة سياسة اسمها التطهير العرقي، هدفها القضاء على المسلمين الذين تمارس ضدهم عمليات تعذيب وقتل وحشية.
مجلس الأمن من ناحيته تدخل وعارض سياسة الصرب وفرض عليها عقوبات حظر اقتصادي، ولكنها عمليًّا غير محترمة، فليست هناك أي رقابة لتنفيذ هذه العقوبات، وبالتالي فإن الصرب رغم قرار الحظر الاقتصادي، فإنها لا تعاني عمليًّا أي نقص في إمداداتها سواء كانت هذه الإمدادات تصل إليها بالجو أو بالبحر أو بالبر.
جاء مجلس الأمن بعد ذلك وفرض حظر وصول السلاح على كل الأطراف، ولكننا اكتشفنا أن هذا الحظر أضر بالمسلمين ولم يؤثر على الصرب، لأن الصرب تصنع حاجتها من السلاح، أما المسلمون فيستوردون احتياجاتهم من السلاح، وبالتالي أصبح قرار حظر السلاح وكأنه عقوبة مفروضة على المسلمين أضعفت مقاومتهم وزادت من عمليات الوحشية التي ترتكب ضدهم، وكان رأينا، ضرورة رفع حظر جزئي على السلاح ليساعد المسلمين على حصول ما يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، إلا أن (سيروس فانس) و (دافيد أوين) ممثلي مجلس الأمن، يرفضان هذه الفكرة على أساس أن الحرب في صورتها الحالية وبرغم ما فيها من صعوبات، فإنها محصورة بين أطرافها، وأنه إذا تم رفع الحظر عن طرف، فإن الطرف الآخر لا بد أنه سيجد من يمده بالسلاح أيضًا، ومن ثم ترتفع حدة النزاع أكثر مما هي عليه
(2/381)
________________________________________
ويمكن أن تتوسع لتشمل كل منطقة البلقان، ولكن هذا الرأي يظلم المسلمين، ولا بد عدلاً من تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم وفرض رقابة صارمة على تنفيذ العقوبات، وفي الوقت نفسه عدم الأخذ بنظام الكانتونات القائم على استغلال الوضع الحالي، الذي يسيطر فيه الصرب على أغلبية الأرض" اهـ.

* اتهامات للدكتور غالي:
سلامة أحمد سلامة - الكاتب الصحفي بصحيفة الأهرام لقد حركت مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك قلوب لم يكن في الحسبان أن تتحرك من أجل قضية طرفاها مسلمين ونصارى، لهولها وبشاعتها من ناحية، ولتخلف بيت صهيون وممارسة الشراسة والعناد في التغافل والتآمر من ناحية أخرى، إلى حد أن كُتاب كثيرون رسميون في بلادنا، هزتهم الفجيعة فتبنوا المشاركة في طرح القضية. ومن بين هؤلاء، كان هذا المقال للكاتب المتميز، سلامة أحمد سلامة.
"تواجه الأمم المتحدة وأمينها العام الدكتور بطرس غالي، اتهامات خطيرة من جانب زعماء البوسنة المسلمين. بأن هناك تواطؤًا مؤكدًا للحيلولة دون تدخل صريح وفعال من جانب الأمم المتحدة بوقف عدوان الصرب وفظائع قواتها ضد أهالي البوسنة، وبمنع استيلائها على أراضيها.
والاتهام الموجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنه وقف في وجه الاتفاق الأوربي الذي كان يسعى إلى وضع الأسلحة الثقيلة تحت رقابة القوات الدولية، وأثار أزمة مع المجموعة الأوربية بحجة أن القرار اتخذ دون الرجوع إليه، وأن حجم القوات الدولية لا يكفي للقيام بهذه المهام الجديدة.
ومن الواضح أن الأمم المتحدة وأمينها العام لم تتخذ بعد ذلك أي خطوة جادة لوقف العدوان المستمر ضد جمهورية البوسنة، مما حدا بنائب رئيسها إلى التحذير أخيرًا من أن بلاده توشك أن تختفي من فوق
(2/382)
________________________________________
خريطة البلقان.
وقد أصبح من المؤكد الآن أن مصير جمهورية البوسنة بمن فيها من المسلمين قد حسم لغير صالحهم وأن الصراع الراهن في البلقان يتجاوز مجرد الرغبة في اقتسام أراضي البوسنة والاستيلاء عليها من جانب الصرب أو الكروات وأن ثمة خلافًا عميق الجذور يقسم الدول الأوربية ويحمل بين جوانبه عوامل التنافس القديمة.
ويتضح الآن يومًا بعد يوم أن قرارات العقوبات الاقتصادية وحظر السلاح التي اتخذتها الأمم المتحدة ضد الصرب، وعمليات مراقبة السواحل والحدود، ليست غير إجراءات وهمية، وأن عمليات الإغاثة وإرسال الإمدادات وقبول اللاجئين والهاربين من المعارك الوحشية ليست غير مسكنات وقتية، وأن المساعدات التي تتلقاها القوات الصربية من بعض دول أوربية ما زالت تتدفق لمواجهة مساعدات مماثلة تتلقاها القوات الكرواتية والبوسنية من دول أوربية أخرى.
فالوقود والذخيرة والإمدادات العسكرية تتدفق على الصرب من رومانيا وبلغاريا واليونان والدبابات والطائرات تتدفق على الكروات من ألمانيا والنمسا والمجر .. ومعنى ذلك، أن الانشقاق الأوربي الذي ظهر منذ بادرت ألمانيا بمفردها إلى الاعتراف بسلوفينيا وكرواتيا، دون موافقة الجماعة الأوربية، يتخذ الآن أبعادًا تترجم على أرض المعارك الدائرة، في محاولة لتحديد التوازنات الأوربية الجديدة مع ألمانيا وضدها.
وإذن: هل الصراع القومي والمذابح الدامية ضد المسلمين في هذه البلاد مجرد مظهر خارجي لصراع أوربي دفين له جذوره التاريخية وحساباته الأوربية؟
وهل هذا هو السبب في عدم تدخل أمريكا؟
(2/383)
________________________________________
ومن المسئول عن شلل الأمم المتحدة؟
وهل لنا في هذا الصراع ناقة أو جمل؟؟
أسئلة يحسن الإجابة عنها من الآن؟؟ " اهـ.

* أيقظوا بطرس غالي:
كتبت جريدة الرياض في 15/ 1/1993:
شنت صحيفة "ملييت" الواسعة الانتشار أمس حملة ضد بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة الذي تعرّض لغضب عام في تركيا بسبب ما يُنَسب إليه من لا مبالاة بنزيف الدماء الذيَ تعاني منه جمهورية البوسنة والهرسك من جرّاء العدوان الصربي المستمر. فتحت عنوان "أيقظوا هذا الرجل" دعت الصحيفة التي يبلغ توزيعها نحو مليون نسخة قراءها إلى إرسال خطاب معد مسبقًا باللغتين التركية والإنجليزية إلى غالي بالتليفاكس حول البوسنة.
وكتبت الصحيفة شرحًا تحت صورة كبيرة ملونة لغالي تقول فيه: "يقتلون المسلمين وبطرس غالي لا يرى، الصرب يغتصبون السيدات والأطفال وغالي لا يسمع، الصرب يحرقون ويمزقون كل شيء ويجعلون الناس يتضورون جوعًا وغالي لا يتكلم".

* بطرس غالي حصاد سنة مرة (1):
بقلم: فهمي هويدي - كاتب مصري عربي بارز كانت مناسبة مرور عام على تعيين الدكتور بطرس غالي أمينًا عامًا للأمم المتحدة فرصة استغلها كثيرون لتقييم تجربة أول عربي يشغل منصب دبلوماسي في العالم. وفي هذه المناسبة قرأت كتابات كثيرة عن الرجل،
__________
(1) مجلة المجلة (العدد 679) 10/ 2/1993، و"بطرس بيتر غالي" (ص 200).
(2/384)
________________________________________
بعضها ركز على شخصه، وانتقد موقفه من قضية البوسنة والهرسك بوجه أخص، انطلاقًا من تحيزه العقيدي، بينما سجل البعض الآخر انطباعات عن إدانات تراوحت بين الإيجابية والسلبية.
وجدتني متحفظًا كقارئ على هذين النهجين، فقد تمنيت أن يتم تقييم تجربة الرجل على أساس موضوعي وليس شخصي أولاً، وبناء على معلومات وليس انطباعات ثانيًا.
وإذ لا أغفل الاعتبارات الإنسانية في تقييم المواقف، إلا أن حجم الدور الذي تؤثر به تلك الاعتبارات يختلف من شخص إلى آخر، وقياس ذلك الدور يقتضي غوصًا في النوايا والأعماق، وهي مساحات مجهولة يتعذر سبرها على كثيرين.
من ناحية ثانية فالانطباعات عادة تعتمد كثيرًا على تقدير قد تلعب فيه المشاعر والعواطف الإيجابية والسلبية دورها في هذا الاتجاه أو ذاك.
بسبب ذلك، فقد تمنيت أن يتم أولاً "تحرير" موضوع المناقشة على طريقة فقهائنا، بمعنى إثبات حقائقه وتقديم معلوماته الأساسية، قبل أي تقييم أو اجتهاد في تفسير الوقائع وظل ذلك بدوره انطباعًا من جانبي ساد حينًا، حتى قرأت مقالاً كتبه الدكتور غالي في إحدى الصحف الفرنسية حول وجود الأمم المتحدة في الصومال، وبعده حديثًا أجرته معه مجلة تايم الأمريكية.
وجدت كلامه ظاهر التغليظ بحيث يحتاج إلى رد ومناقشة، الأمر الذي دفعني إلى الكتابة في الموضوع، ومن ثم فتح ملف الدكتور غالي في الأمم المتحدة.
ثمة انطباع شائع خلاصته أن الرجل يعرف إنه لكبر سنه انتخب لمرة واحدة، من ثم فإنه لن يبقى في منصبه أكثر من خمس سنوات، ولذلك فهو حريص على أن يتصرف بشكل مستقل، لا يبالي فيه بآراء الدول الكبرى، ولذا يبدو فيه الإصرار على ترك بصماته على جدران المنظمة الدولية؛ ولأن
(2/385)
________________________________________
الولايات المتحدة هي الدولة صاحبة التأثير الأقوى على الأمم المتحدة الآن، فإن المروجين لمقولة الاستقلال أوحوا بأن الدكتور غالي لا يهمه رضا واشنطن أو سخطِها، وأنه سيحدد مواقفه في ضوء تصرفاته الشخصية أولاً وأخيرًا.
غير أننا عندما نختبر تلك المقولة على المحك، فسوف نلاحظ أن الأمين العام يطبّق المواقف والأولويات الأمريكية بحذافيرها، وأنه طيلة العام الذي أمضاه في وظيفته كان شديد الالتزام بكل الخطوط السياسية المرسلة من واشنطن.
لقد فوجئنا به في أول مؤتمر صحفي عقده بعد توليه منصبه، وهو يعلن أن قرار 242 (ليس ملزمًا)، وعندما صدم الرأي العام العربي وأثار تصريحه الضجة المشهورة، أعاد مكتبه شرح موقفه، فقال: أنه قصد القول: بأن القرار ليس قابلاً فرض تنفيذه، نظرًا لعدم تبنيه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وكانت نتيجة ذلك أن الأمين العام الجديد بدأ مهمته بإضعاف مرجعية أساسية في المفاوضات العربية - الإسرائيلية.
وانعكست إفرازات ذلك الموقف على تدهور القرار 242 على المسار الفلسطيني، وذلك عندما رفضت واشنطن "بعد مضي حوالي ستة أشهر على تصريح الدكتور غالي إلزام الجانب الإسرائيلي بتطبيق القرار 242 على الشأن الفلسطيني.
لوحظ أيضًا أن الأمين العام الذي عُرِف بحرصه على إصدار التقارير التي يطلبها مجلس الأمن في أي موضوع أو مسألة، لم يستجب حتى الآن لطلب المجلس في القرار 681، المعني بحماية الفلسطينيين تحت الاحتلال، وانطباق اتفاقات جنيف الرابعة المعنية بحماية المدنيين على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان ذلك القرار قد طُلِب من الأمين العام في ديسمبر (كانون الأول) 1990 أن يقدم تقريرًا دوريًّا كل ثلاثة أشهر بشأن هذه المسألة.
(2/386)
________________________________________
وقدم (خافيير بيريز دي كويار) تقريرًا واحدًا أما الدكتور بطرس غالي فلم يقدم أي تقرير حتى الآن.
يضاف إلى ذلك أن تقليد ذكر القرار 425 في تقارير الأمين العام السنوية عن أعمال المنظمة، غاب عن تقرير الدكتور غالي، وهذا الغياب يتعذر تفسيره تحت أي ظرف، خصوصًا وأن القرار يطالب بانسحاب إسرائيل بالكامل من لبنان، وهو جزء مهم في المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية.
ويؤثر على المفاوضات اللبنانية يقينًا، ألا يساهم الأمين العام في إغفال قرار بهذه الأهمية، أصدره مجلس الأمن، خصوصًا وأن إسرائيل تتملص منه، والولايات المتحدة تغض الطرف عنه في المفاوضات.
يلاحظ كذلك أن الأمين العام قَدَّم تقارير عدة في شأن مختلف فقرات القرار 687، الذي وضع شروط إطلاق النار على العراق، لكنه تجاهل الآن الإشارة إلى الفقرة التي نصت على أن إزالة أسلحة الدمار العراقية تمثل خطوة نحو هدف جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل، وهذا الإهمال يتم في الوقت الذي يتأكد فيه خلل موازين القوى في المنطقة لمصلحة إسرائيل.
- على الصعيد الأفريقي هناك نموذج آخر يثير المزيد من علامات الاستفهام حول موقف الدكتور غالي، بل ويعزز الشك في مصداقية مقولة استقلاله عن الخط الأمريكي.
فالمعروف أن ثمة صراعًا قائمًا من أكثر من 16 عامًا بين الحركة الشعبية لتحرير أنجولا التي يقودها "خوزيه سانتوس"، وبين حركة يونيتا التي يقودها (جوناس سافيمي) غير أن الطرفين وقعا في نهاية المطاف اتفاق سلام بينهما في لشبونة عام 1991، واتفقا على إجراء انتخابات في البلاد خلال سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، لكن الذي حدث أن الحركة الشعبية لتحرير
(2/387)
________________________________________
أنجولا، هي التي فازت في الانتخابات رغم أنها تمت تحت إشراف دولي. الأمر الذي دفع سافيمي إلى رفض النتيجة والعودة إلى القتال مرة أخرى.
واللافت للنظر أنه رغم أن حكومة سانتوس الراهنة تُعد حكومة شرعية ثبتتها الانتخابات الديمقراطية، ورغم أن سافيمي زعيم يونيتا هو الخارج على الشرعية الرافض لنتيجة الانتخابات بل والرافض للاشتراك في ائتلاف حكومي، فإن الأمم المتحدة وأمينها العام يمارسان ضغطهما على الحكومة الشرعية للتفاوض مع سافيمي وليس العكس، وذهب الأمين العام في ضغطه إلى حد التهديد بسحب مجموعة المراقبة الدولية، إذا لم يستطع الرئيس المنتخب أن يصل إلى حل وسط مع سافيمي المتمرد والمنشق عليه.
وليس هناك من تفسير لذلك التدليل السافر لزعيم (يونيتا) سوى أن الرجل محسوب على الولايات المتحدة، وأن حركته تلقى تأييدًا ودعمًا مستمرين من واشنطن!
لأجل ذلك فإن الأمين العام بدا مستعدًا لتجاهل نتيجة الانتخابات، وضاربًا عرض الحائط بما أسفرت عنه عمليات التصويت، ومكثفًا ضغوطه وتهديداته على الطرف المنتخب، لمجرد أنه لا يلقى تعاطفًا أو تأييدًا من واشنطن.
الموقف في البوسنة كان أفدح وأغرب، فمنذ اللحظات الأولى لاندلاع القتال، الذي كان واضحًا فيه تمامًا أن الصرب مدعومون بترسانة الجيش اليوغسلافي العسكرية، وأن البوسنيين المسلمين لا يملكون أي شيء يدافعون به عن أنفسهم، مع ذلك فقد وقف الأمين العام والدول الكبرى بطبيعة الحال، ضد إرسال أية قوات تحمي المسلمين العزل من العدوان، ومع حظر السلاح على الجميع بمن فيهم الطرف المجني عليه.
وإذا أرسلت قوات رمزية، كانت مهمتها تأمين وصول الغذاء فقط، ولم
(2/388)
________________________________________
تكن بمقدورها حتى أن تدافع عن مهمتها تلك، فإنه عندما كانت العملية تواجه بأية انتهاكات من جانب الصرب، فإن الرد الوحيد كان يتمثل في إغلاق مطار سراييفو، ووقف الرحلات الجوية التي كانت تحمل المعونة إلى البوسنيين المحاصرين، وهو ما يعني: أن العقاب كان ينزل بالمسلمين البؤساء؛ لأنه كان يحرمهم من الطعام والمؤن!
لقد التزم الأمين العام الصمت، عندما كانت القوات الدولية تمنع المسلمين من ضحايا التطهير العرقي من العبور إلى كرواتيا ليفروا بحياتهم من الجحيم.
يقودنا إلى ذلك ما كتبه وصرح به الأمين العام للأمم المتحدة حديثًا، في مقاله الذي نشرته الصحيفة الفرنسية "لوجورنال دو ديمانش" في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
قال الدكتور غالي أن التدخل الدولي في البوسنة ليس ميسورًا بالمقارنة بالصومال، ففي البوسنة تتقاتل جيوش حديثة فائقة التدريب ويدعمها المواطنون بقوة وبسبب ذلك التشابك العسكري الكبير، فإن التدخل الدولي قد يزيد الأمر سوءًا.
وفي حديثه الأخير إلى مجلة "تايم" في 18 يناير (كانون الثاني) سئل عن مبرر دعمه للتدخل الدولي في الصومال، ومعارضته التدخل في البوسنة فقال ما نصه:
هناك فرق بين الحالتين ففي الصومال كنا عاجزين عن تقديم المساعدات الإنسانية؛ لأنه لم تكن هناك سلطة في البلاد يمكن الحوار معها حول قضية السلام، أما في يوغوسلافيا فتد كانت هناك أطراف تَحدثنا إليها وأمكننا أن نتفق على مبادئ لحل النزاع، وإطار عام لتحقيقه.
ومن أسف أن ما قاله الدكتور غالي يفتقد الصواب ولا أقول الأمانة!
(2/389)
________________________________________
فالقدر المتيقن أن القتال الدائر في البوسنة لا يتم بين جيوش حديثة فائقة التدريب، وإذا صح ذلك بصورة نسبية على القتال بين الصرب والكروات فإنه لا ينطبق بأي حال على البوسنويين المسلمين، الذين يعرف القاصي والداني أنهم عُزل لا يملكون سلاحًا، وأن بعضهم يحارب ببنادق الصيد، وأكثر من ذلك فالمسلمون لم يكن لهم جيش أساسًا، حيث لم يكن ذلك مسموحًا لهم، وكان ممنوعًا عليهم إذا ما انخرطوا أو جندوا في الجيش اليوغسلافي أن يرتقوا إلى مراتب الضباط، ومن ثم فقد كتب عليهم أن يظلوا جنودًا يؤمرون فيطيعون، بسبب من ذلك فإن نواة المقاتلين البوسنويين كانوا بضع مئات معدودة من رجال الشرطة.
هذه المعلومات يعرفها القاصي والداني وهي منشورة في جهات الكرة الأرضية الأربع، فما من تقرير عن الوضع العسكري في البوسنة إلا وأشار إلى أن المسلمين أصبحوا يملكون دبابتين فقط. بينما الصرب وراءهم كل مخازن الجيش اليوغسلافي، فضلاً عن أن السلاح الجوي هو أداتهم الفعالة التي مكنتهم من هزيمة المسلمين.
هل يعقل أن يصبح الأمين العام للأمم المتحدة الوحيد في الكرة الأرضية الذي لا يعلم أن البوسنويين لا يملكون جيشًا حديثًا وفائق التدريب، بل إنهم لا يملكون جيشًا على الإطلاق؟.
كلامه في مجلة. "تايم" يثير الدهشة بذات القدر حين برر التدخل في الصومال بانهيار السلطة في البلاد، وقال: إن ما حدث في يوغسلافيا عكس ذلك.
لأنه لم يذكر ما هو موقف تلك السلطة القائمة في يوغوسلافيا، التي ماطلت وتجاهلت مختلف قرارات الأمم المتحدة، حتى قتلت نائب رئيس وزارة البوسنة بينما كان في حراسة القوات الدولية وهو ما لم يحدث في الوضع المنفلت في الصومال!
(2/390)
________________________________________
نعم وجود السلطة مهم، ولكن الأهم منه هو موقف هذه السلطة واستعدادها لإقرار السلام والامتثال لقرارات الأمم المتحدة، ففي العراق على سبيل المثال هناك سلطة قائمة، ومع ذلك فقد فرض عليه الالتزام بالشرعية الدولية بالقوة المسلحة وجرى تأديبها وقمعها عدة مرات.
إن الذرائع التي ساقها الدكتور غالي هي ذاتها التي مكنت الصرب من التوسع وممارسة التطهير العرقي، وغير ذلك من الآثام والفظائع التي أرجو أن يكون الأمين العام للأمم المتحدة قد سمع بها.
قد كان استقبال الدكتور بطرس غالي في سراييفو ومقديشيو ناطقًا بحقيقة المشاعر التي تبلورت إزائه بعد سنة من توليه منصبه، وأدع وصف الزيارة للصحف الأمريكية التي رافقته في رحلته وسجلت وقائعها بدقة.
فتقرير الواشنطن بوست نشر تحت عنوان:
"المسلمون البوسنويون يتهمون بطرس غالي بالإسهام في بؤسهم".
وتحت العنوان ذكرت أن الأمين العام
"استقبل بعاصفة من الاستنكار والشتائم من مدينة سراييفو المحاصرة، والتي اعتقد أهلها أن الأمم المتحدة ضاعفت من محنتهم، وذلك خلال زيارة استغرقت ست ساعات ناشد فيها البوسنويين أن يضعوا ثقتهم في المفاوضات التي تجريها الأمم المتحدة، وقال: إن استخدام القوة ضد الصرب الذين يقصفون العاصمة ليس مستحبًا الآن!
وبينما كان بطرس غالي يشرح ذلك لممثل الحكومة البوسنية، تعالى الهتاف من الشارع:
"مُجرِم قَاتِل فاشي، ساعِدنا أو عد لبلادك".
وخرج بطرس غالي من البنى تحت حراسة مشددة حيث ذهب لزيارة المستشفى، وعلى الطريق قابلته هتافات أكثر عدائية من السكان الجياع في
(2/391)
________________________________________
المدينة المنكوبة الذين يتعرضون لقصف مستمر من الصرب لمدة تسعة أشهر ويعيشون بلا تدفئة ولا كهرباء ولا مياه جارية منذ ثلاثة أسابيع.
- وفي المؤتمر الصحفي وقفت صحفية من البوسنة وقالت للأمين العام:
"أنت أيضًا مذنب ومسئول عن كل سيدة اغتصبت، وكل رجل قتل".
- وسألته:
كم تطلبون من ضحايا في سراييفو قبل أن تتحركوا، ألا يكفيكم 12 ألفًا؟
- ورد بطرس غالي:
إذا كنت مجرمًا فهذه مشكلتي، أنا أشاركك آلامك ولكن حالكم أفضل بكثير من عشرة أماكن يمكن بيانها لكم.
- وقد علقت صحيفة واشنطن تايمز على هذا الرد بقولها:
"إذا كان هذا هو كلام الصديق فلا لوم على العدو".
جاء ذلك في افتتاحية شديدة اللهجة ضد الأمين العام تحت عنوان "ليست قضية معنويات"، وقالت:
"إن زيارة الدكتور غالي للمدينة التي أراد أن يعلن بها عن تضامنه مع شعبها المحاصر زادت آلامهم"، أو بنص ألفاظ الجريدة: "وَضَعَت ملحًا في جراحهم".
إذ بينما يؤيد غالي بشدة التدخل العسكري في الصومال، نراه يعارض نفس الإجراء في البوسنة! إنه يطالب بفرصة لمحادثات السلام (1) في جنيف، ولكن على
__________
(1) محادثات سلام وكل دقيقة يموت مسلم إما برصاص الخنازير أو قنابلهم أو بالتجويع أو بالقهر والتعذيب، ألم أقل إن مفهوم سلام المسلمين، لا ينبغي قبول خلطه بسلام القردة والخنازير.
(2/392)
________________________________________
ضوء التجربة لا يجوز أن نتوقع نجاحًا، والحقيقة المؤكدة هي استمرار وحشية القرون الوسطى في قلب أوربا المعاصرة.
وعندما حاول الدكتور مجاملة جريح في مستشفى سراييفو، فسأله عن معنوياته رد الرجل:
إنها ليست قضية معنويات.
أوقف القصف. يا بطرس.
أنت المسئول عن استمرار محنتنا.
من ناحية ثانية فقد نقلت وسائل الإعلام العالمية مظاهر الاستقبال الغاضب الذي لقيه الدكتور بطرس في العاصمة الصومالية (مقديشيو) الأمر الذي اضطره إلى اختصار زيارته.
- قالت الواشنطن بوست: إن المتظاهرين وهم من أنصار الجنرال عيديد، إلا أنهم يتمتعون بتأييد الصوماليين الذين يعتقدون أن الأمم المتحدة قد خذلتهم. وهي أول مرة في تاريخ المنظمة العالمية يستقبل سكرتيرها على هذا النحو من بلدين يفترض أنهم يحظيان بمساعدة المنظمة.
- وقد حاولت "الأسوشيتد برس" تفسير عزلة الأمين العام بنقلها عنه قوله:
إنه سياسي وليس دبلوماسيًا، وقالت: إنه نقد ذاتي صريح من الرجل الذي يشغل أعلى منصب دبلوماسي في العالم! واستعرضت بعض مظاهر قصوره الدبلوماسي فقالت:
"إنه بينما يشكر الأمين المصري من أجل جهوده في سبيل السلام، إلا أنه أثار ضده قوى كان يفترض أن تكون إلى جانبه سواء في الغرب أو الشرق أو دول العالم الثالث فمثلاً:
(2/393)
________________________________________
أغضب سكان سراييفو عندما اعترض على تدخل الغرب العسكري.
وأغضب الأفريقيين والعالم الثالث كله عندما صرح لصحيفة ألمانية قائلاً: "أريد أن أوضح تمامًا للرأي العام في الغرب إنني لست شديد الاهتمام كما تظنون بتوفير المساعدات المالية والفنية للعالم الثالث، إن مواطنيكم يشعرون بالقرف من مطالبتهم بالتبرع بالمال والطعام".
وأغضب الحكومات الغربية في الصيف الماضي عندما اتهمها بالاهتمام بحرب الأغنياء.
وأزعج الدول العربية بتصريحه عن القرار 242 إلى آخره.
- هذا هو حصاد سنة واحدة أمضاها الدكتور بطرس غالي في منصبه، فما بالكم به إذا استمر على منواله طيلة السنوات الأربع المتبقية له؟!
اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.

* نقابة الأطباء تكشف: طائرات الأمم المتحدة تزود الصوماليين بالأسلحة (1):
كشف وفد نقابة الأطباء الثاني، الذى عاد من الصومال مؤخرًا، عن قيام طائرات الأمم المتحدة بتزويد القوى المتحاربة في الصومال بالأسلحة والمعدات الثقيلة.
شاهد وفد النقابة أثناء وجوده في الصومال في مهمة إنسانية، طائرات الأمم المتحدة وهي تلقي بالأسلحة والبنادق الآلية والذخائر والقنابل إلى الفصائل المتحاربة في الصومال.
أضاف وفد النقابة أن أمريكا هي التي زودت طائرات الأمم المتحدة
__________
(1) "جريدة النور المصرية" 16/ 12/1992.
(2/394)
________________________________________
بالسلاح حتى تدخل الصومال تحت شعار الرحمة الإنسانية، لتطوق العالم الإسلامي.
من ناحية أخرى كشف الوفد الطبي عن عمليات النهب والسرقة من جانب قوات الأمم المتحدة، حيث تقوم هذه القوات بالاستيلاء على الأغذية والأدوية وكافة إمدادات الإغاثة.
بسرعة يتحسر عليها أبناء البوسنة في مواجهة مجازر الصليب فيهم، صدر القرار 794 الذي أجاز بموجبه مجلس الأمن التدخل العسكري الأمريكي السافر في الصومال، تحت غطاء إنساني يحمل اسم عملية "إعادة الأمل".
وبموجب هذه الإجازة التآمرية، انتشرت قوات المارينز (أكثر من 30 ألف جندي) "جاءوا تحت مظلة بيت صهيون "الأمم المتحدة" وبموافقة القديس بيتر رسول السلام الصليبي الجالس على كرسي الطاغوتية الدولية الأزرق بعد مبادرة واتصالات أجراها بطرس بنفسه مع 12 رئيسًا ومسئولاً دوليًّا، تجاوزت هذه العاصفة الأمريكية أهدافها الإنسانية المعلنة".
- وكما تقول الكاتبة الصومالية راكيا عمار المديرة التنفيذية لمنظمة أفريكا روتش والكاتب إليكس ديوعال المدير المساعد لمنظمة أفريكاروتش "أي مسئول (1) يتحمّل مسئولية السماح بحدوث المجاعة معرّض لاحتمال الترقية وليس الإدانة إن هذه فضيحة" (2).
- ربما يكون ربع أطفال الصومال قد ماتوا هذا العام، وعدد مماثل يواجهون الموت الوشيك جوعًا، وكان هذا الأمر متوقعًا منذ العام الماضي
__________
(1) من مسئولي الإغاثة في الأمم المتحدة العاملين بالصومال والذين نهبوا مواد الإغاثة.
(2) صحيفة الاتحاد القطرية 28/ 8/1992، نققلاً عن صحيفة لوس أنجلوس تايمز.
(2/395)
________________________________________
(1991 م) من قبل وكالات إغاثة مجربة وعلى دراية بمجريات الأمور، وبالذات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وصندوق إنقاذ الأطفال، واليونيسيف، وبرنامج الغذاء العالمي، وآخرين (1) للعمل بسرعة على تجنب وقوع الكارثة، لكن تلك الوكالات لم تفعل شيئًا، ووقعت الكارثة كما كان متوقعًا.
وليس ثمة مبررات ولا أعذار لوكالات وهيئات المنظمة الدولية تحول بينها وبين البدء في العمل الإنساني في الصومال. لقد كان المال متوفرًا، لكنهم اختاروا عدم إنفاقه.
وأسوأ ما في الأمر، أن هذه ليست المرة الأولى، فكل عامل إغاثة مجرب يمكنه أن يسرد حكايات مروعة عن العجز والتردي وحتى الفساد الذي تعاني منه وكالات الأمم المتحدة، وليس هذا سوى مأساة في طابور طويل من المآسي المماثلة.
إن الناس لن يطالبوا فقط باتخاذ الإجراءات الفورية لإنقاذ حياة الأطفال الباقين على قيد الحياة، وإنما كذلك بإجراء تحقيق عام في الخطأ الذي وقع، وطرد أو محاكمة الأطراف المخطئة" (2).

* الخلاف بين عصمت عبد المجيد وبين غالي بسبب الصومال:
تفجرت الأوضاع بين دكتور بطرس غالي والدكتور عصمت عبد المجيد الأمين العام للجامعة العربية، بسبب موقف كل منهما من هذه المشكلة، فالدكتور غالي يصرّ على ضرورة حل الأزمة عن طريق الأمم المتحدة فقط، فيما يرى الدكتور عبد المجيد أن يأتي الحل من خلال الجامعة مع إمكانية اشتراك الأمم المتحدة كطرف مساعد وليس رئيسيًّا.
__________
(1) كالمنظمات التنصيرية أو الكنائس الدعوية.
(2) صحيفة الاتحاد القطرية 28/ 8/1992 نقلاً عن صحيفة لوس أنجلوس تايمز.
(2/396)
________________________________________
وقد علمت "المجلة" أن عدد كبيرًا من الفصائل الصومالية وافق على حضور مؤتمر المصالحة التمهيدي في الوقت الذي تحدده الجامعة العربية، كما أعلنت جماعة عيديد رفضها حضور أي مؤتمر مصالحة أو حوار تدعو إليه الأمم المتحدة، والتنسيق الدائم مع أمانة الجامعة العربية في أي خطوات تقرر اتخاذها. وأكدت مصادر الجامعة العربية أن التعليمات قد صدرت إلى ممثل الجامعة في الأمم المتحدة برفض جميع أشكال التنسيق والتشاور مع الأمم المتحدة وأمينها العام فيما يختص بحل الأزمة الصومالية (1).

* إِعلانهم الوقح عما يريدون:
لقد كتب (مايكل كلان) من مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن في صحيفة لوس أنجلوس تايمز (عدد 8/ 12/1992) يقول صراحة:
"إن الخطوة الأمريكية الراهنة تفتح الباب لاحتمال عودة الاستعمار من جديد إلى أفريقيا، ولكن بوجه إنساني هذه المرة، وهو احتمال يراه قويًا".
"لا سيما أن هناك في الغرب شبكات واسعة من المنظمات الكنسية والخيرية التي يمكن أن تصبح مماثلة لجمعيات التنصير ومحاربة الرقيق التي شهدها القرن التاسع عشر، ومن المحتمل أن ينشأ تحالف شاذ غريب بين تلك المنظمات والمؤسسة العسكرية الأمريكية، التي تبحث عن مهمات دولية جديدة لتبرير تدخلها".
- إن التنصير وجاذبية المعادن الثمينة مثل الذهب واليورانيوم في أرض الصومال هي التي دفعت الأمريكيين والأوربيين إلى التدخل في الصومال، وقد جرت تغطية هذا الجانب المشع باعتبارات إنسانية وهي إغاثة أطفال الصومال فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة موت ربع أطفال الصومال جوعًا، ومد
__________
(1) مجلة "المجلة" - القاهرة - 17/ 11/1992 م.
(2/397)
________________________________________
الفصائل المتصارعة بالسلاح عن طريق الأمم المتحدة وأمينها الصليبي الغالي في صليبيته لقد قامت أمريكا بدورها الصليبي في مأساة الصومال.
- واخترقت القارة الأفريقية التي لم يكن للولايات المتحدة وجود عسكري على أرضها لاستلاب المعادن من أرض الصومال، وحصار المد الإسلامي الذي ظهر في المنطقة خصوصًا بعدما برز دور "جماعة الوحدة الإسلامية" في شمال الصومال، التي سيطرت على بلدة (بوساسو) وإدارة مينائها المطل على خليجي عدن، والضغط على النظام القائم في السودان عن طريق تهديده باحتمالات تدخل مماثل في جنوبه، فضلاً عن إبطال مفعول النفوذ السوداني المتزايد في شرق أفريقيا.

* رئيس جمهورية قبرص الشمالية المسلمة يفضح بطرس غالي الصليبي
ويقول: "بطرس طلب مني التنازل عن مدينة كاملة للنصارى":
أعلن رءوف دنكتاش رئيس جمهورية قبرص الشمالية المسلمة أنه لا مجال لمساومة المسلمين في قبرص على شبر واحد من أرضهم. وأن شعب قبرص المسلمة مستعد لكافة الاحتمالات جاء ذلك ردًّا على دعوة الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي الذي دعا دنكتاش للاجتماع في نيويورك مع الرئيس الجديد لقبرص الجنوبية النصرانية.
ويقول دنكتاش: إن الدكتور بطرس قدم مشروعًا يقضي بتنازل القبارصة المسلمين عن مدينة (جوزيل يورت) بكاملها للقبارصة النصارى بدعوى أن هذه المدينة نصرانية. كما اقترح بطرس على الرئيس دنكتاش أن تدفع له قبرص الجنوبية تعويضات مادية إذا ما تنازل عن هذه المدينة.
ويرى المراقبون أن بطرس غالي من خلال مشروعه هذا يقوم بدور السمسار ولا يبحث عن حل يرضي طرفي النزاع كما أنه بذلك يهدف إلى
(2/398)
________________________________________
تغليب الطرف الأرثوذكسي على الطرف الإسلامي في قبرص.
ويذكر أن مدينة (جوزيل يورت) تعتبر موقعًا استراتيجيًّا مهمًا وتوصف بأنها أجمل المدن القبرصية.
وفي تطور آخر طالبت أحزاب المعارضة التركية لحضور ما أسموه بمسرحية الدكتور غالي (1).

* أحزان كشمير على يد بطرس اللئيم:
بقلم د. عبد القادر طاش - رئيس تحرير صحيفة "المسلمون"
من الحقوق التي أقرها القانون الدولي حق تقرير المصير للأمم والشعوب، وقد استفادت أمم كثيرة من هذا الحق فنالت استقلالها وأقامت دولاً وكيانات يعترف بها المجتمع الدولي، ولكن يبدو أن المسلمين هم الوحيدون في هذا العالم الذين لا ينطبق عليهم دائمًا هذا الحق!
والشواهد التي تؤكد ذلك كثيرة، ولكن أبرزها وأشدها مفارقة هو ما يعانيه الشعب الكشميري المسلم في ظل العنف الطائفي الهندي المستمر الذي ينتهِك صباح مساء، أدنى حقوق الإنسان في ذلك البلد المنكوب.
أما وجه المفارقة فهو أن منظمة الأمم المتحدة -وهي المنوط بها حماية الحقوق التي أقرها القانون الدولي- لا تزال تتباطأ في حل القضية الكشميرية، وتحاول التخلي عن مسئوليتها التي تحملتها عام 1947 م عندما أصدرت قرارها الخاص بتقسيم شبه قارة جنوب آسيا الذي ينص على أن:
"المناطق ذات الأغلبية الإسلامية تنضم إلى جمهورية باكستان الإسلامية على أن تنضم المناطق ذات الأغلبية غير الإسلامية إلى دولة الهند العلمانية".
__________
(1) جريدة "المسلمون" (5/ 3/1993).
(2/399)
________________________________________
وقد كان طبيعيًّا أن تنضم ولاية جامو وكشمير المسلمة إلى باكستان، وهو ما طالب به حزب مؤتمر مسلمي كشمير الذي كان يعد بمثابة البرلمان الشعبي الكشميري آنذاك، وذلك في 19 يوليو 1947 م.
كما أن الأمم المتحدة أصدرت قرارًا آخر حول كشمير في 5 يناير 1949 م يقضي بإجراء استفتاء عام بين الكشميريين لتقرير مصير الولاية بين انضمامها إلى الهند أو إلى الباكستان.
وقد وافقت الهند على إجراء الاستفتاء ولكنها تراجعت عن موافقتها وبدأت تماطل في تنفيذ الاستفتاء، ثم ادعت -دون مسوغ قانوني- أن قضية كشمير قد أصبحت قضية داخلية متجاهلة بذلك قرارات الأمم المتحدة.
وتبلغ المفارقات ذروتها المأساوية بالموقف العجيب للأمين العام للأمم المتحدة (بطرس غالي) -وما أكثر عجائبه منذ تولى هذا المنصب الدولي! -
- حيث قال في تصريح له:
"إن قرارت هيئة الأمم المتحدة غير ملزمة إلا إذا صدرت عن مجلس الأمن استنادًا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة".
مع أن البند رقم 34 من ذلك الميثاق ينص على أنه "يحق لمجلس الأمن التحقيق في أي نزاع أو أي وضع ينذر بنشوب نزاع أو خلاف دولي".
وقضية كشمير هي قضية دولية، وليست قضية داخلية، وقد اتخذت فيها المنظمة الدولية عدة قرارات سابقة، فلماذا يتنصل (بطرس غاني) من مسئولية الأمم المتحدة في قضية واضحة المعالم؟!
إن كشمير قد أصبحت ولاية إسلامية منذ أسلم ملكها البوذي (رينجن شافي) عام 1220 م، ولكن طائفة (السيخ) الهندية استولت على الولاية عام 1918 م، ثم سيطر عليها الاستعمار البريطاني الذي قام ببيع كشمير -وكأنها
(2/400)
________________________________________
سلعة يتاجر فيها- إلى طائانه (الدوجرة) الهندوسية بمبلغ سبعة ملايين ونصف المليون روبية ..
"أي أن سعر المواطن الكشميري لم يتجاوز سبع روبيات".
وهو ما يعادل ثلث الدولار الأمريكي!!
وقد سميت هذه الصفقة المخزية باتفاقية (امرتسار)، وهي صفقة غير قانونية، لأن البائع فيها هو المحتل الذي لا يملك الأرض التي باعها؛ ولأن الشعب الكشميري وهو صاحب الحق لم يستشر في هذه الصفقة، بل إن هذا الشعب المجاهد عبر عن رفضه للخضوع للملك الهندوسي عندما انطلقت حركة تحرير كشمير عام 1931 م.
ولما اشتدت مقاومة المسلمين للحكم الهندوسي الظالم اضطر الملك الهندوسي (هري سنغ) إلى الفرار، حيث قدم للحاكم العام للهند طالبًا للموافقة على انضمام الولاية إلى الهند، وهو أمر مرفوض وغير قانوني، إذ لا يملك الحاكم الهندوسي الحق في بيع كشمير مرة أخرى إلى الهند، فهو لم يكن حاكمًا شرعيًا للولاية.
كما أن الشعب الكشميري كان غائبًا عن الصفقة، بل عبر عن رفضه مرة أخرى لهذه الصفقة وواصل جهاده ضد الاستعمار الهندي منذ أول يوم وحتى الآن.
لقد تحولت كشمير التي كانت تسمى "جنة الله في الأرض" إلى سجن كبير لشعب أعزل يبلغ تعداده 12 مليونًا (85% منهم مسلمون).
ويمارس الهنود على مرأى ومسمع من العالم أجمع أبشع ألوان الظلم والقتل والإبادة. وتنقل بعض المصادر الصحفية إلى العالم تقارير مفجعة وصورًا مأساوية لما يجري لأبناء الشعب الكشميري المسلم في السجن الكبير.
(2/401)
________________________________________
فقد نقلت صحيفة "تورنتو صن" الكندية عن مراسلها في سرينجار -عاصمة كشمير- أن إحدى فرق القوات الهندية قامت مؤخرًا باقتحام قرية "كونن بوشبورا" فاعتقل أفرادها كافة الرجال في القرية، ووضعوهم في أحد معسكرات التحقيق وأخضعوهم للضرب والتعذيب لعدة ساعات، ثم عاد جنود تلك الفرقة إلى القرية واقتحموا البيوت وقاموا باغتصاب النساء بما فيهن كبار السن والفتيات اللاتي لا تزيد أعمارهن على عشر سنوات!!.
ويتعاون الجيش الهندي النظامي مع المنظمات الهندوسية المتطرفة لقمع انتفاضة الشعب الكشميري المسلم ضد التسلط الهندي.
إن هذه الصورة الدامية: ما هي إلا واحدة من سلسلة طويلة من الصور التي تتكرر يوميًّا.
وما تقدمه بعض وسائل الإعلام من صور وأخبار عن هذه المأساة، ليس إلا غيضًا من فيض، وهو -على محدوديته- يدفي القلب ويثير الغضب ..
ومع كل ذلك فلا تزال المأساة تتوالى فصولها دون أن يحرك ذلك ساكنًا، فهل كتبَ على المسلمين أن يعانوا في صمت. وأن يكتموا أحزانهم إلى ما لا نهاية (1).
مسلسل من الحقد الصليبي أفرزه بطرس (بيتر) غالي لكل قضية أساء فيها إلى الموحدين كل الإساءة .. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}.

* وأخيرًا:
أقول للذين يحاولون أن يثيروا الشبهات حول الإسلام، إنهم كمثل
__________
(1) "بطرس بيتر غالي" (ص 213 - 216).
(2/402)
________________________________________
الذين يحاولون أن يثيروا التراب على السماء، فلسوف يثيرونه على أنفسهم، وتبقى السماء هي السماء ضاحكة السن بسّامة المحيا. والله تعالى يقول لهم ولأمثالهم إلى يوم القيامة {قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} تباركت وتعاليت فإنهم في غيهم يعمهون وفي غيّهم يترددون {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 121 - 123].
ما يضرُّ البحر أمسى زاخرًا ... أن رمى فيه غلام بحجرْ
أو:
وما ضرّ الورود وما عليها ... إِذا المزكوم لم يطعم شذاها (1)
***
__________
(1) انظر "كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا" (ص 349) للشيخ عبد الحميد كشك.
(2/403)
________________________________________
صليبيون حتى النخاع قد بدت البغضاء من أفواههم
(2/405)
________________________________________
صليبيون حتى النخاع قد بدت البغضاء من أفواههم
من أصدق من الله قيلا؟! ومن أصدق من الله حديثًا؟!
* قال الله عز وجل وكلام الملوك ملوك الكلام: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ .. } [البقرة: 120].
* وقال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
قلوب سوداء لا تحمل للإسلام إلا التحقير وإثارة الشبهات وخلق أجواء الريبة والاتهامات وهم طوائف مختلفة يجمعهم الحقد الشديد على الإسلام وأهله، هم رُوّاد حركة التغريب وكبار مخططيها وأبرز دعاتها الذين حملوا لواء العمل في ميادين التبشير والاستشراق والكتابات السوداء عن الإسلام منهم الحكام: ككرومر وليوتي، ومنهم دعاة التبشير أمثال لافيجري وزويمر وولكوكس، ومنهم كتّاب متعصبون للجنس الأبيض أمثال دوق داركور وهانوتو، ولويس برتران وفولتير، ومنهم مشرفون على التعليم في البلاد المستعمرة أمثال دنلوب، ومستشرقون أمثال فنسك ولويس شيخو، وهنري لامنس ومرجليوث ورينان.
وهذه المجموعة تضم الفرنسيين والإنجليز وغيرهم رابطة العقد بينهم القضاء على مقومات هذه الأمة عن طريق إثارة الشبهات في ثقافتها وفكرها وعقيدتها، ولقد تصدى لهم وسمهم الزعاف رجالات الإسلام مَنْ دينهم أغلى عندهم من الحياة وما فيها حملوه في سويداء قلوبهم يعطرها وينقلهم
(2/407)
________________________________________
إلى الحياة الآخرة ونعيمها وهم ما بعد في دار الدنيا، فكشفوا زيف هؤلاء الدجاجلة وفندوا أخطاءهم وادعاءاتهم وكشفوا شبهاتهم .. التي ما زال العبيد والأقزام وأذناب الغرب يضعونها أمام عوام المسلمين لزعزعتهم عن دينهم ..
ومكر صبيان الغرب الذين يصدق فيهم قول القائل:
يرمرم من فتات الكفر قوتًا ... ويشرب من كئوسهم الثمالهْ
يقبل راحة الإِفرنج دوما ... ويلثم دونما خجل نعال
ومكر أولئك هو يبور .. ويبقى الإسلام بنوره وبهائه وأصالته وجذوره القوية وكلماته الطيبة وعقيدته الصافية النقية .. تزول الدنيا بأسرها ولا يزال الإسلام بتعاليمه من صدور أبنائه ومحبيه ما بقيت الدنيا.
لا تهيىء كفني يا عاذلي ... فأنا لي مع الفجر مواثيقٌ وعهد
وها هم حملة السموم والحقد الواضح لا الدفين الذى تطفح به مواقفهم وكتاباتهم (1).

* فولتير وتعصبه الفجَّ وتطاوله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "تمثيلية محمد":
أصدر الكاتب الفرنسي المشهور بحرية الرأي (فولتير) عام 1745 م تمثيلية أسماها "محمد والتعصب"، وأهداها إلى البابا في محاولة جريئة تكشف عن حقيقة دعوى حرية الفكر عنده، وقد واجه (توفيق الحكيم) هذه القصة فقال: قرأت قصة فولتير التمثيلية (محمد) فخجلت أن يكون كاتبها معدودًا في أصحاب الفكر الحر، فقد سب فيها النبي سبًا قبيحًا عجبت له وما أدركت له علة، لكن عجبي لم يطل فقد رأيته يهديها إلى البابا بنوا
__________
(1) هذا الفصل هو تلخيص لكتابات الأستاذ أنور الجندي في معظم أماكنه وبالأخص كتابه "مقدمات العلوم والمناهج" (1/ 246 - 307) وكتابه "الفكر الإسلامي والثقافة الغربية المعاصرة" (ص 95 - 157).
(2/408)
________________________________________
الرابع عشر. وعلمت أن روسو كان يتناول بالنقد أعمال فولتير التمثيلية فاطلعت على ما قال في قصة (محمد) علّني أجد ما يرد الحق إلى نصابه فلم أر هذا المفكر الحر أيضًا يدفع عن النبي ما ألصق به كذبًا، كأن الأمر لا يعنيه، وكأن ما قيل في النبي لا غبار عليه ولا حرج منه، ولم يتعرض للقصة إلا من حيث هي أدب وفن، وقد قرأت بعد ذلك رد البابا بنوا على فولتير فألفيته ردًّا رقيقًا كيسًا لا يشير بكلمة واحدة إلى الدين، وكله حديث في الأدب، فعظم عجبي لأمر فولتير وسألت نفسي طويلاً: أيستطيع عقل مثقف كعقل هذا الكاتب العظيم أن يعتقد ما يقول، دين يتبعه آلاف الملايين من البشر، على مدى الأجيال، هو في نظره حقًّا دين كاذب، ومبادئ إنسانية كالتي جاء بها الإسلام هي عنده حقًّا مبادئ بربرية، أم أنه التملق والزلفى والنفاق، وأن الزمن والتاريخ يضعان أحيانًا أقنعة زائفة على نفوس تزعم أنها خلقت للدفاع عن حرية الفكر.
منذ ذلك اليوم وأنا أحس كأني فجعت في شيء عزيز لدي: الإيمان بنزاهة الفكر الحر، ولقد كنت أحيانًا ألتمس الأعذار لفولتير وأزعم أنه قال ما قال لا عن مجاملة أو ملق، بل عن عقيدة، وحسن طوية استنادًا على علم خاطئ بأخبار النبي، ولكن كتابه إلى البابا كان يتهمه اتهامًا صارخًا، ولا يدع مجالاً للشك في دخيلة أمره، إني قرأت لفولتير كتبًا أخرى كانت تكشف عن آراء حرة حقًّا في مسائل الأديان وتنم عن روح واسعة الآفاق تكره التعصب الذميم فما باله عندما عرض لذكر "محمد والإسلام" كتب شيئًا هو التعصب بعينه، تعصب لدينه ذهب فيه إلى حد السجود وتقبيل الأقدام، لا لرب العزة والخلق، بل لبشر هو رئيس الكنيسة التي ما أرى أن فولتير كان ذات يوم من خدامها المخلصين.
وإنما هي الأطماع التي كانت تدفع فولتير -فيما أرى- إلى التمسح بأعتاب
(2/409)
________________________________________
الملوك والبابوات، ولقد يقدم ثمنًا لذلك أفكاره الحرة أحيانًا، منذ ذلك الحين وفولتير عندي متهم، ولن أبرئه أبدًا، ولن أعده أبدًا من بين أولئك العظام الذين عاشوا بالفكر وحده، وللفكر، وأحسب أن التاريخ العادل سوف يحكم عليه هذا الحكم، فينتقم للحق بما افتراه على نبي كريم ظلمًا وزورًا.
على أن الذي يدعو إلى الدهش أكثر من كل هذا أن الشرق والإسلام وقفا من هذا الأمر موقف النائم الذي لا يعي ولا يشعر بما يحدث حوله، فلم نر كاتبًا من كتاب الإسلام قام في ذلك الوقت يدفع عن دينه هذا الهراء الذي قاله فولتير، ويقذف في وجه هذا الكتاب بالحقائق الباهرة القاطعة، أو أن مؤلفًا وضع كتابًا يبرز فيه شخصية النبي الخيرة العظيمة واضحة جلية، لقد كان الشرق في ليل هادئ بهيم لم تثر فيه حركة فولتير يومئذ ساكنًا.
ولكن الأمر قد تغير اليوم ولاحت في أفق الشرق خيوط الفجر، وقام في هذا القرن كتاب يمجدون عقيدتهم وهم يعلمون أن ذلك تمجيد للحق وللشرق، فإن المسألة ليست مسألة دين فقط، وإنما هي مسألة جنس وقومية (1)، وإذ تقول أوروبا "الإسلام" قائمًا تعني في غالب الأحيان "الشرق" إن الحرب الصليبية لم تكن في حقيقتها إلا حرب الغرب على الشرق (2)، وهذا المد والجزر بين الغرب والشرق يفهمه مفكرو الأوربيين تمام الفهم، ويحسبون له الحساب فالدفاع عن شخصيتنا وعقيدتنا دفاع عن حياتنا.

* كرومر وكتابه (مصر الحديثة) وتغريب الفكر الإِسلامي:
يعد افيلنج بارنج (كرومر) من كبار دعاة التغريب والاستعماريين في العالم الإسلامي وواحدًا من الذين وضعوا مخطط السياسة التي جرى عليها
__________
(1) لا للجنس ولا للقومية وإنما الدين والدين فقط.
(2) هي حرب الكفر على الإسلام.
(2/410)
________________________________________
الاستعمار ولا يزال، في محاولة القضاء على مقومات العالم الإسلامي والأمة العربية جزء منه، والإيمان بأن هذا العمل الفكري هو أهم الأعمال القادرة على دعم نفوذ الاستعمار وتركيز قوى الغرب في قلب المنطقة، وتمثل كتاباته في تقاريره وفي كتابه "مصر الحديثة" خطة عمل كاملة، وأيدلوجيا شاملة للقضاء على مقومات الفكر العربي الإسلامي وتمزيق وحدة العالم الإسلامي، ومقاومة القيم والمفاهيم العربية والإسلامية.
ولقد أمضى لورد كرومر في مصر ما لا يقل عن ربع قرن قابضًا على زمام السلطات (1882 - 1906) وأتيح له من قبل أن يمضي وقتًا في الهند، درس في خلالها مناهج الاستعمار البريطاني هنالك، وقد عمل أول أمره في مصر مندوبًا في صندوق الدين المصري 1877، ثم ما لبث أن عين بعد الاحتلال البريطاني مباشرة مندوبًا ساميًّا، ومعتمدًا لبريطانيا، ويهمنا في هذه الدراسة أن نتناول آثاره في مجال الفكر العربي الإسلامي ومخططه الذي سار عليه من بعده كل دعاة التغريب والذي اتخذته منظمات التبشير ومعاهد الإرساليات وكل من اشترك في مخطط العمل (دستورًا) من أجل تأكيد النفوذ الأجنبي عن طريق الفكر.
- وقد تبلورت حملات كرومر في نقاط هامة قليلة:
1 - إثارة الشبهات حول الإسلام، وذلك بالادعاء بأنه دين مناف للمدنية ولم يكن صالحًا إلا للبيئة والزمان اللذين وجد فيهما.
2 - أن المسلمين لا يمكنهم أن يرقوا في سلم الحضارة والتمدن إلا بعد أن يتركوا دينهم وينبذوا القرآن وأوامره ظهريًا؛ لأنه يأمرهم بالخمول والتعصب، ويبث فيهم روح البغض لمن يخالفهم والشقاق وحب الانتقام وأن المانع الأعظم والعقبة الكئود في سبيل رقي الأمة هو: القرآن والإسلام.
3 - إن الإسلام يناقض مدنية هذا العصر من حيث المرأة والرقيق وأن
(2/411)
________________________________________
الإسلام يجعل المرأة في مركز منحط.
4 - الطعن في شريعة الإسلام وسياسته ومعاملاته.
5 - أن الشاب المصري المسلم أثناء ممارسته التعليم الأوربي يفقد إسلامه، أو أفضل قسم منه ويقطع حبل المرساة الذي يربطه بمرفإ إيمانه. وأن الشبان الذين يتلقون علومهم في أوربا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم، ولا يستطيعون الالتجاء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته، فيتأرجحون في الوسط ويتحولون إلى مخلوقات شاذة ممزقة نفسيًّا.
6 - هاجم القرآن، وقال: إنه ينافي العمران وهاجم الإسلام؛ لأنه أباح الطلاق، وأنه حرم الربا والخمر.
7 - قال: إن الإسلام خال من التسامح ويغلب عليه التعصب، وأنه يغرس في العقول الانتقام والكره اللذان يجب أن يكونا أساسًا للعلاقات بين الرجل والمرأة بدلاً من المحبة والإحسان.
8 - دعا إلى إطلاق الحرية للمرسلين والمبشرين في مصر والسودان، وأن ينشئوا مدارسهم، وضمن تقاريره إحصائيات عن أعمال التبشير في جنوب السودان وفي تقريره عام 1904 أعلن أنه كتب إلى جمعية تبشيرية إنكليزية يحضها على بعث مرسليها إلى جنوب السودان، وقال: إن جنوب السودان سكانه وثنيون، وإن اتصالهم بالمسلمين إنما يذكرهم بفضائح الدراويش والنخاسين من العرب، وطالب بأن يتاح للمرسلين في أن ينشئوا مدارس في الخرطوم ويدخلوا ما شاءوا من التعاليم الدينية، وقال: إن أعمال المبشرين في الجنوب (جنوبي كودوك - فاشوده) سائرة سيرًا مستمرًا، وقال: إنه لم يطلب منه حتى الآن أي ترخيص لإنشاء مدارس في جنوب السودان تعلم فيها فرائض الإسلام.
9 - دعا إلى خلق طبقة من المتفرنجين المستغربين من الوجهة الأوربية،
(2/412)
________________________________________
والمدنية الحديثة، وقال: إن هؤلاء جديرون بكل تنشيط ومعاونة يمكن أن تعطى لهم، وقال: إن هؤلاء هم حلفاء الأوربي المصلح ومساعدوه، وسوف يجد محبو الوطنية المصرية أحسن أمل في ترقي أتباع الشيخ محمد عبده، للحصول على مصر مستقلة بالتدريج.
وهذه النصوص المنقولة من كلمات كرومر تمثل جماع ما دعا إليه المبشرون والمستشرقون دعاة التغريب والشعوبيون وما يزالون يدعون إليه حتى الآن، وهي مجموعة من الأكاذيب المنبعثة من التعصب واستخدام سلاح الشبهات للقضاء على مقومات الأمة وقيم فكرها، بعد أن تأكد الاستعمار والنفوذ الأجنبي من أن هذه المقومات هي مصدر القوة في العالم الإسلامي لمقاومة كل ضغط أجنبي.
وقد استهدفت هذه الحملة أساسًا قتل روح المقاومة والحملة على الاستعمار وخلق روح تدعو إلى تقبله والرضا به والاستسلام له، على أساس أنه أمر لا يمكن مقاومته، ومن المصلحة الانتفاع بالمستعمرين وقبول فكرهم وحضارتهم، وتقبل الحرية والاستقلال على مراحل، وهذا التيار الذي دُعي فيما بعد بتيار التعقيل أو الالتقاء مع الإنجليز في منتصف الطريق، وقد ارتفع هذا الصوت في السنوات الأخيرة لكرومر، وحاول خلق فلسفة قوامها تقبل الاستعمار وصداقته وعدم معارضته، وذلك بتصوير الاحتلال على أنه حقيقة واقعة، وكانت حجة دعاة هذه المعركة التي تعد خطوات التغريب والشعوبية القائمة الآن في العالم الإسلامي امتدادًا لها، كانت حجة هذه الحركة في (الاعتدال)، أو التعقيل على أساس فهم سلبي قوامه أن التخلص من الاحتلال يحتاج إلى قوة ليست موجودة لدى المصريين، وأن الدعوة إلى مقاومة الاستعمار هو إنفاق للوقت فيما لا طائل تحته، وما دام الإنجليز هم الذين يمسكون زمام الأمور وحدهم فلا سبيل إلى الإصلاح إلا بمصادقتهم
(2/413)
________________________________________
والتفاهم معهم وقبول ما يتنازلون عنه.
وقد أشاد كرومر بهذه الدعوة التي حمل لواءها لطفي السيد في الجريدة. ومن هنا تعمقت الحملة على الوطنيين وعلى دعاة الجلاء والحرية وعلى أصوات الدعوة المتحمسة وهوجمت أبشع هجوم، وقد حملت هذه الدعوة: الإيمان بالفكر العربي إيمانًا كاملاً ونقله، والتشيع له، وتحقير كل مقومات الفكر العربي الإسلامي ورميه بالضعف والجمود والتخلف، كما حملت لواء التقدير لأمثال كرومر ووصفه بالبطولة والإعجاب ببريطانيا وأوربا واعتبارها رأس الأمم العظيمة، وبذلك انحرف ميزان المفاهيم بين القيم الأساسية والمفاهيم المستوردة، وقد أيد كرومر هذا الاتجاه وأطلق عليه اسم (المدرسة) وتمثل هذا الاتجاه في كتابات الجريدة، التي أنشأها الباشوات والإقطاعيون والموالون للإنجليز، وأصبح شعار هذه الدعوة: (الاعتدال، المحاسنة، التعقيل).
- ثم كان أن اتجه المخطط إلى نهايته في ظل هذه الحركة وكانت الدعوة إلى:
1 - الإقليمية الضيقة، مصر للمصريين، نحن لسنا عربًا، وليس لنا بالمسلمين أي روابط، ولا دخل لنا في أمورهم ومن هنا لا يجوز لنا أن نشارك في معارك طرابلس التي وقعت مع إيطاليا في سبيل مقاومة الاستعمار.
2 - التعليم، لا يكون إلا لطبقة معينة من الأمة هي الطبقة الثرية التي تتأهل لولاية الحكم وإن أبناء الطبقات الفقيرة لا يجوز أن يتعلموا إلا (فك الخط).
3 - اللغة العربية الفصحى هي مصدر التخلف، ولذلك لا بد من تحسين اللغة العامية حتى تصبح لغة الكلام والكتابة معًا.
(2/414)
________________________________________
4 - الإنجليز يعملون لتمديننا وحمايتنا، فلا خصومة بيننا وبينهم ولكن مودة وصداقة.
5 - الوطنية لا تكون اندفاعًا عاطفيًا، ولا ينبغي أن يتعلق بأوهام الإسلامية أو الرابطة العربية وإنما تقوم على سياسة المصالح فمصر أولاً وقبل كل شيء. وبذلك حقق كرومر هدفه في خلق تيار واضح في تعميق دعوته ونشر سمومه وقبول آرائه في ازدراء الفكر العربي الإسلامي واحتقار الإسلام والعروبة واللغة العربية والشك في صلاحية هذه المقومات لبناء أمة أو نهضة.
فاستطاع أن ينشر هذه الآراء عن طريق صحيفتين: صحيفة لها طابعها العلني في تأييد الاستعمار "المقطم" وصحيفة لها طابعها المصري الغامض "الجريدة" وقد مضى كرومر خلال فترة إقامته في مصر إلى آخر المدى في تنفيذ مخططه الاستعماري التغريبي الذي يتركز على عدة أعمال أساسية:
1 - الحملة على مركز الرابطة التي تجمع العالم الإسلامي وهي السلطنة العثمانية والخلافة والسلطان عبد الحميد وتأييد خصومها وفتح أبواب مصر لهم وإتاحة الفرصة لهم للحملة على الجامعة الإسلامية والخلافة والدولة العثمانية.
2 - الحملة على الإسلام باعتباره تركيا وباعتبار أن الكيان القائم في تركيا بكل أخطائه ومساوئه هو "الإسلام" والتركيز على الخلافة الإسلامية باعتبارها نقطة الالتقاء للعالم الإسلامي رغبة في القضاء عليها.
3 - الاتفاق مع فرنسا وتوقيع الاتفاق الودي وذلك حتى لا يجد المصريون مجالاً للحملة على بريطانيا ومقاومة نفوذها، وقد كشف ذلك عن أن الاستعمار ملتق على هدف واحد هو السيطرة على العالم الإسلامي.
4 - استقدام عديد من الأجانب ومن السوريين واللبنانيين خصوم الدولة العثمانية ليصبحوا (ركائز) في دعم الحكم وإتاحة الوسائل الكفيلة لهم
(2/415)
________________________________________
بالكتابة والتجارة والسيطرة على مجالات الاقتصاد والفكر والصحافة.
5 - نشر اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية على حساب اللغة العربية والثقافة الفرنسية في محاولة القضاء على الفكر الإسلامي العربي، وبذلك أمكن تجميد اللغة العربية في المدرسة المصرية والجامعة وتجميدها عن النمو في العالم العربي والإسلامي كله.
وقد حاول كرومر تنفيذ تجربة الاستعمار البريطاني في الهند للقضاء على اللغة العربية بها، وذلك بنشر اللغة الإنجليزية حتى تكون لغة تخاطب، ففرض التدريس بها، ولقد كان الإسلام هو العامل الأساسي الذي استطاع أن يحمي اللغة العربية بوصفها لغة القرآن ولولاه لانتهت اللغة العربية في مصر.
6 - خلق روح الإقليمية وتمصير القيم بعد أن كانت عربية أو إسلامية، وذلك لعزل كل قطر عن القطر الآخر وأقام حدود فكرية بين أجزاء الوطن العربي والعالم الإسلامي.
وقد استطاع هذا التيار أن يبتعد عن جذور الفكر العربي الإسلامي، وأن يشجبه شجبًا كاملاً، ويجعل الحديث عنه جمودًا ورجعية، كما انتشرت الحملة العنيفة المستمرة على رجال الأزهر ووصفهم بأنهم رجال الدين وإلقاء اتهامات الأكليروس على علماء المسلمين، كما نقلت الاتهامات التي وجهها الفكر الغربي إلى المسيحية الغربية على الإسلام. ولم تمر حملات كرومر دون أن تواجه بمعارضة ونقد وتشريح وكشف لما بها من أخطاء ومغالطات وتعقيب، وأبرز ثلاثة تناولوا كتابات كرومر بالرد هم: فريد وجدي، ومصطفى الغلاييني، ورشيد رضا.
وعندما صدر كتاب مصر الحديثة (مارس 1908) نشرت اللواء والمؤيد ردودًا تفصيلية، مما جاء فيها قول المؤيد: "لم يكن كرومر من رجال العلم والفلسفة، ولا من رجال التأليف إنما كان جنديًّا يؤمن بمجد الإمبراطورية،
(2/416)
________________________________________
تعود بحكم وظيفته أن يكتب، ونظرته استعمارية تنبع من وجهة نظر سيطرة بريطانيا، وهي قائمة على كراهية الشرق والعرب والمسلمين واحتقارهم والإيمان بأن الرجل الأبيض له حق تمدينهم".
1 - وقال فريد وجدي في رده على كرومر: إنه مما لا خلاف فيه أن الإسلام كان وحده سبب يقظة الأمة العربية والروح التي بعثتها لتكوين وحدتها الاجتماعية والسياسية وأنها باسمه وبتأثير تعاليمه اتصلت من بين شعابها وهضابها الرملية لمنازعة دولتي الرومان والأعاجم حق السيادة الأرضية، وباسمه أسست تلك المملكة الباهرة في الأندلس التي كانت سببًا في إيصال نور المدنية إلى أوربا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، فهل يصح أن توصف المبادئ التي كونت هذه الدول بأنها مبادئ تميت الشعوب التي تسود فيها.
2 - أما مصطفى الغلاييني فقد أصدر كتابًا في 224 صفحة باسم "الإسلام روح المدنية" صدر 1908 في بيروت وأعيد طبعه في مصر بعد ذلك. وقد رد فيه مفصلاً على آراء كرومر عن:
(1) التعصب في الإسلام.
(2) الرق في الإسلام.
(3) المرأة في الإسلام.
(4) المدنية الإسلامية.
وأجاب على ثلاثة أسئلة هي:
(أ) هل الشريعة الإسلامية لا توافق هذا الزمان؟
(ب) هل الإسلام مدن الإنسانية أم أخرها؟
(ج) هل القرآن منافٍ للعمران؟
3 - أما الشيخ رشيد رضا فقد رد في المنار مجلد 10 (1907) على ما
(2/417)
________________________________________
ذكره كرومر وأعاد إلى الذاكرة ما وجهه إلى المستشار الإنجليزي عام 1905 عندما هاجم الشريعة الإسلامية، وقد جاء في ذلك قوله إلى كرومر: "هل عنيت بما قلت في تقريرك الأخير عن الحكم بالشريعة الإسلامية التي وضعت منذ أكثر من ألف سنة الدين الإسلامي نفسه الذي هو عبارة عن القرآن الكريم والسنة النبوية أم عنيت بذلك الفقه الإسلامي الذي وضعه الفقهاء؟!.
وقد رد كرومر في مكر ولؤم، فقال: إنه إنما قصد الفقه ولم يقصد الدين الإسلامي نفسه".
- وكان كرومر في تقريره 1906 قد هاجم الإسلام والفكر العربي الإسلامي في ثلاثة مواضع:
1 - إباحة الاسترقاق.
2 - المرأة.
3 - اجتماع الأصول المدنية والقانونية في الإسلام.
وقد رد عليه كثيرون في مقدمتهم فريد وجدي، ومصطفى الغلاييني والدكتور شبلي شميل.
وقد نشر فريد وجدي رده باللغة الإنجليزية في جريدة اجبيشيان ستندر حتى يهيئ للورد كرومر فرصة قرائته بنفسه وبلغته، غير أن كرومر لم يلبث بعد عامين بعد خروجه من مصر أن أصدر كتابه "مصر الحديثة" وعاد فاتهم الإسلام والثقافة العربية الإسلامية مرة أخرى باتهامات جديدة فعاد فريد وجدي إلى الرد عليه مفندًا رأيه بأدلة جديدة في بضعة وعشرين مقالاً نشرها في جريدة الدستور عام 1908 ثم جمعها في كتابه "اللورد كرومر والإسلام".
ومما جاء فيها قول فريد وجدي: صغر في عيني جدًا من حيث معارفه التاريخية والاجتماعية والدينية وكنت أظن أنه بعد أن قرأ ردي عليه في أجبيشان ستندارد الإنجليزية يؤوب إلى الحق، فيتنازل عما اختزنه ذهنه عن
(2/418)
________________________________________
الإسلام عن طريق الوراثة والتقليد فإذا به ازداد تعسفًا وجنى على الحقيقة.
ويظهر أن السياسة قطعته عن العلم فلم يدرس في فلسفة الأديان كتابًا واحدًا. ويسوءنا أن نجاريه في تعديه على الإسلام فنكيل له الصاع بالصاع ونريه من أقوال قادة الفلسفة الأوربية مبلغ ما أتت به المسيحية للعلم والمدنية، ولكن يردنا عن ذلك أدب إسلامي أفاضه علينا القرآن فنمتنع عن تناول النصرانية بالقول تفاديًا من استياء الآخرين بذلك الدين.
ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نذكره بقول العلامة "درابر" أن المسيحية لبثت في أوربا ألف سنة فلم تنجب عالمًا واحدًا، ولم يلبث الإسلام غير سنين معدودة حتى نبغ فيه ألوف من أراكين العلم وأساطين الفلسفة. إن المصري يعتبر من أكثر العالمين أدبًا وظرفًا وكرمًا، وماذا رأى كرومر من سوء أدبنا حتى يحط من قدرنا إلى هذا الحد، إن ذنب الإسلام في نظر أهل السياسة من أوربا أنه دين يحمل الآخذ به على الإباء والشمم، ويحميه من أن يكون مضغة للمستعمرين من الأمم، مم يكفر المسلم المعتصم، أيكفر من وجدانه دينًا لا يجافي العقل ولا يحجر عليه، دينًا يفتح باب الحرية المعقولة في وجه كل ميل من أميال جسده وبصره، دينًا يدعو للقوة الدنيوية كما يدعو للمنزلة الأخروية.
لا بد أن يكون من الذين يحومون حول كرومر رجل أو رجال دسوا له الدسائس، فما كان كرومر يستطيع أن يقول هذا الكلام ما لم يقم قوم من المسلمين يدعون أنهم آخذون في إصلاح الإسلام وكلمة إصلاح التي هي في لغتهم، Reform تذكرهم بانقلاب أساسي للدين من نوع الانقلاب الذي أحدثه لوثر وكالفان من مؤسسي البروتستانية، فلما رأى كرومر أن في مصر رجالاً يدعون هذه الدعوى، ولم يثمر أعمالهم سنين ثمرة تذكر، زعم أن الإسلام غير قابل للإصلاح.
أما الإسلام في ذاته فلا يعوزه إصلاح ما، وكل ما يشاهد في أهله من
(2/419)
________________________________________
آثار الحياة عنه، أسبابه الجهل والبعد عن أصوله وفروعه، فانشر العلم بين طبقات المسلمين تنتهي كل هذه الخرافات. فثم يطلب الإسلام الإصلاح.
هل يحجر على المتعلم العلم، قال: يصد الباحث، هل يأمر بإحراق المتكلمين في الطبيعيات، هل يزجر أهله عن السعادة المادية، هل يكبح الآخذين به عن الملذات البدنية المعتدلة، هل يقيم لهم الوسطاء والشافعين من الكهنة، هل يأمر الناس بالذلة والمسكنة، هل يحسن للإنسان قتل الناس بمجرد مخالفتهم له في العقيدة، هل يبيع حملته الجنة والرحمة الإلهية، كل ما في الأمر أن جهال المسلمين غلوا في تعظيم الصالحين وفي استعمال البيارق والطبول في الأذكار، وافرط أغنياؤهم في كثرة التزاوج والطلاق، وهي أمور سببها الجهل، وأوجبها سكوت العلماء وغدًا تنتبه العقول فلا يوجد لها عين ولا أثر.
يقول اللورد: إن الإسلام فشل في تكوين نظام اجتماعي وهذه كلمة تضحك الصخر وتبكيه في آن واحد، فيا ليت شعري إذا خاب الإسلام في تكوين نظام اجتماعي فكيف جمع العرب المشتتين وكون منهم أمة دحرت الرومان والفارسيين وما زالت تمتد حتى بلغت أقصى ما بلغته دولة الرومان في قرون وصار ملكها أكبر من ملك إنجلترا اليوم، ألم يقرأ نظام الأندلسيين في غرب أوربا في القرن السابع والثامن والتاسع والعشر والحادي عشر من الميلاد حيث كانت أوربا تتعلم منهم العلوم وتقتبس منهم المدنية.
أتريد دليلاً على فساد مزاعم اللورد كرومر أقوى من قوله: إن الإسلام خاب في تكوين نظام اجتماعي في الوقت الذي أجمعت فيه التواريخ أن الأمة الإسلامية اجتمعت بالإسلام وارتقت به وكونت لنفسها في ممالك متعددة مدنيات باهرة تفضل مدنية اليوم من أكثر الوجوه؟!. ولكن الأغرب في كل ما مر من تعليلات كرومر لإخفاق النظام الاجتماعي الذي وضعه الإسلام قوله: إنه حط من قدر المرأة، كيف حط الإسلام من قدر المرأة، وهو
(2/420)
________________________________________
الذي أثبت لها روحًا وقد نفتها عنها أوربا في مجمع ديني مقدس، وأثبت أن لها أن تضحك وأن تأكل اللحم وأن تلبس ما تشتهي وقد حرمت عليها الكنيسة الأوربية ذلك في العصور الوسطى، وأباح لها حق التملك والتصرف بمالها والتكلم في شئون المسلمين العامة، وتولي القضاء والإفتاء وفرض لها في بيت زوجها كل كرامة حتى لم يكلفها بإرضاع ولا بخدمة منزلية.
هذه المرأة الأوربية المعطاة قشور الحرية دون لبابها، ولم تزل، لا تمتلك حرية للتصرف بمالها.
ويصور الدكتور سامي النشار دور اللورد كرومر في تغريب الفكر العربي الإسلامي على نحو أشد وضوحًا وقوة وذلك بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على كتابات فريد وجدي يقول: إن كرومر قد أتى وكان إليه جماع الحروب الصليبية، وفيه حقيقتها، أضغان الصليبيين القدامى وأحقادهم وسخائمهم العتيقة، إنه حين أتى أعلن أنه سيهدم في مصر ثلاثًا: القرآن، والكعبة، والأسرة الإسلامية، وظن هذا الصليبي الصغير أنه قادر على هدم حقيقة الكون الكبرى، وأنه إله صغير في يده الأمر والنهي، ولكنه حاول وحاول، واستخدم ببراعة نادرة حلقة معينة وقد استطاعت هذه الحلقة أن توجه الفكر الإسلامي إلى الاتجاه الذي أراده كرومر.

* المارشال ليوتي أول حاكم فرنسي للمغرب عمل على هدم اللغة العربية وإحلال الفرنسية محلها، وخلق الخصومة بين العرب والبربر:
لا تستطيع أن تقرأ تاريخ المغرب الحديث دون أن ترى اسم المارشال (ليوتي) بارزًا واضح الأثر بوصفه الرجل الذي مهد للاحتلال الفرنسي للمغرب وقعد قواعده، مثلة مثل كرومر في مصر، فهو أول حاكم للمغرب (ديسمبر 1912) ويعده مواطنوه الفرنسيون أنه منشئ المغرب الحديث، وأبرز أعماله هو خلق الخصومة وتأريثها بين عنصر الأمة المغربية العرب والبربر،
(2/421)
________________________________________
كما خلق كرومر الخلاف بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وقد حارب اللغة العربية وحارب جامعة الزيتونة وظل يعمل في همة حتى عام 1935 حينما بلغ السبعين من عمره وقد استطاع أن يكسب بعض شيوخ الطرق الصوفية إلى صف الحماية واستعان بهم على تركيز النفوذ الفرنسي عن طريق الفكر والدين، وكان ليوتي بارعًا في استغلال الحزازات القبلية واستطاع أن يكسب إلى صف الاستعمار أرباب الطريقة الدرقاوية التي حملت لواء تثبيط مقاومة الشعب للاحتلال فقد أوصى دعاتها الأهالي بالطاعة والتسليم للسلطات الفرنسية، وقد بلغ مولاي عبد الرحمن غاية ما أملت فرنسا في هذا وقد ربط مستقبله بمستقبل فرنسا على حد تعبير روم لاندو في كتابه "تاريخ المغرب في القرن العشرين" في أنه لم تكد جنود الحلفاء تنزل المغرب حتى اتصل شيخ الدرقاوية بهم وطلب أن يصبح مواطنًا، وقد قام الطرقيون بدورهم في ترجيح استسلام الأمير عبد الكريم في حرب الريف عام 1916، وقد أشار لاندو إلى أن الطريقة التيجانية هي أيضًا قد نفعت فرنسا بنفوذها القوي في جنوبي المغرب وموريتانيا والريف، وكذلك الطريقة الكتانية وكان الفضل في ذلك إلى المارشال ليوتي الذي كان عمله الفكري من أكبر الأعمال التي مهدت للنفوذ الغربي الفرنسي في العقل العربي الإسلامي المغربي، وقد أولى ليوتي اهتمامه الأكبر إلى مقاومة جامعة الزيتونة حتى قال لأحد أعوانه أنه: إذا تم لفرنسا القضاء على القرويين فقد ضمنت فرنسا لنفسها الخلود في المغرب؛ ذلك لأن خريجي القرويين كانوا أهم عنصر في المقاومة التي واجهت الاستعمار الفرنسي، ولقد تعرضت جامعة القرويين منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى حملة ضخمة قادها كتاب الأفرنج وطعنوا في معارف أهلها وكفاءاتهم، وكان هذا تمهيدًا للتدخل في مناهجها ومحاولة إماتتها والقضاء عليها. وأبرز أعمال ليوتي هي حركة الفصل بين العرب والبربر، وقد صور هذا الدور فيكتور بليه في كتاب "الشعب المغربي أو العنصر البربري" فقال:
(2/422)
________________________________________
لما حفظنا للقبائليين (البربر) في الجزائر حالهم، اتخذوا اللغة الفرنسية بدلاً من العربية، ولا بد لبربر المغرب أن يتبعوا تلك الخطة، ومن الواجب علينا إعانتهم على ذلك، وقانونهم الخاص لا علاقة له بالقرآن، فيجب أن نثبته ونتممه ونرقيه بكيفية بربرية، إن لم تكن فرنسية، ولا نترك القرآن يثبت في أوطانهم، ولقد جعلنا برنامجًا للتعليم البربري في فكرة فرنسية، وجعلنا المدرسين من القبائليين وذلك من أحسن الوسائل لمصادرة اللغة العربية".
- وهكذا كشف مخطط ليوتي وحلفائه هدفهم في القضاء على اللغة العربية والإسلام والقرآن أساسًا باعتبارها وسائل المقاومة للغاصب، وقد أشار الجنرال مارتي في كتابه (مغرب الغد) إلى هذا المعنى حين قال: "لا حاجة لنا في تعليم العربية إلى المستغنين عنها، والعربية رائد الإسلام، ويجب علينا أن نمدن البربر خارج طور الإسلام ويجب علينا أن نمر من (البربرية) إلى (الفرنسية) بدون واسطة، ولا بد لنا من فتح مدارس فرنسية بربرية تتعلم فيها الشبية البربرية اللغة الفرنسية، ويجب علينا أن نأخذ الاحتياط في المذاكرة معهم في شأن الدين؛ لأن الإسلام ما وضع على البرابر إلا صبغة سطحية".
وصور مارتي هذه المدرسة الفرنسية البربرية.
- فقال: "إنها فرنسية باعتبار ما يقرأ فيها وبربرية باعتبار تلاميذها فلا حاجة إلى واسطة أجنبي حيث إن التعليم العربي، وتدخل الفقهاء، وكل المظاهر الإسلامية ستبعد عنها ابتعادًا، وبذلك نبعدهم قسرًا عن كل ما يطلق عليه لفظ إسلام".
- وقد أشار فيكتور فيكي إلى إنه يهتدي في ذلك بتعليمات المارشال ليوتي التي تهدف إلى مصادرة اللغة العربية وكتابة البربرية بحروف فرنسية.
وأشار جان جيرو في مجلة المغرب الكاثوليكي إلى أن الجنرال ليوتي فهم أن إثارة التناقض بين العنصرين البربري والعربي هو الكفيل ب*** المصالح لدولة فرنسا وأنه قد اندفع إلى ذلك بما له من ذكاء حاد يكشف به جانب
(2/423)
________________________________________
المنفعة.
وكما أولت فرنسا الجنرال لافيجري اهتمامًا خالدًا بإقامة تمثاله الضخم في مدخل تونس، كذلك أقيم للمارشال ليوتي مدفنًا على ربوة تشرف على مدينة رباط الفتح بالمغرب.
وقد أشارت جريدة المقطم إلى الرابطة بين أهداف كرومر وليوتي، فقال خليل ثابت رئيس تحريرها: إن كرومر وليوتي كانا يمثلان سياسة من أكبر السياسات في القرن التاسع عشر فإنهما مع عنايتهما بالإصلاح الإداري والمالي والاقتصادي، لم ينسب أنهما ****ا دولتين لهما أغراض ومقاصد لا بد من مراعاتها والسهر عليها وأنهم كانوا من أعظم رجال الاستعمار.
- وبعد فقد كان ليوتي عاملاً على هدم ثلاث قواعد هامة:
1 - اللغة العربية وإحلال اللغة الفرنسية مكانها وتشجيع اللهجة البربرية.
2 - تحويل التعليم إلى اتجاه الفكر التونسي والثقافة التونسية والقضاء على القرآن والدراسات الإسلامية.
3 - إقامة المحاكم البربرية، وذلك للقضاء على النظم القضائية المستمدة من التشريع الإسلامي.

* الكردينال لافيجري طبّق ما وصّى به لويس التاسع وهو مؤسس جمعية الآباء البيض المبشرين في الجزائر وتونس وهو أكبر دعاة التغريب في المغرب العربي:
يعد الكردينال لافيجري من أكبر دعاة التغريب والعاملين على تثبيت قواعد النفوذ الأجنبي في المغرب العربي كله، وعندما توفي 1892 كان عملاً ضخمًا قد تم في الشمال الأفريقي لتركيز دعائم النفوذ الفرنسي حتى نسب
(2/424)
________________________________________
إليه وارتبط به المؤتمر الأفخارستي الذي عقد في مدينة تونس 1935 بعد أن أقيم تمثال له في مدخل المدينة عام 1925 يمثله وهو أخذ الصليب بيده اليمنى والإنجيل بيده اليسرى.
وما زال قائمًا في مكانه إلى اليوم، وهو مع الجنرال ليوتي من طلائع الاستعمار في المغرب أشبه بكرومر وزويمر في المشرق وقد حاول من جاء من بعده أن يربطوا بينه وبين لويس وحملته الثامنة على تونس فقال أسقف قرطاجنة: "إن الفكرة العظمى التي كانت تدور بين جني سان لوي (لويس التاسع). والتي ورثها الكردينال لافيجري هي التي تدفعنا إلى عقد المؤتمر الأفخارستي، إن مؤتمر قرطاجنة سيكون حملة صليبية جديدة أو الحملة الصليبية التاسعة والكردينال لافيجري هو مؤسس جمعية الآباء البيض المبشرين في الجزائر وتونس، وكان مصدر العمل كله تقرير حقيقة تقول: إن الوسيلة الوحيدة لبقاء الاحتلال والنفوذ الفرنسي دوامه هو تحويل أهالي المغرب إلى فرنسيين وتغيير دينهم إلى دين الغرب.
ومن أبرز ضربات الكردينال لافيجري محاضرته المشهورة عن الرقيق في الإسلام والتي رد عليها المؤرخ العربي المصري أحمد شفيق صاحب الحوليات بكتاب ضخم باللغة الفرنسية ترجمه أحمد زكي باشا إلى اللغة العربية.
ومنذ مطالع شباب الكردينال لافيجري المولود عام 1835 كان اتجاهه إلى دراسة العلوم اللاهوتية حتى وصل إلى مناصب الأكليروس إلى رتبة (الكردينالية) وقد جال جولات واسعة في بلاد المغرب وبلاد أفريقيا من أجل تدعيم إرساليات التبشير، والمعروف أن تونس احتلت سنة 1881 وأن عمله كان تمهيدًا لهذا الاحتلال الذي كانت فرنسا تتطلع إليه منذ احتلال الجزائر سنة 1830 ثم تأكيدًا ودعمًا لهذا الاحتلال.
- ومن أهم الأعمال التي وضع لافيجري أسسها:
(2/425)
________________________________________
1 - إقامة مدارس تبشيرية ومنها مدارس للراهبات استطاعت من بعد أن تضم كثيرًا من حفيدات الباي والمفتي الأكبر وكبار الشخصيات المتصدرة للقيادات السياسية.
2 - محاربة اللغة العربية والإسلام والقرآن.
3 - الدعوة إلى إعادة الغرب إلى أصله الروماني.
4 - توسيع نطاق التبشير في أفريقيا كلها وأقام جمعية الآباء البيض ذات التاريخ المعروف في مواجهة انتشار الإسلام.
وقد خلفه يونس وفوكو وجول سيكار ولهم مؤلفات خطيرة في الدعوة إلى تقويض أركان الإسلام والفكر الإسلامي واللغة العربية. وجملة رأي الكردينال لافيجري واتباعه أن هذه البلاد (المغرب) بلاد رومانية أصلاً، ولا بد من إرجاعها إلى طابعها الروماني القديم. وفي نفس الوقت الذي كان المؤتمر الأفخارستي يعقد في تونس على أثر حملة التجنيس ودعوة التونسيين إلى الجنسية الفرنسية، كان الظهير البربري الصادر في المغرب (مراكش) يدعو إلى فصل العرب عن البربر، وفي نفس العام 1930 كان احتفال فرنسا في الجزائر بمرور مائة عام على احتلالها، واعتباره احتفالاً بمرور قرن على إقرار الكنيسة المسيحية في الجزائر.
وفي هذه الحركات جميعًا كان اسم لافيجري لا يفارق الكتاب والمتحدثين متخذًا منه نقطه البدء إلى توسيع نشاط التبشير في شمال أفريقيا، ولقد آثار المؤتمر الأفخارستي ضجة لا حد لها، فقد اعتمد له مليونًا من الفرنكات من ميزانية الحكومة التونسية، وتقرر عنده في قرطاجنة، فلما اقترب موعده قدمت إلى العاصمة جماعات كثيفة من الرهبان وأخذت تتجول في الشوارع، صفوفًا متراصة تتقدمها كشافة ترتدي ملابس الحروب الصليبية، وهي قمصان بيضاء رسم عليها الصليب من أمام ومن خلف ينشدون الأناشيد
(2/426)
________________________________________
الكنائسية، وكان حديث الرهبان إلى المسلمين لا يخرج عن أنهم من أرومة مسيحية ورومانية وأنهم لا بد أن يعودوا إليها، وأن هذه البلاد "ستدخل في حياة جديدة بعد ليل الإسلام الطويل".
1 - الرقيق في الإسلام: هاجم الكردينال لافيجري الإسلام في محاضرة له عن الرقيق، أثارت كاتبًا عربيًّا مصريًّا هو المؤرخ أحمد شفيق صاحب الحوليات الذي كان في باريس في هذه الفترة:
- قال أحمد شفيق باشا في مذكراته: في أول يوليو 1888 ذهبت إلى كنيسة سان سوليبس لأستمع فيها إلى محاضرة عن الرقيق. وهو موضوع يهمني بصفتي مسلمًا، وكان بصحبة الكردينال سوداني صغير قال: إنه أنقذه من الرق وقد تكلم عن سير الرق في أفريقيا ولفت الأنظار إلى انتشاره ومما قال: لقد زاد الرقيق في أفريقيا منذ عشر سنين وأصبح يقدر بمليون نسمة في السنة فإذا استمرت هذه الحال خمسين عامًا أخرى فلن يبقى في تلك الأنحاء إنسان حر، وما يزال ذائعًا عند حدود مصر وفي زنجبار وبلاد العرب، وعلى ساحل البحر الأحمر، وبالرغم من رقابة السفن الإنجليزية فإن النخاسة يعبرون هذا البحر في جوف الليل فلا يراهم أحد. ثم تكلم عما يلاقيه الرقيق من المر والذل وتعرض إلى الإسلام في هذه النقطة فقال: إن سوء معاملة الرقيق أمر يبيحه الإسلام. وقد عقدت العزم منذ عودتي من باريس على أن أرد بالفرنسية على المزاعم التي وردت في محاضرة الكردينال لافيجري.
وقد رددت على الكردينال سنة 1890 في مؤلف بالفرنسية ترجم إلى اللغتين التركية والعربية عنوانه "الرق في الإسلام".
- وقال شفيق باشا: الذي حملني على الشروع في هذا البحث على الاسترقاق إنما هو الخطأ الشائع في أوربا بخصوص الديانة الإسلامية إذ يزعم
(2/427)
________________________________________
القوم أن نصوصها تحض على ارتكاب الفظائع الحاصلة في أفريقيا الوسطى، فلما أقدمت على هذا العمل رأيت الواجب على أن أحيط علم الجمهور بخلاصة تاريخ عن الاسترقاق وموقف الإسلام منه.
- وقال أحمد شفيق: إن الدين الإسلامي الحنيف لا يبيح في أي حال من الأحوال معاملة الرق إذا كان أبواه مسلمين حرين، ولا يكون الاسترقاق إلا في الحرب ومع ذلك فهو مقيد بشروط وروابط معلومة منها أن يتم على وجه المقرر له، ومنها أن يكون مع أقوام يؤمنون بالله ورسوله على أنهم إذا رضوا بالإسلام دينًا أو دفعوا الجزية تخلصوا من ربقة العبودية. إن الشريعة الإسلامية تأمر تابعيها بالتزام الرفق والرأفة مع المملوكين واستشهد على ذلك بالمأثور عن النبي فقد قال: "اتقوا الله في الضعيفين المرأة والمملوك".
وأمر - صلى الله عليه وسلم - بأن يلبس المملوك من لباس سيده ويتغذى من غذائه، ولا يُحمل فوق طاقته وإن كان سيده مقترًا في معيشته فلا يسري عليه ذلك.
إن الكتاب والحكم والأحاديث النبوية تبيح للسيد أن يتزوج مملوكته إذا أعتقها وأمهرها.
وقال: إن الكردينال لافيجري وأتباعه قد اتهموا الديانة الإسلامية بأنها تدعو إلى النخاسة وتوصي أهلها بارتكاب الفظائع والقبائح التي يرويها عن أواسط أفريقيا. وبلغ من حكمة أحمد شفيق أنه لم يشر إلى الكردينال لافيجري في كتابه الذي لقي بالغ التقدير من الكتاب الغربيين أمثال: مسمو، رنيو، أندري لوبون، ماسيجلي. وقالت جريدة الربيو بليكان أوليانز الفرنسية: أن لافيجري زعم من المسلمين يعتقدون أن الزنجي ليس من العامة البشرية والهيئة الاجتماعية الإنسانية بل هو واسطة بين الحيوانات العجم وأنهم يعلمون هذه المعتقدات لأطفالهم ويبثونها في أذهانهم وقد حققنا بالبراهين الدامغة أن الكردينال لافيجري قد استعمل في دعواه طريق الغش والتدليس
(2/428)
________________________________________
لكي يجتذب تعضيد الفرق الدينية ماديًا وأدبيًّا قد يرقش رأيه ودعوته بصفة الدين فنهج منهجًا مناقضًا لطريقة تمثيل الحقائق بالصفة التي من حقها أن تكون عليها.

* القس المبشر دنلوب وتغريب التعليم في مصر:
يعد "دنلوب" واضع المخطط الأساسي لتغريب التعليم والتربية وإقصاء الإسلام عن برامج التعليم في المدرسة المصرية، باعتبار أن التعليم والتربية لها أكبر الأثر في مخطط التغريب والشعوبية والتبشير والاستشراق إن لم تكن هي جوهر هدف الاستعمار الأساسي.
فإن خلق طبقة من المتفرنجة الذين ينكرون الدين والخلق معًا (الإلحاد والإباحية) هو عمل أساسي فعلى هؤلاء يعتمد الاستعمار مستقبلاً في تنفيذ مخططه، وتكوين ركائزه التي يعتمد عليها بعد جلاء القوات المحتلة، وقد قام دنلوب بدور كبير في تعميق مخطط التغريب وهدم مقومات الفكر الإسلامي، وكان أبرز ما عمل له: نزع اعتقاد الشباب المسلم في القرآن وكان مذهبه "متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة".
وكان دوجلاس دنلوب قد عين سكرتيرًا عموميًا للمعارف في 8 مارس سنة 1897 ثم مستشارًا في 24 مارس سنة 1906، وقد كان في أول أمره قسًا مبشرًا عمل في وظيفة مدرس للغة الإنجليزية والخط الإفرنجي في مدرسة رأس التين الثانوية ثم لفت نظر كرومر فدفعه إلى العمل في نظارة المعارف فما زال يترقى به حتى أصبح مسيطرًا سيطرة تامة على شئون التربية والتعليم.
ولد دنلوب في اسكوتلانده 1860 وتخرج من القسم اللاهوتي في إحدى كلياتها، وجاء إلى مصر مبشرًا 1889 وعين مدرسًا في مدرسة سنت أندرو التابعة للمجتمع التبشيري لاسكوتلانده بمرتب فرنكات معدودات،
(2/429)
________________________________________
وسعى لدى كرومر بمساعدة السير فونكريف **** الأشغال حتى عين مدرسًا للغة الإنجليزية في مدرسة المهندسخانة فالمعلمين الخديوية.
- وكانت أبرز أعمال دنلوب:
1 - العمل على محاربة اللغة العربية والإسلام والأزهر لذلك عمل على اضطهاد معلمي اللغة العربية من الأزهريين.
2 - نشر لواء اللغة الإنجليزية وتأهيلها للسيطرة الكاملة على كل شئون التعليم، وبذلك أمكنه القضاء على نفوذ اللغة العربية ولقد مضى في ذلك إلى حد أنه جعل تعليم سائر العلوم كالرياضيات والتاريخ، والكيمياء والجغرافيا والرسم باللغة الإنجليزية، وضيق على اللغة العربية تضييقًا كبيرًا.
ومما يذكر أنه كان يسافر كل صيف إلى بريطانيا ثم يعود في أول العام الدراسي، وقد استقدم معه عددًا كبيرًا من الإنجليز حملة الشهادات الأهلية الذين كانوا يعينون بمرتب لا يقل على ثلاثين جنيهًا، وقد اختارهم بنفسه، وقد كان أبرز كتابات هؤلاء المدرسين الكراهية للغة العربية والعداء للحرية، ومحاولة تحطيم آمال الأمة العربية وتغريب التلاميذ واتهام تاريخ العرب والمسلمين وإثارة الشكوك حوله، واتهام الحضارة الإسلامية العربية بالاتهامات المختلفة وذلك لخلق شعور عام بكراهية هذه الأمجاد والنفور منها والسخرية بها، وكانوا يطعنون روح الوطنية في الشباب والقضاء على حماستهم وتهديدهم، وكانوا يصفون الأمة بأنها نصف متحضرة، وقد داسوا على كل عاطفة وطنية واضطهدوا كل شاب أظهر ميلاً أو عاطفة نحو دين أو وطن وأنشئوا نظامًا من التجسس في المدارس يطاردون به الشباب الوطني، وكان محرمًا على كل أستاذ مصري أن يتحدث عن تاريخ مصر أو تاريخ الإسلام بما يبرز عظمة أمتنا، وكان أهم ما يقال إذ ذاك أن مصر بلد زراعي، وأنها ظلت محتلة طوال تاريخها بالفرس والرومان والأتراك والعرب. وأنها لن
(2/430)
________________________________________
تحكم نفسها أبدًا، وأن جيشها قد هزم في التل الكبير وأن الجنود المصريين ذبحوا ليلة 14 سبتمبر 1882 التي كانت قمرية كما يذبح الخراف وكان محرمًا أن تقرأ جريدة وطنية أو تاريخ الإسلام أو العربية.
وقد قاوم (دنلوب) بنشر التعليم العالي في مصر وقد سجل ذلك كرومر في تقريره سنة 1907 "أن إنجلترا لا تريد نشر التعليم العالي في مصر، وأنها لا تريد إلا إعداد جمهور من طبقة الأفندية ليشغلوا الوظائف الثانوية في الحكومة وأن المصريين لا يصلحون للعلوم العالية، وأن زيادة التعليم تصرف عن فلاحة الأرض وتعود على مصر بالإفلاس".
وقد حرص دنلوب بتوجيه كرومر وبريطانيا على تنفيذ خطة واضحة المعالم للعمل على وقف انتشار التعليم أو ترقيته وسبيلهم إلى ذلك تقليل اعتمادات المعارف، وصرف أغلب المبالغ المعتمدة في بناء القصور المشيدة واقتناء الأثاث الفاخر للمدارس.
وكان دنلوب منفذ هذه السياسة يقول: "إن سياستي في التعلم هي الجودة لا الكثرة"، وهذه مغالطة واضحة.
وكان دنلوب يعمل على قلب المدارس الابتدائية إلى أولية راقية اكتفاء بالمدارس الأميرية في كل مديرية، كما شجع انتشار المدارس الأجنبية وفق غايات سياسية تسير في نفس الاتجاه الاستعماري، وهم بتحطيم كيان الأمة وإفساد معنويتها.
وحرص دنلوب على معاملة الطلبة الوطنيين بمنتهى القسوة فعدل في 1910 المادتين 88 و100 من قانون نظام المدارس بفرض عقوبات على التلاميذ، وفصل كل تلميذ لا يحصل على 20 درجة في السلوك واتخذ من ذلك القانون سلاحًا لخنق الشعور بالحرية وقد سجل مسيو (إدوار لامبير) ناظر مدرسة الحقوق في تقريره الذي نشره في جريدة الطان 1907 بعد أن
(2/431)
________________________________________
أبعده كرومر ودنلوب صورة الصراع بين الفرنسيين والإنجليز على المناصب الكبرى في التربية والتعليم وكشف عن الخطة التي رسمها كرومر ونفذها دنلوب في إقصاء الفرنسيين عن المناصب الكبرى في المدارس العالية وتعيين إنجليز بدلاً منهم، دون أن يكونوا في مستواهم من الناحية الفنية، وأنه قد أخرج الأساتذة الفرنسيين من القضاة من مدرسة الحقوق واستبدل بهم شبانًا من الإنجليز عينوا بمجرد تخرجهم من الكليات البريطانية دون أن يكون لهم أي قدر من الكفاية التي تمكنهم من دراسة القانون.
كما أشار إلى الأنظمة الاستبدادية التي اتخذها بالنسبة للطلبة، وكيف عاملهم بقسوة متناهية، واضطهدهم وجرح كرامتهم، مما أحال مدرسية الحقوق معقلاً للوطنية المصرية بحيث أصبح كل طلابها الأربعمائة تابعين للحزب الوطني.
وأن كرومر حين اضطر تحت ضغط الرأي العام إلى تعيين سعد زغلول ناظرًا للمعارف، وعمل على سلب سلطته الفعلية وأشار إلى الخطط التي كان دنلوب يدبرها مع نظار المدارس وكبار الموظفين للاتصال به شخصيًا وتلقى أوامره وتعليماته قبل أن يكتبوا تقاريرهم الرسمية.
وقال لامبير في تقريره: إن الموظف القابض على الإدارة الحقيقية لوزارة المعارف دوجلاس دنلوب.
وفي ظل هذه الفترة التي قضاها دنلوب في وزارة المعارف وقد امتدت إلى عام 1930، ثم تبعه خليفة له في تنفيذ خطة التغريب الكاملة للتعليم على النحو الذي استمر يشق طريقه من بعد، وكان هدف هذا المخطط أساسًا هو تغريب ثقافتنا ومحاولة تدمير شخصيتنا العربية وإحالتها إلى مزيج مضطرب من نتف الثقافات المختلفة ومحاولة التشكيك في عظمة تراثنا الفكري وأمجادنا العربية وتاريخنا الباهر الحافل بالمواقف الخالدة في الدفاع
(2/432)
________________________________________
عن الحرية ومقامة الغالب والمشاركة في الحضارة والمدنية وحماية آثارها والإضافة إليها وكان هدف التعليم أساسًا تخريج موظفين، وأدوات، وليس التثقيف العام. وقد أبطل دنلوب عديدًا من الكتب المقررة؛ لأنها تتحدث عن القيم العربية الإسلامية وقد كشفت جريدة المؤيد (25 يوليو 1899) عن نماذج من هذا العمل، وقالت: إن هذه الكتب غير موافقة لهدفه من الوجهتين الدينية والسياسية، وذلك بإيرادها قواعد الإسلام، وأركانه مصحوبة بالحكم والآيات والقرآن والأحاديث التي تحث على حب الوطن والتعاون وإصلاح ذات البين، وفي سبيل شجب هذه الكتب أعلن دنلوب أن مثل هذه الكتب غير وافية بحاجات التعليم وأوعز إلى بعض المدرسين الموالين له بأن يضعوا كتبا بديلة لها، تضم بعض خرافات لافونتين، وفي عبارة سقيمة وأسلوب نازل، وأشارت المؤيد إلى أن الشيخ حمزة فتح الله ناضل في سبيل إحباط رأيه، فأعلن دنلوب أن كتب المطالعة يجب أن تكون مجردة خالية من كل ما له مساس بالدين".
ومثل هذا حدث مع عبد العزيز جاويش الذي عاد من بريطانيا بعد الدراسة وقد ناقش دنلوب في منهج مدرسة المعلمين وكان رأيه أن يكون المنهج عامًا واحدًا، فاعترض جاويش، وقال: إن في مدرسة المعلمين في بريطانيا برنامجًا من أربع سنوات فأشار دنلوب إلى أن مدرسة المعلمين تهدف إلى تخريج مدرسين يؤدون واجبًا محدودًا لا يزيد عن إعداد موظفين. كان ذلك متمشيًا مع قول كرومر: "عقل بريطاني وأيد مصرية".
وقد واجهت مؤلفات عبد العزيز جاويش نفس مصير مؤلفات علي مبارك وعبد الله فكري فقد أقصيت فعلاً وأُلفت كتب أخرى بدلاً منها تحقق هدف (دنلوب) وهدف التغريب أساسًا.
ولم يجد (دنلوب) قبولاً لعمله ومخططه فقد ظلت الصحف الوطنية توالي مهاجمته وقد تعرضت له اللواء في 9 أكتوبر سنة 1907 فقالت: إن
(2/433)
________________________________________
المصريين يعلمون أن دنلوب هو أقول آلة وضعها اللورد كرومر لتعطيل التعليم في مصر وأكبر مقاوم لرقي البلاد من باب المعارف، ومحاولة سد الطرق التي يرقى بها، وأنه يستعمل كل ما أوتي من سلطة وقوة لمحاربة المصريين حتى بالسطو على ذمم الموظفين معه لتجد من ضعفها قوة ومن التلاعب بها السلاح القاتل للأمة".
وقد أبطل دنلوب عام 1988 كتاب علي مبارك وعبد الله فكري "طرق الهجاء"؛ لأنه تحدث فيه عن الفضائل الإسلامية، ورأى أن هذا الكتاب غير موافق لغرضه من الوجهتين الدينية والسياسية بإيراده قواعد الإسلام وأركانه بالحكم والآيات والأحاديث التي تحث على حب الوطن وتعاونه وإصلاح ذات البين وكان هذا الكتاب مقررًا منذ عام 1894 ولكنه بمكره أعلن أن هذا الكتاب غير واف بحاجات التعليم وأوعز إلى بعض أوليائه من المدرسين أن يضع كتابًا يتفق مع المواصفات الاستعمارية فألف الكتاب الجديد حافلاً بخرافات لافونتين في أسلوب سقيم وعبارة نازلة.
كما ألغى دنلوب الباب الوارد في المنهج تحت عنوان العقائد والعبادات الإسلامية، وناضل الشيخ حمزة فتح الله في سبيل إحباط رأيه فكان من قول دنلوب أن كتب المطالعة يجب أن تكون خالية من كل ما له مساس بالدين.

* أرنست رينان يطعن في الإسلام ويصفه بأنه عدو العلم والعقل ويصف الرسول محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالخداع والدجل:
لم تكن خصومة (رينان) للإسلام والفكر العربي الإسلامي إلا خصومة للأديان والروحية جميعًا، وقد حمل حملات عنيفة على المسيحية، ولم تكن آراء (رينان) إلا صورة عميقة لشكوك عصره وشبهاته التي صنعتها مراحل طويلة من تطور الفكر الغربي. وقد طعن (رينان) في الإسلام ووصفه بأنه عدو العلم والعقل، ووصف العرب بأن عقولهم قاصرة بطبعها، غير مستعدة
(2/434)
________________________________________
لفهم الفلسفة وما وراء الطبيعة، ومع ذلك فإن آراء رينان حافلة بالتناقض والاضطراب فبينما هو يمقت الفكر العربي الإسلامي ويحمل عليه وينتقده انتقادًا مرًا يعترف برهبة هذا الدين وعظمته.
وفي دراسة لجرجي زيدان يقول: إن رينان قد اشتهر بمقاومة النصرانية فبينما كان أبواه يعدانه لخدمتها انقلب حتى أصبح من أشد الناس انتقادًا عليها، فألف سلسلة مؤلفات في هذا الشأن صدرها بكتاب (حياة يسوع) وألحقه بأبحاث في تاريخ الرسل وأصل النصرانية والقديس بولس شدد فيها لهجة الانتقاد حتى أصبح مكروهًا من كل الفئات الدينية، ومن مؤلفاته (اللغات السامية) الذي تناول فيه تاريخ اللغات السامية ومقابلتها بعضها ببعض، وقد بسط تاريخ اللغات العبرانية والفينيقية والآرامية بفروعها، وقال عن الشعوب السامية: إنهم يميلون بفطرتهم إلى التوحيد وأنهم أول من قال بوحدانية الخالق بينما عبدت الشعوب الأخرى آلهة شتى كاليونان والرومان والمصريون.
ورأى رينان في النبي محمد رأي متعصب فقد وصفه بالخداع والدجل وقرر أن الذي أسس الإسلام وشيد صرحه هو عمر؛ لأنه يماثل القديس بولس في المسيحية، وقال: إن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا الفلسفة اليونانية مخطوطة بحروف عربية، ولم يهضمها العرب لأن الإسلام دين لا يسمح بحرية الفكر وروح النقد، كما هاجم ابن رشد، وقال: إنه لا يعرف كيف يكتب ولا كيف يفكر، وأن لغته همجية، ومؤلفاته لا قيمة لها، وقال: إن الإسلام يعادي العلم والفلسفة وأنه صارم يتحكم في العبد وفي دنياه وفي آخرته، وأنه ذلك القيد الثقيل الذي لم تصب الإنسانية في تاريخها.
والواقع أن رينان لم يثبت في نظر مؤرخيه بأنه باحث مستقر الفكر، بل عرف باضطراب الرأي وقد وصفه بيكافيه أكبر الباحثين في إثارة: بأنه رجل يقلب أوضاع الأشياء والمسائل وذلك لاختمار النزعة الصليبية في عقله الباطن
(2/435)
________________________________________
وتملكها على أفكاره في الحكم على من يخالف تعاليم دينه الأول قبل إلحاده وكفره.
وقال مؤرخوه أنه أفسد الاستشراق الفرنسي بهذه الآراء وقد سار على نهجه (منك) في كتابه الفلسفة العربية واليهود، وكليمان هور في كتابه تاريخ العرب، وكازنوفا في كتابه محمد ونهاية العالم.
والواقع أن رينان مدان برأيه في الإلحاد والتدين أساسًا فهو الذي يقول في كتابه "مقالات ومحاضرات" أقول دائمًا، ولست بحاجة إلى أن أكرر أن العقل البشري يجب أن ينزه من كل المعتقدات الدينية وأن يحصر جهوده في مجاله الخاص وهو إقامة العلم الوضعي.
وقد كان كتابه "حياة يسوع" قد أجج ثورة جامحة في فرنسا في القرن الثامن عشر، وقد انتزعه هذا الكتاب من كرسيه في كوليج دي فرانس بتهمة الإلحاد والكفر، وكان منذ مطالع شبابه قد آثار حنق الأساقفة ورؤساء الدين عليه ورُمي بالزندقة، حين انتزع نفسه من العقيدة الكاثوليكية وآمن بمذهب الدهريين، فقد قدس الطبيعة في كل مظاهرها، ولرينان محاضرة مشهورة ألقاها في 29 مارس 1883 في جامعة السربون عنوانها "الإسلام والعلم".
حمل فيها على الإسلام حملة متعصبة عنيفة، وقال: إن الدين الإسلامي عقبة في سبيل تقدم العلم بسبب التعصب. وقال: إنه اضطهد العلم والفلسفة، ووصف العقلية السامية بأنها مجدبة كالصحراء التي نبتت فيها، وقال: إنها لا تقوى على التحليل والتعمق. وقد وجه رينان في محاضراته اتهامات واضحة تتلخص في:
1 - نشأ من التساهل الواقع في التعبير بعلوم العرب وفلسفة العرب وفنون العرب وتمدن العرب وعلوم الإسلام آراء فاسدة وخطأ عظيم عمل به.
2 - انحطاط بلاد الإسلام في العالم واضح.
(2/436)
________________________________________
3 - سبب هذا الانحطاط هو أن عقول المسلمين بلغت من الحمق غايته حتى كأن دينهم صار حجابًا على قلوبهم منعها من أن تعي شيئًا من العلوم.
4 - العجز عن التقدم ناتج عن دين الإسلام.
5 - دين الإسلام قد نجح، ولكن لشقائه فإنه لما قبل الإسلام الفلسفة قتل نفسه وحكم عليها بالانحطاط التام. وقد رد على رينان رجال من أبناء جلدته منهم غوستاف لوبون الذي قد أشار إلى محاضرة رينان ووصفها بالتناقض وأنه أراد أن يثبت عجز العرب.
وقال لوبون: ولكن ترهاته كانت تنقضي بما كان يجيء في الصفحة التي تليها فبعد أن قال رينان: إن تقدم العلوم مدين للعرب وحدهم عدة ستمائة سنة ذكر أن عدم التسامح مما لا يعرفه الإسلام إلا بعد أن حلت محل العرب شعوب متأخرة كالبربر والترك، ثم عاد فادعى أن الإسلام اضطهد العلم والفلسفة وقضى على العقل في البلاد التي دانت له.

* دوق داركور وكتابه "مصر والمصريون" وزعمه أن الإِسلام هو سر تأخر الفكر في مصر:
أصدر دوق داركور كتابًا بالفرنسية عام 1893 هاجم فيه الإسلام والثقافة العربية الإسلامية وكان مما قاله: أن السر في تأخر الفكر في مصر يرجع إلى الإسلام.
فالدين هو السبب الأساسي في التأخر الذي لحظه في كل بلد إسلامي، وعنده أن الإسلام لا يحض على البحث في العلوم غير الدينية، لذلك احتقر المسلمون علوم الغرب، واعتقدوا أن القرآن قد حوى بين دفتيه علوم الأولين والآخرين وأن كل ما عداه باطل، أنكر دوق داركور أن للعرب الأولين مدنية خاصة وعنده أن المدنية لا تقوم إلا على أساس علمي والعلم عندهم لم يكن
(2/437)
________________________________________
يخرج عما أتى به القرآن لذلك أمر عمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، ثم إن العرب لم يحاولوا استكشاف علوم الدنيا، لأنهم تعصبوا لأصول دينهم وآمنوا بالقضاء والقدر، لذلك قامت مدنيتهم على قوائم المدنيات العتيقة.
وقد واجه قاسم أمين هذه الحملة بكتاب رد فيه على الدوق الفرنسي صدر 1894 تحت عنوان "المصريون" (1)، وقد بدا قاسم أمين فأشار إلى أن الإسلام لم يعترض تطور العقل الإنساني، ولا تقدم العلوم ولا الآداب ولم يحل دون استكشاف الحقائق العلمية، وقد مضت فترة كان العلماء المسيحيون ينقلون العلم عن العلماء العرب. وفي القرآن آيات تحض المسلم على أن يفكر في خلق السماوات والأرض، وأن يبحث ماهية هذه العوالم والعوالم الأخرى، وقال: إنما عاق التقدم قوم من الجهلة حاولوا تفسير القرآن حسب ما يمليه عليهم الهوى، وعند ذلك تسربت إلى الدين فئة من الأوهام والخرافات هي التي يحسبها السائحون من أصول الدين وليست في الواقع من الدين في شيء، وقال: إنه سيأتي يوم تجتمع فيه الإنسانية تحت راية الإسلام حينما يتبينون أنه دين العلم ودين السياسة ودين الاجتماع.
ودحض قاسم في رده على داركور ما عرضر له من أن الإسلام هو الذي أقام ذلك الاختلاف بين الطبقات، وقال قاسم: أن الإِسلام قد سوى بين الناس جميعًا، وليس من قواعد الجماعة المسلمة أن يرث الرجل امتيازًا خاصًا؛ لأنه من أسرة أو من طبقة خاصة، بل لقد سبق الإسلام كل النظم السياسية الثورية بألف سنة أو يزيد حين أنكر امتيازات الميلاد أو الثروة. وهو من بين الأديان جميعًا يفسح المجال لكل ذي عمل أن يحسن عمله فيرقى من أدنى الدرجات حتى يبلغ أسماها، ثم ليس في الإسلام طبقة تمثل السلطة
__________
(1) كان هذا قبل كتابة كتابه المنحرف "تحرير المرأة". وقد يؤيد الله الدين بالرجل الفاجر من موقف من المواقف يذب فيها عن الإسلام.
(2/438)
________________________________________
الروحية التي كانت للكنيسة، وليس في الجماعة المسلمة فئة تتمتع بالسلطة الدينية على حساب الآخرين، وللفقراء والمحرومين حق معلوم في أموال الأغنياء فلهم جزء من أربعين جزءًا من كل مال مقبول، وقال: لقد انحدر إلينا من تعاليم الإسلام ما يؤيد الإخاء والمساواة. وقال: إن ذلك النظام الاجتماعي والسياسي قد هوى في حال من الانحلال والتدني حينما اضصرب المسلمون وأصبح الأمر فوضى ليس له أساس من علم ولا دين، فقد قام على الجماعات المسلمة طغاة لا يعرفون إلا صالحهم الشخصي. وقد عبرت مصر قرونًا يستغلها وحوش في صورة آدميين، أقبلوا عليها من كل بقاع الأرض، فكانت مسرحًا لفظائع الظلم والقسوة.
وأشار إلى أن أوربا قد أقامت العثرات في طريق التقدم والنهضة في الزمن الحديث، وأن القناصل في بلادنا يكونون ممالك مستقلة تحمي المجرمين واللصوص وسفاكي الدماء من رعاياهم.

* جبرائيل هانوتو يأمر الأوربيين بقطع الصلة بين المسلمين والإِسلام ويدعي أن الإِسلام يدعو أتباعه إلى الكسل:
نشر هانوتو أحد وزراء خارجية فرنسا في الجورنال الفرنسية 1910 بعض مقالات هاجم فيها الإسلام والثقافة العربية الإسلامية، وقد ترجم هذه المقالات محمد مسعود في المؤيد (2 - 15) إبريل 1900 وقد نشر الشيخ محمد عبده على الأثر مقالات رد فيها على اتهامات هانوتو كما نشر فريد وجدي فصلاً مطولاً.
وقد حملت كلمات هانوتو عبارات غاية في العنف والتعصب، ومن ذلك قوله: الإسلام دين بشري يثقل معتقده دائمًا ويغريهم بالكسل أو التسكع والتبرؤ من شر الفسوق، وأن السياسة التي تجب على أوربا المستعمرة في الشرق أن نجتذبها مع المسلمين هي تلقيح أفكارهم بجانب من الأخلاق
(2/439)
________________________________________
الأوربية وقطع الصلة بينهم وبين كعبة الإسلام.
وأشار إلى كلمات كيمون ورددها وقال: إن كيمون دعا إلى نسف الكعبة، ونقل قبر محمد إلى متحف اللوفر، وهاجم هانوتو أصول الإسلام، ودعا قومه إلى قتال المسلمين والقضاء عليهم، وقال الشيخ محمد عبده في الرد عليه: لو لم يتعرض مسيو هانوتو إلى الطعن في أصل من أصول الإسلام ما حركت قلمي لذكر اسمه وكان حظي من النظر في مقاله هو العظة والاعتبار. يرى الناظر في كلام مسيو هانوتو لأول وهلة أنه مقلد في التاريخ كما هو مقلد في العقائد وأنه جمع خليطًا من الصور وحشرها في ذهنه ثم هو سلط قلمه ينثرها كما يشاء القدر ليدهش بها من لا يعرف الإسلام من الفرنساويين، وقال: يجب على الباحث في الإسلام أن يطلبه في كتابه كما يجب عليه أن يطلب آثاره، والإسلام إسلام والمسلمون مسلمون، لا أنكر أن الزمان تجهم للمسلمين كما كان قد تنكر لغيرهم وابتلاهم بمن فسد من المتصوفة من عدة قرون فبثوا فيهم أهامًا لا نسبة بينها وبين أصول دينهم فلصقت بأذهانهم لا على أنها عقائد ولكنها وساوس، قد تملك الجاهل وتربك العاقل، إذا لم يغلبها بعوامل الدين الصحيح، فنشأ الكسل بين المسلمين بفشو الجهل بأصول دينهم، أما لو رجع المسلمون إلى الحقيقة من دينهم لأدوا فرضهم واستنبتوا أرضهم واستعزوا من الثروة، واعتمدوا في نجاح أعمالهم على معونة القدر وأيقنوا في صولتهم علمًا أن ليس من الموت مفر، ثم صال صائلهم على مكان العزة منها ونال ما ينال القوي من الضعيف.
أما لو رجع المسلمون إلى كتابهم واسترجعوا باتباعه ما فقدوه من آدابهم لسمت نفوسهم من العيب وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله إليه في تنزيله وعلى لسان نبيه واستجمعت لهم القوة. ودبت فيهم الروح قوة وكان ما يلقاه هانوتو وكيمون من دين صحيح شرًا عليهما مما يخشوه من دين
(2/440)
________________________________________
شوهته إليها.
ويرى كيمون أن يخلى وجه الأرض من الإسلام والمسلمين ويستحسن رأي هانوتو لولا ما يقف في طريق ذلك من كثرة عدد المسلمين وبئسما اختارا لسياسة بلادهما أن يظهرا ضغنهما ويعلنا رأيهما وضعف حلمهما.
أما فليعلما وليعلم كل من يخدع نفسه بمثل حلمهما أن الإسلام إن طالت به غيبة فله أوبة، وإن صدعته النوائب فله نوبة.
وقد يقول عنه المصنفون اليوم من الإنكليز مثل إسحاق طيار وهو قس شهير ورئيس كنيسة: "أنه يمتد في أفريقيا ومعه تسير الفضائل حيث سار، فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره والشجاعة والإقدام من أنصاره، ثم هو لا يزال ينتشر في الصين وغيره من أطراف آسيا وسترشده الحوادث إلى طريق الرجوع إلى إظهاره وتنثني به الملمات إلى ما كان عليه لأول نشأته وتدرك عند ذلك الأمم منه خير ما ترجو إن شاء الله".

* رئيس الشياطين وكبير المبشرين في القرن العشرين صمويل زويمر:
لعب صمويل زويمر دورًا ضخمًا في حركة التغريب بوصفه رئيسًا للمبشرين في الشرق الأوسط منذ أوائل هذا القرن وأجرأ الدعاة المقاومين للفكر الإسلامي والرجل الذي استطاع أن يقتحم الأزهر، ويوزع منشوراته، وقد أتيح له أن يطوف بالصين والهند وأفريقيا والهند والصحراء ومدغشقر وأن يكتب دراسات مطولة عن البعثات التبشيرية والإرساليات في هذه المناطق وكيف تحاول أن تنافس الإسلام وتقضي عليه وقد رأس مؤتمرات التبشير التي عقدت في القاهرة ولكنؤ (الهند) والقدس، وأدلى فيها بتقارير ضافية عن الخطوات التي حققتها محاولته في تغريب العالم الإسلامي ونزع مقومات فكره عن طريق التعليم والصحافة والمستشفى.
وهو في تقدير بعض الباحثين أول من قدم من الغرب في أوائل هذا
(2/441)
________________________________________
القرن من دعاة التغريب، قدم إلى البحرين، وانتقل إلى الأحساء، وتردد بينهما وكان يلقب نفسه (ضيف الله) فتح في أول أمره حانوتا في السوق لبيع الكتب المختلفة، ثم تخصص بالتدريج في بيع الكتب التي تفرق بين الأديان، ثم لم يلبث أن أسس مدرسة ومستشفى صغيرًا للتبشير، ثم استقدم عددًا كبيرًا من المراسلين والدعاة إلى بلاد البحرين من رجال ونساء أمريكيات، واستخدم الفقراء من العرب والمسلمين في العمل معهم، وادعى أنهم قد تركوا دينهم، قالوا عنه: أنه الرجل الذي لا يهزم؛ لأنه درس الفكر الإسلامي سنين طويلة بعد أن عاش سنين أطول في غمار الشعوب الإسلامية، وقد ظل ينتقل بين البحرين ومسقط والكويت والبصرة حتى عام 1913 وكان قد قدم إلى القاهرة 1906 وأقام مؤتمرًا للتبشير في بيت أحمد عرابي في باب اللوق، تحديًا لشعور المسلمين، ثم في 1911 في (لكنؤ) معقل الفكر الإسلامي في الهند ومقر جماعة العلماء التي يرأسها شبلي النعماني، ثم رأس مؤتمرًا في القدس 1924 ثم في 1926، وتولى تحرير مجلة "العالم الإسلامي" التي أنشأها مع مكدونالد، وله عشرات الكتب عن الإسلام تحمل وجهة نظره منها: داخل عالم الإسلام، المسلمون اليوم، الإسلام في العالم، ترجمات القرآن، أمية النبي، الحديث القدسي وقد أشار نجيب العقيقي الذي ذكره في كتابه "المستشرقين" وعده واحدًا منهم، إلى أن له من المصنفات في العلاقات بين المسيحية والإسلام ما "أفقدها بتعصبه واعتسافه وتضليله قيمتها العلمية"، وقد أشار المقتطف في باب الكتب (مجلد 50) إلى كتابه "صراخ المستغيثين من أبناء الشرقيين"، وقال: إن مدار بحثه في هذا الكتاب عن أطفال المسلمين وأحوالهم الصحية وتربيتهم العقلية والأدبية والدينية، ألفه بالإنجليزية الدكتور زويمر المراسل الأمريكي في هذا القطر وعربه الشيخ متري حبيب الدويري. وقد نقد محمد محمد سعفان (بالقضاء الشرعي) اهتمام المقتطف بهذا الكتاب وأشار إلى ما فيه من تعصب واعتساف على الفكر
(2/442)
________________________________________
العربي الإسلامي، وقد سارع الدكتور صروف فنشر خطابه وعلق عليه متنصلاً وقال: إننا مع استحساننا قيام أناس من أصحاب كل دين ومذهب لانتقاد ما يرونه فيه مما يستحق الانتقاد، نستهجن جدًّا أن يقوم أناس من غير دينهم ومذهبهم وينقدون ما يعتقدون أن خطأ فيه؛ لأن التنديد بمعتقدات الغير لا يصلحها بل يزيد أصحابها تشبثًا بها، ناهيك أن الخارج على المذهب قلما يفهم حقيقة ما يحسه خطأ؛ لأنه لا يعرف ملابساته فيخطئ في حكمه أكثر مما يصيب" ومجمل ما ذهب إليه (زويمر) هو اتهام الفكر العربي الإسلامي بأنه لم يؤلف كتبًا للأطفال وقال: "إن العرب عنوا بفروع العلم والآداب كلها ووضعوا فيها عشرات والمئات والألوف من المؤلفات، ولكنهم مع وفرة ما ألفوا وترجموا أهملوا أطفالهم وصغارهم فلم يضعوا كتبًا لتعليمهم"، وهذا ولا شك من أكبر مغالطات زويمر وهو ليس صحيحًا على إطلاقه، فإن الفكر العربي الإسلامي حافل بما يصلح للأطفال في باب التربية والتعليم وإن أعلام المسلمين ومفكريه قد تناولوا بالبحث شئون التربية ورسموا لها مخططًا ما زال حيًّا نابضًا بالحياة وقد شهد بذلك علماء التربية المحدثين وقد صور الدكتور زويمر مذهبه في إثارة الشبهات في الفكر الإسلامي على نحو ماكر مليء بالتعصب والكراهية. عدم المجادلة بالبراهين العقلية، بلا استجلاب العواطف واستمالة الأهواء. إن المسلمين يعتقدون بأن القرآن لم يحرف، من دون الكتب السماوية كلها، فيجب علينا أن نثبت لهم أن فيه متناقضات. إن للإرساليات التبشيرية في البلاد الإسلامية مزيتين: مزية تشييد ومزية هدم، أو بالحري مزيتي تحليل وتركيب، والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه. العمل لمنع اتساع نطاق الإسلام بين الشعوب الوثنية وقد أشار (زويمر) في تقريره 1911 إلى أن الإسلام قد بدأ يتنبه لحقيقة موقفه من الحملة عليه، ويشعر بحاجته إلى تلافي الخطر، وهو يتمخض الآن بثلاث
(2/443)
________________________________________
نهضات إصلاحية:
1 - إصلاح الطرق الصوفية.
2 - تقريب الأفكار من الجامعة الإسلامية.
3 - إفراغ العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول، ومصدر هذا الشعور بالحاجة إلى الإصلاح واحد، وهو التغيير الذي حدث في الإسلام عندما اكتسحت أهله الأفكار العصرية والحضارة الأفرنجية ولا يمنع أن يكون الشعور مؤديًا إلى عاطفة الاحتجاج والحذر، أو إلى التوفيق والتحكيم؛ لأن كلا العاطفتين تجتمعان عند جعل الإسلام في مستوى الأفكار العصرية.
وفي العالم الإسلامي الآن حركتان متناقضتان: يحمل لواء الحركة الأولى: رجال الصوفية والمشايخ من اليمن والصومال والبوادي وشعارها الرجوع إلى التعاليم المحمدية، والحركة الثانية يتولى زعامتها أنصار الإصلاح ومبشرو الدين الجديد في مصر والهند وجاوه وفارس، وهؤلاء يبنون أساسهم على رسم الطرق المعقولة ثم يقول زويمر: إن أشياع الإسلام الجديد يريدون أن يرموا من السفينة مشحونها لينقذوها من الغرق. وعنده أن مدينة مكة والطرق الصوفية هما من أكبر العوامل على بث شعور الوحدة بين المسلمين فإذا كان في أفريقيا عوامل أخرى فهي الأحوال المساعدة التي يتصف بها الإسلام ومركز بلاده الجغرافي وارتقاء الشعوب الإسلامية في السودان، وقال": إن التجارة في هذه الأصقاع كلها بين القبائل الإسلامية -ومن المحقق أن التاجر المسلم يبث في هؤلاء المواطنين مع بضاعته التجارية دينه الإسلامي وحضارته الراقية.
وللإسلام في أفريقيا صديق يساعد على انتشاره هو الاستعمار الأوربي؛ فإن الذي يفعله الاستعمار بعد أن يسلب من الأمراء المسلمين سلطتهم السياسية هو أن يقرر الأمن ويمهد السبيل للمسلمين فالاستعمار
(2/444)
________________________________________
يسلب عن المستعمرات السلطة الإسلامية السياسية، ولكنه يزيد الإسلام نفوذًا وما زال الشيخ والدرويش هما صاحبا النفوذ في أفريقيا ولقد كانت كتابات زويمر كلها ترمي إلى إثارة الشبهة حول إمكانية مجاراة تيار الحضارة مع الاحتفاظ بمبادئ القرآن وتعاليمه، وكان يرى أن اتساع نطاق الحضارة من شأنه أن يقضي على مفاهيم الإسلام، وكان يعلن دائمًا أن هدف بعثات التبشير ليس إدخال المسلمين في المسيحية، وإنما إثارة الشبهات أمامهم فيحتقروا أمتهم، ويتنكروا لقيمهم الأساسية ويصبحوا ملحدين إباحيين ومن ذلك قوله: لقد تساءل اللورد كرومر مرة: هل يبقى الإسلام إسلامًا إذا دخل عليه الإصلاح، فأنا أقول بصفة قطعية أنه لا يبقى كذلك؛ لأن الإصلاحات تجهز عليه فالأركان الأساسية الموجودة في الإسلام كالحج وتعدد الزوجات والطلاق لا تستطيع الثبات في وجهة تيار المدنية الجارف والواقع أن كل ما وصل إليه دعاة التغريب من آراء هي في أساسها أهواء، وما وضعوه منها في صبغة "التقرير" قد ثبت بمرور الأيام أنه ليس صحيحًا، وأن الفكر الإسلامي العربي استطاع أن يوائم بينه وبين الحضارة والفكر العصري، وقد كان دائمًا قادرًا على التلقي والامتصاص ودومًا كان قادرًا على الحركة، مرنًا لا يجمد، وما يزال الإسلام قائمًا والفكر الإسلامي حيًّا إلى اليوم وبعد أن كتب زويمر ما كتب بنصف قرن وفي كتابه "الإسلام: ماضيه وحاضره ومستقبله"، أورد معلومات مضللة عن نفوذ المبشرين في أفكار الإسلام وعن تعداد المسلمين.
ومن رأيه عدم مجادلة المسلمين بالبراهين العقلية بل الدخول عليهم من الجهة القلبية لاستجلاب عواطفهم واستمالة أهوائهم ومع أنه بروتستانتي فقد كان يستجمع البعثات الكاثوليكية والأثوذكسية ويدعو إلى توحيد العمل في شن الغارة على الإسلام وانتهاز فرصة الضعف التي مر بها العالم الإسلامي بعد الحرب العالية الأولى وقد أولى زويمر اهتمامًا بأواسط أفريقيا والنيجر ودعا إلى توسيع نطاق العمل بها وأبدى تخوفه من اتساع نطاقها.
(2/445)
________________________________________
وسجل في تقاريره تقدم الإسلام في هذه المناطق، "من مركزه الواسع في الشمال ومعاقله التي في السواحل إلى الجنوب والغرب الأفريقي"، وقال: إن المبشرين قد أخطأوا في تقديراتهم السابقة؛ لأنه تبين لهم فيما بعد أن بعض البلاد التي كانوا يحسبونها خالية من الأديان المعروفة، هي إما إسلامية محضة، أو أنها على أهبة الدخول في الإسلام"، وفي مؤتمر 1924 المنعقد في القدس كشف زويمر عن خطته الجديدة وصاغ خلاصة تجاربه في عمل جديد، هو ما ألمحنا إليه من الاتجاه إلى التحول في الأساليب لا في الغايات، وإخفاء التبشير وإبراز التغريب، والاعتماد على الأساليب الخفية الحتمية عن طريق المناهج الدراسية والصحف وإثارة الشبهات حول قضايا الدين واللغة والتاريخ والتراث وهذا مجمل خطته: "لقد صرفنا من الوقت شيئًا كثيرًا، وأنفقنا من الذهب قناطير مقنطرة، وألفنا ما استطعنا أن نؤلف وخطبنا ومع ذلك كله فإننا لم ننقل من الإسلام إلا عاشقًا بنى دينه الجديد على أساس الهوى.
فالذي نحاوله من نقل المسلمين عن دينهم هو باللعب أشبه منه بالجد وقال: وعندي أننا يجب أن نعمل حتى يصبح المسلمون غير مسلمين. إن عملية الهدم أسهل من عملية البناء في كل شيء إلا في موضوعنا هذا؛ لأن هدم الإسلام في نفس المسلم معناه هدم الدين على العموم وأعلن أن الأحوال السياسية في جميع البلاد الإسلامية أصبحت ملائمة لأعمال التبشير، وأن العراقيل من بعض الحكومات قد أزيلت، وأن الحرب العظمى جعلت العديد من المسلمين على صلة مباشرة بالحضارة الغربية، وهم يزورون الأقطار الأوربية زرافات، وألوف من الطلاب المسلمين يهاجرون من آسيا ليتعلموا في أوربا وسيل من العمال والصناع يتدفق من شمال أفريقيا على فرنسا ويبلغ عدد الذين يزورون باريس سنويًّا أكثر من الذين يحجون إلى مكة، وأنه لا بد من عمل مجهود لإيجاد الاستعداد الفكري والذهني لقبول جهود المبشرين
(2/446)
________________________________________
عن طريق إدارات التربية والتعليم والمعارف والصحف والكتب والسينما والمسرح وقد وسعت وسائل النشر الحديثة المجال لنمو الصلة بين المسلمين والحضارة الغربية.
وقال: إن التطورات الحديثة الحادثة بنطاق واسع في جميع أنحاء العالم الإسلامي قد دعت بالضرورة لأن يتخذ "التبشير" شكلاً جديدًا ملائمًا للحالة الجديدة في الشرق الإسلامي وقد أمكن أن نتبين بدلائل قاطعة أن الإسلام قد انتقض غزله وحلق به الضعف وتفككت حزمته، وعلى الإجمال أصبحت الروح القومية تدحر روح الجامعة الإسلامية وتحل محلها، فإن المسلم التركي على سبيل المثال أخذ ينقلب ليصير تركيًّا أكثر منه مسلمًا.
وكان لإلغاء الخلافة تأثير عميق ليس فقط في تركيا بل في جميع العالم الإسلامي، وقد أخذت الظواهر تتكاثر في النواحى لتدل بصفة قاطعة على انحلال الرابطة الاجتماعية في الإسلام وآثار هذا الانحلال نراها جلية في تطور مكانة المرأة وعلى الأخص في المدن. ومن ثمار هذا الانقلاب النسائي على الزواج المبكر والتوسعة في الحرية على المرأة.
أما الانقلاب الفكري في الإسلام فظاهر لا يحتاج إلى بيان، فأينما أدار الإنسان وجهه وجد تعطش المسلمين للمعارف، وطلب العلوم، وتتكون الآن عقلية جديدة في المسلمين هي نتيجة الاحتكاك والاتصال بالعلوم الغربية والحضارة الغربية، وفوق كل هذا، الأمر العظيم الذي يقف الإنسان عنده حائرًا معتبرًا هو انحلال العروة الدينية في الإسلام، حتى أنك ترى من المسلمين من قد أصبحوا في عماية من أمرهم لا يدرون كيف يتقدمون، ولا كيف يتأخرون لوقوعهم في الحيرة .. اهـ.
هذه هي أفكار (صمويل زويمر) المبشر الأكبر الذي رسم مناهج الدعوة إلى تغريب الفكر العربي الإسلامي، وعمل في الميدان أكثر من 35 عامًا
(2/447)
________________________________________
وعقد عديدًا من المؤتمرات في الجزائر والقدس والقاهرة .. ولكن كيف تبدو آراؤه اليوم بعد أكثر من ثلاثين عامًا .. ؟ أنها في الحق تبدو مجرد أوهام وتكهنات لم تصدق، فإن الإسلام لم تنحل عروته، والتجار المسلمون والطرق الصوفية استطاعوا غزو أفريقيا غزوًا قويًّا وبعثات التبشير المزودة بالجاه والمال لم تحقق إزاءه تقدمًا يذكر.
ولم تؤثر القومية على روح الأخوة الإسلامية بل زادتها قوة، ولدينا في العالم الإسلامي الآن منظمة الوحدة العربية ممثلة في الجامعة العربية ومنظمة العمل الإسلامي الثقافي الموحد ممثلة في رابطة العالم الإسلامي ومجمع البحوث والمؤتمر الإسلامي وكلها تسير في هدفها دون تعارض. ولم تصدق آراؤه التي استقاها من الخبرة الطويلة في نتائج بث الأفكار المسمومة والمغرضة عن الإسلام واللغة العربية واستطاع العرب والمسلمون أن يكشفوا زيفها، وأن يردوا عليها وأن يتجنبوها. والهدف الأكبر الذي سعى إليه وهو إثارة الشكوك عن طريق الطلاب الذين يسافرون إلى أوربا قد باء بالخسران، فإن أكثر الذين حملوا لواء الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والذين آمنوا بمقومات الفكر العربي أساسًا تعلموا في أوربا، ولا زلنا نذكر الدكتور يحيى الدرديري، ولطفي جمعة والدكتور غلاب وعلي مظهر، ومنصور فهمي، والدكتور هيكل، وعمر الدسوقي ومالك بن نبي، أو ممن تعلموا في معهد الإرساليات: كالدكتور عمر فروخ والدكتور مصطفى الخالدي فضلاً عن أنه قد تحول كثيرون ممن أثرت فيهم خدعة الاستعمار، والغزو الثقافي، وبقي الآخرون في الظل وقد كشفهم العرب المسلمون وتحاموهم، ولم يضعف الإسلام بانحلال الخلافة بل قامت دولة إسلامية هي الباكستان وزاد عدد المسلمين حتى بلغ الآن ألف مليون مسلم. وبذلك سقط منهج الفكر والبحث في الإسلام عند أمثال هؤلاء الدعاة الذين كشفوا عن هدفهم في القضاء على روح الإسلام وقيمه ومفاهيمه.
(2/448)
________________________________________
* مع رئيس الشياطين زويمر مرة أخرى:
من أهداف التبشير التي أعلنها زويمر في مؤتمرهم قبل الحرب العالية الأولى "هدم الإسلام من قلوب المسلمين، حتى إذا أصبحوا غير مسلمين سهل علينا أو على من يأتي بعدنا أن يبنوا النصرانية في نفوس المسلمين، أو في نفوس من يتربون على أيديهم" (1).
- وقال زويمر لتلاميذه: "إنكم أعددتم شبابًا في ديار الإسلام لا يعرفون الصلة بالله، ولا يريدون أن يعرفوها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء طبقًا لما أراده له الاستعمار".
- ولما انعقد مؤتمر القدس الأول التبشيري في يافا 1924 بإشراف ورئاسة زويمر هاج المسلمون وتناولوا زويمر في قصائدهم ومن أبرزها قصيدة الشاعر الصاوي علي شعلان بعنوان "كيف نودع رئيس الشياطين؟ " إلى الدكتور زويمر جاء في مطلعها.
ألا أبلغْ زويمر والعذارى ... كأمثال الظبا أبت القفار
ترتل في كنائسها صلاة ... فتبعث من فؤادك ما توارى
- وبلغ من نشاط هذا الشيطان أنه ذهب إلى الأزهر الشريف مع ثلاثة من الأجانب من بينهم امرأة، فتبعه مراقبو الجامع الأزهر لعلمهم بنشاطه التبشيري، ودخل المبشرون معه حلقة درس الشيخ سرور الزنكلوني وفي أثناء شرحه لسورة "التوبة"، وزع على الطلبة ثلاث رسائل تتضمن تفسيرات نصرانية لآية الكرسي وأسماء الله الحسنى، ثم ترك الحلقة إلى غيرها يوزع رسائله، وأهاج هذا الأمر نحوًا من ثلاثة آلاف طالب أزهري كانوا موجودين وقتها، ومزقوا الرسائل. وكتبت صحيفة "الفتح" متعجبة أن تبلغ الجرأة
__________
(1) مجلة الفتح، عدد 91 - 21 شوال 1346 هـ - 2 أبريل 1928.
(2/449)
________________________________________
بالمبشرين أن يدخلوا معقل الدعوة الإسلامية في مصر وهو الجامع الأزهر الشريف ويوزعوا الكتب التبشيرية بين طلابه، الأمر الذي أحدث ردود فعل واسعة النطاق في أروقة الجامع الأزهر، إذ طالب علماؤه بالتصدي لهذه الزمرة من المبشرين الذين يهاجمون الإسلام في عقر داره" (1).
- وانظر إلى علو كعب زويمر في التبشير:
كتب القس زويمر في مجلة "العالم الإسلامي" التبشيرية والتي يشرف على تحريرها في عدد أبريل 1931 م تحت عنوان "المساحات التي لم تحتل بعد" ذكر فيها أن الأقاليم التي لم يزرها المبشرون للآن يجب أن تكون موضع اهتمام الكنيسة وميدان جهادها، ولا ينبغي أن يبقى في هذا القرن العشرين للتاريخ المسيحي مكان على وجه الأرض لا تطأه قدم المبشر "وأشار إلى أن أكثر البلاد التي لم يحتلها المبشرون إنما تقع في دائرة العالم الإسلامي" (2).
ومن أبرز الكتاب الذين هاجموا التبشير في الصحف الإسلامية: الشيخ محب الدين الخطيب والشيخ رشيد رضا، والدكتور عبد الحميد سعيد والشيخ عبد الرحمن الساعاتي والأستاذ حسن البنا وشكيب أرسلان وعجاج نويهض والشيخ حسن الطويل (3).

* مرجليوث وكتابه العفن "محمد وظهور الإِسلام" وقوله: أن النبي كانت تنتابه النوبات العصبية "الصرع" كثيرًا:
يعد مرجليوث من كبار المستشرقين الإنجليز، وكان أستاذ الدراسات
__________
(1) افنتح، عدد 64 - 4 ربيع الآخر 1346 هـ - 29 سبتمبر 1927.
(2) "صحافة الاتجاه الإسلامي في مصر فيما بين الحربين العالميتين" للدكتور جمال عبد الحي النجار (ص 396 - 397) - دار الوفا.
(3) انظر المصدر السابق (ص 417) بتصرف.
(2/450)
________________________________________
الإسلامية في جامعة أكسفورد، وله اتصال واسع المدى مع المصريين بعد الاحتلال البريطاني. وقد اتصل به الشيخ عبد العزيز جاويش وهاجمه عندما أصدر كتابه (محمد وظهور الإسلام).
ومنذ عام 1907 تناولت الصحف في مصر آراءه فقد أصدر في ذلك الوقت كتابًا عن النبي محمد وجعله حلقة من سلسلة عظماء الأمم، وصفه سليمان الندوى فيما بعد بأنه لم يؤلَّف بالإنجليزية كتابٌ أشد تحاملاً على النبي منه، حاول فيه مرجليوث أن يشوه كل ما يتعلق بالسيرة، وأن يشكك في أسانيدها، ولم يأل جهدًا في نقض ما أبرمه التاريخ ومعارضة ما حققه المحققون من المنصفين. وقد أشار الشيخ جاويش إلى آراء مرجليوث، وقال: إنه -أي مرجليوث- حارب التاريخ كما حارب الإنصاف وحمل على الرسول حملات منكرة وأشار إلى قول مرجليوث: "إن المسلم معناه في الأصل الخائن، وعلل ذلك بأن هذه الكلمة مشتقة من اسم مسلم"، وادعى مرجليوث أن النبي كانت تنتابه النوب العصبية كثيرًا وزعم المؤلف أن النبي عاشر بعض النصارى فاستفاد كثيرًا من القصص واقتبس بعض أساليب التعبير، وعلل زواجه بخديجة بطمعه في مالها". وقد صارت آراء مرجليوث مصدرًا للمتعصبين من الكتاب الغربيين ومن ذلك ما نقله عنه مستر سكوت وأثار كثيرًا من الاعتراضات. وقد أشار رضا إلى أن السبب في أكثر غلط مرجليوث وخطأه في السيرة هو التحكم في الاستنباط والقياس الجزئي وبيان أسباب الحوادث كما هو شأنهم في أخذ تاريخ الأقدمين من الآثار المكتشفة واللغات المنسية ونقص فهمهم. كما أشار صاحب المقبس (محمد كرد علي) إلى كتابه عظماء الأمم فقال: إنه لم يؤلف كتاب بالإنجليزية أشد تحاملاً على النبي مما جاء بهذا الكتاب فقد حاول مرجليوث أن يشوه كل ما يتعلق بالسيرة الشريفة، وأن يشكك في أسانيدها ولم يأل جهدًا في نقض ما أبرمه التاريخ.
ويعارض ما حققه من المثقفين ومرجليوث له فرض في الشعر الجاهلي نشره
(2/451)
________________________________________
في يوليو 1935 في إحدى المجلات الاستشراقية، وفي 1926 نقله طه حسين في كتابه المشهور عن الشعر الجاهلي، يقول مالك بن نبي: ربما لم يكن فرض مرجليوث ليحتوي على شيء خاص غير عادي لو أنه حين نشر لم يصادف ذلك الترحيب الحار من المجلات المستغربة، ومن بعض الرسالات التي يقوم بها دكاترة عرب محدثون، حتى لقد كسب هذا الفرض قيمة المقياس الثابت في دراسة الدكتور صباغ عن (المجاز في القرآن) وقد رفض الدكتور صباغ رفضًا مقصودًا مغرضًا الاعتراف بالشعر الجاهلي كحقيقة موضوعية في تاريخ الأدب العربي".
وكتب مرجليوث مقالاً نشر عام 1904 فردد قول برايس من أن الإسلام لم يبق من عمره إلا قرنان كما أعاد ما قاله أحد المبشرين من أن الإسلام لا يلبث أن يذوب ذوبان الثلج بين يدي العلم والتمدن والنصرانية كما نقل رأي الدكتور بروين الذي قال": إن الإسلام يذهب بذهاب الدولة العثمانية ومضى يردد الكلمات التقليدية التي يرددها المتعصبون وخدام الاستعمار من أن الإسلام لن يبقى بعد احتكاكه بالتمدن الحديث ويموت لا محالة كما ردد ما قاله أحد كتاب التغريب من أن الانحطاط الذي يعيشه المسلمون -في هذه الفترة- يرجع إلى أسباب متصلة بالإسلام نفسه؛ لأنه لا يوافق روح التمدن وهكذا يتكشف في كتاباته جماع منسق لما تورده حملات التشكيك التي لا يرقى كتابها إلى مقام العلماء ونقد العلامة عبد العزيز جاويش هذا الكتاب (محمد وظهور الإسلام) لمرجليوث فقال: كتاب وضعه مستر مرجليوث: ظهر هذا الكتاب من نحو سبعة أعوام ونفوس الإنجليز والأمريكيين ترقبه لما لذلك الرجل عندهم من المكانة العلمية الرفيعة ولا سيما وهو مشغوف بدعوى أنه محيط بأكثر لغات العالم، فتراه يدعي العلم بالإسبانية والفرنسية والإيطالية والألمانية والعربية والفارسية والعبرانية، وقد كنت إبان ظهور الكتاب في مدينة أكسفورد حيث المؤلف، لما ذكرت له رغبتي
(2/452)
________________________________________
في شراء كتابه وعد أن يقدم لي منه نسخة ثم جعل يتباطأ تارة ويتناسى أخرى حتى مللت وعوده، وظننت أنه لا بد لهذا الكتاب من سر يريد إخفاءه عني ولا سيما والمؤلف يعلم أنني ضعيف الثقة بكثير من المستشرقين سيئ الظن بهم وقد كنت في الواقع كذلك، ولكن بعد أن خبرتهم وسبرت غور معلوماتهم وتتبعت مبلغ كفاءتهم، ولولا أنني وجدت من بينهم أفذاذًا قليلين جدًّا لا اطمأنت نفسي إلى أحد منهم فلما حصلت على الكتاب وتصفحته ثم درسته بابا بابًا وكلمة كلمة، حتى جئت على آخره فوجدته عند ظني به، وجدته حارب التاريخ كما حارب الإنصاف وحمل على الرسول عليه السلام حملات منكرة، ويظهر أن المؤلف توقع أن لا يقع كتابه إلا في أيدي البله ولا يطلع عليه إلا الأغرار، فلم يبال إن جاء فيه بمحدثات لو أنه تدبر لما اجترأ على الإقدام عليها فمن ذلك أنه يقول: إن المسلم معناه في الأصل (الخائن) وعلل ذلك بأن هذه الكلمة مشتقة من اسم مسلمة، ثم زعم أن المسلمين سموا أنفسهم بذلك من غير تدبر ثم حولوا هذه المادة إلى معنى التسليم المشهور اليوم وادعى المستر مرجليوث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تنتابه النوب العصبية كثيرًا، وفسر بذلك ما كان يصيبه - صلى الله عليه وسلم - من الجهد خلال نزول الوحي مع أنه عليه السلام لم يعرف في تاريخ حياته أنه كان يصاب بأمثال تلك النوبات العصبية قبل زمن البعثة ومقدماتها.
وزعم أن ما كان من بلاغ النبي ورسالاته لم يكن وحيًا يُوحى وإنما آراء وأنباء يجيئه بها جواسيسه وعيونه.
وقال أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا به قد كونوا جماعة سرية على
نحو ما يفعل الماسون، وأن هذا الجمع السري قد اتخذ له بضع رموز منها قولهم: "السلام عليكم"، وللمستر مرجليوث عدة تأويلات من أعجب ما يرى الراءون فمن ذلك ما قاله في التوحيد الذي هو روح الإسلام فلقد زعم
(2/453)
________________________________________
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر في تعاليم النصارى واليهود فأخرج منها ما لا يقبله العقل وكان (الله) أحد أصنام الكعبة قبل الإسلام فوفق بين إله اليهود والنصارى وجعلهما واحدًا، فكيف يكون التوحيد هو عين التثليث إلا في نظر من يغالطون في القضايا الحسابية العقلية. ولو أن الكاتب أراد أن ينصف الحق والتاريخ لقال بما قال به القرآن في أكثر من آية من أن التوحيد هو دين جميع رسل الله وأنبيائه. ومما ورد في الكتاب في تعليل إسلام عمر بن الخطاب بأن سر انقلاب عمر من اضطهاد أخته وضربها إلى مجاراتها والمبادرة باعتناق الإسلام بأنه تأثر من رؤيتها مجروحة بسبب قسوته وتسرعه فأحب أن يكفر عن سيئته هذه فأظهر إعجابه بالقرآن ورضي الإسلام دينًا يتصفح الناقد هذا الكتاب فيتمثل صاحبه إذ أخذ يدافع عن اليهود كأنه يهودي المنبت، وإذا كتب للدفاع عن النصارى فكأنه هو نصراني صميم. وإذا ذكر حوادث الوثنيين من العرب، وما أصاب النبي من أذاهم وكيدهم طرب طربه ممن دبر تلك الحكاية وأمعن في إيصالها إلى الرسول قد اشتهر مستر مرجليوث بقدرته البليغة وعمله الواسع باللغة العربية، وأنا لا أريد أن أذكر هنا رأيي في هذا المستشرق الشهير اكتفاء بحادثة وقعت لنا في جامعة أكسفورد. ذلك أنني كنت مدعوًّا معه في بعض المنازل فلما كنا على المائدة سألني بعض الحاضرين: هل سبق لي أكل لحم الجزور، فأجبته أنني لا أذكر ذلك، وربما اتفق لي هذا وأنا صغير، فلما سمع الأستاذ مرجليوث هذا الكلام قال: كيف ذلك، وعلى كل مسلم فرض أن يأكل لحم الجمال ولو مرة واحدة في حياته؛ لأنه من قواعد الإسلام، عند ذلك أجبته وأنا دهش مما قال: يا سيدي إنني أعرف أن قواعد الإسلام خمس، أما هذا السادس فلا أعرفه، بيد أني أستميح الأستاذ عفوًا أن يذكر لي مأخذ هذا الحكم فقال: أنه ورد في "صحيح البخاري" إنه قد جاء أحد اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: إني جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فأجلسه الرسول - صلى الله عليه وسلم -
(2/454)
________________________________________
وأمر له بلحم جزور، ومن هنا استنبط مستر مرجليوث أنه يجب على كل مسلم أن يأكل لحم الجزور وأن هذا من العوائد الإسلامية التي ينهدم الدين بانهدامها، فلما فرغ قلت له: إن صح وجود هذا الحديث في البخاري فالذي يفهمه المسلم الذي يفقه اللغة العربية منه أحد أمرين: فإما أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد يقدم لذلك اليهودي شيئًا من الطعام؛ لأنه ضيفه في بيته، وإما أنه أراد أن يمتحن إيمان اليهودي بإطعامه شيئًا مما حرمه الله على بني إسرائيل في التوارة من أجزاء اللحم، ثم تلوت الأدلة المفيدة لذلك، فبهت الأستاذ، ولكن لم تجسر قوة المكابرة وشدة العناد التي فطر عليها الأوربيون ولا سيما المستشرقون منهم على أن تحوله عن رأيه وبمثل كلام هذا الأستاذ يقتدي واضعو الكتب التاريخية القانونية وعن مثله ينقل أمثال مستر سكوت آداب الإسلام ودقائق أسراره.

* لورانس الخائن للعرب والمسلمين وكتابه "الأعمدة السبعة":
إن الجانب الذي يهمنا من دراسة هذا المغامر البريطاني في هذا المجال هو كتاباته عن العرب في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" فقد كشف في كتابه عن حقد وكراهية للعرب والمسلمين ولتاريخهم، وحاول التقليل من شأنهم ورميهم بالجهل والتخلف. فضلاً عن مغالطاته المتعددة وأخطائه التاريخية وأبرز ما يؤكد ذلك قوله بالنص: "لقد كنت أعلم أننا إذا كسبنا الحرب فإن عهودنا للعرب ستصبح "أوراقًا ميتة" غير أن الاندفاع العربي كان وسيلتنا الرئيسية في كسب الحرب الشرقية، وعلى ذلك فقد أكدت لهم أن بريطانيا سوف تحافظ على عهودها نصًّا روحًا فاطمأنوا إلى هذا القول وقاموا بالكثير من الأعمال المدهشة، ولكني في الواقع بدلاً من أن أشعر بالفخر لهذا الذي فعلته، كنت أشعر دائمًا بنوع من المرارة والخجل، لقد ذهبت إلى الصحراء غريبًا لا أملك أن أفكر على طريقة أهلها ولا أن أشاركهم معتقداتهم، ولكنه
(2/455)
________________________________________
كان علي أن أقود العرب، وأن أستخدم حركتهم إلى أقصى حد لصالح بريطانيا في الحرب، وإذا لم أكن أقدر على التطبع بطباعهم فعلي على الأقل أن أخفي ما عندي وأن أتسلل بنفوذي بينهم، إن الرجل إذا ألقت به الظروف إلى من لا يماثلونه عاش بينهم ولا ضمير له؛ لأنه قد يعمل ضد صالحهم أو يستميلهم إلى غير ما يحبون لأنفسهم، وهو يتحايل بدهائه ليغلب دهاءهم وهكذا كنت مع العرب، كنت أقلد أحوالهم فيقلدونني حكاية واقتداء، وكنت أخرج علي مألوفي وأتظاهر بمألوفهم، لقد كان بعض الإنجليز وعلى رأسهم كتشنر يعتقدون أن ثورة يقوم بها العرب على الأتراك تساعد إنكلترا وهي تحارب ألمانيا على دحر خليفتها تركيا، إنني لم أبلغ درجة من الحمق تجعلني لا أدرك أنه لو قُضي للحلفاء أن ينتصروا وأننا لو كسبنا الحرب فإن هذه الوعود سوف تكون حبرًا على ورق، ولو كنت مناصحًا شريفًا للعرب لنصحتهم بالعودة إلى بيوتهم وسرحت جيشهم وجنبتهم التضحية بأرواحهم ودعوتهم إلى عدم المخاطرة بحياتهم في مثل هذه الحرب، أما الشرف فقد فقدته يوم أن أكدت للعرب بأن بريطانيا ستحافظ على وعدها لقد كان قواد الحركة العربية يفهمون السياسية الخارجية فهمًا عشائريًّا بدويًّا، وكانت طبيعة قلبهم وصفاء نيتهم وانعزالهم عن العالم الغربي تخفي عليهم ملتويات السياسة وأخطاءها وتشجع البريطانيين والفرنسيين على القيام بمناورات جريئة يعتمدون في نجاحها على سذاجة العرب وضعفهم وبساطة قلوبهم.
وكانت لهم بساطة في التفكير وثقة في العدو إنني أكثر ما أكون فخرًا أن الدم الإنجليزي لم يسفك في المعارك الثلاثين التي خضتها؛ لأن جميع الأقطار الخاضعة لنا لم تكن تساوي في نظري موت إنجليزي واحد، لقد جازفت بخديعة العرب لاعتقادي أن مساعدتهم كانت ضرورية لانتصارنا القليل الثمن في الشرق، ولاعتقادي أن كسبنا للحرب مع الحنث بوعودنا أفضل من عدم الانتصار" اهـ.
(2/456)
________________________________________
وأعتقد أن هذه النصوص كافية لكي تكشف حقيقة لورنس والدور الذي قام به في العالم العربي، وآية خداع لورنس وتآمره على العرب ما سجله (وايزمان) في كتابه "التجربة والخطأ" قوله: وأود أن أعلن في هذا المجال تقديري للخدمات الجليلة التي أسداها لقضيتنا الكولونيل لورنس، لقد اجتمعت به في مصر وفلسطين، وقابلته فيما بعد مقابلات عدة، إن علاقته بالصهيونية علاقة إيجابية على الرغم من تظاهره بالميل للعرب وقد ظل اسم لورنس يدوي مصورًا تلك المغامرة *****ية الجريئة التي قام بها والعمل البطولي الذي وصف من أجله بأنه سلطان الصحراء العربية، وملك العرب غير المتوج حتى توفي في 19 مايو 1935. ثم ظهرت بعد ذلك كتابات كشفت وجهه الحقيقي، كتبها أمثال ريتشارد الدنجتون في كتابه "لورنس الدجال" وجان بيروفيلار الكاتب الفرنسي، ولويل توماس، وروبرت جرنفر، والكابتن ليدل هارت، فكشفوا عن حقيقته وأظهروا عشرات المغالطات التي ملأ بها كتابه، وعزوا سر اندفاعه ومحبته للظهور إلى سبب باطني، ذلك أنه كان ابنًا غير شرعي لأمه، ووصفوه بأنه كان متحمسًا للقضاء على الإمبراطورية العثمانية لتأكيد سطوة الاستعمار البريطاني وحده.
وإن ما ادعاه من محبته للعرب، ومقابلته للملك البريطاني مع فيصل بالعباءة والعقال العربي ورفضه قبول الوسام إنما كان هذا كله تغطية لموقفه، وبلوغًا بالمسرحية إلى غايتها. وقد دحض ريتشارد الدنجتون في كتابه هذه الأسطورة البطولية، ليحل محلها إنسان مليء بالعقد والشذوذ.
وعنده أن لورنس هو الذي عمل على اجتماع فيصل وحاييم وايزمان في باريس 1919 وهو الذي كتب الاتفاقية التي وقعها كليهما. وكان لورنس يطلق على الثورة العربية "تقطيع أوصال الدولة العثمانية"، وهدفه إيقاع الخلاف وتعميقه بين العرب والترك وقد عرف أنه لم يصل إبان الحرب العالمية مصادفة، ولكن العمل الذي قام به كان بدء ربيع 1914 عندما وصل إلى
(2/457)
________________________________________
الشرق، متخذًا من (فن البناء العسكري الصليبي) موضوعًا لدراسته، وكان قبل ذلك ملتحقًا ببعثة أوفدت إلى وادي الفرات للبحث عن آثار الحيثيين، وهكذا كانت خطته في دراسة الصحراء تختفي وراء عمل علمي بحت، هو دراسة البادية والمدن العربية والإلمام باللهجات التي يتكلمون بها والوقوف على عاداتهم، ثم استخدمه الإنجليز في ديوان الاستخبارات بعد ذلك حتى وصل جدة 1916 واتصل بفيصل وعمل معه.

* هنري لامنس الراهب اليسوعي المؤرخ الكذاب:
يعد (هنري لامنس) من أشد المستشرقين تعصبًا على الفكر العربي الإسلامي وقد بالغ في التعصب على الإسلام حتى أعلن المنصفون شكهم في أمانته العلمية، وقالوا: إنه لا ينسى عواطفه فيما يكتب عن النبي والإسلام، وإنه كان داعية ولم يكن عالمًا، وقد عرف بتهكمه على النصوص العربية، كما وصف بإرهاقه للنصوص وتحميلها أكثر مما تحتمل، فإذا وجد في الإسلام موضعًا للفضل ذهب بنسبته إلى مصدر غير إسلامي. ولد عام 1862 في بلجيكا واتخذ لبنان موطنًا ودرس في الكلية اليسوعية ببيروت، واشتغل بالتدريس فيها من 1886 وتخصص في تاريخ الشرق الأدنى وحضارة أهله، وأتقن اللغة العربية وعين 1907 أستاذًا في معهد الدراسات الشرقية في الكلية اليسوعية ببيروت، وتوفي في (مايو 1937) ووصف بالراهب المؤرخ وأخذ عن جولد زيهر ونولدكه وكيناني وولهوزن وله كتاب عن حياة محمد لم توافق دوائر الفاتيكان على نشره خشية أن يؤدي ما فيه من طعن وتهجم إلى احتجاج الأمم الإسلامية، وله كتاب "فاطمة وبنات محمد"، وكتابه عن الثلاثة: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة (ومغزى الربط بينهم هو ادعاؤه بأنهم تآمروا على الخلافة بعد وفاة النبي دون علي)، ويقول: فييت: إن كتابه عن فاطمة وبنات محمد يسوده التعصب والاتجاه العدائي.
(2/458)
________________________________________
- وقد تحيز لامنس للأمويين ووقف جانبًا كبيرًا من جهوده العلمية لدرس تاريخهم السياسي وخلافهم مع العباسيين، ومصدر إعجابه ببني أمية أن دولتهم كانت في تقديره -لا دينية- ولأنهم أقاموا ملكهم في الشام وتأثروا بالمدنية القديمة التي أقامت في ربوعه.
- يتهم الأب لامنس في جميع مؤلفاته رواة السيرة بأنهم مخترعون ولكنه لا يحجم عن الاعتماد على رواية من رواياتهم إذا استطاع أن يلمح فيها مطعنًا على الإسلام.
- وهو إن تكلم عن السيدة عائشة لم يجد من مفردات الفرنسية إلا كلمة (Favorite) ليصف بها زوجة النبي، وأقرب ترجمة لها بالعربية (محظية).
- ويذكر هذا المجرم أن رقية ابنة النبي - رضي الله عنها - كانت جميلة وأن عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - إنما اعتنق الإسلام ليتزوجها.
- وقد سجل عليه تعصبه زملاء له من أعلام الاستشراق في مقدمتهم: بيكرودسو، وجور فروا، وبمومبين، وماسيه، وقال (فييت) في نعي لامنس بجلسة 10 مايو 1937: إنه من الصعب أن نقبل كتاب "فاطمة وبنات محمد" في ثقة ودون تحفظ فإن التعصب والاتجاه العدواني يسودانه إلى حد كبير. وهكذا ترى أن الأب لامنس كان من أشد المتعصبين على الإسلام، وكان المستشرقون يعرفون في لامنس هذا العيب الكبير ويأخذونه به.
- وادعى هذا الكاذب أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة - رضي الله عنهم - اجتمعت كلمتهم في أواخر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحتكروا الحكم بعد وفاته ويتداولوه واحدًا بعد واحد. وأن اثنتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، هما عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - مهدتا لهم السبيل، وأن هذه المؤامرة قد نجحت إلى حد بعيد، وقد ردّ عليه الأستاذ عبد الحميد العبادي فأفحمه، وممن ردّ على لامنس فأجاد الأستاذ
(2/459)
________________________________________
كرد علي.
- وقد ذكر أن عالم قريش خالد بن يزيد تلميذ راهب ولم يقل كلمة واحدة في أثر هذا الراهب عليه.
- وادعى أن شيخ الإسلام ابن تيمية هو صاحب "المذهب الارتجاعي" وأن عمله مختل، وأنه كان لا يفتر عن مقاتلة البدع، وقضى حياته وهو يسوق أبناء أمته في سبيل التعصب.
- وادعى هذا الدجال بأن الفقه الإسلامي قد تأثر بالفقه اليوناني.
ووصف صلاح الدين الأيوبي بالطمّاع ووصف وقائع الحروب الصليبية بالبسالة، وصور ملوك الصليبيين على الغاية من النجدة والعقل، وقال: إن ترك صلاح الدين للأسرى الصليبيين يوم فتح بيت المقدس أحياء ولم يعمل السيف فيهم مثلما فعلوا هم يوم أخذوا القدس قال: إن هذا العمل كان عن "عجز وخوف". واعتذر عن فعلة الصليبيين في بيت المقدس بأن هذه المدينة عوملت بما تقضي به الأخلاق الحربية في ذلك العهد.
وقال: إن دور الأكراد الأيوبيين كان قليل البهاء.
- ولا يعترف لامنس الدجال بأنه قامت للعدل سوق في ديار الشام منذ فتحها العرب.
- وقال كرد علي: إن (لامنس) ألف تاريخًا مختصرًا للشام لم يذكر فيه للإسلام ولا للعرب محمدة من ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن، ووصف العربي بأنه ليس شجاعًا وأنه على استعداد للنهب. كما تمدح الصليبيين - وهم بشهادة المؤرخين- من أهل الخبث والفجور، وادعى أن الصليبيين عاملوا الأهالي في الحروب الصليبية معاملة حسنة. وفي تقدير الباحثين أن لامنس أضعف من شأن أكثر مؤرخي العرب أمثال الطبري والبلاذري وابن سعد والأصفهاني وابن الأثير وابن خلدون وأبي الفداء، ووثق بعض القصاص
(2/460)
________________________________________
الوضاع، وقد ذكر إميل درمنجم وهو من كتاب الغرب الأب لامنس باللوم، وقال: إن كتبه قد شوهت محاسنها بما بدأ في تضاعيفها من كراهية الإسلام ورسوله وأنه استعمل إلى التاريخ طرقًا بالغ فيها بالنقد".
- وقال كرد علي: إن لامانس نشر أخطاءه وأكاذيبه في دائرة المعارف الإسلامية، ومن عمله تحريف آيات القرآن، وحذف ما لا يروقه من كتب المسلمين وخلط الآيات القرآنية بأبيات من الشعر، وبجعل الأحاديث النبوية من كلام بعضهم، ومن ذلك اقتطاع جملة واحدة من نص طويل وإيراد الخرافات المنقولة من كتب الوضاعين والقصاصين، مدعيًّا أنها منقولة من كتب الثقات الأثبات.
- وادعى هذا الدجال الراهب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رجلاً غير أمين!!! قليل الشجاعة أكول ونؤوم قال هذا في كتابه "هل كان محمد صادقًا"، ووصفه بأنه أسلم نفسه للتمتع بلذات العيش، وأنه مصروع، وادعى أن النبي لم يكن له ولد يُسمّى القاسم وأن فاطمة عليها السلام تزوجت في سن متقدمة وأنها لم تكن حسنة الصورة.
- ولقد أبدى هذا الراهب إعجابًا كبيرًا في مقال له "نظرة في حاضر الإسلام" نشره في المشرق سنة 1930 لما بلغ إليه الأمر من أن التعليم القرآني في تأخر مستمر ومطرد في البلاد الإسلامية المستقلة، وأن تطور التعليم الرسمي في المعاهد العالية والثانوية يتحرر شيئًا فشيئًا من تأثير الدين حتى يصبح لا دينيًّا محضًا، وأن دعاة التطور قد مدوا أصابعهم داخل الجامع الأزهر، والزيتونة، وأشار إلى أن ذلك سيؤدي إلى اضطراب الشبيبة الإسلامية في مبادئها وعقائدها وأن ذلك سيؤدي إلى صدمة قوية يعانيها الإسلام.
(2/461)
________________________________________
* القس اليسوعي لويس شيخو الصليبي المتعصب ورسالته "خرافات القرآن":
يعد لويس شيخو من أقسى المستشرقين على الإسلام والفكر الإسلامي وفي مجلة المشرق التي أصدرها منذ ربع قرن حملات متصلة وإشارة مستمرة للشبهات، وفي مجال دراساته الأدبية لا ينسى خصومته وتعصبه ففي عشرات المجالات والأبحاث يتناول الإسلام والفكر الإسلامي على نحو لا يشرف العالم أو الباحث. ومن أبرز آثاره رسالة أسماها "خرافات القرآن" ترجمها زويمر عام 1914 وانتفع بها دعاة التبشير في مصر والبلاد العربية في الطعن على الإسلام ونشرها في مجلة العالم الإسلامي.
ولويس شيخو قس يسوعي ولد بماردين وتعلم بمدرسة الآباء اليسوعيين في غزير بلبنان وانتظم في سلك الرهبانية اليسوعية وتنقل في بلاد أوربا والشرق، وقد عهد إليه بتعليم الآداب العربية في جامعة القديس يوسف وأنشأ مجلة المشرق (1898) وتوفي في بيروت (1859 - 1927) وله مؤلفات متعددة أهمها شعراء النصرانية. وقد وجه إليه النقد من زملائه المستشرقين لتعصبه ومما ذكره إميل درمنجم عنه قوله: "وشيخو مثل لامنس، لم يأل جهدًا في إثبات دعواه أن العرب قبل الإسلام وبعده لا شأن لهم في المدنية وإذا كان هناك حضارة، فإن أصحابها هم نصارى العرب، وقد لفق كتابًا ادعى فيه أن معظم شعراء العرب قبل الإسلام كانوا نصارى وبراهينه على دعواه واهية.
وقال كرد علي: إن لويس شيخو كتب معظم مقالات مجلته مدة خمس وعشرين سنة ونشر فيها أولاً أمهات تآليفه وراعى في كتبه نظام رهبانيته فجاءت كتاباته إلا قليلاً أشبه بكتب الدعايات المذهبية، منها بكتب علمية مشتركة، وما خالف قط طريقته الدينية إلى ما يسمونه الطريقة العلمانية، ولو
(2/462)
________________________________________
خلت من هذه النزعة لكانت في الغاية من جودة التأليف. ولم يرزق ذوقًا عاليًا في الأدب العربي، وظلت كتاباته إلى آخر أيامه كما كانت في أول عهده نمطًا واحدًا لا تتناسب مع مقدرته على التأليف ووقوفه على أدب العرب والإفرنج وعلوم العصر، وهكذا يقال في ذوقه في الشعر، وقضت عليه الصنعة أو البيئة على ما يظهر أن يغمط حق العرب في مدنيتهم، وكان في الأغلب ينظر إليها من الوجه الذي لا يستحسن، لذا يعد شعوبيًا وشديد الشعوبية بأفكاره وتصريحاته لا صلة بينه وبين العرب إلا بما نشره من آثار علمهم وآخر أثر له من هذا القبيل أنه ذكر جملة من آباء المسلمين -وهو مولع في التفريق بين المسلمين والمسيحيين- في الربع الأول من القرن العشرين لم يتجاوز في عدهم العشرات في الأمة العربية، مع أن من وضعوا المصنفات والتآليف ولهم مكانة في الشعر والأدب لعهدنا لا يقلون عن ثلاثمائة رجل، اعتذر بجهله أسماءهم مع أن من اشتهرت بين قراء العرب مصنفاتهم وفيها الممتع لا يصعب السؤال عنهم ويستغرب أن لا يطلع مثله على أعمالهم.

* لويس برتران الصليبى المتعصب وكتابه "إِمام الإِسلام":
أصدر الكاتب الفرنسي لويس برتران عضو الأكاديمية الفرنسية عام 1926 كتابًا بعنوان "إمام الإسلام" تناول فيه المصريين والشرقيين والمسلمين واتهمهم بالتأخر والتعصب، وقال: إنه لا قابلية لهم للتمدن، وردد العبارات المعروفة التي تدعي أن للغرب حق تمدين العالم.
وقد واجه الدكتور هيكل هذا الكتاب وما تضمنه من آراء فقال: "إنه أشد ما ظهر في السنين الأخيرة صراحة في عدوانه على المسلمين والمصريين وأشدها إمعانًا في الطعن عليهم والنيل منهم، وهو فوق ذلك صيحة لإعلان الحرب بين الشرق والغرب والنصرانية والإسلامية والكتاب لا يشتمل على شيء جديد غير هذه النزعة الرجعية التي أدت إلى الحروب الصليبية في
(2/463)
________________________________________
القرون الوسطى.
وقال: إن واحدًا من أربعين بيدهم قيادة الرأي والفكر في فرنسا، وقد حمل على أهل الإسكندرية؛ لأنه رآهم يبدو عليهم الاعتداد بالنفس والاعتقاد بأنهم مسايرون للأوربي، وقال: هذه هي الجريمة في نظر برتران.
وكتابه هو عصارة روح الكراهية والحنق، ثم قال: إذا كان مسيوا برتران يريد أن يعتقد أن قومه أكرم عنصرًا وأشرف مقامًا في الإنسانية من الشرقيين ومن المسلمين، فليعلم أن الزمن الذي أتاح لأوربا أن تحكم العالم من الزمن، قد أتاح من قبل لأمم آسيا ولأمم أفريقيا ومصر التي نالها المؤلف بحقده وكراهية قد حكمت العالم عصورًا عديدة، وقد صبغت العالم بمدنيتها، ولعل أهلها يومئذ كانوا يعتقدون أن الأجناس التي تقطن أوربا كلها همج وبرابرة متوحشون وأن أمم الإسلام قد نظرت لأمم أوربا ردحًا من الزمن على أنها أمم الموت والتقهقر.

* وليم ويلكوكس والدعوة إِلى العامية:
في يناير 1893 ألقى المهندس الإنجليزي وليم ويلكوكس محاضرة في نادي الأزبكية (انجلوا اجيبشيان كلوب) موضوعها: لماذا لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن؟ زعم فيها أن قوة الاختراع تأتي من القوة المفكرة ويرثها الإنسان من آبائه والقوة الخيالية ويرثها الإنسان من الأمهات. وقال: إن أهم عائق يمنع المصريين من الاختراع أنهم يؤلفون ويكتبون باللغة العربية الفصحى، ولو ألفوا وكتبوا باللغة العامية لصاروا مخترعين، واستدل على ذلك بأن الإنجليز كانوا يؤلفون باللاتينية فلم يكونوا مخترعين، فلما اختاروا لغة الفلاحين الإنجليز، وكتبوا بها صاروا مخترعين، ويرجع ذلك إلى الزمن الذي نبغ فيه شكسبير وبيكون .. ". ولم يتوقف وليكوكس عن هذا الحد، بل اشترى ترخيص مجلة اسمها الأزهر من منشئيها إبراهيم مصطفى وحسين
(2/464)
________________________________________
رفقي، وأصدرها بالاستعانة بالشيخ أحمد الأزهري وراح يردد فيها هذه الدعوة. ومضى فاتجه إلى الإنجيل فترجمه إلى اللغة العامية، ثم ما كاد يحال إلى المعاش وكان من أكبر مهندسي الري والخزانات حتى عمل مبشرًا، يجادل الناس في عقائدهم ويحمل إلى القرى النائية الأدوية والتبشير، وظل يعمل في مستشفى مصر العتيقة (هرمل) المعروف إبان حملات التبشير التي أثارت الرأي العام وقد كتبت مجلة اللطائف عنه أنه اعتكف سنة 1926 في داره بحلوان وخرج منه أخيرًا مبشرًا يجيد اللغة العربية وبدأ حركة التبشير في مسكنه الحالي الصغير في جهة الزمالك حيث وضع كتابين أو ثلاثة كتبها باللغة العامية وأطلق على آخرها اسم "الأكل والإيمان" ووزع كتابه بنفسه مجانًا على العامة في المدن وسكان القرى وكان ينتقل بينها ويجالس أهلها.
وقد ردد سلامة موسى في مجلة الهلال دعوة ويلكوكس إلى العامية وتحدث معه، وقال: إن الهم الذي يقلق ويلكوكس هو اللغة التي نكتبها فهو يرغب في أن نهجرها ونعود إلى لغتنا العامية فنؤلف بها وندون بها آدابنا وعلومنا وأن ويلكوكس يرفض التسوية أي قيام لغة مشتركة من العامية والفصحى - ويدعونا إلى هجرة اللغة الفصحى هجرة تامة واصطناع العامية. وقد نشر موسى ذلك عام 1926 أي أن ويلكوكس ظل مقيمًا على دعوته أكثر من ثلاثين عامًا. ولما توفي في يوليو 1933 أشارت جريدة الأهرام إلى دوره هذا فقالت: كان يقوم باستخدام اللغة العامية لأنها أقرب إلى الأفهام وأنه أنشأ لإذاعة هذه الفكرة بمعاونة سكرتيره أحمد بك الأزهري مجلة باسمه في مجلة الأزهر ولكن الرأي العام قاوم فكرته فأبطل تلك المجلة ولكنه ظل هو ذاته يؤلف باللغة العامية المصرية فكتب في ذلك حياة المسيح وأعمال الرسل وترجم كتب العهد الجديد إلى اللغة العامية المصرية.
***
(2/465)
________________________________________
* فنسنك المرتد عن الإِسلام و"دائرة المعارف الإِسلامية":
يعد فنسنك من أبرز المستشرقين، وقد ولي تحرير القسم الأكبر من دائرة المعارف الإسلامية وهو تلميذ (سنوك هيجرونيه) سافر قبل الحرب الأولى إلى جاوه، واعتنق الإسلام، وما كاد يعود إلى بلاده بعد الحرب الأولى حتى ارتد عن الإسلام ومضى يهاجمه في عنف وأخذ طريق مرجليوث ونيكلسون والأب لامنس ودي كاستري وكازنوفا. وقد رشح عام 1933 عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة غير أن الدكتور حسين الهراوي تصدى لكشف مواقفه من الإسلام مما عمل على شطب اسمه وإقصائه وقد أشار الدكتور الهراوي إلى أن فنسنك إذا أراد أن ينال من الإسلام، فإنه يفرض فرضًا، ثم يبحث عن الآيات التي قد تتناسب مع هذا الرأي الذي فرضه، فإذا وجد آية تدحض رأيه حذفها، وأنكرها إنكارًا حتى يخرج بالنتيجة التي تؤدي إلى نزوع الشك في فؤاد من يطلع على أقواله من غير تمحيص، وقال: إن هذه هي طريقة المستشرقين الذين يتبعونها في مباحثهم عن الإسلام أو حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو عندما يريدون أن يستقصوا مسألة في القرآن، وهذه الطريقة لم يبتدعها فنسنك بل هي طريقة قديمة من أقدم ما ورد في كتب المستشرقين، والغرض منها ظاهر جلي، وهو تزويد جماعة المبشرين والمستعمرين بحجج شبه منطقية يزعزعون بها عقائد المسلمين ويقللون من تمسكهم بدينهم، وهي إحدى الطرق التي وضعها رواد الاستعمار من زمن قديم، وكانت إحدى وسائلهم مع تقوية اللغات العامية حتى لا يتفاهم المسلمون ولا يفهمون لغة قرآنهم، وقديمًا اطلعنا على تقرير لجنة العمل المغربي، وفيه يقول المستشرق سيكاردا: "إن الإسلام في روحه الخاص قوة مخالفة لاحتياجاتنا ورغباتنا ونزعاتنا" إلى أن قال: "فمن مصلحتنا التقليل منه بين الشعوب الخاضعة لسلطتنا".
(2/466)
________________________________________
وفي تقرير بورينو الذى يدرس اللغة العربية لفريق من طلبة أوربا: إنني سأعلمك لغة القرآن، فهذه اللغة قد ماتت ولا يتكلم بها أحد فهي (لاتينية) العربي، وهذه اللغة المستعملة في جنة محمد وسأحبب إليك دراستها في المستقبل إذا أردت أن تتذوق حلاوة الاجتماع بالحور العين" فأمثال هذه المبادئ هي التي رسمها المستشرقون لدراسة اللغة العربية، وأكثر من ذلك أن بعضهم مثل مرجليوث يغالي في الطعن في نسب (محمد) فيقول: إن اسم أبيه (عبد الله) معناه أنه (مجهول الأب) وتتمثل لك نتيجة عمل المستشرقين جليًّا في كل كتاب علمي أو عمراني أو اجتماعي، يكتب شيئًا عن الشرق وعن الإسلام، فإنك لا تكاد تقرأ أي هذه الكتب حتى ترى إجماعًا على الجهل بالإسلام، وإجماعًا على الطعن في النبي الكريم، وقد أنتج ذلك أن بعض المسلمين الذين لم يلموا إلمامًا كافيًا بدينهم أخذوا يتبعون خطأ المستشرقين ويقتفون أثرهم وقد اخترعوا لنا اسمًا غريبًا لهذه الجهالة هو (حرية الفكر).
بمثل تلك النواحي أصبحنا لا نقرأ للمستشرقين شيئًا إلا ونحن نحرص على تفكيرنا وأن نعنى بتعرف الغرض الذي يرمي إليه قبل أن نثق بما يكتب وأن نقتفي أثره فيما يبحث وفي مستنداته".
- وقال الدكتور الهراوي: إن من أخطر آراء فنسنك رأيه في كلمة إبراهيم، ورأيه في كلمة كعبة (في دائرة المعارف الإسلامية). فقد أشار تحت لفظ إبراهيم: إن الآيات المكية ليس فيها ذكر لنسب إسماعيل لإبراهيم، ويقول: إنه لا يعرف شيئًا عن شعور محمد نحو الكعبة في شبابه وبعد الرسالة إلا بعد أن هاجر بعام ونصف، وأن ما لديه من تاريخ حياته لا يصح أن يؤخذ أساسًا تاريخيًّا. ونسب (فنسنك) إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يشذ عن الجماعة في العبادة المكية، أي بعبارة أصرح: أنه كان وثنيًّا قبل البعثة وأن فنسنك لا يعرف شعور محمد نحو الكعبة.
(2/467)
________________________________________
ويرد الدكتور الهراوي على هذه الشبهة فيقول: إن عبادة محمد كما وردت في كتب السيرة معروفة تمامًا فقد كان في الغار شهرًا، ثم يطوف بالكعبة ويوزع الصدقات.
وكان يحترم الكعبة ويتجنب الأصنام، وكانت عبادته بالغريزة والوراثة تتصل بعبادة جده الأعلى إبراهيم.
ومما أورده الدكتور الهراوي ردًّا على فنسنك القائل: بأن الآيات المكية ليس فيها إشارة إلى علاقة محمد بالكعبة، قال: إننا نذكره بالآية {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا}، إلى قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}. وقال: هلا يفهم فنسنك أن الحج هو استجابة لهذا الدعاء إن لم يكن بناء البيت في هذا المكان لغرض الحج. وفنسنك يعرض بالاختراع في الدين ويصرح بأن ملة إبراهيم اخترعت اختراعًا، ويزعم أن محمدًا أراد بهذا الاختراع أن يتصل بيهودية إبراهيم والواقع أنه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}، وأشار الدكتور الهراوي إلى أن لفنسنك زميل هو إميل درمنجم يزعم أن محمدًا كان يتعبد على طريقة اليهودية والمسيحية تمهيدًا لدين هو الإسلام، ومثله مرجليوث، ويقول الهراوي: فأنت ترى أنهم اختلفوا في أسانيدهم التاريخية واتفقوا على أن محمدًا كان يخدع ويدس ويطلب علاقات اليهود.

* دائرة المعارف الإِسلامية:
وقد واجهت دائرة المعارف منذ بدأت ترجمتها عام 1932 كثيرًا من النقد، لما تضمنته من شبهات واتهامات، تناولتها أقلام (رشيد رضا) صاحب المنار. و (كرد علي) رئيس المجمع العلمي العربي وأحد أقطاب دراسات دوائر الاستشراق، و (فريد وجدي)، كما تناولها الدكتور (تقي الدين الهلالي) الباحث المغربي المسلم الذي قال: إن في دائرة المعارف الإسلامية أخطاء
(2/468)
________________________________________
ودسائس ناشئة عن التعصب الأوربي، وقال: إن كتابات بروكلمات مثل ذلك وأقبح.
وقد أشار كثير من الباحثين أن أغلب كتاب دائرة المعارف قسس مبشرون يهمهم أن يخنقوا الإسلام لا ينصفوه، وقليل منهم من يتصف بالشجاعة العلمية فيتغلب على عناصر التعصب وضيّق الأفق، وليس كتاب الدائرة وحدهم على هذا النمط، بل جل المشتغلين بالدراسات الإسلامية وهم لا يتجاوزون صناعة التبشير، تعرفهم من لحن القول.
ومن هؤلاء توماس باترك هيور صاحب قاموس الإسلام، وهو مرجع متداول لا تكاد تخلو منه مكتبة أوربية، وقد قضى القس المؤلف في وظيفته التبشيرية في بلاد الهند بين المسلمين والبوذيين والبرهميين أكثر من عشرين سنة، ونشر معجمه هداية للموظفين الإنجليز ممن كانوا يتولون الحكم ببلاد الإنجليز في أواخر القرن الماضي ومساعدة للمبشرين بالمسيحية ممن يجادلون علماء الإسلام.
وأشار الباحثون إلى أن أهم نواحي الخطر في هذه الدائرة أن ما يترجم منها لا يتعرض بالتحليل والإيضاح لما فيها من أخطاء وشبهات، وأنها تسطر البدع الدخيلة على الإسلام باستفاضة مثيرة. وقد أمعن مؤلفو الدائرة في تسجيلها وشرحها وكأنها أصول مقررة لا بدع دخيلة.
1 - أخطاء دائرة المعارف الإسلامية: قال رشيد رضا: إنه معجم لفقه طائفة من علماء الإفرنج المستشرقين لخدمة ملتهم ودولتهم المستعمرة لبلاد المسلمين بهدم معاقل الإسلام وحصونه بعد أن عجز عن ذلك دعاة دينهم بالطعن الصريح على كتاب الله ورسوله وبعد أن عجز عن ذلك الذين حرفوا القرآن بترجماتهم الباطلة، والذين شوهوا التاريخ الإسلامي بمفترياتهم، ذلك أن هؤلاء الملفقين لهذا المعجم الذي سموه دائرة المعارف لم يتركوا شيئًا من
(2/469)
________________________________________
عقائد الإسلام ولا من فضله، ولا من الشريعة ولا من مناقب رجاله إلا وصوروه لقراء معجمهم بما يخالف الصورة الصحيحة من بعض الوجوه، إما بصورة مشوهة أو بصورة عادية لا مزية لها.
وفي هذه الدائرة عيوب علمية وتاريخية أخرى أهمها أنها لم تكتب لتحقيق المسائل التاريخية والعلمية لذاتها بل لأجل بيان آرائهم وأهوائهم والإعلام بما سبق لهم ولعلمائهم فيها من بحث وطعن في كتبهم ورسائلهم المتفرقة. وكان على الذين شرعوا في ترجمة هذا المعجم وضع حواشي لتصحيح ما فيها من الأغلاط التاريخية والعلمية والدينية وبيان الحق فيما دسوه فيه من عقائدهم وآرائهم الباطلة، وقد نيط هذا وذاك بالعلماء الإحصائيين، وقد ذيل الجزءان الأول والثاني ببعض الحواشي من هذه التصحيحات والانتقادات إلا أنها غير كافية في موضوعها ثم أعرض المترجمون عن ذلك فيما بعد، وطفقوا ينشرون الأجزاء غفلاً من التعليق على مواردها المشوهة للإسلام وتاريخه بعد أن ظننا أنهم سيزيدونه استقصاء وتحقيقًا، أقول ولا أخشى لا آثمًا ولا مخالفًا أن نشر هذا المعجم باللغة العربية كما كتبه واضعوه بدون تعليق على ما فيه من الأغلاط والمطاعن ومخالفة الحقائق هو أضر من شر كتب دعاة المبشرين وصحفهم؛ لأن هذه كلها لا تخدع أحدًا من أعلام المسلمين بما فيها من الباطل، أما هذا المعجم المسمى بدائرة المعارف الإسلامية المعزو أكثر ما نقل فيه إلى كتب المسلمين فإنه يخدع أكثر القارئين له ممن يعدون من خواص المتعلمين؛ لأنه يقل فيهم من يفرق بين الحق والباطل مما فيه ويقل فيهم من يعلم أن مؤلفي هذه الدائرة من خصوم العرب والإسلام واللغة العربية.
2 - رأى فريد وجدي في دائرة المعارف الإسلامية: أن هذه الدائرة تشمل على السيِّئ الكثير من التهم الباطلة على الإسلام ورسوله ورجالاته الصالحين ولا يدفع ببعض هؤلاء المستشرقين إلى التورط مع هذه الخطة الحربية
(2/470)
________________________________________
إلا ما يحملونه في صدورهم من البغضاء لهذا الدين فلا يصح والحالة هذه أن يحمل المترجمون أنفسهم إثم نقل هذه السفاسف إلى لغتهم وبأقلامهم ليقرأها الناس في جميع بلاد المسلمين فالذي آراه أن يمتنعوا عن ترجمة ما يصادفونه من هذه الأباطيل وأن يكتفوا بالإشارة إليه مشفوعة بما يدحضها ويبين فسادها بكل دليل. أليس من البلاء أن يضطر أحدنا أن يصف أطهر نساء العالم وهي في الوقت نفسه أمة في الدين بالطيش والفجور، أي فائدة أدبية ترجى من إذاعة هذه الفرية بين المسلمين في عبارات وقحة يسمح بها لنفسه رجل أجنبي عن الدين، لذلك أرى الامتناع عن ترجمتها والإشارة إليها بدلاً من ترجمتها على غير وجهها وتلطيفها بما يخرجها عن صيغتها التي أراد لها كاتبها. والملاحظ أن مترجمي الدائرة لم يعقبوا على التهم التي وجهها الكاتب إلى خاتم النبيين.

* جلوب قاتد القوات العربية في حرب 1948 م وكتابه "الفتوحات العربية الكبرى":
عاش (جون ***رت جلوب) ثلاثين عامًا يجوب الصحاري العربية مختلطًا بأهلها، وتعلم اللغة العربية ولا سيما لهجات البدو فأجادها وعاش مع العرب في خيامهم ثم، عاد إلى بلاده عام 1956 وكان قائدًا للفيلق العربي في الأردن وله تاريخ لا يشرف في مقاومة الوحدة العربية ومهاجمة الإسلام والعروبة، وقد كتب بحثًا في تاريخ العرب من الزاوية العسكرية. أطلق عليه اسم "الفتوحات العربية الكبرى" وقد استمد الكتاب من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري والبلاذري. وقد كتب (خيري حماد) مترجم الكتاب إلى اللغة العربية تعليقات إضافية على الأخطاء والانحرافات ورد على الشبهات التي وردت فيه فقال: "إن أهم ما في الكتاب هي المحاولة البارزة في كل ناحية من نواحيه للتشويه والتضليل ورسم الصور الزائفة التي تشكك القارئ في
(2/471)
________________________________________
الشخصيات العربية العظيمة ابتداء من النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتهاء بصغار القادة، عبورًا بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وخالد وأبي عبيدة وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم -. وقال: إن المؤلف قد استند في عملية التشويه على ذكاء نادر، وعلى روايات ابتكرها من خياله أو وجد أثرًا منها في بعض الكتب الصفراء التي وضعها الشعوبيون في مختلف العصور.
وقال: إنه اتضح لنا من قراءة الكتاب، تشيعه لليهود والصهيونية تشيعًا كاملاً لا شك فيه. وكانت هذه الناحية خفية على الجميع ذلك أن جلوب كان يتظاهر بحب العرب حبًّا شخصيًّا قويًّا جعل الكثيرين ينخدعون به. فهو يظهر في كتابه مؤيدًا لليهود كل التأييد وإن لم يعلن تأييده هذا صراحة، فهو يروي قصص إجلاء النبي لليهود من يثرب ومن خيبر كبني النضير وبني قريظة وبني قنيقاع، دون أن يذكر الأسباب التي دفعت النبي إلى اتخاذ هذه الخطوات، ومنها: نقضهم لعهودهم معه وخياناتهم لاتفاقاتهم ومحاولتهم طعن المسلمين في ظهورهم إبان غزوة الأحزاب وحصار المدينة أو أثناء معركة أحد على الرغم من وجود اتفاقات معقودة بينهم وبين النبي أو سعيهم إلى اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
2 - تصوير النزاع في فلسطين على أنه نزاع بين العرب واليهود، وهي الصورة التي ضللت العرب مدة طويلة وخدمت مصالح الاستعمار ومكنته من أن يقيم قاعدته إسرائيل في قلب الوطن العربي مع أن مشكلة فلسطين مشكلة استعمارية لا طائفية (1).
3 - تعبير "الشعوب الناطقة بالعربية" تعبير استعماري ماكر يقصد منه تجزئة الأمة العربية الواحدة إلى مجموعة من الشعوب تشترك في لغة واحدة.
__________
(1) هذا خطأ من المترجم، بل مشكلة فلسطين مشكلة دينية بحتة بين المسلمين واليهود.
(2/472)
________________________________________
4 - ما يقوم من الجزيرة العربية والشمال الإفريقي من فروق أو تباينات فهو يصفها بأنها كبيرة للغاية، ولكننا لا نرى أنها تزيد بأية حال على الفروق التي تقوم بين أهل اسكوتلندة مثلاً وأهل ويلز، فاللغة واحدة تقريبًا.
والتاريخ واحد إلى حد كبير.
5 - أراد أن يظهر أن كل من اعتنق الإسلام إنما كان بدافع الانتهاز والتقرب من الحاكمين والتساوي بهم هو قول خطأ كل الخطأ إذ لو صح دافع الانتهاز لانقلب المسلمون على دينهم في البلاد التي خضعت لهذا الإسلام.
6 - محاولة التفرقة بين العرب والبربر في المغرب العربي، وهي تفرقة غذاها الاستعمار الفرنسي طيلة وجوده في المغرب، إذ حاول أن يجعل من البربر أقلية مميزة.
7 - يصر جلوب على إخفاء الدور الذي لعبه الشعوبيون وفي مقدمتهم اليهودي عبد الله بن سبأ وأتباعه في المؤامرة ضد الإسلام.
وقد علق الباحث العربي: محمد عبد الغني حسن على هذه الدراسة فقال: إن جلوب قد حمل على المؤرخين العرب في تواريخهم واتهمهم بسوء التقدير، ونسي أن تواريخ اليونان والرومان القديمة فيها كثير من هذا الذي عابه على العرب وقال: إن جلوب قصد إلى رسم صورة فيها تشكيك وتضليل ورسم الصورة الزائفة التي تشكك في النبي وقادة الإسلام (1).

* اليهودي جولد تسيهر ودجله الواضح في كتابه "العقيدة والشريعة":
أثار جولد تسيهر عدة شبهات وشكوك حول السنة والفقه والتشريع
__________
(1) ومن العجيب أن توكل قيادة الجيوش العربية إلى الملك عبد الله بن حسين الذي عين عليها هذا الخائن الصليبي لتحرير فلسطين .. واسلمي أيتها الأمة البلهاء الغافلة.
(2/473)
________________________________________
الإسلامي فقد حاول التشكيك في قيمة الأحاديث النبوية وذلك بالقول بأن السنة بدأ تدوينها بعد وفاة النبي بتسعين عامًا، وقوله في كتاب "العقيدة والشريعة" أن التوحيد الإسلامي ينطوي على غموض في حين أن التثليث واضح في فهم الألوهية ومن ذلك قوله: إن الشريعة الإسلامية تأثرت بالقانون الروماني في بداية عهد تكوينها.
وجولد تسيهر مستشرق يهودي ولد 1850 وتوفي 1921، ودرس في مدارس اللغات الشرقية ببرلين وليبزج وفيينا ورحل إلى سوريا 1873 وتتلمذ على الشيخ طاهر الجزائري، ونزح إلى مصر وتضلع في الدين على شيخ الأزهر، وبدأ حياته بالتأليف عن الظاهرية ومذهبهم وتاريخهم وله في ذلك دراسات إسلامية ومحاضرات، وقد اشتهر بكتابه "العقيدة والشريعة في الإسلام" الذي ترجمته له دار الكاتب المصري التي أشرف عليها الدكتور طه حسين، ولم يعن مترجمو هذا الكتاب بالرد على الشبهات التي أثارها المستشرق على نحو يعصم قارئها من الخطأ، وله كتاب "مذهب المسلمين في تفسير القرآن". وقد واجهت كتاباته المتعصبة كثيرًا من المجاراة من كتاب وأساتذة الجامعات المدنية والأزهرية، كما وجدت تفنيدًا من كثير من الكتاب اليقظين في مقدمتهم: مصطفى السباعي، ومحمد الغزالي، وسليمان الندوي. وقد تابع جولد تسيهر كثير من المستشرقين في آرائه المتعصبة في مقدمتهم المستشرق اليهودي شاخت (جامعة ليدن) بهولندا وقد التقى به الدكتور مصطفى السباعي وباحثه طويلاً في تعمده تحريف النصوص التي ينقلها من كتب المسلمين وقد حاول شاخت أن ينكر ذلك فكشف له الدكتور السباعي عن بعض الأمثلة في هذا التحريف الذي تورط فيه.
وجولد تسيهر يحاول في مجمل رأيه أن يصور الفقه الإسلامي بأنه من صنع الصحابة والتابعين، ولا شك أنه رأي مصدره الخطأ الناتج عن قصور
(2/474)
________________________________________
الاستقصاء، أو العجز عن فهم أصول الإسلام وأمرها يسير، ويمكن المراجعة فيه والنظر، إذا كان صاحبه حريصًا على بلوغ الحق، أما حين يكون الاتهام صادرًا عن التعصب أو الخصومة المغرقة، فإن المراجعة لا قيمة لها.
وإذا كانت عبارات جولد تسيهر في مجموعها ترفض صلاحية الإسلام الفقهية لكي يشرع للأمم والأجناس، فليس معنى هذا هو عجز الرجل عن الفهم، وإلا فإن أمامه ذلك الفيض الضخم من ثقافة الإسلام وهو قادر على أن يرده عن هذا الرأي، لو كان منصفًا ولكنه هو أساسًا ليس قابلاً للوصول عن طريق البحث العلمي إلى الحقيقة؛ لأنه يفترض أساسًا أن القرآن من وضع محمد نقلاً عن غيره، وأن السنة من وضع الصحابة والتابعين نقلاً عن الشريعة الرومانية. ومن هنا فهو يسد الطريق على كل سلامة في تقدير، أو بلوغ وجه الصدق أو تقبله. ولقد واجه أخطاء جولدتسيهر عالم غربي منصف هو العلامة (فتز جيرالد) في كتاب عنوانه "الدين المزعوم للقانون الروماني على القانون الإسلامي" فعرض آراء جولد تسيهر ومن جرى مجراه، فقال: إنه كان مدفوعًا في كتاباته بغرض سياسي خاص هو إظهار أن التشريع الإسلامي كان قابلاً للمؤثرات الغربية، وقال: أنه إذا أخذت فكرة عند شعب إلى شعب آخر، ظهر في لغة وكتابات الشعب الآخر أثر لهذه الفكرة. وهذا واضح مثلاً فيما أخذ عن اليونان في القانون الروماني، كما هو واضح كذلك في شريعة "التلمود" اليهودية المملوءة بالكلمات والمصطلحات اليونانية واللاتينية. أما في الإسلام فإنه لا يوجد لفظ واحد مستعار من اللغة اللاتينية أو اليونانية في القاموس الضخم للفقة الإسلامي وتشريعه، كما لا يوجد في جميع المؤلفات الفقهية الإسلامية أدنى ذكر لمصدر روماني علمي، وهذا أيضًا وحده مما ينفي فكرة كل استعارة من القانون الروماني، لذلك كله ترى أنه لا داعي مطلقًا الافتراض أن مصادر هذا التشريع كانت شيئًا آخر غير ما قاله
(2/475)
________________________________________
الكتاب المسلمون أنفسهم، والقول بغير هذا يعد افتراضًا لا حقيقة له، وقولاً بغير علم ولا دليل، ومن ثم يجب رفضه وعدم الاعتداد به.
- والتشريع الإسلامي يختلف أساسًا في طابعه ومقصده عن القانون الروماني، وهذا القانون الذي هو من وضع رجال حذقوا لغة القانون ومصطلحاته أما الشريعة الإسلامية فهي نظام من المسائل الفقهية الدقيقة، وقد نظر إليها من حيث علاقة الإنسان بالله أولاً، ولهذا تشمل ما يُسمى بـ (العبادات) من صلاة وصوم وزكاة وحج، وغير ذلك، وحتى عندما تعالج المسائل المدنية، كالبيع والرهن مثلاً، نجد فيها أثر الدين واضحًا" اهـ.
- هذا غيض من فيض مما طفحت به كتابات كبار رواد الصليبيين وعتاة مخططيهم ويكفيهم هذا البيت من الشعر.
يا ناطح الجبل العالي لتكلمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

* محاولات التشكيك وإِثارة الشبهات من قبل المستشرقين الصليبيين:
- جرت محاولات التشكيك والإثارة في خمسة مجالات كبرى:
1 - رسول الإسلام.
2 - الإسلام.
3 - الفكر الإسلامي العربي.
4 - القرآن واللغة العربية.
5 - التاريخ العربي الإسلامي.
- وقد ترددت هذه الشبهات في محاولة لتمييع القيم الأساسية للفكر العربي الإسلامي واتهامها:
1 - بأنها قيم دينية صرفة قاصرة في مجال العقيدة.
(2/476)
________________________________________
2 - قيم تاريخية قاصرة في مجال الزمن.
3 - اتهام الجضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة غير أصيلة وذلك في محاولة لإسقاطها من مجال تطور الحضارة الإنسانية وتجاهل فترة الألف عام الإسلامية بين الحضارتين الرومانيه والحديثة.
4 - ترديد الاتهامات التي تنقض أصالة الفلسفة الإسلامية على أنها يونانية مكتوبة باللغة العربية.
5 - اتهام مفهوم الإسلام بأنه لم يعد قوة محركة تهدي الناس إلى الوجهة الصحيحة.
6 - جحود التراث.
7 - إثارة الشبهات حول الغيبيات.
8 - اتهام الفكر العربي الإسلامي بأنه فكر تجريدي.
9 - الزعم بأن العقلية العربية عقلية سامية قاصرة عن الخلق عاجزة عن استنتاج المعاني المجردة.
10 - القول بأن الفكر العربي الإسلامي يحمل دعوة التزهيد في العالم الأرضي ويجعل مسألة الموت والتطلع إلى الآخرة مسألة رئيسية.
11 - محاولة خلق الفوارق بين العرب والبربر كوسيلة لخلق خلاف جذري في العالم الإسلامي والأمة العربية.
12 - اتهام القرآن بأنه موضوع، وليس وحيًا من الله وأن القرآن مرآة لأفق خاص من الحياة: أفق عقيدة صحراوية في الجزيرة العربية.
13 - القول بأن شرائع الإسلام اقتبست من الأديان السابقة له.
14 - القول باختلاف الشعوب.
15 - اتهام اللغة العربية بأنها لغة ميتة، عاجزة عن التعبير غير قادرة
(2/477)
________________________________________
على الاستجابة للحضارة.
16 - الدعوة إلى اتخاذ اللهجات العامة لغات محلية إقليمية.
17 - تزييف التاريخ العربي الإسلامي وإثارة الشبهات حوله، واتهامه بأنه مليء بالثغرات.
18 - الفصل بين العروبة والإسلام.
19 - اتهام العرب والمسلمين بأنهم لم يستيقظوا حتى أيقظهم الغرب.
20 - القول بأن الإسلام عائق عن التقدم والحضارة.
21 - إبراز جوانب الانحراف والتأكيد عليها كقضايا الباطنية والشعوبية والاهتمام في دراسات التصوف بدعاة الحلول ووحدة الوجود.
هذا مجمل سريع للشبهات التي أثارها التغريب وأثارتها الشعوبية في الفكر العربي المعاصر.

* رينولد نيكلسون وهنري جونستون وجب وكرومر وطعنهم في القرآن:
واجه "القرآن الكريم" حملة من أعنف الحملات وأثيرت حوله شبهات متعددة. كانت تهدف في مجموعها إلى القول بأن:
1 - القرآن من نظم النبي محمد، وأنه موضوع وليس منزلاً من عند الله.
2 - أنه كتاب مضطرب وغير متماسك وفيه تعارض.
3 - أنه صعب الفهم وركيك.
4 - أنه غير منظم أو مبوب.
5 - أنه العقبة الكئود في سبيل ارتقاء الأمم الإسلامية والمسئول عن تقهقرها.
6 - أن القرآن مقتبس من التورة والإنجيل.
7 - القرآن مرآة لأفق خاص من الحياة.
(2/478)
________________________________________
8 - كتاب مواعظ وحكم وإنذارات. فهذا (رينولد نيكلسون) يقرر أن مؤلف القرآن مضطرب غير متماسك في معالجة كبار المعضلات وأنه نفسه لم يكن عالمًا بوجود هذا الاضطراب والتعارض، وأن بيان صحابة الرسول الساذج قد دفعهم إلى الإيمان بأن القرآن كلام الله. وأن الفرق الإسلامية قامت بسبب التعارض الذي يحتويه القرآن.
- ويقول (هنري جونستون): القرآن ليس سوى مجموعة أقوال مقتبسة من التوراة والإنجيل وبعض تعاليم المجوس، وأنه يحتقر المرأة، وقد اشتهر الإسلام بكونه غير قابل للتكيف لما يطابق أحوال الزمان والمكان.
وقد أشار مستر جب كبير الستشرقين الإنجليز في كتاب "الأدب العربي" الذي أصدره عام 1963 إلى أن القرآن من صياغة محمد. وقد ردد هذه الشبهات كثير من كتاب التغريب والشعوبية، ونشرها بيننا عدد ممن يكتبون باللغة العربية في صحف مشبوهة تصدر في بعض عواصم العالم العربي كما حاول آخرون أن يزجوا بهذه الشبهات في بعض الرسائل والأطروحات والمؤلفات.
وقد كان مصدر هذه الحملة على القرآن الكريم أساسًا هو الإيمان الأكيد بأن القرآن هو المصدر الأول والأساسي لمقومات الفكر العربي الإسلامي وأن إثارة الشبهات حوله إنما هو هدف كبير في سبيل القضاء على هذه المقومات، وقد بدأ ذلك في عبارات الاستعماريين أمثال (غلادستون) رئيس وزراء بريطانيا الذي حمل المصحف أمام أعضاء مجلس العموم البريطاني وقال: ما دام هذا الكتاب باقيًا في الأرض فلا أمل في إخضاع المسلمين.
ويتصل بهذا ما ذكره كرومر من اتهامات للقرآن من أنه هو المصدر الأول لتأخر المسلمين، غير أن هذه الشبهات لم تكن صادرة إلا عن تعصب أو خصومة أو دوافع استعمارية، وروح صليبية.
(2/479)
________________________________________
* قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
* وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8 - 9].
- هل رأوا إلا كلامًا تضيء ألفاظه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح، يريدون أن يطفئوا نور الله وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تطفيه، ونور القمر من كف يحسب صاحبها أنها في حجمة فيرفعها كأنما يخفيه! وهيهات هيهات دون ذلك درج الشمس وهي أم الحياة في كفن، وإنزالها بالأيدي وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن.

* الاستشراقيون الصليبيون ومؤامرة ابتعاث الفكر الوثني الهليني والباطني والصوفي الفلسفي والشعوبي وتمجيد الفرق الضالة لضرب فكرة التوحيد في الصميم:
لقد كان من أخطر التحديات التي واجهت الإسلام في العصر الحديث ما قام به الصليبيون والاستشراقيون ودعاة التغريب من إحيائهم للفكر الوثني والغنوصي القديم الذي كان معروفًا قبل ظهور الإسلام والفكر الذي يجمع بين الوثنية والإلحاد والإشراق والمادية والذي عرفه العرب والمسلمون بعد ترجمة الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية وظهر أثره في الفلسفة وعلم الكلام والتصوف والدعوات الباطنية المتجددة عن المجوسية وغيرها. وكذلك ما فعله هؤلاء الصليبيون وأذنابهم من إعادة كتابة تاريخ القرامطة والزنج وغيرهم من الحركات الضالة على أنها ثورات عدل وحرية، وكذلك إلقاء
(2/480)
________________________________________
السموم بنشر كتب التصوف الفلسفي وأخبار الحلاج وابن عربي والسهروردي وابن سبعين وطبع كتب وحدة الوجود والاتحاد والحلول ونشر شعر ابن الفارض وتجديد صفحات هذا الركام المضطرب العفن كمحاولة خسيسة (لاحتواء الإسلام)، ثم محاولات من تربوا على مائدة الفكر الغربي وخانوا أمتهم في الصميم وكانوا أذنابًا للمستشرقين مثل محاولات زكي نجيب محمود بتحسين كتابات الاعتزال وابن الراوندي، أو كتابات عبد الرحمن بدوي بإعلاء التصوف الفلسفي والحلول والاتحاد، أو كتابات محمود إسماعيل بإعلاء حركات القرامطة والزنج أو اتجاه الدكتور محمود الشنيطي إلى إحياء ابن عربي، أو طه حسين إلى إحياء رسائل إخوان الصفا، أو ماسينون وصلاح عبد الصبور إلى إحياء الحلاج، أو عباس صالح وعبد الرحمن الشرقاوي وطه حسين إلى تفسير إحياء الإسلام تفسيرًا ماركسيًّا أو ماديًّا، كل هذه المحاولات تدخل في نطاق المؤامرة على الإسلام أو إعادة محاولة "احتواء الإسلام الأولى" التي كانت في القرن الرابع الهجري وابتعاثها في القرن الرابع عشر الهجري، كذلك فإن الدعوات القاديانية والبهائية والروحية الحديثة هي أيضًا محاولات جديدة في نفس الطريق.
- اهتم الاستشراق ودعاة التغريب والغزو الثقافي بالمعتزلة ووصفوهم بأنهم أغارقة الإسلام الحقيقيون أو المعتزلة العظام.
"وتصدى لهم قديمًا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة ثمانية عشر عامًا ووقف سدًا منيعًا أمام الاتجاه إلى الفكر الفلسفي المتهور الذي قال عنه الشافعي "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا بتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس".
ثم يأتي أحمد أمين ويقول: إن المسلمين ضعفوا وتخلفوا؛ لأنهم لم يأخذوا بأسلوب المعتزلة العقلاني .. وتصدى أئمة السلفية لتقديم العقل على النقل وانتصر المذهب الفلسفي.
(2/481)
________________________________________
* إِحياء الفكر الصوفي الفلسفي على يد المستشرقين الصليبيين:
"أسدل الزمان ستار النسيان على كتب التصوف الفلسفي القديمة حتى جاء المستشرقون ينقبون عن مادة جديدة للفتنة يؤججون بها نيران الخلاف بين المسلمين من جديد فوجدوا ضالتهم في آثار الصوفية الفلسفية فأقبلوا عليها وقرأوا في ضوء العقلية المسيحية وطقوس الرهبنة أخبار المتصوفين الفلاسفة وكتاباتهم واستهوتهم أفكارهم فجمعوا من أقوال الصوفية الفلاسفة كل شاردة وواردة وعنوا بتنظيم موضوعاتها وترتيبها حتى يمكن القول: أن بحوث التصوف الحديثة وكتاباته كلها ترجع إلى عمل المستشرقين الذين اهتموا فوق ذلك بالتعليق على موضوعاته وتوجيه مسائله الوجهة التي يرضونها بما عُرِف عنهم من مهارة وصبر للتشكيك في عقيدة المسلمين وطعن المسلمين في أغلى مقدساتهم وهو التوحيد، وابتعثوا من جديدة الفكر الصوفي الفلسفي ممثلاً في نظريات وحدة الوجود والحلول والاتحاد والفناء والتناسخ والاستشراق وهي مفاهيم دخيلة على عقيدة المسلمين.
- وقد تخصص عدد من المستشرقين في هذا النوع من الفكر الإسلامي أهمهم: ماسينون وجولد زيهر، وجب، وبرون، وماكدونالد، ومارجليوث اليهود، ونيكلسون وفون كريمر.
ودرس المستشرقون الفرق المنحرفة، فدرس ماسينون التصوف الفلسفي والباطنية والقرامطة والنصيرية واهتم بأهل الباطن والتأويل، واهتم أكثر من غيره بدراسة الاتحاد والحلول والإشراق ووحدة الوجود.
- ولا شك أن التصوف الفسلفي يتعارض تمامًا مع المفهوم الإسلامي الأصيل، والذين قالوا به تأثروا بالأفلاطونية المحدثة وبالعناصر التي أدخلها إخوان الصفا من إغريقية ومسيحية وفارسية الأصل ومنها المذهب المانوي والزرادشتي وفلسفة فيلون اليهودي وفلسفة الرواقيين.
(2/482)
________________________________________
- آسين بلاسيوس وكتابه عن ابن عربي "مفكر الإسلام المتنصر".
وقد أشار آسين بلاسيوس في كتابه عن محيي الدين بن عربي إلى تأثير النصرانية في مفاهيمه.

* لويس ماسينون والكتابة عن الحلاج وإحياء فكره طيلة أربعين سنة:
لقد عُني لويس ماسينون بأخبار الحلاج أربعين سنة يبحث عنها ويمليها ويعيد طبعها ويضعها سمومًا بين أيدي المثقفين في هذا العصر، حريصًا أشد الحرص على أن ينفي الصلة بينه وبين القرامطة، وقد واجه الدكتور محمود قاسم هذه القضية وكشف وجه الحق فيها قال: بدأ ماسينون شديد الحرص على نفي الصلة بين الحلاج والقرامطة وظل يؤكد على أن هذا المتصوف لم يكن داعية سياسيًّا إلا أنه انتنهى به الحب الإلهي إلى التضحية بنفسه على مذبح الحب، كذلك يؤكد لنا دون ملل أن الحلاج كان متصوفًا سنيًّا أراد تعميق الروح الدينية في بيئة جفّت عاطفتها الروحية، وقد ظن ماسينون وبعض تلاميذه أن الحلاج الذي قال بحلول الله فيه يعد جسرًا بين المسيحية والإسلام السني. ومع ذلك فإن هذا الحرص الشديد على نفي الصلة بين الحلاج والقرامطة قد يؤذن على عكس ذلك بوجود هذه الصلة بينه وبينهم، وقد اعترف ماسينون في موطن ما من كتابه عن الحلاج بأن موقف هذا المتصوف من فريضة الحج كان سببًا في إدانته ومصرعه، وأنه جرد مكة من أفضليتها مما شجع القرامطة على مهاجمتها والفتك بالحجاج ومحاولة هدم الكعبة ونزع الحجر الأسود منها ثم إرساله إلى هجر حيث بقى هناك نحوًا من اثنين وعشرين سنة.
وقد قال الإمام الجويني إمام الحرمين أن الحلاج كان من دعاة القرامطة.
وكانت قائمة اتهامات الحلاج التي حوكم بسببها في أيام الخليفة المقتدر أنه
(2/483)
________________________________________
اتهم بمعارضة القرآن، وذكر إمام الحرمين في كتابه "الشامل" إنه كان بين الحلاج وبين الجنابي رئيس القرامطة اتفاق سري على قلب الدولة وأن هذا هو السبب الحقيقي في قتل الحلاج، وقوله بالحلول.

* بروكلمن وا. رتين وفادي برج وماسينون وكراوس وهنري كوربان والاهتمام بمذهب الإِشراق وصاحبه السهروردي:
ومذهب الإشراق مذهب يوناني مستفاد من نظرية الأفلاطونية المحدثة قال به السهروردي وهو جماع شطائر من الفلسفة اليونانية الوثنية والفلسفة المجوسية الفارسية، وجماع آراء وتيارات راجت عن السريان وانتقلت إلى الفكر الإسلامي في عصر الترجمة، وتنسب الحكمة الإشراقية إلى أفلاطون ثم إلى دعاة الأفلاطونية الجديدة في مدرسة الإسكندرية، ومذهب الإشراق خارج تمامًا عن مفهوم الإسلام ويعبر عن الله بالنور ويصف العوالم بأنها أنوار مستمدة من الله، وهو ما لم يقل به القرآن أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة ولقد اهتمت طائفة من المستشرقين بالسهروردي ونظريته؛ ونبشوا الكتب القديمة التي كشف المسلمون عن زيفها، فأعاد المستشرقون طرحها في أفق الفكر الإسلامي لإثارة الشبهات والشكوك في نفوس بعض المسلمين الذين لم يتسلحوا بدراسة عقيدة السلف أهل السنة والجماعة.
وكان بروكلمن وا. رتين، وفادي برج من أوائل هؤلاء، فترجموا "هياكل النور" للسهروردي، وقام ماسينون صديق الحلاج بالاهتمام برسائل السهروردي التي جمعها تحت اسم الحكمة المشرقية، وأولى ذلك اهتمامًا كبيرًا باول كراوس، وهنري كوربان وقال هؤلاء: إن شخصية السهروردي وكتبه تمثلان لحظات جوهرية في تاريخ الفكر الإسلامي، وتابعهم في ترجمة ذلك والاهتمام به عبد الرحمن بدوي وإبراهيم مدكور وأحمد أمين.
(2/484)
________________________________________
ومذهب السهروردي زائف مضلل ووافد وليس من الإسلام في شيء، والسهروردي معطل في عقيدته انحلال وانحراف بل وردة، يقول: إن الله قادر على أن يرسل نبيًّا بعد محمد وأنه يعني بذلك نفسه، وهو يصف الله بأنه نور الأنوار، ويستعمل نظرية العقول العشرة الوثنية اليونانية تحت اسم الأنوار، وقد دافع عنه ونشر فكره سامي الكيالي. وقد كان دنس الثياب، وسخ البدن، لا يغسل له ثوبًا ولا بدنًا وقُتل عام 632 هـ بأمر من الناصر صلاح الدين الأيوبي.

* إميل درمنجم وكتابه "خمرية سلطان العاشقين" وابن الفارض والحلول والاتحاد:
أَوْلى المستشرقين ابن الفارض اهتمامًا واسعًا، وترجم إميل درمنجم ما أسماه "خمرية سلطان العاشقين" وقدّم لها مقدمة عن التصوف، وقال: إنها ستلقى ما لا يقلّ عما لقيته رباعيات الخيام من الحظوة. وقد تُرجِم شعر ابن الفارض إلى اللاتينية منذ القرن السابع عشر، وإلى الإيطالية والألمانية والإنجليزية.
وقد ناقش فكر ابن الفارضُ وأدانه البقاعي في كتابه "تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد"، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وعز الدين بن عبد السلام وابن دقيق العيد والبلقيني، وتقي الدين السبكي وبدر الدين بن جماعة وزين الدين الحنفي.

* الاستشراقيون وإِحياء الفكر الفلسفي:
وقف الإسلام من تراث الفلاسفة المترجم من اليونانية والفارسية والهندية موقفًا واضحًا وهو أن هذه المدرسة التي اشتغلت بالفلسفة وعلى رأسها الكندي وابن سينا والفارابي هي امتداد للمدرسة اليونانية الإغريقية
(2/485)
________________________________________
أنها ليست نتاجًا إِسلاميًّا خالصًا.
وذهب طه حسين ولطفي السيد وإبراهيم بيومي مدكور من أن منطق أرسطو سيطر على بعض دوائر الفكر الإسلامي.
ومنذ جاء المستشرقون يدرسون مادة الفلسفة في الجامعة وهم يفرضون مفهومًا زائفًا هو أن الفلسفة الإسلامية هي فلسفة يونانية مكتوبة باللغة العربية.
- وظن بعض التغريبيين أن للفكر اليوناني مكانة وأثرًا في الفكر الإسلامي من قَبْل جديرة بأن تجعل لوليده الفكر الغربي أثرًا في الفكر الإسلامي الحديث. "تلك هي أخطر الدعاوي التي حملها طه حسين وهي قمة المؤامرة على الإسلام.
- وحاول أهل التغريب إحياء أرسطو وتكوين هالة ضخمة حوله (طه حسين ولطفي السيد وإبراهيم بيومي مدكور)، وردّ عليهم أهل الأصالة أصحاب الفكر الإسلامي الصحيح.

* إِحياء الفكر الباطني الشعوبي:
بدأت كتابات المستشرقين تدافع عن الباطنية والقرامطة والزنج وتعتبر هذه الحركات دعوات إصلاحية، وتصورها على أنها ثورات قامت باسم الإسلام.
وتوزع التغريبيون على مجالات الأدب والتاريخ فوجدنا من يموه ويكذب ويزيف ويبث سموم دجله ويعيد الكتابة في فضل أبي نواس وبشار ابن برد وحماد عجرد ومطيع بن إياس، وهناك من أعادوا الكتابة عن حركات القرامطة والزنج والراوندية، وهناك من جدد فكر إخوان الصفا وبعث رسائلهم كطه حسين، وهناك من قدم ابن سينا والفارابي على أنهم قمم من
(2/486)
________________________________________
أعلام الفلسفة والفكر. ولا يراد من وراء هذا كله إلا ضرب الإسلام في الصميم ونشر الوثنيات والإباحيات.

* الاستشراقيون نيكلسن وجولد زيهر وأوليري وكازنوفا وتعريب "رسائل إخوان الصفا":
كان لبول كازانوفا السبق في إظهار رسائل إخوان الصفا في العالم الغربي 1899، ولا ريب أن اهتمام الاستشراق والتغريب بهذه الرسائل كان بالغًا، ولذلك فإن جماعة منهم (نيكلسن - جولد زيهر - أوليري) بالإضافة إلى كازانوفا قد وضعوا عددًا من الأبحات حولها.
- يقول أوليري: هناك ما يُغري بأن حركة إخوان الصفا كانت حركة إصلاح من جانب بعض الإسماعيليين أرادوا الرجوع إلى تعاليم الإسماعيلية القديمة.
- ويقول جولد زيهر: أعتقد أن رسائل إخوان الصفا كانت الأساس الذي بُنيت عليه معتقدات الإسماعيلية.
ولذا قامت المطبعة الكاثوليكية في بيروت بإعادة طبع هذه الرسائل، ثم جاء الدكتور طه حسين من أوربا 1929 م ليعيد طبع رسائل إخوان الصفا وادعى الدجال طه حسين أن إخوان الصفا قوم مجددون مصلحون قدموا للمجتمع الإسلامي الفلسفات الهندية والفارسية واليونانية لإنشاء ثقافات جديدة، وهي الثقافة التي يجب على الرجل المستنير أن يظفر بها وكان على طه حسين أن يبين للناس أن هذه الرسائل تعارض مفهوم الإسلام الأصيل في عدة أمور:
أولاً: إنكار البعث بالأجساد.
ثانيًا: تفسير الجنة والنار تفسيرًا مخالفًا لما تواتر عند المسلمين.
(2/487)
________________________________________
ثالثًا: تفسير الكفر والعذاب تفسيرًا باطنيًا معنويًّا.
رابعًا: قولهم بأن النبوة يمكن اكتسابها عن طريق الرياضة.
خامسًا: قولهم بإسقاط التكاليف.
ومن أشد فساد عملهم محاولتهم صهر الأديان والعقائد كلها في صورة زائفة، ومن ذلك قولهم: الرجل الكامل يكون فارسي النسب عربي الدين عراقي الآداب عبراني المخبر مسيحي النهج شامي النسك يوناني العلم هندي البصيرة صوفي السيرة ملكي الأخلاق.
تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما جدوا، وحاموا وما وردوا، ونسخوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا، حصلوا على خرافات وتلفيقات وتلزيقات ولوثات قبيحة ولطخات ناضجة، وألقاب موحشة، وعواقب مخزية، وأوزار مثقلة.

* المستشرقون وأذنابهم ودعاة الباطنية كابن المقفع وابن سينا والفارابي وابن الراوندي:
حظي دعاة الباطنية الذين حملوا سموم هذه النحلة بتقدير كبير من رجال التغريب، وكان لهم القدح المعلى لدى حركة الاستشراق والتبشير، فكتبت الأبحاث الطول حول عبد الله بن المقفع، وابن سينا، والفارابي، وابن الراوندي، ووضعوا جميعًا مواضيع التمجيد والتقدير، واحتفل بهم في ميادين مختلفة منها ميادين الأدب والتاريخ والفلسفة.
- وألف طه حسين كتاب الفتنة الكبرى لتبرئة اليهودي عبد الله بن سبأ.
- ويأتي ابن المقفع الزنديق فيُعلي من شأنه طه حسين وأحمد أمين وبطرس البستاني ويقرر طه حسين كتاب كليلة ودمنة مع ما فيه من سموم على طلاب المدارس الثانوية.
(2/488)
________________________________________
- قال الخليفة المهدي عن ابن المقفع: ما وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع ووصف دعاة التغريب ابن المقفع بأنه من أعلام الفكر الحر وأنه مصلح اجتماعي. وهم يعلمون أنه أكبر طاعن على الإسلام، قدّم أول ما قدم للقضاء على نظام الإسلام الاجتماعي "كتاب مزدك" ثم كتاب "بروزيه" ليثبت تناقض الأديان وبخاصة الإسلام.
وكشف إبراهيم أبو القاسم في كتابه "الرد على اللعين عبد الله بن المقفع" أنه كان يعارض القرآن.
ويكفي لزندقته "باب بروزيه" الذي أضافه إلى كتاب "كليلة ودمنة" قاصدًا به تشكيك الناس في دينهم.
ثم اتصالاته بخلفاء الشعوبيين والمجان المتهمين بالزندقة من أمثال إقبال البقلي (الذي أنكر البعث والقيامة) وعمار بن حمزة وأبان اللاحقي وسهل بن هارون وحماد عجرد. ولقد ارتبط اسم ابن المقفع بالزندقة عند ابن خلكان والبيروني والصفدي.
- ومما يردده دعاة التغريب الثناء على الباطنية أنها حاولت أن تعيد للمرأة حقوقها وحريتها وكذلك وصفت المشاعية والدعارة التي دعت إليها وأقرّتها هذه الجماعات بأنها حركة تقدمية للمرأة (1).
كيف يمكن من يستخرج فكر بابك الباطني ويقدمه مرة أخرى للمسلمين على أنه فكر تقدمي أو اشتراكي، وكيف يمكن أن توصف هذه الحركات الباطنية المتآمرة بأنها حركات عدل اجتماعي كما صورها طه حسين وجماعة المستشرقين ودعاة التغريب (2).
__________
(1) "مقدمات العلوم والمناهج" (1/ 517).
(2) المصدر السابق (1/ 518).
(2/489)
________________________________________
* وهكذا اتسع نطاق المؤامرة على الإِسلام:
عمدوا إلى إحياء هذا الركام العفن الذي مرّ سابقًا وإعادة طبعه ونشره.
بدأت هذه المرحلة عام 1909 بكتاب ماسينون حتى حمل لواءها طه حسين 1926 بعد سقوط الخلافة ثم جددعا عبد الرحمن بدوي 1946 ثم جاء زكي نجيب محمود منذ عام 1967 وفي ظل النكسة لإحياء هذا التراث على نحو جديد:
1 - نشر لويس ماسينون كتابات الحلاج والسهروردي وفريد الدين العطار وابن سبعين.
2 - نشر جولد زيهر كتابات صالح بن عبد القدوس.
3 - نشر كريمسكي عن أبان بن عبد الحميد اللاحقي.
4 - نشر فرنسسكو جيريلي وباول كراوس عن ابن المقفع.
5 - نشر باول كرواس عن ابن الراوندي.
6 - نشر فرنسسكو جبريلي عن بشار بن برد.
7 - نشر باول كراوس عن محمد بن زكريا الزنديق.
8 - ما كتبه آسين بلاسيوس عن ابن عربي.

* ثم جاء دور التغريبيين:
فقاموا بدورهم على أتَمِّ وجه:
1 - كتب طه حسين عن الزنادقة بشار بن برد وأبي نواس وحماد وأبان ابن عبد الحميد وجدد طبع آثار ابن المقفع ورسائل إخوان الصفا.
2 - كتب عبد الرحمن بدري كتابيه "شخصيات قلقة" و"من تاريخ الإلحاد في الإسلام" تناول فيهما الحلاج والسهرورد" وابن المقفع وابن الراوندي والرازي، وقدم شطحات الصوفية عن أبي يزيد البسطامي ورسائل
(2/490)
________________________________________
ابن سبعين وترجم ما كتبه آسين بلاسيوس عن ابن عربي، وبذلك أحيا قدرًا كبيرًا من ذلك التراث الغنوصي المجوسي القديم، وإن كان ما قدمه كمترجمات لآثار المستشرقين.
4 - أما الدكتور زكي نجيب محمود في كتابيه "تجديد الفكر العربي"، و"المعقول واللامعقول في التراث العربي" فقد أعاد صياغة الفكر البشري الوثني الغنوصي صياغة جديدة.
- وتتمثل حركهّ تجديد الفكر البشري في عدة ظواهر:
أولاً: إعادة كتابة تاريخ القرامطة والزنج والباطنية على أنها حركات عدل وحرية أو ثورات إسلامية ومن ذلك ما كتبه محمود إسماعيل عن الحركات السرية في الإسلام.
ثانيًا: إعادة الدعوة للاعتزال والراوندية على النحو الذي حاوله زكي نجيب محمود.
ثالثًا: إعادة طبع كتب وحدة الوجود والحلول والاتحاد مثل طبع كتب ابن عربي والحلاج.
رابعًا: محاولة فرض منهج التفسير الماركسي للتاريخ كما فعل أحمد عباس صالح فيما أسماه اليمين واليسار في الإسلام.
خامسًا: محاولة لطفي السيد ترجمة كتاب الأخلاق لأرسطو والقول بأن فلسفة أرسطو هي مصدر النهضة العربية الحديثة.
وترجمة تمام حسان لكتاب "مسالك الثقافة الإغريقية إلى العرب" تأليف أوليرى.
وكتاب "الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام" لإبراهيم بيومي مدكور.
(2/491)
________________________________________
- وهناك شطحات الصوفية لعبد الرحمن بدوي، ورسائل ابن سبعين.
- وجدد عبد الرحمن بدوي في كتابه "تاريخ الإلحاد في الإسلام" الحديث عن الزنادقة وترجم لهم بتوسع، وأرخ لهم ووضع فكرهم مجددًا أمام المثقفين العرب ويتحدث عن طالوت ونعمان وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء وأبي عيسى الورّاق وبشار وحماد وأبان بن عبد الحميد وأبو العتاهية ويؤلف سيد حسين نصر الإيراني عن ابن سينا والسهروردي وابن عربي كتابًا تحت اسم حكماء مسلمين.

* مرة أخرى مع الحداثي أحمد عبد المعطي حجازي:
متى يكف الشاعر الكبير عن تصدير أفكاره؟
عبد المعطي حجازي انتقد كل ما هو ديني "حتى السلام عليكم"! في منتدى الحوار بمكتبة الإسكندرية والذي استضاف الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. - بدأ حجازي حديثه بالدفاع عن (نصر أبو زيد) ودعوته لتبني خطاب عقلاني جديد بدلاً من الخطاب الموحد للأزهر ودار الإفتاء وما أسماه الجماعات المتطرفة، ولم ينس حجازي الإشادة بالمؤتمر الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة وإعلان (القاهرة الثقافي)!! وقال: إن الكلام عن تجديد الخطاب في وادٍ والعمل على تجديده في وادٍ آخر؛ لأن الكثيرين من علماء الدين يمنعهم الكسل العقلي من متابعة التطورات الفكرية فيخلطون بين تجديد الخطاب وتجديد لغة الخطاب اعتمادًا على المقولة الشائعة "خاطبوا الناس على قدر عقولم". ويبدو أن حجازي خانته الذاكرة فلم يعرف أن صاحب المقولة هو سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-!!
- وبدأ حجازي وصلة هجوم على البرنامج الشهير (العلم والإيمان)
(2/492)
________________________________________
قائلاً: إن (السيد) الذي كان يقدمه في التليفزيون يعرض لقطات تسجيلية من عالم النباتات والحيوانات والنجوم ويكتفي فقط بالتعجب قائلاً (سبحان الله) يقصد الدكتور مصطفى محمود ولم يشأ حجازي ذكر اسمه.
- ويقول حجازي إن البرنامج (يزعم) وجود علاقة بين العلم والإيمان وهي غير موجودة بالطبع!!! وأكَد حجازي أن هناك خلطًا واضحًا بين العلم والدين بدليل وجود لفظ شائع اسمه (الطب النبوي) وهو غير صحيح أيضًا -على حد زعم حجازي- وهاجم حجازي صحيفة (الأهرام) التي يكتب بها مقالاً أسبوعيًّا؛ لأنها تخصص صفحة كاملة تحت عنوان (الإعجاز العلمي للقرآن) مشيرًا إلى أنه موضوع غير صحيح ولا يستحق المناقشة لأن من يكتبون فيه يزعمون أن القوانين التي اكتشفها علماء العصور الحديثة في الطبيعة والفلك والكيمياء موجودة في القرآن وهذا بالطبع غير صحيح -على حد زعم حجازي- لأن النصوص الدينية تخاطب القلب وإن كانت تخاطب العقل أيضًا ولكن لتجعله ينظر في السموات والأرض لا لكي تلقنه نظريات العلم وإلا لو كانت النظريات والقوانين موجودة في القرآن فلماذا لم نعرفها قبل غيرنا؟ ولماذا لا نغلق الجامعات ونكتفي بالتعليم في الكتاتيب؟! والعجيب -كما يشير حجازي- أن المهتمين بموضوع الإعجاز في القرآن تجند لهم أجهزة الإعلام لكي يقنعونا بأن العلم ليس إنسانيًّا وإنما مرتبط بالدين وأن العلم ليس جهد الإنسان واكتشاف العقل ولكنه موجود وعلى هؤلاء أن يستخرجوه من النصوص الموجودة سلفًا ويريدون أن ينزعوا عن الإنسان كل مجد ويحرموه من كل فضيلة ويصوروه متلقيًا فقط عاجزًا عن المعرفة والإضافة والإبداع من منطلق مقولة: "إن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" ..
ويبدو أن حجازي نسي أنه حديث شريف يتحدث عن البدعة وليس الإبداع!!! - وهذا في رأيه خطاب العصور الوسطى لحصر العمل في العبادة
(2/493)
________________________________________
والتسليم والنتيجة هي الوجود السلبي في الحياة، يساعدهم على هذا الزعم أنهم يخاطبون في الناس ما يحبون وأننا نحتاج لمن يقول لنا أننا قد سبقنا إلى كل شيء مع إننا في الحقيقة لم نسبق لشيء، وإن كنا سبقنا فقد تركنا السبق وغرقنا في عصر الانحطاط!!
- هاجم حجازي أيضًا (أسلمة العلوم) ووصفها بأنها نشاط محموم تنفق عليه بعض الدول العربية بسخاء ليكتسب العلم صفة الإيمان ويصبح سلاحًا من أسلحة العقيدة وهي في الحقيقة دعاية سياسية ومحاولة كسب الحصانة من الدين.
والأغرب من ذلك .. أن حجازي هاجم أيضًا تحية الإسلام (السلام عليكم) قائلاً إننا لكي نثبت وجودنا في ثورة الاتصالات نحاول إلغاء الصيحة العالمية المتفق عليها (آلو) ونستبدلها بكلمة (السلام عليكم) وأنا لا أفهم كيف أتصل بشخص تليفونيًّا ويرد قائلاً: (سلامو عليكو) لماذا؟!!!!!!!
- وقال حجازي: إننا ما دمنا نشك في قدرة العلم والإنسان والعقل البشري على انتهاك كل الأسرار والحجب فنحن نعيش في العصور الوسطى ونخاف الحياة ونعجز عن التحكم في مستقبلنا ونشعر بالنقص ونكتفي بالحديث عن التميز والخصوصية واعتزال (الآخر) وأصبحنا عالة على غيرنا من الغرب الذين يحبون الحياة ويفهمون أسرار الطبيعة ويتحكمون فيها ويخضعونها بينما نحن نحتقر الحياة ونتصورها مجرد (حياة عابرة) يجب أن نمر مرورًا سريعًا إلى الحياة الباقية؛ لأن الحياة التي نعيشها (لهو ولعب) ونكتفي بالفخر أن لنا (الحياة الباقية) ولهم (الحياة الفانية)!! (1).
الإسكندرية - جيهان حسين
__________
(1) مقال لجيهان حسين - جريدة الأسبوع العدد 342 - 25 رجب 1424 هـ، 22 سبتمبر 2002 م.
(2/494)
________________________________________
* خليل عبد الكريم و"سنوات التكوين":
كتب وائل لطفي:
أصدر مجمع البحوث الإسلامية يوم الأربعاء الماضي قرارًا بحظر تداول وطبع كتاب "سنوات التكوين في حياة الصادق الأمين" لمؤلفه خليل عبد الكريم بناء على تقرير قدمته إدارة الثقافة والبحوث في المجمع وكتبه الشيخ عبد العظيم المطعني الأستاذ بكلية اللغة العربية.
"اعتمد الأعضاء في اتخاذهم للقرار على تقرير الشيخ المطعني الذى اتهم الكتاب بإنكار الديانات السماوية والإساءة للرسول - صلى الله عليه وسلم -" (1).

* الحداثيون إِباحيون يضج من إِباحيتهم قوم لوط عاملهم الله بما يستحقون:
هؤلاء الحداثيون الاستعلائيون الظلاميون الإرهابيون فقدوا كل شيء بعد أن اتُّهم أبو زيد أكاديميًّا بـ "الجهل وتزوير النصوص" وقضائيًّا بـ "الردة"، وأكدت ما ذكره (أدونيس) وهو واحد من أكثر الحداثيين العرب تطرفًا، عندما قال: "إن الحركة الحداثية، تمتلئ بالحواة والمهرجين" (2) .. بيد أن اكتمال المحنة التي أجهزت على "الحداثة"، في عالمنا العربي تقريبًا، جاءت بعد إسدال الستار على قضية (أبو زيد)، بخمس سنوات، عندما أصدرت وزارة الثقافة المصرية، رواية "وليمة لأعشاب البحر" للسوري (حيدر حيدر)، وهي من النوع الذي ينتمي فنيًّا إلى ما يسمى بـ "أدب الجسد"، والأخير يمثل رافدًا من روافد "الحداثة"، في الشعر والرواية، والمسرح، والسينما. ويرجع هذا النوع إلى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، عندما ظهرت مجموعة من الأعمال
__________
(1) روزاليوسف العدد (3809) (ص 18) 15/ 6/2001.
(2) ذُكر هذا النص في كتاب "شعر الحداثة في مصر دراسات وتأويلات" لإدوارد الخراط (ص 622).
(2/495)
________________________________________
تناولت حياة (البغايا) وطقوسهن في العوالم السفلية والمخملية، ابتداء من اللبناني (توفيق يوسف عواد) في روايته (الرغيف) عام 1939، ومرورًا بالشاعر العراقي (بدر شاكر السياب)، في قصيدته "المومس العمياء" عام 1953، وصولاً إلى المصري (نجيب محفوظ) في ثلاثيته "بين القصرين" عام 1956، وفي "قصر الشوق" و"السكرية" عام 1957.
كان هذا المنحى -في بداياته الأولى- يتحفظ في الولوج إلى وصف (تضاريس الجسد)، بشكل مبتذل ورخيص ومسموم، على النحو الذي بلغه في الثلاث عقود الأخيرة من القرن الماضي باسم "الحداثة"، ويكفي في هذا السياق أن نعرض قائمة سريعة ببعض العناوين لهذا النوع من (الأدب):
"شهوة ملتبسة" لـ نضال حمرانة، "أوهام أيروسية" لـ مي زيادة، "لواطيات الجنابي" لـ عبد القادر الجنابي، "رائحتي شهية كالنعناع" لـ ليلى العثمان، "عن صبي يفوح جنسًا" لـ غالب هلسا، "جسد سعاد حسني" لـ عناية جابر، "في سرير الرفيقة" لـ سعدي يوسف، "هكذا أفهم الجسد" لـ صباح خراط، "أنا والعادة السرية" لـ حميد العقابي، "اغتصبت في صباي" لـ خالد المعالي، "ملح على ثدي يرتعش"، "خواطر سحاقية" لـ عالية شعيب، "حلمت بحيوان يضاجعني" لـ دني طالب!! مع ذلك فإن هذا "التحفظ " -الذي ميّز جيل خمسينيات القرن الماضي- لم يعفه من مسئولية التأسيس، لنوع من الكتابات تعتمد على "لغة الجسد"، وإطلاق حريته في تلبية شهواته، ووصف مواقعة الذكر للأنثى من جهه، ومواضع العفة لديهما من جهة أخرى بلا حياء، وهو منحى يترتب عليه بالتبعية، الاستهزاء والاستخفاف بكل ما يعتبره معوقًا من معوقات التعبير عنه، وعلى رأسها التقاليد الاجتماعية المحافظة، والثقافة الدينية الحاضنة لها.
- ورغم أنه في سبعينيات القرن الماضي، ومع ما لاقته الحداثة من تَبَنٍّ
(2/496)
________________________________________
وترحاب ودعاية، قد تنامت النظرة إلى هذه "القوالب الفنية"، باعتبارها أنساقًا فنية تنتمي إلى منظومة التقاليد القديمة، التي تقتضي الحداثة تجاوزها بل وتدميرها، إلا أن الأعمال الروائية -التي رضعت من ثدي الحداثة، اتخذت من "الجسَد" قوام موضوعها الأساسي- أبقت على هذه الكراهية لـ "الشرعية الدينية"، بل واتخذتها هدفًا انتوت إنجازه كما فعلت القاصة الكويتية "عالية شعيب"، في قصتها القصيرة "ملح على ثدي يرتعش"، تروي بين سطورها تفاصيل علاقة سحاقية.
إن الفارق بين الجيلين (الذي عاش وكتب في النصف الأول من القرن الماضي، ونظيره الذي مارس الكتابة في نصفه الثاني)، كان في تمرس الأخير بـ "المجاهرة بالمعاصي"، باعتبارها "فعلاً حداثيًّا"!، فيما بينت التجربة، أنها كانت لإخفاء الضعف المهني والفني، الذي كان قاسمًا مشتركًا لجُل هذا الجيل.
- يقول الشاعر المصري فاروق جويدة: "منذ شهور تلقيت مجموعة قصصية لكاتبة .. وعندما بدأت أقرأ فيها، اكتشفت أن الكاتبة، غير قادرة على صياغة جملة عربية سليمة وكانت أفكارها مشوشة القصص جميعها تنحصر في تجربة امرأة تمارس الجنس مع نفسها" (1).
ثم إن كان هناك بعد "تبشيري - غربي"، ساعد على إنعاش مثل هذه "المجاهرة"، يفسر ذلك فاروق جويدة يقول: "إن هذه الكتابات تجد صدى واسعًا في الدوائر الغربية حيث تترجم كل يوم، ويتلقى أصحابها التهاني والورود والدعوات ويشاركون في المؤتمرات، والسبب في ذلك أن هناك تجارة رابحة في الغرب الآن ويستطيع أي كاتب عديم الموهبة، أن يقدم نفسه من
__________
(1) الأهرام المصرية 7/ 5/2000.
(2/497)
________________________________________
خلالها أن يكتب في الجنس ولغة الجسد .. أو يهاجم الإسلام" (1).
- ففي وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضي كتب المغربي (محمد شكري) روايته "الخبز الحافي" سجل فيها المؤلف "سيرته الذاتية"، وتجربته في ممارسة الجنس مع البغايا وغيرهن"، وحياة التشرد التي عاشها، وكيف انخرط خلالها في معايشة كل طقوسها ومفردات حياتها اليومية، من جنس وشذوذ ومخدرات وغيرها، والرواية بالمعايير الأدبية ضعيفة فنيًّا، ومبلغ القول فيها أنها "رواية ساقطة"، تحكي ذكريات رجل شاذ جنسيًّا؛ ولأنها كانت صادمة لمشاعر المسلمين، رفضت معظم دور النشر العربية نشرها، فيما وجد فيها الغرب (صيدًا ثمينًا)، يمكن توظيفه بوصفها (شهادة إدانة) عربية لما يعتبره الغرب (تقاليد إسلامية)، حيث ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية، فيما تكبد المستشرق الياباني (نوتوهارا)، مشقة السفر من اليابان إلى المغرب، لزيارة (محمد شكري) عام 1995، ليعمل على ترجمة الرواية، ويطلب إليه أن يرافقه في زيارة الأماكن التي وصفها في "الخبز الحافي"!! في الوقت ذاته يسارع الإسرائيليون إلى الالتحاق بطابور المهتمين بالرواية ومؤلفها ممثلين في "دار الأندلس" الإسرائيلية التي ترجمتها إلى العبرية (2) بل إن الجامعة الأمريكية بالقاهرة قبل منع تدريسها إثر احتجاجات طلابية واسعة في العام الدراسي 98/ 99 - أدرجتها بين المناهج المقررة على طلابها (مادة الأدب العربي)!

* صدام مروع مع الرأي العام:
بيد أن الحداثة كانت بـ "برج عاجيتها"، بعيدة عن أي صدام مباشر مع الرأي العام، ما أتاح لها تداول هذا النوع من الأدب، في دائرة ضيقة (بين
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) موقع الجزيرة نت - الثقافة والفن في 28/ 1/2001.
(2/498)
________________________________________
النخبة الحداثية فقط)، حتى عام 2000 عندما أصدرت وزارة الثقافة المصرية، رواية من هذا النوع وهي "وليمة لأعشاب البحر".
ويعتبر صدور الرواية -وبسعر زهيد، وفي أكبر سوق عربي (مصر)، وتتولى السلطات الرسمية (وزارة الثقافة) طبعها ونشرها- منعطفًا فاصلاً، في مسيرة الحداثة في العالم العربي.
حتى قبيل هذا الحدث، لم يكد أحد من العامة يعرف شيئًا عن الحداثة، في تجلياتها الفكرية والثقاقية والسياسية، كانت هناك مياه كثيرة مرت تحت الجسر، ونعني بها بعض الاشتباكات "العارضة" التي وقعت في الظل، انحسرت بالمصادرة السريعة (مثل الخبز الحافي، وبيضة نعامة في مصر)، و"الرحيل" و"في ليل تأتي العيون" ليلى العثمان، و"عناكب ترثي جرحًا" لعالية شعيب بالكويت، وبعضها خرج إلى العلن، وانتظمت مؤسسات أهلية ورسمية وإعلامية، في الجدل الواسع والعنيف الذي احتدم بشأنها. بيد أنها شكلت وعيًا "أوسع" بالبعد الأكاديمي والمنهجي للحداثة، وكان أبرزها أزمة (نصر حامد أبو زيد)، إذ إن الأخير استخدم "البنيوية الماركسية" في تأويل "النص القرآني"، الأمر الذي أفضى به في النهاية، إلى شكل من أشكال النكوص العقائدي، وإعادة إنتاج المواقف القرشية "الجاهلية" القديمة، من النبوة والوحي، على نحو ما أسلفنا فيما تقدم. هذا "النكوص" سدد (أبو زيد) فاتورته بالكامل من جهة، وشكلت محطة متقدمة، في مشوار الحداثة نحو "مواتها"، المهين والمذل، في بلاد العرب من جهة أخرى. غير أنه من المؤكد، أن أزمة "وليمة لأعشاب البحر" كانت هي المحطة اللاحقة والأخيرة في هذا المشوار.
- فإذا كانت الأولى بما خلفته من أدبيات -حتى في أشكالها القانونية التي صيغت في صورة مذكرات ادعاء أمام المحاكم، أو حيثيات ما أصدرته
(2/499)
________________________________________
الأخيرة من أحكام بشأن الأزمة- قد مثلت موات الحداثة العربية أكاديميًّا، لا سيما بعد ظهور كتابي د. عبد العزيز حمودة: "المرايا المحدبة" و"المرايا المقعرة"، رغم صدورهما في مرحلة متأخرة من الأزمة. فإن الأخيرة (أي رواية وليمة) أشعلت الحرائق، فيما تبقى من "مصداقية" أو "نجومية" لرموز حداثية كبيرة، ظلت ولعدة عقود تمثل "المخزون اللوجستي"، الذي تعهد النشاط الحداثي العربي (السري منه والعلني) بالحماية والدعم (بنوعيه المادي والإعلامي). أي أنها حرمت الحداثيين العرب الأقل والأقصر قامة، من مرجعيات كانت تفتح لها أبواب "أنشطة"، من "النوع" الذي يتحول إلى دولارات وشيكات وحسابات في البنوك من جهة، وتتعهدها بالتلميع الإعلامي الواسع والغير محدود من جهة أخرى: فمن المعروف أن رواية "حيدر حيدر"، كانت من النوع الذي لا يقترب فحسب -في توصيفه- إلى ما يشبه أفلام "البورنو الجنسية"، ولكنها نالت من (القرآن والسنة) بلغة مبتذلة ورخيصة، وبمفردات وخطاب تهكمي ساخر .. ويكفي هنا أن نستعرض خلاصة رأي مجمع البحوث الإسلامية، التابع لمشيخة الأزهر في الرواية، إذ يقول البيان:
- إن الرواية مليئة بالألفاظ والعبارات التي تحقر وتهين جميع المقدسات الدينية بما في ذلك ذات الله سبحانه وتعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم واليوم الآخر، والقيم الدينية.
- إن الرواية خرجت على الآداب العامة خروجًا فاضحًا وذلك بالدعوة إلى الجنس غير المشروع واستعمال الألفاظ في الوقوع وأعضائه الجنسية للذكر والأنثى بلا حياء؛ مما يعف اللسان عن ذكرها وكتابة نصها، حفاظًا على الحياء العام الذي انتهكته الرواية إلى آخر ما ورد في التقرير المشهور والمنشور.
ويكتسب ظهور رواية "وليمة"، بعد أزمة أبحاث نصر حامد أبو زيد،
(2/500)
________________________________________
أهميته من دورها في استكمال النصف الآخر من صورة "الحداثة".
فإذا كانت أزمة أبو زيد، قد انتهت بتوثيق تهافت الحداثة "أكاديميًّا"، فإن "وليمة" أماطت الستار. عن وجهها "السوقي" والمبتذل، شاءت الأقدار أن تأتي هذه "السوقية"، في المشهد الأخير من مشوار الحداثة العربية نحو نهايتها المخزية، ليظل هذا المشهد عالقًا، في وجدان الأمة ووعيها الجمعي، ولتختم لكل من دافع عن الرواية، وعن مؤلفها أو اعتبرها إبداعًا، بسوء الخاتمة.
ولعل هذه الخاتمة كانت هي الأخطر في مجمل نتائج هذا المشوار، إذ إن أسماء حداثية كبيرة خرجت من هذه المعركة، وقد فقدت سلطتها الأبوية بالكامل، التي كانت تمارسها على السلطات الثقافية الرسمية، ولعدة عقود مضت، وباتت تشبه "خيول الحكومة العجوزة"، ولم يمهلها وزير الثقافة المصري فاروق حسني -الذي كاد أن يفقد منصبه الوزاري بسبب الأزمة- أن تظل عبئًا عليه وعلى حكومته بعد أن احترقت (تلك الأسماء)، وكادت تحرق النظام السياسي بكامله.
بعد أزمة "وليمة" بدأت ملامح وتضاريس جديدة تتبلور، تشير في تدافعها وتلاحقها، إلى ما يمكن تسميته مرحلة "نهاية الحداثة" في عالمنا العربي وهي مرحلة يمكن الاستدلال على تشكلها بعدة علامات: ففي شهر مارس من عام 2000 أي قبل صدور رواية "وليمة" بنحو شهرين، ألقت سلطات الأمن المصرية، القبض على صلاح الدين محسن، بعد نشره رواية وصف فيها القرآن الكريم بأنه "كتاب الجهل البدوي المقدس"، وجرت محاكمة المؤلف متزامنة مع أجواء أزمة "وليمة"، وفي شهر يوليو من نفس العام، قضت محكمة أمن الدولة، بحبس صلاح الدين محسن "ستة أشهر مع وقف التنفيذ".
- وبادر البعض بتفسير هذا الحكم "المخفف" بأنه "انتصار" للحداثة،
(2/501)
________________________________________
و"هزيمة" لأعدائها، وأنه دلالة على قوة الحداثيين وقدرتهم على التأثير، أن الحكم جاء ثمرة خطابهم المدافع عن "حرية" التعبير وعن "الإبداع"، وأن منصة القضاء تأثرت (أو استجابت) لهذا الخطاب الحداثي.
وواقع الحال أن رد الفعل الرسمي من الدولة، لتبرير موقفها من نشر الرواية، كان مرعبًا ومخيفًا ومدعومًا بالمؤسسة الإعلامية الرسمية الضخمة والعاتية، وكانت شهادات الاتهام بـ "الظلامية" جاهزة لكل من هاجم الرواية أو اعتبرها إسفافًا لا إبداعًا .. حتى إن بعض من هاجموا الرواية في مستهل الأزمة، استجابوا للابتزاز الحداثي، وانقلبوا على أدبارهم في منتصف الطريق، خوفًا من أن ينالهم العلمانيون بأذى، وطمعًا في الإنعام الحداثي عليهم بلقب "المفكر المستنير"، وربما قد تأثر الحكم على "صلاح الدين محسن" بهذا المناخ، وبكل تفاصيله التي هدفت إلى ترويع النفوس والأفئدة غير أن هذا المشهد على الجهة الأخرى، كان أشد رعبًا للدولة، فالذي حدث كان أشبه ما يكون بـ "الاستفتاء العفوي" على شرعيتها، أي أن الأزمة وضعت "شرعية السلطة" على محك حقيقي، ونقلتها إلى اختبار بالغ الصعوبة، وأن عليها أن تختار، إما أن تستمد شرعيتها من "الحداثة" بنسختها المعادية للدين وللنسق القيمي العام للمجتمع، وإما أن تستمدها من دين الدولة الرسمي، والحاضن في الوقت ذاته، للمنظومة الأخلاقية والقيمية السائدة.
كانت قضية "صلاح الدين محسن"، هي المفصل الذي حسمت عنده الدولة خياراتها، حيث اعترضت النيابة العامة على الحكم (ستة أشهر مع وقف التنفيذ)، واعتبرته في "غاية الرأفة"، فيما رفض رئيس الوزراء د. عاطف عبيد المصادقة عليه، وقرر إعادة محاكمته، وقالت النيابة إن "كتبه تضمنت ازدراء للإسلام وإثارة للنقمة، ومسًا بالذات الإلهية، وإنه زعم أن
(2/502)
________________________________________
الدين الإسلامي هو السبب في تخلف الدول العربية، ودعا إلى قيام رابطة للملحدين".
وعلى إثره ألقي القبض عليه، وصدر في حقه حكم قضائي، بحبسه ثلاث سنوات مع الشغل والنفاذ. ومن اللافت أن رد فعل دعاة الحداثة العلمانية على الحكم، كان خافتًا ضعيفًا يكاد لا يسمعه أحد؛ بل إن اتحاد الكتاب المصريين، قرر فصل "الكاتب" من عضويته، وتبرأ "الجميع" منه، رغم أن ما حدث، لو قدر له أن وقع، قبل أزمة "وليمة لأعشاب البحر"، لأقام الحداثيون الدنيا وما أقعدوها .. وهو ما يعني أن ثمة واقعًا جديدًا، أفرزته تلك الأزمة" (1).
- وبعد يا أهل الحداثة .. لقد بلغ فسقكم وفجوركم إلى النهاية فعاملكم الله بما تستحقون وأخزاكم في الدنيا قبل الآخرة إن لم تتوبوا.
نعم ملة الإِسلام في الكون دوحة ... وفي ظلها يغدو الهدى ويُراوِحُ
على كل فرعٍ عندليب مغرّد ... وفي كل غصن بلبل الحق صادح
* وبعد دسائسهم ومكايدهم وكتاباتهم ومؤامراتهم وعفنهم يبقى الإِسلام:
* قال تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. يئسوا أن يبطلوه، أو يُنقصوه، أو يحرفوه، وقد كتب الله له الكمال وسجّل له البقاء.
فالإسلام روح الحياة، وحياة الروح، وسرّ العالم وعالم الأشرار، وجمال الدنيا ودنيا الجمال، ونور الطريق، وطريق النور.
__________
(1) من مقال "العلمانيون العرب من محنة الحداثة إلى محنة التنوير" لمحمود سلطان (ص 139 - 143) - مجلة المنار الجديد العدد 23 يوليو 2003 م جمادي 1424 هـ.
(2/503)
________________________________________
- كما تطلع الشمس بأنوارها فتفجر ينبوع الضوء المسمّى بالنهار، جاء الإسلام فوُجِد في العالم ينبوع النور.
ورعشات الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور، وأشعة الوحي في الإسلام هي قصة الهداية لإنسان الكون في نور من الكلام.
- وإذا تعسّف الناس الحياة لا يدرون أين يؤمّون منها، ولا كيف يهتدون فيها فتضطرب الملايين من البشر، يأتي الإسلام نورًا هاديًا من غلط الحياة وتحريف الإنسانية يُصحح ما اعترى هذه الأنفس.
- الإسلام أفق وضيء يطهر البشرية من غبش الجاهلية، وأهل الشقاء يفرّون منه إلى موتهم {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50 - 51].
- الحياة في ظل الإسلام نعمة .. نعمة لا يدركها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، يعيش المرء في ظل الإسلام ينظر من عُلوّ إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة ويعجب .. ما بال هؤلاء الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجميل الجليل؟ النداء الذي يرفع العمر ويباركه.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83].
- هذا الإسلام مرتقى عالٍ، ونور وضيء.
ارتضاه الله دينًا لكل أنبيائه وهو أرقى تصور للوجود والحياة، وأقوم منهج للبشرية وهو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخّاه ويحرص عليه.
- لقد التقط الإسلام الناس من سفح الجاهلية ودركها، وسار بهم في
(2/504)
________________________________________
الطريق الصاعد إلى القمة السامقة، وجعلهم ينظرون من علٍ إلى سائر أمم الأرض من حولهم في السفح، في كل جانب من جوانب الحياة، عرفوا السفح وعرفوا القمة، وعرفوا حب الله ورضاه عن هذه الأمة.
- الإسلام لا يتولى عنه إلا موكوس منكوس مطموس، شاذ في هذا الوجود الكبير ناشز في هذا الكون الطائع المستسلم المستجيب.
- لقد شقيت البشرية في تاريخها كله حين قادها العُمْيُ الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون، ولم ترتفع إنسانيتها قط إلا في ظل الإسلام.
- الإسلام نور في القلب والنفس، نور للمسلم تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف، ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشّف ويستقيم.
- جرعة من كأس الإسلام أروت العقل والقلب، جرس سورة الصافات، أذان بدر واليرموك، وسيف صلاح الدين، ونظرة الفضيل، ومفتاح كنوز الدنيا، غيضٌ من فيضه، القادسية وعين جالوت وحطين نفحة من نفحاته، وومضة من أنواره وبركاته.
- به صُنع ركب الرجال العظام على مدار التاريخ، فانظر إلى ركب المؤمنين الأبرار كيف شقّوا طريق المجد في علوّ وجمال، وتطلعت إليهم من فتحات الأبواب أسرى القرون والأجيال.
- الإسلام هو المفتاح الفذّ لأقفال الحياة.
- الإسلام أنفاس الحياة الآخرة، رقة تستروح منه نعيم الجنان، ونور تبصر في مرآة الزمان وجه الأمان، يرف بندى الحياة على زهرة الضمير، ويخلق في أرواحها من معاني العبرة معنى العبير.
- الإسلام من السماء، ودين الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى
(2/505)
________________________________________
الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى المجرمون في طغيانهم يعمهون، وظل الإسلام يلقف ما يأفكون {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118].
- إن الناس في اليوم والغد لن يستجيبوا إلا لنداء الإسلام، ولن يصلحوا إلا به، ولن يتفاعلوا إلا معه .. سيعلو نداء الإسلام ويرتفع ويقوى ويشتد.
- ألا بارك الله في الأقلام المتوضئة التي تكتب باسم الإسلام.
ألا بارك الله في الحناجر المؤمنة التي تُطلق نداء الإسلام
والأصوات المباركة التي ترتفع بنداء الإسلام،
والآذان الواعية التي تسمع نداء الإسلام،
والقلوب الحية التي تتفاعل مع نداء الإسلام.
والحياة الكريمة التي تزكو وتطهر بنداء الإسلام.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
***
(2/506)
________________________________________
فهرس المراجع
(2/507)
________________________________________
فهرس المراجع

(أ)
1 - "أباطيل وأسمار" لمحمود محمد شاكر - مطبعة المدني.
2 - "أحكام أهل الذمة" ابن القيم.
3 - "أحمد لطفي السيد" لحسين فوزي النجار - سلسلة أعلام العرب - مصر.
4 - "إحياء النحو" لإبراهيم مصطفى.
5 - "أرجوك خذني من هذا البرميل" لإحسان عبد القدوس.
6 - "أزمة الحوار الديني" لجمال سلطان - دار الصفا.
7 - "أسئلة الشعر" لمنير العكش في مقابلة له مع نزار.
8 - "استيقظوا أو موتوا" لوحيد حامد - الهيئة المصرية العامة.
9 - "أسس التقدم عند مفكري الإسلام" للدكتور فهمي جدعان.
10 - "إسلام آخر زمن" للأستاذ منذر الأسعد - دار المعراج.
11 - "أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب" لأنور الجندي - دار الفضيلة.
12 - "أصول الشريعة" لسعيد العشماوي.
13 - "أعلام وأصحاب أقلام" لمحمد عمارة.
14 - "افتراءات حول غايات الجهاد" لمحمد نعيم ياسين - دار الأرقم - الكويت.
15 - "إقبال الشاعر الثائر" لنجيب الكيلاني.
(2/509)
________________________________________
16 - "إقبال العرب على دراسات إقبال" للدكتور أحمد مظهر.
17 - "إقباليات" للمودودي - ترتيب سميح الله وخالد همايون.
18 - "أنا حرة" لإحسان عبد القدوس.
19 - "انتصار الحق" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - المكتبة السلفية.
20 - "أهل الفن وتجارة الغرائز" لحلمي القاعود - دار الاعتصام.
21 - "أوراق العمر" للويس عوض - مكتبة مدبولي.
22 - "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ.
23 - "أيبقى السيف الحكم" ترجمة لكتاب "الاختراق" لموشي ديان - 1990.
24 - "آية الجيم" لحسن طلب - الهيئة العامة للكتاب 1992.
25 - "الاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية" لعلي الحوافظة.
26 - "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" لمحمد محمد حسين.
27 - "الإحكام" لابن حزم.
28 - "الاستعمار أحقاد وأطماع" للشيخ محمد الغزالي - دار الكتب الإسلامية.
29 - "الأسس القرآنية للتقدم" لمحمد أحمد خلف الله.
30 - "الإسلام - الأمس والغد" لمحمد عركون.
31 - "الإسلام السياسي" لسعيد العشماوي.
32 - "الإسلام على مفترق الطرق" محمد أسد ترجمة عمر فروخ.
33 - "الإسلام في القرن العشرين" للعقاد.
34 - "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق.
(2/510)
________________________________________
35 - "الإسلام وأوضاعنا السياسية" لعبد القادر عودة.
36 - "الإسلام وقضايا العصر" لمحمد عمارة.
37 - "الإسلام والحضارة الغربية" لمحمد محمد حسين.
38 - "الإسلام والخلافة" لعلي الخربوطلي.
39 - "الإسلام والسلطة الدينية" لمحمد عمارة.
40 - "الإسلام والمستقبل" لمحمد عمارة.
41 - "الإعلام" للزركلي.
42 - "الأعمال الشعرية الكاملة" لنزار قباني.
43 - "الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية" لنصر حامد أبو زيد.
44 - "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين" لعلي بن بخيت الزهراني - دار طيبة.
45 - "الذين طغوا في البلاد" لمحمد عبد الله السمان - الكلمة الطيبة.

(ب)
46 - "بطرس بيتر غالي" لأبي إسلام أحمد عبد الله - بيت الحكمة.
47 - "بطرس غالي والحكومة العالمية" للدكتور نبيل السمّان.
48 - "بلا يابوزا" للشيخ محمد الجنبيهي.
49 - "بلو تولاند" للويس عوض - الهيئة المصرية العامة للكتاب.
50 - "بينات الحل الإسلامي" للشيخ القرضاوي.
51 - "البارودي" للسيدة نفوسة زكريا.
52 - "البداية والنهاية" لابن كثير.
53 - "البلاغة العصرية واللغة العربية" لسلامة موسى.
(2/511)
________________________________________
54 - "البهجة التوفيقية في تاريخ مؤسس العائلة الخديوية" لمحمد فريد بك - المطبعة الأميرية.

(ت)
55 - "تاريخ الأستاذ الإِمام" لمحمد رشيد رضا.
56 - "تاريخ التعليم في عصر محمد علي" لأحمد عزت عبد الكريم - مكتبة النهضة المصرية.
57 - "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" لعبد الرحمن الرافعي.
58 - "تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند" لمسعود علي الندوي.
59 - "تاريخ الفكر المصري الحديث" للويس عوض.
60 - "تاريخ الوزارات المصرية" للدكتور يونان لبيب.
61 - "تاريخ نظام التعليم في مصر العربية" لمنير عطا الله سليمان - مطبعة الأنجلو.
62 - "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" لمحمد عركون - مركز الإنماء القومي 1986.
63 - "تجديد الفكر الديني في الإسلام" لمحمد إقبال.
64 - "تحت راية القرآن" لمصطفى صادق الرافعي.
65 - "تحرير المرأة" لقاسم أمين.
66 - "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي.
67 - "تذكير الحكام بأيام الله" للدكتور جابر الحاج - دار الاعتصام.
68 - "تراجم مصرية وعربية" للدكتور محمد حسين هيكل.
69 - "تفسير المنار" لمحمد رشيد رضا.
(2/512)
________________________________________
70 - "تيارات اليقظة العربية" لمحمد عمارة - سلسلة الهلال.
71 - "التاريخ الإسلامي للدولة العربية" لعبد المنعم ماجد - مكتبة الأنجلو المصرية 1971.
72 - "التاريخ الثقافي للتعليم في مصر" د. حسن فقي - دار المعارف - مصر.
73 - "التدين المنقوص" لفهمي هويدي.
74 - "التراث والتجديد" لحسن حنفي - مكتبة الجديد - تونس.
75 - "التطور وروح الشريعة" لمحمود الشرقاوي - بيروت - المكتبة العصرية 1965.

(ث)
76 - "ثقافة الضرار" لجمال سلطان - دار الوطن.
77 - "ثلاث شخصيات في التاريخ (ابن المقفع - صلاح الدين - قراقوش) " للدكتور عبد اللطيف حمزة - الهيئة المصرية العامة.
78 - "ثورة الإسلام" لأحمد زكي أبو شادي.
79 - "الثائر الصامت" لعبد العزيز علي.
80 - "الثمار الزكية للحركة السنوسية في ليبيا" لعلي محمد محمد الصلابي - مكتبة الصحابة - الإمارات.
81 - "الثورة والأدب" للويس عوض - دار الكاتب العربي.

(ج)
82 - "جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث" لجمال سلطان - دار الاعتصام.
83 - "جذور العلمانية" للدكتور أحمد فرج.
(2/513)
________________________________________
84 - "جماعة أبوللو وأثرها في الشعر الحديث" للدكتور عبد العزيز الدسوقي.
85 - "جوانيات الرموز المستعارة لكبار أولاد حارتنا" أو "نقض التاريخ الديني النبوي" للدكتور عبد العظيم المطعني - مكتبة وهبة.
86 - "جولة في فكر محمد عركون".
87 - "جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام" لأنور الجندي - دار الاعتصام.

(ح)
88 - "حاضر العالم الإسلامي" لشكيب أرسلان.
89 - "حديث الأربعاء" لطه حسين.
90 - "حصوننا مهددة من داخلها" لمحمد محمد حسين.
91 - "حفني ناصف" لمحمود غنيم - سلسلة أعلام العرب.
92 - "حقيقة الحجاب وحجبة السنة" لمحمد سعيد العشماوي - الكتاب الذهبي - مؤسسة روزاليوسف.
93 - "حوار لا مواجهة" لأحمد كمال أبو المجد.
94 - "حول آثار الفكر الإصلاحي" لغازي التوبة.
95 - "الحداثة العربية .. المصطلح والمفهوم" للدكتور حلمي القاعود - دار الاعتصام.
96 - "الحداثة في منظور إيماني" للدكتور عدنان النحوي - دار النحوي.
97 - "الحركات النسائية في الشرق الأوسط وصلتها بالاستعمار والصهيونية العالمية" لمحمد فهمي عبد الوهاب - دار الاعتصام.
98 - "الحزب الوطني المصري" ترجمة فؤاد دوارة - الهيئة العامة
(2/514)
________________________________________
للكتاب 1983.
99 - "الحملة الفرنسية بين الأسطورة والحقيقة" لليلى عنان - دار الهلال.

(خ)
100 - "خرافة الميتافيزيقيا" لعلي باشا مبارك - دار الكتب.
101 - "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" لسيد قطب - دار الشروق 1980.
102 - "خواطر مسلم في المسألة الجنسية" لمحمد جلال كشك - مكتبة التراث الإسلامية.
103 - "الخديعة الناصرية" لصافيناز كاظم - القارئ العربي.
104 - "الخطاب العربي المعاصر" لمحمد عابد الجابري.
105 - "الخطط التوفيقية" لعلي باشا مبارك - دار الكتب.
106 - "الخطوط العريضة" لمحب الدين الخطيب.
107 - "الخيال الشعري عند العرب" لأبي القاسم الشابي.

(د)
108 - "دراسات في حضارة الإسلام" لجب.
109 - "دفاعًا عن الإسلام والحرية" لحلمي القاعود.
110 - "دفاعًا عن الإسلام والرموز .. قراءة في الأحداث والرموز" لحلمي القاعود - دار الاعتصام.
111 - "دليل المسلم الحزين" لحسين أحمد أمين - طبعة مدبولي.
112 - ديوان "أشعار خارجة على القانون" لنزار قباني.
113 - ديوان "الأسرار والرموز" لإقبال - تعريب الدكتور عزام.
(2/515)
________________________________________
114 - ديوان "الرسم بالكلمات" لنزار قباني.
115 - ديوان "الرصافي" المكتبة التجارية الكبرى.
116 - ديوان "الله والحق وفلسطين" للدكتور جابر قميحة - الدار المصرية اللبنانية.
117 - ديوان "إنها الصحوة إنها الصحوة" لمحمود مفلح - دار الوفاء.
118 - ديوان "جميل صدقي الزهاوي".
119 - ديوان "زمان القهر علمني" لفاروق جويدة - مكتبة غريب.
120 - ديوان "شموخ في زمن الانكسار" لفاروق جويدة.
121 - ديوان "شوقي".
122 - ديوان "في رحاب الأقصى" ليوسف العظم - المكتب الإسلامي.
123 - ديوان "قالت لي سمراء" لنزار قباني.
124 - "الديمقراطية أبدًا" لخالد محمد خالد.

(ر)
125 - "رحلة كنغليك إلى الشرق" ترجمة محمود العابدي.
126 - "روائع إقبال" لأبي الحسن الندوي.
127 - "الرباط المقدس" لتوفيق الحكيم.
128 - "الرجل الصنم".
129 - "الروض الباسم" لابن الوزير.

(ز)
130 - "زعماء وفنانون وأدباء" لكامل الشناوي.
131 - "زهر البساتين في موقف العلماء الربانيين" لسيد حسين العفاني
(2/516)
________________________________________
- دار ماجد عسيري - جدة.
132 - "الزهاوي وديوانه المفقود" لهلال ناجي.

(س)
133 - "سعد زغلول" لمحمد إبراهيم الجزيري.
134 - "سقوط الغلو العلماني" للدكتور محمد عمارة - طبعة القاهرة.
135 - "سيرة إقبال" للفاروقي.
136 - "السلام الضائع" لمحمد إبراهيبم كمال.
137 - "السيف البتار في نحر الشيطان نزار" لممدوح السهلي الحربي - دار المآثر بالمدنية.

(ش)
138 - "شرح الكوكب المنير" لابن النجار - تحقيق محمد الزحيلي ود. نزيه حماد - طبع السعودية.
139 - "الشرق الإسلامى في العصر الحديث" لحسين مؤنس - مطبعة حجازي.
140 - "الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية" للدكتور محمد عمارة.
141 - "الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية" لعمر سليمان الأشقر - دار النفائس.
142 - "الشعر المتفلت بين النثر والتفعيلة وخطره" للدكتور عدنان النحوي - دار النحوي.
143 - "الشيخان" لطه حسين.
(2/517)
________________________________________
(ص)
144 - "صحافة الاتجاه الإسلامي في مصر فيما بين الحربين العالميتين" للدكتور جمال عبد الحي النجار - دار الوفاء.
145 - "الصاعقة الأزهرية لإبادة الخواطر الشيطانية والرد على كتاب (خواطر مسلم في المسألة الجنسية) " للدكتور جمال مصطفى عبد الحميد.
146 - "الصحافة المهاجرة دراسة وتحليل" للدكتور حلمي القاعود - دار الاعتصام.
147 - "الصحافة والأقلام المسمومة" لأنور الجندي - دار الاعتصام.
148 - "الصواعق" لابن القيم.

(ط)
149 - "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي.
150 - "طه حسين .. حياته وفكره في ميزان الإسلام" لأنور الجندي - دار الاعتصام.
151 - "طه حسين في ميزان العلماء والأدباء" لمحمود مهدي الاستانبولي.
152 - "الطريق إلى مكة" محمد أسد - ترجمة عفيف البعلبكي.
153 - "الطريق إلى نوبل" للدكتور محمد يحيى ومعتز شكري - أمة برس للطباعة والنشر.

(ظ)
154 - "ظاهرة اليسار الإسلامي" لمحسن الميلي.

(ع)
155 - "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام"
(2/518)
________________________________________
للعودة - دار طيبة.
156 - "عجائب الآثار" للجبرتي.
157 - "عقيدة اليهود في تملك فلسطين" لعابد الهاشمي.
158 - "على ضفاف الثقافة .. حوارات حول المستقبل" للدكتور عمرو عبد السميع - مكتبة الأسرة.
159 - "على هامش السيرة" لطه حسين.
160 - "العدالة الاجتماعية" لسيد قطب.
161 - "العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب" لمحمد حامد الناصر - مكتبة الكوثر.
162 - "العصريون .. معتزلة اليوم" ليوسف كمال - دار الوفاء - المنصورة.
163 - "العقيدة في الله" للشيخ عمر سليمان الأشقر - دار النفائس.
164 - "العلمانية" لسفر الحولي.

(غ)
165 - "الغارة على العالم الإسلامي" لشاتليه، لخصها وترجمها محب الدين الخطيب ومساعد اليافي - المطبعة السلفية.

(ف)
166 - "فجر اليقظة العربية" لمحمد عمارة.
167 - "فقه اللغة" لعلي عبد الواحد وافي.
168 - "فكر إقبال" للدكتور خليفة عبد الحكيم.
169 - "فلسفة إقبال" للدكتور حسون.
(2/519)
________________________________________
170 - "فلسفة إقبال وأسسها" للدكتور عبد الوهاب عزام.
171 - "فلسفة النشوء والارتقاء" لشبلي شميل.
172 - "فن الحرب الإسلامي في العهد العثماني" لبسام العسلي - دار الفكر.
173 - "في مهب المعركة" لمالك بن نبي.
174 - "الفتنة الكبرى" لطه حسين.
175 - "الفكرة الأفريقية الأسيوية" لمالك بن نبي.
176 - "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي - مكتبة وهبة.
177 - "الفكر الإسلامي دراسة وتقويم" لغازي التوبة.
178 - "الفكر الإسلامي والتطور" للدكتور محمد فتحي عثمان - الدار الكويتية 1969.
179 - "الفكر الإسلامي والثقافة الغربية المعاصرة" لأنور الجندي.
180 - "الفن القصصي في القرآن الكريم" لمحمد أحمد خلف الله.

(ق)
181 - "قاسم أمين" لماهر حسن فهمي - سلسلة أعلام العرب.
182 - "قبض الريح" لإبراهيم عبد القادر المازني.
183 - قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين. التحالف الصليبي الماسوني الاستعماري وضرب الاتجاه الإسلامي" د. زكريا سليمان بيومي - عالم المعرفة - جدة.
184 - "قراءة جديدة في سياسة محمد علي باشا التوسعية" للدكتور سليمان الغنام - دار تهامة.
(2/520)
________________________________________
185 - "قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر" للدكتور حسن حنفي - دار التنوير - بيروت.
186 - "القانون المدني" لعبد الرزاق السنهوري.

(ك)
187 - "كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية" لأحمد عرابي الحسيني - مطبعة مصر.
188 - "كلمتنا في الرد على (أولاد حارتنا) " للشيخ عبد الحميد كشك - المختار الإسلامي.
189 - "كلهم سلمان رشدى" لأحمد الدوسري النجدي - مكتبة الروضة.
190 - "الكشف عن حقيقة الصوفية" لمحمود قاسم.

(ل)
191 - "لآلئ الشعر أوزان وقافية" للدكتور عدنان النحوي.
192 - "لسان الميزان" لابن حجر.
193 - "لويس عوض .. الأسطورة والحقيقة" لحلمي القاعود - دار الاعتصام.

(م)
194 - "مجموع الفتاوى" لابن تيمية.
195 - "محاكمة فكر طه حسين" لأنور الجندي.
196 - "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" لأنور الجندي - دار الأنصار.
(2/521)
________________________________________
197 - "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي" لمحمد العربي بوعزيري - دار الفكر المعاصر - لبنان.
198 - "محمد إقبال مفكرًا إِسلاميًّا" لمحمد كناني.
199 - "محمد إقبال، موقفه من الحضارة الغربية" لخليل الرحمن عبد الرحمن - دار حراء.
200 - "محمد عبده" لعباس العقاد - سلسلة أعلام العرب - مصر.
201 - "محمد رسول الحرية" لعبد الرحمن الشرقاوي.
202 - "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة" لسليمان الخرابيشي - دار الجواب.
203 - "محمد فريد" لعبد الرحمن الرافعي.
204 - "مختصر دراسة التاريخ" لأرنولد توينبي.
205 - "مدخل إلى فقه اللغة العربية" للويس عوض.
206 - "مذكرات الإمام محمد عبده" لطاهر الطناحي - دار الهلال.
207 - "مذكرات السلطان عبد الحميد".
208 - "مذكرات طالب بعثة" للويس عوض - الهيئة المصرية العامة.
209 - "مراة الإسلام" لطه حسين.
210 - مسرحية "الحسين ثائرًا" لعبد الرحمن الشرقاوي.
211 - مسرحية "وطني عكا" لعبد الرحمن الشرقاوي.
212 - "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين.
213 - "مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية" للدكتور محمد عمارة - لمكتبة الشروق الدولية.
214 - "مصابيح أضاءت لنا الطريق" لصفوت الشوادفي.
(2/522)
________________________________________
215 - "مصر ورسالتها" للدكتور حسين مؤنس.
216 - "معالم الإسلام" لسعيد العشماوي.
217 - "معالم تاريخ الإسلام المعاصر" أنور الجندي - دار الاعتصام.
218 - "معالم في الطريق" لسيد قطب.
219 - "معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين" للدكتور إبراهيم عوض - مكتبة الفجر الجديد.
220 - "مفاهيم إسلامية" للمودودي.
221 - "مفهوم النص" لنصر حامد أبو زيد - طبعة القاهرة - 1990.
222 - "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي محمد سعيد - دار الدعوة - الكويت.
223 - "مقالات في النقد والأدب" للويس عوض - مكتبة الأنجلو المصرية.
224 - "مقدمات العلوم والمناهج" لأنور الجندي.
225 - "مقدمة في الشعر العربي" لأدونيس.
226 - "مقدمة في فقه اللغة" للويس عوض - الهيئة العامة المصرية.
227 - "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء" لإسماعيل مظهر.
228 - "مناهل الأدب العربي" لولي الدين يكن.
229 - "منهاج الإسلام في الحكم" لمحمد أسد.
230 - "من هنا نبدأ" لخالد محمد خالد.
231 - "من هنا نعلم" اللشيخ محمد الغزالي.
232 - "مواجهة الإرهاب، قراءات في الأدب المعاصر" للدكتور جابر عصفور - مكتبة الأسرة.
(2/523)
________________________________________
233 - "مواطنون لاذميون" لفهمي هويدي - دار الشروق 1405 هـ.
234 - "موقف الإسلام العقدي من كفر اليهود والنصارى" للدكتور يوسف القرضاوي - مؤسسة الرسالة.
235 - "موقف الجماعة الإسلامية من الحديث" لمحمد إسماعيل.
236 - "ميزان الاعتدال" للذهبي.
237 - "المجروحين" لابن حبان.
238 - "المختار من تاريخ الجبرتي" لمحمد كناني.
239 - "المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام" لمحمد محمود الصواف.
240 - "المدخل للعلوم القانونية" للدكتور توفيق فرج.
241 - "المذاهب الإسلامية" لنجيب الكيلاني.
242 - "المرأة الجديدة" لقاسم أمين.
243 - "المرأة في عصر الديمقراطية" لإسماعيل مظهر.
244 - "المرأة وآراء الفلاسفة" لحسين فوزي.
245 - "المرأة والدين والأخلاق" للدكتورة نوال السعداوي، والدكتورة هبة رؤوف عزت - دار الفكر - دمشق، دار الفكر المعاصر - بيروت.
246 - "المرشد الأمين" للطهطاوي.
247 - "المستشرقون" للدكتور عابد السفياني.
248 - "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" لطارق البشري - دار الوحدة - بيروت 1982.
249 - "المعتزلة وأصول الحكم" لمحمد عمارة - سلسلة دار الهلال - (العدد 400) 1984.
(2/524)
________________________________________
250 - "المعتزلة وأصولهم الخمسة" لعواد المعتق.
251 - "المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة" لأحمد حسين الصاوي - دار الفكر - القاهرة.
252 - "الملل والنحل، وذيل الملل والنحل" لمحمد سيد كيلاني - مطبوع مع الملل والنحل.
253 - "المورد العذب" للشيخ الدويش.

(ن)
254 - "نائب عزرائيل" ليوسف السباعي.
255 - "نشوء فكرة الله" لسلامة موسى.
256 - "نظرات في الدين" لعبد اللطيف غزالي.
257 - "نظرية التطور وأصل الإنسان" لسلامة موسى.
258 - "نقد الخطاب الديني" لنصر حامد أبو زيد - طبعة القاهرة 1992.
259 - "نقد القومية العربية" للشيخ عبد العزيز بن باز.
260 - "نهر الذهب في تاريخ حلب" لكامل بن حسين البالي الحلبي الغزي - المطبعة المارونية.
261 - "النثر الفني في القرن الرابع الهجري" للدكتور زكي مبارك - دار الجيل.
262 - "النظريات السياسية في الإسلام" للدكتور محمد ضياء الدين الريس.
263 - "النقد الذاتي" لخالص ***ي.
264 - "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" للقاضي ابن شداد -
(2/525)
________________________________________
تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال.

(و)
265 - "واقعنا المعاصر" لمحمد قطب - دار الشروق.
266 - "وبالحق صدعنا في وجه الطغيان" للشيخ محمود عبد الوهاب فايد - دار الاعتصام.
267 - "وجاء دور المجوس" للغريب.
268 - "وجهة الإسلام".
269 - "الورد والهالوك .. شعراء السبعينات في مصر" لحلمي القاعود - دار الاعتصام.
270 - "الوسيط" لعبد الرزاق السنهوري.
271 - "الوعد الحق" لطه حسين.
272 - "الولاء والبراء" للدكتور محمد سعيد القطحاني - دار طيبة.

(ي)
273 - "يوميات امرأة لا مبالية" لنزار قباني.
274 - "اليسار الإسلامي خنجر في ظهر الإسلام" لعبد السلام بسيوني - مكتبة الأقصى - قطر.

الدوريات والمقالات والمجلات
275 - أحمد عبد المعطي حجازي - مقال بعنوان: "سوف أكون صريحًا مع الجميع" الأهرام عدد 11/ 10/2000 م.
276 - أحمد عبد المعطي حجازي - أخبار الكتاب عدد 37 سبتمبر 2000.
(2/526)
________________________________________
277 - جابر قميحة - مجلة آفاق عربية - عدد (610) 5 يونية 2003 م.
278 - من حديث أجرته عبلة الرويني مع "حسين سليمان" "مجلة أخبار الأدب" - القاهرة - عدد 366 في 16/ 7/2000 م.
279 - حسن طلب - "مجلة إبداع " - عدد 12 ديسمبر 1991.
280 - أحمد طه - "مجلة الكرمل" - (عدد 4/ 1984) - قبرص.
281 - محمد سليمان - "مجلة الكرمل" - (عدد 4/ 344) - قبرص.
282 - عبد المنعم رمضان - دمي صوت كل الجهات" - "مجلة البيان الكويتية" - (عدد 233 - أغسطس 1985).
283 - عبد المنعم رمضان "أدب ونقد" - (عدد 22 - يونيو 1986).
284 - عبد المنعم رمضان "الكرمل" - (عدد 4/ 1984)، 339.
285 - عبد المنعم رمضان "مجلة إبداع" - (أكتوبر 1992) هيئة الكتاب.
286 - محمد فريد أبو سعدة - "مجلة الثقافة الجديدة" - (عدد 49) أكتوبر 1992.
287 - عمارة نجيب - "مجلة الدعوة" - غرة محرم 1397.
288 - عامر عبد المنعم جريدة الشعب - عدد 16/ 5/2000.
289 - مقال "مصيبة" لسيد يونس، وعمر عبد العلي ومنتصر الشاطبي بجريدة الشعب - العدد 331.
290 - الدكتور عبد العظيم المطعني - ترحيل الإسلام عن مصر - جريدة آفاق عربية - (العدد 616/ 17 يوليو 2003 م).
291 - الدكتور محمود جامع "واجعلني لسان صدق في العالمين" - جريدة آفاق عربية - (العدد 614) 3 يولير 2003 م.
(2/527)
________________________________________
292 - الأهرام العربي - (العدد 329) - السبت 12 يوليو 2003 م حوار مع علي سالم.
293 - الدكتور سمير سرحان - "مجلة القاهرة" - (العدد 169) 8 يوليو 2003 م.
294 - محمد سعيد العشماوي - "مجلة البلاع" - (عدد 8 صفر 1404).
295 - "موقف القرآن من حجاب المرأة" مقال لحسين أحمد أمين - جريدة الأهالي - (عدد 28/ 11/1984).
296 - محمد فتحي عثمان "مجلة العرب" - (العدد 267).
297 - محمد فتحي عثمان "مجلة المسلم المعاصر" - العدد الافتتاحي.
298 - فهمي هويدي "المسلمون والآخرون" مجلة العربي الكويتية (العدد 267) ربيع الأول 1401.
299 - أحمد كمال أبو المجد "مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر" مجلة العربي - (العدد 222) 1977.
300 - محمد جابر الأنصاري "نظرة في الجذور" الدوحة القطرية - (العدد 101).
301 - قراءة في فكرة مالك بن نبي - "مجلة البيان" - (العدد 23) جمادى الأولى 1410 مقال للأستاذ محمد العبدة.
302 - محمد الغزالي - "مجلة آفاق عربية" - السنة التاسعة - (العدد 612) 26 يونية 2003 م.
303 - طه حسين "إقبال فرض نفسه على الدنيا والزمان". "مجلة الوعي الباكستانية" (العدد 31) مايو 1958.
304 - "مجلة الفتح" - (عدد 91) - 21 شوال 1346 هـ - 12 إبريل
(2/528)
________________________________________
1928 م.
305 - "مجلة الفتح" - (عدد 64) - 4 ربيع آخر - 29 سبتمبر 1927 م.
306 - المجلة العربية ذو الحجة 1412 هـ.
307 - محضر الجلسة الرابع والعشرين لمجلس النواب المصري 28 مارس 1932 م.
308 - مقال "رحلة قلم .. مع الحق والحقيقة" لكمال السعيد حبيب - مجلة المنار الجديد (العدد 18) - محرم/ربيع 1423 هـ - إبريل 2002 م.
309 - المجلة العربية (العدد 315) - مقالة بعنوان "زكي مبارك شارك طه حسين التشكيك في القرآن الكريم".
310 - مجلة الرسالة العدد 1093.
311 - جريدة أخبار اليوم 12/ 9/1990.
312 - مجلة حوار البيروتية.
313 - مجلة فصول 1992.
314 - الأهرام 20/ 4/1978، 15/ 7/1989، 8/ 8/1989 م.
315 - مقال "الدين والتشريع" لمحمد مندور.
316 - مقال "الغاية والدستور والزعيم والسبيل" لجابر قميحة - آفاق عربية (العدد 610).
317 - مجلة الوعي الإسلامي.
318 - مجلة الثقافة (العدد 74 سنة 1979).
319 - مجلة المختار الإسلامي - (العدد 248).
320 - مقال ظلمات بعضها فوق بعض - للدكتور محمد عباس.
(2/529)
________________________________________
321 - مجلة الوطن العربي الأعداد 193، 194، 196، 199، 200.
322 - مجلة اليسار الإسلامي - العدد الأول.
***
(2/530)
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 12-21-2020, 12:49 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,214
24



رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
ميزان, أعمال, الإسلام, وأقزام


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أعلام وأقزام في ميزان الإسلام
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ميزان الفجر صابرة شذرات إسلامية 0 06-16-2015 04:28 AM
الطائفية في ميزان الإسلام ام زهرة مقالات وتحليلات مختارة 0 06-18-2013 12:07 PM
الديمقراطية والعمل السياسي في ميزان الإسلام Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 06-03-2013 09:53 AM
أعلام المهندسين في الإسلام Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 02-03-2012 03:18 PM
أعلام وأقزام في ميزان الإسلام Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 02-02-2012 10:21 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:11 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59