#1  
قديم 01-29-2012, 08:58 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي دلالــة المعنـــى


دلالــة المعنـــى د . عبد الوهاب حسن حمد


المقدمـة :ـ
إن المدرك الذهني من ظاهر اللفظ هو مدلوله وهو المضمون العقلي الذي يصل بين اللفظ والشيء الذي يدل عليه ويرتبط به ، لأنه ليس ثمة علاقة مباشرة بين الألفاظ والأشياء التي تمثلها ، وإنما هي تنبئ عنها عرفاً لاختلاف الألسنة ، وذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى ) ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ( [ الروم 22 ] .
وقد يكون اللفظ مشتركاً أو من الأضداد بحسب الوضع والاستعمال ولكن السياق والمقام والظروف المحيطة بالمنتج اللغوي تعينه ، لأنه لا يخلو من وظيفة يؤديها في الكلام يعبر عنها بالمعنى النحوي ، وهو معنى زائد على معناه العرفي أو المعجمي ، إذ يكتسب اللفظ في التركيب معنى آخر يعبر عنه نظمه وسياقه ، وهو المعنى العام الذي ينتظم الدلالات الوضعية ، وهو الذي يصرف معنى المفردة ويطبعها بطابعه ، بالائتلاف مع غيرها .
وأصل المعنى النحوي الإسناد ، لأنه يفيد تعليق الألفاظ بعضها ببعض ، ومنه النسبة بقسميها التامة والناقصة ، والمعنى العام يقوم على معاني المفردات التي تؤلف مجموع المعنى ، ولكل معنى إفرادي وظيفة في الكلام ، وللمعنى العام دلالة تقوم على مجموع الوظائف التي تؤديها المفردات في التراكيب المختلفة بحسب المراد ، فقد يكون خبراً أو طلباً ، ولكل دلالة تختلف عن الآخر ، كما أن الخبر أنواع وكذلك الطلب ، وقد يحصل بينهما التبادل ، وقد يؤكدان بذكر القيود الدالة ، والإسناد هو المعنى الأول وإن المعاني الأخرى وهي المعاني البلاغية متعلقة به ، لأنه قد يعدل به عن أصل وضعه في اللغة ، وذلك في نسبتهم الكلام إلى الحقيقة أو المجاز ولكن يبقى المعنى النحوي هو المعنى الحقيقي وهو ما يؤديه التركيب من أصل المعنى ، لأن الإسناد معنى يفيد ربط الكلام بتعليق بعضه ببعض فقد يدل على الثبوت أو التجدد خبراً أو طلباً وإثباتاً أو نفياً ، إذ يشكل مع متعلقاته المعنى النحوي العام الذي يضم الدلالات الوضعية للمعاني الإفرادية كالاسمية والفعلية والحرفية وهي معان متحركة بالتبادل والعدول والتركيب والسلب والتطفل وغيرها ، فثمة معان ثابتة وأخرى متحركة ، ولبيان ذلك جاء البحث موزعاً عليها ، فتناول المبحث الأول البدائل الدلالية وهي المعاني المتحركة بالتبادل والعدول حيث يحصل بالمواضع والمواقع الثابتة تغيير لغرض دلالي .
ودرس الثاني البدائل الأسلوبية وهو التغيير الذي يلحق المعنى العام لغرض دلالي أيضاً ، حيث المعنى العام الواحد يؤدى بطرق مختلفة ، ولكل دلالة .



المبحث الأول :ـ البدائل الدلالية :ـ
إن الالتزام بالأصول اللغوية للألفاظ الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية يعرف بأصل الوضع أو الاستصحاب اللغوي ، والعدول عن ذلك لغرض دلالي يقتضيه المقام أو السياق لهذا قيل : (( أعطني السياق الذي وضعت فيه الكلمة أخبرك بمعناها )) () .
والتبادل المعنوي اختيار مقصود وتفضيل لغوي لقصد دلالي بحسب المراد حيث يؤدي المعنى المراد بصور دلالية متفاوتة لتعدد الإمكانيات اللغوية التي يمكنها جميعاً أن تؤدي المعنى المطلوب ، فيختار المتكلم من بين هذه البدائل ما يعبر عن معناه بدقة على أساس دلالي والصورة المختارة هي التي تحقق مفهوم التبادل بحسب ظروف المتكلم والمتلقي مع مراعاة الإفادة ويفهم التبادل بالقرائن ، إذ يعدل به عن الأصل اللغوي إلى غيره بدليل السياق ، نحو قوله تعالى ) خلق من ماء دافق ( [ الطارق 6 ] بمعنى مفعول أي مدفوق ، وقد يكون بمعنى النسب ، نحو قوله تعالى ) فهو في عيشة راضية (
[ القارعة 7 ] أي (( ذات رضى يرضاها من يعيش فيها . وقال قوم معناه مرضية )) () .
وقد يدل ( فاعلة ) على المصدر ، نحو قوله تعالى ) يعلم خائنة الأعين ( [ غافر 19 ] أي خيانة .
والسياق هو الذي يدل على أن الاستفهام ليس على حقيقته في قوله تعالى ) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ( [ البقرة 138] ، حيث تحول إلى الدلالة على النفي ، وفي قوله تعالى ) أليس الله بأعلم بالشاكرين ( [ الأنعام 53 ] تحول الاستفهام إلى الدلالة على التقرير الخبري ، وقد يقتضي المقام اختيار لفظة بدل أخرى ، ففي (( القصة الواحدة قد تستعمل مفردة في موضع وتستعمل غيرها في موضع آخر مع أن القصة واحدة والموقف واحد ، وذلك نحو قوله تعالى ) فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ( [ 60 ] في سورة البقرة ، وقوله في سورة الأعراف ) فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً ( [ 16 ] والانفجار أغزر من الانبجاس فخالف بين المفردتين مع أن القصة واحدة والموضع واحد )) () .
وقد جاء في التفسير : (( فجر الله لهم من حجر اثنتي عشرة عيناً لاثني عشر فريقاً ، لكل فريق عين يشربون منها تتفجر إذا نزلوا فإذا ارتحلوا غارت العين وحملوا الحجر غير متفجر منه ماء )) () .
فقد يكون الإنفجار في موطن النزول ، والانبجاس في موطن الرحيل ، فذكر حالة كل منهما تبعاً لما يقتضيه المقام ، ومن ذلك استعمال الطور والجبل مع أن القصة واحدة ، ففي قوله تعالى ) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ( [ البقرة 63 ] ، وقوله
) ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ( [ النساء 154 ] ، في حين قال في موضع آخر ) وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ( [ الأعراف 171 ] .
وذلك : (( أن التهديد في آية الأعراف أشد فاستعمل لفظ ( الجبل ) لذلك ، فإن (الجبل ) اسم لما طال وعظم من أوتاد الأرض ولا يشترط في الطور ذلك ، فالجبل أعظم من الطور ، ولذلك يجيء في مقام الشدة والهول وبيان المقدرة العظيمة اسم ( الجبل ) وذلك نحو قوله تعالى في قول موسى – عليه السلام – ) رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعلها دكاً وخر موسى صعقاً ( [ الأعراف 143 ] ، فانظر كيف اختار لفظ الجبل على الطور للدلالة على عظم التجلي وأثره )) () .
واختار ( دكاً ) بدلاً من مدكوك وهو مصدر بمعنى مفعول ، و (( يجوز ( دكاً ) بالتنوين ودكاء بغير تنوين ، أي جعله مدقوقاً مع الأرض يقال: دككت الشيء إذا دققته أدكه دكا والدكاء والدكاوات الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها ، لا تبلغ أن تكون جبلاً ))() .
واستعمل ( نتقنا ) مع الجبل ولم يستعمل ( رفعنا ) لما في (( النتق من التهديد الشديد والتخويف فإن النتق أشد وأقوى من الرفع ، ذلك أن معنى النتق : هو الجذب والزعزعة والاقتلاع ومعناه أيضاً : هو أن يقلع الشيء فيرفعه من مكانه ليرمي به هذا هو الأصل في حين أن الرفع ضد الوضع فأنت ترى أن في نتق الجبل من الغرابة والقوة والإخافة والتهديد ما ليس في رفع الطور فأنْ يزعزع الجبل ويقلع من مكانه ويرفع ليرمى به كأن هناك قاذفاً يقذف به عليهم ، أمر مرعب ومخيف وفيه من القوة والشدة ما ليس في رفعه ألا ترى لو أن شخصاً رفع حجارة من الأرض وتهيأ لضرب شخص ما ألم يكن ذلك أكثر تهديداً وإخافة من مجرد رفع الحجارة من الأرض )) () .
فجاء ( الجبل ) بدل ( الطور ) و ( نتقنا ) بدل ( رفعنا ) ، لأن المقام يقتضي ذلك.
ومن ذلك قوله تعالى في زكريا – عليه السلام : ) قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً ( [آل عمران 41] و) قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً ( [مريم10].
فقد منع الكلام ثلاثة أيام باستثناء الرمز ، ومعنى الرمز (( تحريك الشفتين باللفظ من غير إبانة بصوت إنما هو إشارة بالشفتين ، وقد قيل إن الرمز هو إشارة بالعينين أو الحاجبين والفم ، والرمز في اللغة كل ما أشرت به إلى بيان اللفظ ، أي بأي شيء أشرت أبفم أم بيد أم بعينين والرمز والترمز في اللغة الحركة والتحريك )) () .
في حين منع الكلام في مريم وهو سوي ، لأن ( سويا ) حال ، وذلك للدلالة على أنه (( لا يتمكن من أن يكلم الناس ثلاثة أيام ولياليهن )) () ، من دون علة أو مرض في حين أنه يستطيع أن يذكر الله ويسبحه في نفسه ، فذكر الليالي في مريم يقتضيه (( سياق القصة وجوها وكذلك اختيار اليوم في آل عمران ، فقوله تعالى في مريم ) إذ نادى ربه نداءً خفياً ( حسّن ذكر الليل ، فإن خفاء النداء يشبه الخفاء في الليل ، فإن الليل يخفي ما فيه ، ومن فيه ، لما فيه من ظلمة بخلاف النهار فإنه يفيد الظهور والإظهار ومما حسّن ذلك أيضاً ذكر شيخوخته وضعفه وهما أشبه شيء بالليل ، وما فيه من سبات وسكون وقلة حركة ، وإذا كان لنا أن نقابل بين حال الإنسان والزمان فإن الشباب والعافية أشبه شيء بالنهار وما فيه من حركة وإن الشيخوخة والضعف أشبه شيء بالليل وما فيه من سكون )) () ، فما ذكر في مريم من الشيخوخة ووهن العظم والمبالغة في الكبر ويبس العود كان مناسباً لذكر الليل بدليل طلبه للوريث بقوله ) وإني خفت الموالي من ورائي ( ، أي بعد موتي ، وهو مناسب لذكر الليل ، لأن الموت ليل طويل وسبات ممتد في حين أن البشارة حصلت وهو قائم يصلي وجاء الرمز مع البشارة مناسباً لذكر اليوم بخلاف مريم ، لأنهما لا يظهران في الليل ، كما ناسب ذكر ( العاكفين ) وهم المقيمون من سكان مكة لما عهد الله تعالى إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في قوله ) وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ( [البقرة 125] ، في حين ذكر ( القائمين ) بدل ( العاكفين ) لمّا جعل مكان البيت مبوأ لإبراهيم – عليه السلام – في قوله تعالى ) وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ( [ الحج 26 ] ، (( والقائمون ههنا المصلون )) () ، وهم الركع السجود ، أما العاكفون فهم أهل البلد الحرام المقيمون فيه و (( سكان البلد الحرام هم من ذرية إبراهيم وإسماعيل ومن هؤلاء السكان المقيمين في البلد الحرام ، بعث النبي الأمين – r - الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل فناسب ذلك ذكر العاكفين وهم أهل البلد الحرام المقيمون أو المجاورون وعموم من لزم المسجد الحرام )) () ، وأما آية الحج فقد كان ذكر ( القائمين ) أنسب لأداء فريضة الحج، والقائمون قد يكونون من العاكفين وغيرهم ، يدل عليه قوله تعالى) جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد( [الحج 25]، أي((أنه يستوي في سكنى مكة المقيم بها والنازع إليها من أي بلد كان وقيل سواء في تفضيله وإقامة المناسك العاكف المقيم بالحرم والنازع إليه )) () ، أي المتجه إليه والقادم من مكان آخر ، كما أن القيام والركوع والسجود من أظهر أركان الصلاة و (( لعل التعبير عن الصلاة بأركانها من القيام والركوع والسجود للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء التطهير أو التبوئة )) () ، وكذلك ذكر العكوف يدل على أنه مستقل باقتضاء المقام ، وكان اختياراً مناسباً متعمداً لغرض دلالي ، وإن اشتركا في معنى القيام ، إلا أن لكل دلالة مستقلة تتناسب والسياق الذي جاءت فيه بحيث لا يصلح وضع إحداهما مكان الأخرى لتؤدي الغرض ذاته بحكم السياق والمقام و(( لا يغرنك قول الناس قد أتى المعنى بعينه وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه ، فإنه تسامح منهم والمراد أنه الغرض فأما أن يؤدى المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في الكلام الأول حتى لا تعقل ههنا إلا ما عقلته هناك ففي إلا حالة )) () .
فإن أي تغيير أو عدول عن الأصل يتبعه تغيير في المعنى والقصد الدلالي ، وذلك بالنظر في استصحاب الأصل وعلة اختيار البديل الإعرابي أو الوزن أو النوع أو الجملة والتركيب ، لأنه المقصود من التغيير وإلا لجاء الكلام على أصله المتعارف عليه ، ولم ينظر في الأبلغ والأنسب وفق الشروط التي يستوجبها المقام والسياق ، فليست البدائل تأتي بلا ضابط وغرض وإنما يسعى إليها للوصول إلى أقصى غاية من التأثير الفكري والنفسي ، وعليها يعتمد في الفصل وبيان المزايا والإجادة والإبداع ، فالغرض من الإعراب الدلالة على الدقة في التعبير عن المعنى المراد ، فإن الكلام تختلف دلالته باختلاف المعاني الجزئية التي يحدثها التغيير الإعرابي بين معنى وآخر ، وإن كان المعنى العام له واحد ، نحو (( صبر جميل وصبراً جميلاً فإن الجملة الأولى أمر بالصبر الدائم الطويل والثانية أمر بالصبر غير الدائم ، لأن الأولى جملة اسمية والثانية فعلية ، ونحوه قوله تعالى ) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام ( [ الذاريات 25 ] ، فهو رد التحية بخير منهـا ، ونحـو
) والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء ( [ البقرة 177 ] ، فعطف بالنصب على الرفع لغرض التعظيم )) () .
وذلك لأن الجملة الإسمية تدل على الثبات الخبري والإسنادي فيصير المسند بالنسبة للمسند إليه كالوصف الذي لا يتغير كقصير وطويل ، والحكم بالخبرية ثابت لا يتغير وهذا بخلاف الجملة الفعلية التي تدل على التجدد والمزاولة ، كما أن النصب بخلاف الرفع ، لأنه يدل على الفعلية ، لأن العامل فيه فعل ، بخلاف الرفع الدال على الثبوت ، لهذا قال الجرجاني : (( وإذا ثبت الفرق بين الشيئين في مواضع كثيرة وظهر الأمر بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه وجب أن تقضي بثبوت الفرق حيث ترى أحدهما قد صلح في مكان الآخر ، وتعلم أن المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر )) () .
وفي قوله تعالى ) ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير ( [سبأ10]
قال الزجاج : (( والطيرَ والطيرُ ، فالرفع من جهتين إحداهما أن يكون نسقاً على ما في أوبي ، المعنى يا جبال رجعي التسبيح أنت والطير ، ويجوز أن يكون مرفوعاً على البدل ، المعنى يا جبال ويا أيها الطير أوبي معه والنصب من ثلاث جهات ، أن يكون عطفاً على قوله ) ولقد آتينا داود منا فضلاً والطيرَ ( أي وسخرنا له الطير ، حكى ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء ، ويجوز أن يكون نصباً على النداء ، المعنى يا جبال أوبي معه والطير ، كأنه قال دعونا الجبال والطير ، فالطير معطوف على موضع الجبال في الأصل ، وكل منادى عن البصريين كلهم في موضع نصب ... ويجوز أن يكون ( والطيرَ ) نصب على معنى ( مع ) ، كما تقول : قمت وزيداً ، أي قمت مع زيد فالمعنى أوبي معه ومع الطير )) () .
فكان لكل وجه معنى يختلف عن الآخر وإن اشتركا في المعنى العام ، لأن دلالة الرفع تختلف عن النصب ، وكذلك دلالة الجهة التي سوغت الرفع أو النصب ، فإن جهة العطف تختلف في دلالتها عن جهة البدل ، لأن العطف يدل على المشاركة في الحدث في حين أن دلالة البدل تشير إلى أنه مقصود بنسبة الحدث إليه مباشرة وليس بالتبعية ، وكذلك دلالة النصب ، فالمعطوف معمول لفعل مقدر ، لأن الواو تعطف (( عاملاً محذوفاً بقي معموله ، ومنه قوله :ـ
إذا ما الغانيات برزن يوماً وزججـن الحـواجب والعيونـا
فـ( العيون ) مفعول بفعل محذوف ، والتقدير : وكحلن العيون والفعل المحذوف معطوف على زججن )) () .
ودلالة النصب على النداء تختلف عن المصاحبة ، لأن الأول مدعو للمشاركة في الحدث في حين أن الثاني غير مطلوب للمشاركة ، لأن المشاركة تجعله معطوفاً لا مفعولاً.
وكذلك يحصل التبادل الإعرابي في المواضع ولا يقتصر على الحركات وما ينوب عنها ، وذلك في الجمل والمصادر المؤولة والمبنيات ، لأن الحركات تعرب عن الموضع الذي يرتبط بالمعنى النحوي العام ، وتحول العوامل الزائدة دون ظهور العلامة المعبرة عن الموضع لكن المعرب يبقى في موضعه بدليل العطف والبدل ، فإنهما يحملان على الموضع ، لأن الموضع له معنى نحوي ، لأن تعلق أركان الكلام ليس هو تعلقاً بالألفاظ ، وإنما هو تعلق بالمعاني ، وهي التي تتعلق بعضها ببعض ، لأنه لا يتصور التعلق بغيرها ، يدل على ذلك التركيب الشرطي حيث يجري التبادل بالعدول عن الفعل في الجواب إلى الجملة الاسمية لتحصيل معان جديدة ، وذلك لأن الجملة الاسمية أثبت وأدوم من الفعل ، مما يقوي الاعتقاد بصحة الخبر وصدق وقوعه لدلالتها على الثبوت ، لأن (( موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء )) () ، و (( الاسم كلمة دلت على معنى ثابت في نفس تلك الكلمة )) () فإذا أخبر المتكلم بالوصف الدال على الثبوت ، فقد حكم بعدم تغير الصفة ، لأن الخبر في حقيقته وصف ، وكذلك الفعل بدليل تحوله إلى وصف ولكن الوصف أثبت وأدوم من الفعل الصناعي ( فعل يفعل ) وما جرى مجراه ، ودلّ حكمه على اعتقاده بصدق وقوعه وصحته وثباته بخلاف الذي يخبر بالفعل ، والجزاء يتحقق بحدوث الفعل ، فالشرط معلق بعد صدوره حتى يتم الجزاء ، فإذا عدل بالفعل في الجواب إلى الجملة الاسمية ، تغيرت الدلالة للتركيب الطلبي ، لاختيار الجملة الاسمية حيث لا يصلح الفعل المضارع بصورتيه الإعرابيتين ( الرفع والجزم ) لدلالته على التجدد والحدوث ، لأن (( الفعل يقتضي مزاولة وتجدد الصفة في الوقت )) () ، والمتكلم أو المنتج اللغوي يريد التعبير عن ثبات الوصف وليس تجدده ، أو تدرج حدوثه بحسب المقام ودواعي الكلام وظروفه المحيطة به أو اعتقاده الثابت في صحة وقوع الحدث، فيعدل عن الفعل ، لأنه لا يناسب المقام ، فيلجأ إلى الأنماط البديلة في ضوء الدلالة الزمنية للفعل والوصف ، فيختار ما يناسب اعتقاده أو يقينه بحدوث الجزاء ، فالمضارع المرفوع الواقع في جواب الطلب يصلح لمواقع تركيبية ودلالية لا يؤديها نظيره المجزوم ، وكذلك المجزوم يصلح لمواقع تركيبية ودلالية لا ينهض بها المرفوع ، وهما لا يصلحان لمواقع تركيبية ودلالية تقوم بها الجملة الإسمية أو الفعل الماضي المسبوق بـ( قد ) أو غيره . ولكل ما يناسبه ، وتبادل المواقع لا تجري بلا قيد ، لأن الاختيار مشروط بالملاءمة الدلالية للمقام والسياق وظروف الكلام ، فالبديل اختيار واع ومقصود ومشروط ومقيد بالمناسبة الدلالية الدقيقة ولا يتم العدول من صيغة إلى أخرى ، ومن حالة إعرابية إلى غيرها ، ومن حرف إلى آخر بلا مناسبة ولا قيد ، لأن البدائل تكون في ضوء سياقاتها حتى تتحقق الغاية من الكلام ، ففي قوله تعالى ) اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ( [ البقرة 61 ] .
قال أبو حيان : (( هذه الجملة جواب للأمر ، كما يجاب بالفعل المجزوم ... وكأنه قال : إن تهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم )) () .
وليس ما ذهب إليه سليماً ، لأن دلالة الفعل المجزوم تختلف عن دلالة الجملة الاسمية ، وقد عبّر بالتشبيه في قوله ( وكأنه قال ) للاشتراك في المعنى العام ، ولكن ليس بين التركيبين مطابقة تامة في الدلالة ، لأن التركيب الطلبي لا يعادل التركيب الشرطي ، كما أن جملة الجواب مؤكدة بـ( إنّ ) وفيها تقديم الخبر ، وفي التركيب حرف ( مصرا ) بإثبات الألف ، للدلالة على أنه أراد مصرا من الأمصار ، لأنهم كانوا في تيه ، ولو أراد مصر بعينها لقاله بدون ألف ، كما في قوله تعالى ) ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ( [يوسف 99 ] ، ودلالة فعل الأمر الرغبة القوية في حصول الحدث ، وهو معلق عليه حصول الجزء الثاني من التركيب الطلبي ، فإن كان هناك ما يجب فعله فليكن الهبوط أو النزول في أي مصر لحصول الأمر ووقوع حدثه ، وزوال تعلقه ، والتعبير بالجملة الاسمية يدل على صحة اعتقاده بحدوث الفعل والفاء تدل على سرعة الحصول عقب وقوع الأمر مباشرة ، وربط ذلك بـ( إنْ ) ، والحرفان يقومان بدور تركيبي مهم وهو الربط بين ركني التركيب الطلبي الذي يضم الطلب المعبر عن الرغبة القوية بحصول الحدث ويضم ثانياً الجملة الاسمية التي حلت محل الفعل المضارع المجزوم الواقع في جواب الطلب غير أن الفعل المضارع لا يصلح أن يكون في هذا الموقع ، لأنه لا يناسب ما اعتقده موسى عليه السلام ، وهو اليقين يحصول ما أرادوا واليهود طرف في هذا الحوار ، وهم من عرف عنهم الإنكار والعناد واللجاجة بالباطل ، ولهذا فإن الحوار معهم يحتاج إلى تأكيد ، فالمقام يحتاج إلى المؤكدات التي تتناسب ومقام التعامل مع اليهود ، فجاء بـ ( إن ) وقدم الخبر المتعلق باللام التي تكون (( للملك والاستحقاق والاختصاص )) () .
والتعليق ارتباط معنوي بين الحدث وشبه الجملة ، وهي تدل على وجود ما سألوا عنه وعلى أنه وجد لأجلهم وهم يستحقونه بمشيئة الله تعالى الذي مكّنهم منه وسرعة حصولهم عليه بدليل الفاء إذا نفذوا ما طلب منهم وكأن النتيجة حاصلة بالفعل ، مع اعتقاد موسى عليه السلام بصحة ما أخبرهم به بدليل الجملة الاسمية ، حيث اختارها لتكون بديلة عن الفعل المضارع في جواب الطلب ، فحقق الغاية لدلالتها على صدق ما اعتقده ، والمضارع المجزوم لا يستطيع التعبير عن الثبات الخبري والإسنادي والاستمرار وعدم التجدد ، لأن الجملة الاسمية تحمل دلالياً يقين المتكلم من حصول الجواب بصورة قوية مؤكدة .
وفي قوله تعالى ) قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن اتبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ( [ الأعراف 18 ] .
قال الزجاج : (( والكلام بمعنى الشرط والجزاء ، كأنه قيل : من تبعك أعذبه ، فدخلت اللام للمبالغة والتوكيد ، ولام لأملان لام القسم ولام ( من تبعك ) توطئة لها ، يجوز في الكلام والله من جاءك لأضربنه ، ولا يجوز والله لمن جاءك أضربه ، وأنت تريد لأضربنه ، ولكن يجوز : والله لمن جاءك أضربه تريد لأضربنه )) () .
وقوله فيه نظر ، لأن الكلام ههنا من رب العزة سبحانه إلى إبليس الذي أقسم على إضلال الناس من جميع جهاتهم باغوائهم وتخويفهم ، وتعهد بالانصراف كلياً لتحقيق ذلك ، فكان الرد ملائماً للموقف اذ اجتمع فيه معنى الشرط والقسم مع زيادة التوكيد باللام الواقعة في جواب القسم ، ولام أخرى موطئة له ، مع توكيد الحدث بالنون المناسبة زمنياً لدلالة الفعل المضارع حيث يدل على الاستقبال ، لأن لام القسم حاملة وعارية (( فالحاملة حدّها أن تكون مع المستقبل لازمة لنوني التأكيد ، نحو قوله تعالى ) ليسجنن وليكوناً من الصاغرين ( [ يوسف 32 ] ، ومع الماضي بقد ظاهرة ومضمرة ومقدرة ... والعارية نحو قوله تعالى ) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( [ الحجر 72 ] فعمرك قسم واللام عارية زائدة ، لأنه لا يصح دخول قسم على قسم )) () .
وجواب القسم محذوف مقدر فيه التوكيد ، فجزم المضارع ، لأن الجواب للمتقدم منهما ، وهو ليس نتيجة مباشرة للأمر بالخروج ، وإنما نتيجة لفعله وعصيانه وتكبره وغضب الله تعالى عليه وعلى ذريته وعلى من اتبعه من الناس ، وذلك في قوله تعالى
) منكم أجمعين ( (( وفيه تغليب الحاضر على الغائب )) () ، وفيه دلالة على الوعيد الشديد لشموله الحاضر ومن سيأتي بعده من الجن والإنس ، فإنهم ملعونون جميعاً ولهم العذاب في جهنم لقوله تعالى ) قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ( [ ص 84 – 85 ] .
(( وقرئت ( قال فالحقَّ والحقَّ أقولُ ) بنصبهما جميعاً فمن رفع فعلى ضربين على معنى فأنا الحقُّ والحقُّ أقول ويجوز رفعه على معنى فالحقُّ مني ، ومن نصب فعلى معنى فالحقَّ أقول والحقَّ لأملأن جهنم حقاً )) () ، فجاء ( لأملأن ) جواباً للقسم المحذوف على قراءة الرفع أما النصب فبالفعل المذكور أو بنصبه على المصدر فيقدر الفعل من لفظه ، أي أحق الحق فوسمه بالذل والصغار في قوله تعالى ) فاخرج إنك من الصاغرين ( [الأعراف 13 ] ، وبالرجم في قوله تعالى ) فاخرج منها فإنك رجيم ( [ ص 77 ] ، فكان التركيب مصدراً بفعل الأمر ومؤكداً بـ( إن ) مع ضمير الخطاب والجواب جملة إسمية ، فكانت صفة ثابتة له لا تتغير ، لهذا جاء التعبير بها حيث لا يصلح التعبير بالمضارع ، كما صلح جزاءً لمن عصى وتكبر ، وجاء التعبير بدالة التأكيد ( إن ) متصلة بضمير الخطاب للدلالة على شدة توكيد اختصاص صاحب الضمير بالوصف ، وتدل الجملة الاسمية على ثبوته له حاضراً ومستقبلاً إلى يوم الدين ، لأن معنى الضمير يدل على الحضور ، والنون تدل على تكرار الفعل وعلى امتداد زمنه نحو المستقبل القريب والبعيد إلى ما شاء الله تعالى ، وإن كان العذاب والامتلاء لم يقعا فعلاً ، إلا أنهما سيقعان حتماً ، لما في الكلام من التوكيدات التي تؤكد فكرة ما يترتب على ابليس ومن تبعه ، فإنهما كائنان فعلاً لمن يؤمن بذلك كما قال تعالى ) يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( [ الحج 1 ] .
فالتحذير من قيام الساعة وعظمها وما يترتب عليها للناس كلهم ، وجواب الطلب جاء جملة اسمية مؤكدة للدلالة على أنه أمر كائن لا محالة وهو ثابت في عقيدة المسلم وإن لم يقع بعد ، لأنه كلام الله تعالى ، ومن أصدق من الله قيلاً ؟ أما إذا كان الكلام موجهاً لطلب شيء ، فإنه يؤكد بما يثبت صفة الطالب ، نحو قوله تعالى ) قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ( [ يوسف 55 ] فقد طلب يوسف عليه السلام من الملك أن يستوزره ، فأكد طلبه بثبوت قدرته على الحفظ والأمانة ، فعبر بجملة اسمية مؤكدة بـ(إن ) المتصلة بضمير الحضور للدلالة على توكيد حضور الصفتين وثباتهما فيه ، وأكد ذلك الثبوت الدائم وعززه بصيغة ( فعيل ) التي تدل على الثبوت والدوام ، لأنها صفة مشبهة وهي أدوم وأثبت من صيغة ( فاعل ) ، ولم يأت بالفاء ، لأن تنفيذ الطلب غير ملزم ، وإن كان الملك قد أنس منه عقلاً وحكمة إلا أن الأمر بمشيئته ، فالمقام يستدعي عدم وجود الفاء وفيه دلالة على مراعاة حسن الطلب للوصول إلى تحقيقه بالاستعطاف لا بالإلزام ، كما قال تعالى على لسان نوح عليه السلام ) فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ( [ الأعراف 59 ] .
فقد توجه إليهم بخطاب عقلي مستعطفاً إياهم ثم يذكر جزاءهم ونتيجة عدم تنفيذ الأمر وليس على تنفيذه ، لأن الترتيب الدلالي هنا معكوس ومقام الكلام لا يناسبه الفعل بل الجملة الاسمية المؤكدة بـ( إن ) للدلالة على صدقه في الخوف عليهم وعلى إثبات وجود العذاب لمن لا ينفذ الأمر فالمقام يقتضي أن يكون الجواب جملة إسمية مؤكدة لتأكيد ثبوت معنى الجملة واستمراره وخالياً من الفاء للدلالة على امتداد الخوف وتعاظمه مع طول الأمد لحرصه على نجاة قومه منه مع الرجاء بعفو الله تعالى ، والأمر الأكيد بسعة رحمته تعالى ، ولأن أمر العذاب بمشيئته تعالى والمغفرة بمنّه وفضله سبحانه، ونحوه قوله تعالى ) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ( [نوح 10] ، وقوله ) فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ( [ فصلت 36 ] ، وقوله ) فاخرج إني لك من الناصحين ( [ القصص 20 ] .
وعلة اختيار التعبير ترجع إلى مقام الكلام وما يقتضيه مما يناسبه بحسب مجرى السياق فقد يأتي جواب التركيب الطلبي جملة اسمية مسبوقة بالحرف ( لعل ) ، وهو
(( للترجي والإشفاق والفرق بين الترجي والتمني أن التمني يكون في الممكن نحو : ليت زيداً قائم ، وفي غير الممكن ، نحو :ـ
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخـبره بمـا فعـل المشـيب
وأن الترجي لا يكون إلا في الممكن ، فلا تقول : لعل الشباب يعود ، والفرق بين الترجي والإشفاق أن الترجي يكون في المحبوب ، نحو : لعل الله يرحمنا ، والإشفاق في المكروه ، نحو : لعل العدو يقدم )) () .
والمقام الذي يستعمل فيه ( لعل ) جواباً للطلب بديلاً للمضارع يشير إلى عدم القطع بحصول الرجاء ، نحو قوله تعالى) قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت( [ المؤمنون 99 – 100 ] ، وقوله ) فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ( [ طه 44 ] ، وقوله ) فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى ( [ القصص 38 ] ، وقوله
) فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ( [ الأعراف 69 ] .
فالآية الأولى تعبر عن ضآلة الرجاء حيث عرف الكافر مكانه وليس هناك أمل في الرجوع .
والثانية تعبر عن عناد فرعون وكفره مع إشفاق عليه لإعطائه الفرصة الأخيرة .
والثالثة تعبر عن عدم إنكار وجود إله موسى إنكاراً تاماً ، لأن ( لعل ) تشير إلى الأمل في إدراكه وإن كان ضئيلاً .
والرابعة تعبر عن الأمل في إيمان قوم هود لحرصه عليهم ، راجياً لهم الصلاح .
ومقامات هذه التعبيرات تشترك جميعاً في عدم القطع بحصول الرجاء المستفاد من ( لعل ) وتدل على الإشفاق مع الرغبة القوية في تنفيذ حدث الركن الأول ، وهو فعل الأمر الذي يدل على إلزام المأمورين بحدثه ، والمقامات لا يصح فيها استعمال المضارع المجزوم لدلالته على عدم حصول أو وقوع حدثه ، ففي قوله تعالى ) فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب ( [ مريم 5 – 6 ] .
(( يقرأ بالجزم يرثْني ويرثْ من آل يعقوب على جواب الأمر ومن قرأ يرثني ويرثُ فعلى صفة الولي )) () ، فحصول حدث فعل الدعاء معلق عليه حصول حدث الجواب من التركيب الطلبي ولم يقع أي منهما سوى الرغبة القوية في حصول الهبة وقت الدعاء ، لأن دلالته إمكان حدوثه في المستقبل ، والإخلاص في الدعاء مع التوحيد جعل زكريا عليه السلام متوقعاً الاستجابة بدليل قوله ) ولم أكن بدعائك رب شقياً ( [ مريم 4 ] فوضع المضارع المجزوم في التركيب الطلبي يتعلق حصول حدثه بتوقع المنتج اللغوي وفق اعتقاده ويقينه بحقيقة الطلب .
والمحدثون من اتباع النظرية التوليدية يستخدمون مصطلح ( المعنى ) للتعبير عن الدلالة السطحية أو الفكرة العامة التي تفهم من التركيب أو من النظائر الأسلوبية له ويستخدمون مصطلح ( المغزى ) للتعبير عن المضمون أو المعنى العميق الذي يتفرد به الأسلوب عن غيره ويتميز به (( فالمنتج اللغوي ( المتكلم أو الكاتب ) يملك بين يديه صوراً تركيبية يمكنها كلها التعبير عن جوهر معنوي واحد أو الفكرة العامة التي يريد التعبير عنها ، لكنه ( المنتج ) يدرك أن كل تركيب يعبر عن هذه الفكرة العامة من خلال التفاعل بين الألفاظ ومعانيها وتركيبها النحوي البنيوي وبناء عليه تتباين هذه التراكيب فيما بينها في التعبير عن الجوهر أو المضمون الواحد بصور تعبيرية متفاوتة فالمنتج اللغوي يملك حرية الاختيار من بين هذه الصور أو النظائر الأسلوبية Cognates ما يراه معبراً عن مراده بدقة ، وما يلائم – في الوقت نفسه – الظروف الخارجية المحيطة بالكلام لكي يتصف قوله بالدقة التعبيرية والتأثيرية )) () .
فقد تشترك التراكيب في المعنى العام وهو ما يطلق عليه البنية السطحية أو الفكرة العامة وتختلف دلالياً لحصول أي تغيير أو عدول أو تبادل موضعي باختيار المتكلم للوصول إلى أعلى درجة من التأثير في المتلقي والدراسة اللغوية التحليلية تهتم بالاختيار في تحقيق الدقة الدلالية عن طريق الرجوع إلى الاستصحاب اللغوي واختيار البديل الأسلوبي ثم تجري الموازنة بين التركيب الأصلي والبديل لإيضاح علة اختيار البديل المناسب لسياقه ، وقد درس النحاة تأثير الكلام على معنى المفردة ، إذ يؤثر في معناها المعجمي ، حيث تتعدد دلالة اللفظ الواحد ووظائفه النحوية التركيبية فيحدد السياق دلالة الفعل والاسم ، والحروف تستجمع معاني كثيرة يحددها السياق ، وقد يلغي السياق معنى اللفظ ويحكم عليه بالزيادة ، إذ لا يتصل بالمعنى العام فالحروف قد تكون زائدة ، أو قد يحصل التبادل فيما بينها لاقتضاء المقام فـ( إلى ) مثلاً (( تكون لمنتهى غاية كقول القائل : إنما أنا إليك ، أي : أنت غايتي ، ولا تقع ( حتى ) هاهنا ، وقد تقع في مكان ( مع ) ، قال الله تعالى ) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ( [ النساء 2 ] ، أي : مع أموالكم ، وقوله تعالى ) من أنصاري إلى الله ( [ آل عمران 52 ] ، أي : مع الله ، وتقول العرب :
( الذود إلى الذود إبل ) ، أي : مع الذود )) () .
ويذهب الفراء إلى أن ( إلى ) في الآية الأولى بمعنى بدل () ، وقال الزجاج في الآية الثانية : (( جاء في التفسير من أنصاري مع الله ، و ( إلى ) ههنا إنما قاربت ( مع ) معنى بأن صار اللفظ لو عبر عنه بـ( مع ) أفاد مثل هذا المعنى ، لا أن ( إلى ) في معنى ( مع ) لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز ذهب زيد مع عمرو ، لأن ( إلى ) غاية و(مع) تضم الشيء إلى الشيء ، فالمعنى : يضيف نصرته إياي إلى نصرة الله ، وقولهم إن (إلى ) في معنى ( مع ) ليس بشيء ، والحروف قد تقاربت في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد ، من ذلك قوله جل وعز ) ولأصلبنّكم في جذوع النخل ( [ طه 71 ] ولو كانت ( على ) ههنا لأدت هذه الفائدة ، لأنك لو قلت لأصلبنكم على جذوع النخل كان مستقيماً ، وأصل ( في ) إنما هو للوعاء ، واصل ( على ) لما مع الشيء ، كقولك : التمر في الجراب ، ولو قلت التمر على الجراب لم يصلح في هذا المعنى ولكن جاز ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) ، لأن الجذع يشتمل على المصلوب ، لأنه قد أخذه من أقطاره ، ولو قلت زيد على الجبل وفي الجبل يصلح ، لأن الجبل قد اشتمل على زيد ، فعلى هذا مجاز هذه الحروف )) () .
فقد زاد اختيار هذه الأحرف في الاستعمال معنى على معناها الأصلي ، فأكسبها السياق معنى جديداً وهذا توليد للمعاني الجديدة لم يغفل عنه القدماء ، وقد أفاد ( إلى ) في الآية الأولى معنى جديداً زائداً على معناه الأصلي وهو نسبة النصرة وغايتها تكون من جمع تقوية لها إعلاءً لكلمة الله تعالى وهذا لا يؤديه معنى ( مع ) وحده، وكذلك أفاد ( في ) في الثانية معنى جديداً ، وهو إظهار طغيان فرعون واستخفافه بالناس حيث دل التركيب على أنه أراد الإمعان في التعذيب والمغالاة فيه ، إذ المعنى يشير إلى زيادة على الصلب المعتاد بالشد المحكم لأجساد المصلوبين بحيث يدخلها في جذوع النخل للوصول إلى أقصى غاية من التنكيل حتى يرهب الناس ويضطرهم إلى الإذعان بالرعب الشديد وهذا ديدن الطغاة في كل عصر .
فالمعنى العام يحتكم إليه في دلالة المفردة ولا يترك أو يهمل ، وبمعونة السياق يظهر أثر التغيير الدلالي ، إذ يصرف السياق الحرف إلى أن يكون اسماً ، فقد (( استعمل الكاف اسماً قليلاً ، كقوله :ـ
أتنتهـون ولن ينهـى ذوي شـطط كالطعن يذهـب فيه الزيت والفتـل
فالكاف : اسم مرفوع على الفاعلية والعامل فيه ( ينهى ) والتقدير: ولن ينهى ذوي شطط مثل الطعن ، واستعملت ( على ) ، و ( من ) اسمين عند دخول ( مِن ) عليهما ، وتكون ( على ) بمعنى ( فوق ) و ( عن ) بمعنى جانب ، ومنه قوله :ـ
غـدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤهـا تصلّ وعـن فيض بزيزاء مجهـل
أي : غدت من فوقه ، وقولـه :ـ
ولقـد أرانـي للرمـاح دريئــة من عـن يمينـي تـارة وأمـامي
أي : من جانب يميني )) () .
ويحتكم إلى أصل المعنى لمعرفة التضمين ، وهو (( اشراب لفظ معنى لفظ آخر فيعطونه حكمه ، وفائدته أن تؤدى كلمة مؤدى كلمتين )) () ، فإن التضمين يولد معنى جديداً ، فهو يأخذ معنى من الفعل المذكور ومعنى من الفعل المقدر فيتولد معنى جديد يجمع بين المعنيين .
قال ابن جني : (( اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بالآخر فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر ، فلذلك جيء بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه )) () .
وذلك نحو قوله تعالى ) عيناً يشرب بها عباد الله ( [ الإنسان 6 ] ، (( فقد ضمن ( يشرب ) معنى ( يرتوي ) فجمع معنيي الشرب والري معاً )) () .
وقيل : (( والأجود أن يكون المعنى من عين )) () .
حيث عول على الظاهر دون الأخذ بالتغيير الدلالي ، لأن الفعل ( يشرب ) يتعدى بنفسه و ( من ) تفيد البعضية .
ونحوه قوله تعالى ) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ( [ المطففين 2 ] ، فقد جاء الافتعال والتعدية بـ( على ) للدلالة على التسلط والظلم ، وقيل : (( هو إعطاء الشيء معنى الشيء ، وتارة يكون في الأسماء وفي الأفعال وفي الحروف ، فأما في الأسماء فهو أن تضمن اسماً معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعاً كقوله تعالى ) حقيق عليّ أن لا أقول على الله إلا الحق ( [ الأعراف 105 ] ضمن ( حقيق ) معنى ( حريص ) ليفيد أنه محقوق بقول الحق وحريص عليه وأما الأفعال فأن تضمن فعلاً معنى فعل آخر ويكون معنى الفعلين جميعاً ، وذلك بأن يكون الفعل يتعدى بحرف فيأتي متعدياً بحرف آخر ليس من عادته التعدي فيحتاج إما إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصح تعديه به )) () ، بحسب أصل المعنى مع الأخذ بالتغيير لبيان دلالته ، والغرض من البديل .
وفي قوله تعالى ) ولا تعد عيناك عنهم ( [ الكهف 28 ] .
قال الزمخشري : (( يقال : عداه إذا جاوزه ، ومنه قولهم : عدا طوره ... وإنما عدي بـ( عن ) لتضمن ( عدا ) معنى ( نبا ) و ( علا ) في قولك نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به ، فإن قلت : أي غرض في هذا التضمين ؟ وهلا قيل : ولا تعدهم عيناك أو لا تعل عيناك عنهم ؟ قلت : الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم ؟ )) () .
إن التركيب يولد معنى جديداً زائداً على معنى المفردة المعجمي ، لأن المعنى النحوي يعبر عن وظيفة اللفظة في التركيب ، فينقلها عن دلالتها اللفظية ، ويحصل بالإسناد والنسبة والإضافة والتعدية وغيرها لبيان ما تقوم به المفردة داخل التركيب من خلال التأليف والمعنى النحوي الأصلي يتم بالإسناد ، وهو المعنى الأول أو أصل المعنى كما عبر الجرجاني () ، وإن المعاني البلاغية والدلالية متعلقة به ، لأنه قد يعدل عن الأصل لغرض دلالي ، نحو قوله تعالى ) ولا تكونوا أول كافر به ( [ البقرة 41 ] ، فقد عدل عن الجمع فلم يقل : أول الكافرين . وأخبر عنه بالمفرد ( كافر ) ، لأن الخطاب وقع على حكماء بني إسرائيل وكبرائهم ، فإذا كفر هؤلاء كفر معهم الأتباع ، لأن الناس على دين ملوكهم فنهي المتبوع أولى من أتباعه ، كما قال تعالى لموسى عليه السلام ) لن تراني .... قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ( [ الأعراف 143 ] ، وقال (( بعض النحويين إن هذا إنما يجوز في فاعل ومفعول ، تقول الجيش منهزم والجيش مهزوم ، ولا يجوز فيما ذكر:الجيش رجل ، والجيش فرس ، وهذا في فاعل ومفعول ابين ، لأنك إذا قلت : الجيش منهزم فقد علم أنك تريد هذا الجيش فنطقت في لفظه بفاعل ، لأن المعنى الذي وضع عليه الجيش معنى يدل على جمع ، فهو ( فَعال ) ، ومفعول يدل على ما يدل عليه الجيش ، وإذا قلت الجيش رجل فإنما يكره في هذا أن يتوهم أنك تقلله فأما إذا عرف معناه فهو سائغ جيد تقول : جيشهم إنما هو فرس ورجل أي ليس بكثير الأتباع فيدل المعنى على أنك تريد الجيش خيل ورجال وهذا في فاعل ومفعول أبين كما وصفنا )) () ، لأن الأصل في الخبر أن يكون مشتقاً نكرة حيث يعرف بالإسناد، والوصف يصلح للإخبار عن معنى الجمع، لتضمنه الذات المقيدة بالحدث والخبر وصف فيصح أن نقول : الجيش قائم وسائر ومهزوم ومسبوق ولا يؤدي الجامد هذا المعنى كما نقول فريق مؤمن وفريق كافر ، لأنه يصح تأويله بالفعل يؤمن ويكفر ، كما قال تعالى ) إن البقر تشابه علينا ( [ البقرة 70 ] .

المبحث الثاني :ـ البدائل الأسلوبية :ـ
إن المعنى النحوي العام يكون في التراكيب الموضوعة على الأصول في القواعد ، لأن (( الأصل في الكلام أن يوضع للفائدة )) () ، حيث افترض النحاة أن للكلام أصلاً ثم يتسع فيه على صور مختلفة ، لأن (( الكلام له أصل ثم يتسع فيه فيما شاكل أصله )) () ، إذ (( تتوخى في كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفياً أو استفهاماً أو متمنياً فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك )) () .
وذهبوا إلى أن الإيجاب أصل لغيره من صور الكلام كالنهي والنفي والاستفهام .
تقول : (( قام زيد ، ثم تقول في الفني : ما قام زيد ، وفي الاستفهام : أقام زيد ؟ وفي النهي : لا تقم ، والأمر لتقم ، فترى الإيجاب يتركب من مسند ومسند إليه ، وغيره يحتاج إلى دلالة في التركيب على ذلك الغير ، وكلما كان فرعاً احتاج إلى ما يدل به عليه ، كما احتاج التعريف إلى علامة من ( أل ) ونحوها لأنه فرع التنكير )) () .
فالكلام المفيد إذا جرد مما يدخل عليه من الأدوات التي تغير معناه صار إيجاباً وكان في الغالب خبراً لا إنشاء ، لأن التركيب الإسنادي هو أصل المعنى المفيد فائدة بحسن السكوت عليها ، ثم تتوالى عليه زيادات بالسوابق واللواحق ، فيعدل به عن الأصل لإيجاد دلالات تركيبية بحسب المقام والسياق وظروف الكلام للوصول إلى الغاية القصوى من التأثير في الفكر ، بل (( إن الفلاسفة أكثر اهتماماً بتأثير نظام التركيب النحوي على أحكامنا وقضايانا المنطقية )) () .
والعدول عن الأصل يطلق عليه حديثاً ( الأسلوب العدولي ) (( والقرآن الكريم حافل بالأساليب العدولية التي تحل فيها علاقة عقلية أو فنية محل العلاقة الأصلية العرفية فيئول الكلام إلى أحد الأساليب البيانية العدولية )) () .
وإن العرف اللغوي يقضي بأن يكون لكل أسلوب معنى يستقل به ولا يشاركه فيه سواه وهذا ما اتفق عليه أصحاب النظرية التوليدية حيث يذهبون (( إلى أن أي تركيبين لغويين مختلفين إنما ينتجان معنيين مختلفين وبالتالي أسلوبين مختلفين )) () .
والحق أنه لا يكون للجملتين المختلفتين معنى واحد ، بل لا بد أن يكون بين التعبيرين المختلفين اختلاف في المعنى مهما كان ضئيلاً ، نحو قوله تعالى ) وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ( [ الحشر 22 ] .
قال الزمخشري : (( فإن قلت : أي فرق بين قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم وبين النظم الذي جاءت عليه ؟ قلت في تقديم الخبر على المبتدأ وتصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم وليس ذلك في قولك وظنوا أن حصونهم
تمنعهم )) () .
فالأخبار بالجملة الاسمية يعبر عن اعتقاد المتكلم بصحة الخبر واستمراره ودوامه ، والإخبار بالجملة الفعلية يدل على التجدد والحدوث ، ويعبر عن عدم الاطمئنان على ثبوته ودوامه لارتباطه بالزمن ، و(( لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشعر أو فصل من النثر فتؤديه بعينه وعلى خاصيته وصنعته بعبارة أخرى حتى يكون المفهوم من هذا هو المفهوم من تلك لا يخالفه في صفة ولا وجه ولا أمر من الأمور ... فأما إذا تغير النظم فلا بد حينئذ من أن يتغير المعنى )) () .
وعليه فليس هناك أسلوبان أو أكثر يؤديان المعنى نفسه (( وبناءً على هذا فكل تغيير لغوي يترتب عليه تغيير دلالي طبقاً للظروف المحيطة بعملية الكلام ، ولقد راعى القرآن الكريم هذا في مواضع عديدة ، منها مثلاً موقف المرسلين من أصحاب القرية حيث أخبروهم أولاً مؤكدين بقولهم ) إنا إليكم مرسلون ( [ يس 14 ] ، ثم حين وجدوا منهم إنكاراً شديداً قالوا لهم ) إنا إليكم لمرسلون ( [ يس 16 ] بزيادة دوال التأكيد مقابلة لتكذيبهم الشديد للمرسلين )) () .
إن الصور التركيبية المتعددة التي تشترك في مفهوم الفكرة العامة أو المعنى العام أو البنية السطحية تفترق من حيث درجة قوة التعبير عن هذه الفكرة العامة لاختصاص كل تركيب بظلال دلالية تفصله عن غيره من التراكيب كاللفظ الواحد الذي يؤدي معاني عدة ويتصف في النظم بدلالات تميزه عن غيره ، فالمعنى الواحد له صور متعددة ، ولكل صورة دلالة تختلف عن الأخرى و(( اعلم أن قولهم إن التفسير يجب أن يكون كالمفسر دعوى لا تصح لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي بيناه من أن شأن المعاني أن تختلف بها الصور ويدفعوه أصلاً حتى يدعوا أنه لا فرق بين الكناية والتصريح وأن حال المعنى مع الاستعارة كحاله مع ترك الاستعارة وحتى يبطلوا ما أطبق عليه العقلاء من أن المجاز يكون ابدا أبلغ من الحقيقة فيزعموا أن قولنا طويل النجاد وطويل القامة واحد )) () .
فإذا أريد الدلالة على المعنى الأبلغ والأقوى ترك التصريح بالأصل بحسب ما وضع له في اللغة أصلاً وعمد إلى العدول عنه إلى معنى آخر يشير إليه مع وجود الدليل من القرائن ومقيد بشرط المناسبة للمقام كان للبديل الحسن والمزية على صريح لفظه المؤدي لمعناه الأصلي المباشر ، فالخبر فكرة عامة أو معنى عام يقابل الطلب ، ولكن المخبر باستطاعته أن يسلك فيه طرائق متعددة بما يلائم مراده ، فله أن يأتي به عاماً أو بحسب المقام نحو : القراءة مفيدة ، والفائدة في القراءة قرأت المفيد ، واستفدت من القراءة ، وأقرأ لأتعلم ، وإن القراءة مفيدة ، وإن القراءة لمفيدة ، ووالله إن القراءة لمفيدة ، أو يخبر بلفظ يدل على الإلزام والوجوب ، نحو يجب أن تقرأ ، والقراءة فرض عليك كتب عليك القراءة ، وأوصيك بالقراءة وأمرك بأن تقرأ ، وأمرنا بالقراءة .
وغير ذلك من الصور المتعددة للمعنى العام ، ومنه قوله تعالى ) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( [ النساء 58 ] ، فخرج الخبر إلى الأمر العام لجميع الأمة ، لأن ( يأمركم ) فيه الإلزام والوجوب ، وقد يكون بغير ذلك ، إذ يتم العدول بالفعل الخبري عن صيغة الأمر للدلالة على التوكيد والإشعار بامتثال الأمر ، وإن المخاطب جدير بالمسارعة لتنفيذه ، وإنه أهل لتلقيه وتحمله فكأنه قد تحقق فعلاً ، نحو قوله تعالى
) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ( [ البقرة 228 ] ، وقوله ) والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ( [ البقرة 233 ] (( اللفظ لفظ الخبر والمعنى الأمر ، كما تقول : حسبك درهم فلفظه لفظ الخبر ، ومعناه اكتفِ بدرهم . وكذلك معنى الآية لترضع الوالدات )) () .
ونحوه قوله تعالى ) والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ( [ البقرة 234 ] ، (( فظاهر هذا الكلام خبر إلا أن علماء المسلمين اتفقوا على أن النساء عليهن أن يعتددن لطلاقهن ثلاثة أقراء إذا كان الحيض موجوداً ، وأن يتربصن بأنفسهن إذا توفي عنهن أزواجهن أربعة أشهر وعشرا ، فعلم بإجماع المسلمين أن المراد بذلك الأمر )) () .
ومما اتفقوا عليه () قوله تعالى ) ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ( [ البقرة 185 ] ، وقوله ) فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ( [ البقرة 196 ] ، أي (( فعليه ما استيسر من الهدي ، وموضع ( ما ) رفع ويجوز أن يكون نصباً على إضمار فليهد ما استيسر من الهدي ، وقوله عز وجل ( فصيام ثلاثة أيام ) معناه فعليه صيام والنصب جائز على فليصم هذا الصيام )) () .
(( ومن الخبر الذي هو أمر قول النبي r : ( لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب ) أي اقرؤوا في الصلاة الفاتحة ومنه ) كتب عليكم الصيام ( وقوله ) وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ( [ البقرة 280 ] معناه فانظروه إلى ميسرته )) () .
ومنه قوله تعالى ) يوصيكم الله في أولادكم ( [ النساء 11 ] ، أي يفرض عليكم ، لأن الوصية من الله تعالى فرض والدليل على ذلك قوله تعالى ) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به ( [ الأنعام 151 ] ، ومن ذلك قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله ... يغفر لكم ذنوبكم ( [ الصف 10 – 12 ] (( هذا جواب ( تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون ) ، لأن معناه معنى الأمر . المعنى آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم يغفر لكم ذنوبكم ، أي إن فعلتم ذلك يغفر لكم والدليل على ذلك قراءة عبد الله بن مسعود : آمنوا بالله ورسوله ، وقد غلط بعض النحويين فقال : هذا جواب ( هل ) وهذا غلط بين ليس إذا دلهم النبي r على ما ينفعهم غفر الله لهم ، إنما يغفر الله لهم إذا آمنوا وجاهدوا ، فإنما هو جواب تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون يغفر لكم ، فأما جواب الاستفهام المجزوم فكقولك : هل جئتني بشيء أعطك مثله ، المعنى لو كنت جئتني أعطيتك وإن جئتني أعطيتك وكذلك أين بيتك أزرك )) () ، ويدل على إرادة الأمر جزم
( يغفر ) فلو لم يكن طلباً لم يصح الجزم ، ونحو ذلك (( أن تقول لابنك : تذهب إلى فلان وتقول له كذا وكذا ، أي اذهب وقل له )) () .
وقد تعكس الدلالة فيأتي الأمر بديلاً عن الخبر ، فيوضع الأمر موضع الخبر ، نحو قوله تعالى ) قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً ( [ مريم 57 ] أي يمد () .
و ((هذا لفظ أمر في معنى الخبر ، وتأويله أن الله عز وجل جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها، ويمده فيها، كما قال جل وعز) من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ( [ الأعراف186 ] ، إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن لفظ الأمر يريد به المتكلم نفسه إلزاماً، كأنه يقول: أفعل ذلك وآمر نفسي به، فإذا قال القائل:من رآني فلأكرمه فهو ألزم من قوله أكرمه كأنه قال من زارني فأنا آمر نفسي بإكرامه وألزمها ذلك )) () .
فقد جاء البديل وهو الأمر للدلالة على توكيد معنى الخبر وصرف الآية الكريمة إلى ما تحتمله من المعاني ، لأن التأويل أكثر استعماله في المعاني بترجيح أحدها بالدليل ، وهو تفسير باطن اللفظ حيث يقابل المصطلح الحديث البنية العميقة ، أما التفسير فهو بيان لفظ لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، وفيه القطع على أن المراد من اللفظ هذا بخلاف التأويل ، فهما متغايران ، وغالب استعمال التفسير في المفردات () ، والتأويل للتراكيب ويرجع إلى الدراية والاجتهاد ، وهو بيان للمعاني بطريق الإشارة ويتوصل إليه بمعرفة الألفاظ ومدلولاتها اللغوية ومعرفة الأساليب واستنباط المعاني من ذلك والترجيح فيما بينها بالأدلة .
ومن البدائل الأسلوبية التعبير بالتركيب الخبري عن معنى الشرط ، إذ شبه الموصول بالشرط لعمومه واستقباله فاقترن جوابه بالفاء بعده على معنى الشرط والجزاء ، نحو قوله تعالى ) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ( [ البقرة 274 ] (( ( الذين ) رفع بالابتداء ، وجاز أن يكون الخبر ما بعد الفاء ، ولا يجوز في الكلام : ( زيد فمنطلق ) ، لأن الفاء لا معنى لها ، وإنما صلح في الذين ، لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء )) () .
فقد دل التركيب على معنى التركيب الشرطي ، أي إن أنفقوا فلهم أجرهم ، والأصل في الشرط أن يؤدى بأدوات الشرط ، ولكن قد يؤدى بصور البدائل الأسلوبية ، ليعادل التركيب الخبري دلالياً التركيب الشرطي ، ولما دلت الأسماء الموصولة على العموم اقترن جوابها بالفاء للدلالة على تضمن معنى الشرط ، نحو قوله تعالى ) إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ( [آل عمران 21] ، دخلت ( الفاء ) في خبر ( إن ) ( فبشرهم )، لأن ( الذين ) يوصل بجملة توضحه ، لأنه من المبهمات ، فجعلت صلته بمنزلة الشرط للجزاء ، فاقترن الجواب بالفاء، لأن معنى الابتداء قد أزيل بـ(إن )، ولم يتغير المعنى الأصلي بدخول(إن ) ، بل إنها زادته تقريراً وتحقيقاً لاستمرار الحدث بدليل الأفعال المضارعة ، فعدل بالتركيب الخبري إلى معنى التركيب الشرطي ، للدلالة على القطع بإثبات العذاب وتحققه لكل من يفعل ذلك .
ونحوه قوله تعالى) والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ( [ النور 4 ] ، وقوله ) وما بكم من نعمة فمن الله ( [ النحل 53 ] .
قال الزجاج : (( دخلت الفاء ولا فعل ههنا ، لأن الباء متصلة بالفعل ، المعنى ما حل بكم من نعمة فمن الله ، أي ما أعطاكم الله من صحة جسم أو سعة في رزق أو متاع بمال أو ولد فكل ذلك من الله )) () .
وليس كذلك ، لأن ( ما ) في ( وما بكم ) إما موصولة وإما شرطية ، واقترن جوابها بالفاء ، لأنه جملة اسمية ، ولا فعل في حيزها حتى يكون صلة ، أو فعل شرط ، فقدر فعلا تتعلق به ( بكم ) . والراجح أنها موصولة ، لأن الأسماء الموصولة يمكن جعلها شرطاً وموصولاً بها في تعبيرات كثيرة ، فإنك إذا قلت : ( من أتاني أتيته ) احتملت (من ) أن تكون موصولة وأن تكون شرطية وما يدل على العموم من النكرات الموصوفة بفعل أو بظرف أو جار ومجرور ، نحو ( نفس تسعى في نجاتها فلن تخيب ) ، و ( رجل عنده حزم فسعيد ) () .
وكذلك ( أل ) الموصول الحرفي ، يمكن جعله شرطاً لمجيء الفاء في جوابه ، نحو قوله تعالى ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( [ النور 2 ] .
(( القراءة الرفع ، وقرأ عيسى بن عمر بالنصب ، الزانية والزاني بفتح الهاء ، وزعم الخليل وسيبويه أن النصب المختار وزعم سيبويه أن القراءة الرفع وزعم غيرهم من البصريين والكوفيين أن الاختيار الرفع ، وكذا هو عندي ، لأن الرفع كالإجماع في القراءة ، وهو أقوى في العربية ، لأن معناها معنى من زنى فاجلدوه ، فتأويله الابتداء ، وقال سيبويه والخليل إن الرفع على معنى ( وفيما فرضنا عليكم الزانية والزاني ) بالرفع أو الزانية والزاني فيما فرض عليكم ، والدليل على أن الاختيار الرفع قوله تعالى ) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ( [ النساء 16 ] ، وإنما اختار الخليل وسيبويه النصب ، لأنه أمر ، وأن الأمر بالفعل أولى والنصب جائز على معنى اجلدوا الزانية والزاني )) () .
فقد حمل ( أل ) دلالة الشرط ، اعتماداً على المعنى ، والدليل على ذلك قراءة الرفع وربط الجواب بالفاء ، ومما يقوي ذلك مجيئه محملاً بدلالة الشرط في قوله تعالى
) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( [ المائدة 38 ] ، وقد (( اختلف النحويون في تفسير الرفع فيهما . قال سيبويه وكثير من البصريين : إن هذا وقوله ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( [النور 2] ، وقوله ) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ( [ النساء 16 ] هذه الأشياء مرفوعة على معنى وفيما فرض الله عليكم السارق والسارقة والزانية والزاني ، أو السارق والسارقة فيما فرض الله عليكم ، ومعنى قولهم هذا : فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة ، وقال سيبويه : الاختيار في هذا النصب في العربية ، كما تقول زيداً اضربه ، وقال : أبت العامة القراءة إلا بالرفع يعني بالعامة الجماعة ، وقرأ عيسى بن عمر : والسارقَ والسارقةَ فاقطعوا أيديهما ، وكذلك الزانيةَ والزاني ، وهذه القراءة وإن كان القارئ بها مقدّما لا أحب أن يقرأ بها ، لأن الجماعة أولى بالاتباع ، إذ كانت القراءة سنة ( قال أبو إسحاق الزجاج ) ودليلي أن القراءة الجيدة بالرفع في ( والزانية والزاني ) وفي ( والسارق والسارقة ) وقوله جل ثناؤه ) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ( [النساء 16 ] ، وقال غير سيبويه من البصريين وهو محمد بن يزيد المبرد : أختار أن يكون والسارقُ والسارقةُ رفعاً بالابتداء ، لأن القصد ليس إلى واحد بعينه فليس هو مثل قولك زيداً فاضربه ، إنما هو كقولك : من سرق فاقطع يده ومن زنى فاجلده ، وهذا القول هو المختار وهو مذهب بعض البصريين والكوفيين )) () .
فقد جعل السياق ( أل ) دالاً على الشرط حملاً على المعنى ، فجرى مجرى الأسماء الموصولة التي أشبهت أسماء الشرط لدلالتها على العموم والمستقبل ، وجاءت القرائن الدالة على قوة معنى الشرط فيه وهي دالة الفاء لوجوب اقترانها بفعل الأمر إذا جاء جواباً للشرط ، ودليل آخر هو قراءة الرفع ، فجعل تخريج النصب ضعيفاً لأن الاشتغال يمكن عده ضمن أسلوب الطلب ، لأن المشغول عنه منصوب بفعل يقدر من السياق والفعل المذكور تفسير له ، فجاء الخبر بذلك بمعنى التركيب الشرطي ، و ( أل ) تأتي بمعنى الموصول ، كما في سورتي الذاريات والعاديات في قوله تعالى ) والذاريات ذرواً فالحاملات وقراً فالجاريات يسراً فالمقسمات أمراً ( [ 1 – 4 ] ، وقوله ) والعاديات ضبحاً فالموريات قدحاً فالمغيرات صبحاً ( [ 1 – 3 ] ، لأن المعنى : واللاتي عدون فاورين فاغرن وعطف الفعل ( فاثرن ) على الوصف ، لأنه في تأويل الفعل ، ونصب ( ذرواً ) في الذاريات على المصدر و ( وقراً ) على أنه مفعول به و ( يسراً ) على أنه مصدر منصوب في موضع الحال أي ميسرة () .
وقد تأتي ( أل ) بديلاً لأسلوب القصر ، لدلالتها على كمال الصفة في مدخولها ونفيها عمن سواه ، وذلك إذا كانت تعني عموم الجنس ، فقد تفيد القصر تحقيقاً (( وأما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه كقولك : ( عمرو الشجاع ) أي الكامل في الشجاعة ، تخرج الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لم توجد إلا فيه لعدم الاعتداد بشجاعة غيره لقصوره عن رتبة الكمال )) () .
وكذلك تأتي ( أل ) بمعنى الشرط ضمن البدائل الأسلوبية توليداً للمعاني الجديدة ، لأن الأسلوب الخبري يدل على الثبوت الدال على القطع فيناسب المقام أكثر من أسلوب الشرط الذي لا يكون قاطعاً في الجزاء والنتيجة ، فيحمّل الأسلوب الخبري معنى الشرط ليؤدي معنى جديداً من غير ترك لأصل المعنى أو الاستصحاب اللغوي ، والدليل على ذلك إن الخبر يؤكد بأدوات التوكيد ومع توكيده يحمل معنى الشرط ، نحو قوله تعالى ) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ( [ محمد 34 ] فقد عدل عن التركيب الشرطي إلى التركيب الخبري المحمل بمعنى الشرط بدالة الفاء ومعنى العموم في ( الذين ) المؤكد بـ( ان ) ، لأن ( الفاء ) تعين إرادة معنى الشرط فيما احتمل فيه الشرط وغيره ، لأن معنى الشرط مترتب على معنى الجزاء ، و( الفاء )
(( تكون جواباً للجزاء )) () ، و ( إنّ ) إذا دخلت على ما يحتمل الدعاء والخبر حولته إلى خبر ، لأن النواسخ تدخل على الجمل الدعائية نحو إن السلام عليكم وإن الويل له ، وهي خبر لا دعاء ، بدليل معنى التحقيق الذي أفادته ( إنّ ) ، لأنها تقع صلة للقسم نحو والله إن أخاك عالم ، والجواب مؤكد بـ( لن ) للدلالة على دوام نفي المغفرة لكل من يكفر ويصد عن سبيل الله ثم يموت وهو كافر .
ومن ذلك الظروف التي تحمل معنى الشرط ، فإن جوابها يقترن بالفاء ، نحو قوله تعالى ) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ( [ البقرة 150 ] ، فقد نزلت ( حيث ) الأولى منزلة الشرط بدالة ( الفاء ) وعطف ( حيث ما ) على التركيب الأول ، لأن ( ما ) دالة على شرطية ( حيث ) الثانية . قال الآلوسي في ( حيث ) الأولى : (( العامل فيها ما هو في محل الجزاء لا الشرط ، فهي هنا متعلقة بولّ والفاء صلة للتنبيه على أن ما بعدها لازم لما قبلها لزوم الجزاء للشرط ، لأن
( حيث ) وإن لم تكن شرطية ففيها رائحة الشرط )) () ، لأن فيها معنى العموم فاشبهت بذلك أدوات الشرط التي تدل على العموم ، ولكن عدل عنها للدلالة على دوام استقبال المسجد الحرام والقطع بذلك على الثبات الخبري لاستقبال البيت حيث كان الناس ، وقد نصب (شطر) على الظرفية، لأنه بمعنى الجهة والنحو، و(إذ) (( ظرف زمان مضى)) () ، حملت معنى الشرط في قوله تعالى ) وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ( [الأحقاف 11 ] .
فقد جاء التعبير بـ( إذ ) ، للدلالة على معنى جديد وهو ارتباط القول بعدم الهداية ، فلو اهتدوا لقالوا الحق ، فحالهم عندئذ مرتبط بعلة ضلالهم وبعدهم عن الطريق السوي ، وهذا المعنى لا يؤديه الظرف وحده إلا بتوجيه السياق والمقام حيث أضفى عليه معنى جديداً له علاقة بمعناه الدلالي ، فجاء بديلاً مناسباً للشرط بل كان أكثر منه ملاءمة ، توسيعاً للمعنى المراد ، ومبالغة فيه بما يلقي من ظلال دلالية زائدة على معناه الأصلي للوصول إلى المراد بأقصى غاية من التأثير في المقابل ، وهكذا معنى الأمر والنهي والنفي والشرط والتعجب وغيرها ، فإن الأمر له طريقة رئيسة يؤدى بها ، وهي فعل الأمر للمخاطب ، والفعل المضارع المتصل بلام الأمر ، لأمر غير المخاطب ، نحو قوله تعالى ) لينفق ذو سعة من سعته ( [ الطلاق 7 ] فقد أمر أهل التوسعة بأسلوب مباشر أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهم ، وقد يعدل عن ذلك لغرض دلالي ، حيث يؤدي المصدر معنى الأمر للدلالة على تأكيد العموم، لأن المصدر النائب عن فعله يدل على العموم ، نحو : ضربا زيداً ، يعني : أي ضرب ، لذلك امتنع ذكر عامله ، وهو فعل الأمر لحصول التناقض ، نحو قوله تعالى ) فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ( [ محمد 4 ] (( معناه فاضربوا الرقاب ضرباً ، منصوب على الأمر وتأويله فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ، ولكن أكثر مواقع القتل ضرب العنق ، فاعلمهم الله – عز وجل – كيف القصد وكيف قال ) واضربوا منهم كل بنان ( [ الأنفال 12 ] ، أي فليس يتوهم بهذا أن الضرب محظور إلا على الرقبة فقط )) () .
وليس كذلك ، بل المقصود عموم الضرب المؤدي إلى القتل ، ولم يحدد ضرباً بعينه ، بدليل قوله تعالى ) فاضربوا فوق الأعناق ( [ الأنفال 12 ] ، فلما جاء بالفعل حدد المكان ، ليتم معنى الفعل ، ولكن المصدر عام ، لأنه غير مقيد بذات ولا زمان ولا مكان ولا علة كالفعل الصناعي ، والمصدر المنصوب أبلغ من فعله فـ( صبرا ) أقوى من
( اصبر ) للدلالة على الحدث المجرد غير المقرون بزمن ولا بفاعل معين ، لأن (( الأمر يؤدى بصور مختلفة ، فيكون بفعل الأمر وباسم الفعل وبالمصدر المنصوب والمرفوع وبالفعل الخبري الدال على الأمر وذلك نحو : اصبر ولتصبر وصبراً وصبرٌ وصبارِ وتصبر على هذا الأمر وكلها بمعنى ( اصبر ) غير أن لكل أمر معنى ... و ( تصبر ) بلفظ الخبر إذا أريد به الأمر يفيد التوكيد والإشعار بأن الفعل جدير بأن يتلقى بالمسارعة فكأنه امتثل فأنت تخبر عن موجود )) () .
والمصدر هو الفعل الحقيقي الناتج عن الفعل الصناعي ، لذلك عدل عن ذكر الفعل ، لأنه لا يؤدي الغرض المطلوب فجاء بالمصدر بديلاً عنه لمناسبته للمقام ولما كان المصدر بمثابة تكرر الفعل في الاستعمال فقد استعمل خبراً وصفة وحالا لأجل المبالغة في الحدث ولجعل الذات كأنها تجسمت منه، نحوقوله تعالى ) إنه عمل غير صالح ( [هود46] قال الزجاج : (( فيجوز أن يكون يعني به أنه ذو عمل غير صالح ، كما قالت الخنساء :
ترتـع ما رتعت حتـى إذا ادكرت فإنمـا هـي إقبـال وإدبــار
أي ذات إقبال )) () .
وليس هذا من باب حذف المضاف ، كما قال ( ذات إقبال ) بل للدلالة على المبالغة في الخبر وكأنها مخلوقة من الإقبال والإدبار ، فإذا (( وصف بالمصدر صار الموصوف كأنه في الحقيقة مخلوق من ذلك الفعل لكثرة تعاطيه له واعتياده إياه ، ويدل على أن هذا معنى لهم ومتصور في نفوسهم قوله :
ألا أصبحت أسماء جاذمـة الحبـل وضنّت علينـا والضنين من البخـل
أي كأنه مخلوق من البخل لكثرة ما يأتي به منه ... وأصل هذا الباب عندي قول الله عز وجل ) خلق الإنسان من عجل ( [ الأنبياء 37 ] وقولك رجل دنف أقوى معنى لما ذكرناه من كونه كأنه مخلوق من ذلك الفعل ، وهذا معنى لا تجده ولا تتمكن منه مع الصفة الصريحة )) () ، ومن باب حذف المضاف ، لأن الإقبال والإدبار لا يكونان خبراً عن الناقة ، وإنما هي مقبلة ومدبرة ، وإنما لقصد المبالغة ، وكذلك الأمر بالمصدر بدل فعله ، فقد جاء للمبالغة في العموم ليشمل أكبر عدد منهم ، فليس هو من باب التوكيد اللفظي لنيابته مناب فعله ، بل هو من باب التوكيد المعنوي ، لأنه في المعنى بمثابة تكرر الفعل ، ويجيء بدل فعله في الاستعمال لغرض دلالي .
أما المصدر المؤكد لفعله فإنه يساق لتقرير عامله وتقويته لاشتراكهما في الحدث فكان المصدر مقوياً للحدث الذي يتضمنه الفعل .
قال ابن مالك :
وحذف عامل المؤكـد امتنـع وفي سـواه لدليــل متسـع
فقال الشارح : (( وقول ابن المصنف : إن قوله ( وحذف عامل المؤكد امتنع ) سهو منه ، لأن قولك : ضربا زيدا مصدر مؤكد وعامله محذوف ليس بصحيح وما استدل به على دعواه من وجوب حذف عامل المؤكد ليس منه ، وذلك ، لأن ( ضربا زيدا ) ليس من التأكيد في شيء بل هو أمر خال من التأكيد بمثابة ( اضرب زيداً ) ، لأنه واقع موقعه ، فكما أن ( اضرب زيداً ) لا تأكيد فيه كذلك ( ضربا زيداً ) وكذلك جميع الأمثلة التي ذكرها ليست من باب التأكيد في شيء ، لأن المصدر فيها نائب مناب العامل ، دال على ما يدل عليه وهو عوض منه ويدل على ذلك عدم جواز الجمع بينهما ، ولا شيء من المؤكدات يمتنع الجمع بينها وبين المؤكد )) () .
وقوله ليس على إطلاقه صحيحاً ، وذلك لأن المصدر لا يدل على ما يدل عليه الفعل ، وليس عوضاً منه ، وإنما لكل معنى يختلف عن الآخر ، فهما لا يتطابقان في الدلالة ولا يتساويان في الاستعمال لذلك لا يجوز الجمع بينهما في غير التوكيد اللفظي ، نحو قوله تعالى ) وبالوالدين إحساناً ( [ البقرة 83 ] ، جاء المصدر بدل فعله ( أحسنوا ) ، لأنه نصب على معنى وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، ونحوه قوله تعالى ) كتاب الله عليكم ( [النساء 24 ] (( منصوب على التوكيد محمول على المعنى ، لأن معنى قوله ) حرمت عليكم أمهاتكم ( كتب الله عليكم هذا كتاباً ، كما قال الشاعر :ـ
وعجنا إلى الحسنى ورق حديثنـا ورضت فذلّـت صعبـة أي إذلال
لأن معنى رضت أذللت ، وقد يجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر ويكون (عليكم ) مفسراً له فيكون المعني الزموا كتاب الله ، ولا يجوز أن يكون منصوباً بعليكم، لأن قولك عليك زيداً ليس له ناصب متصرف فيجوز تقديم منصوبه وقول الشاعر :ـ
يا أيها الماتـح دلـوى دونكـا إني رأيـت النـاس يحمدونكـا
يجوز أن يكون (( دلوي )) في موضع نصب بإضمار خذ دلوي )) () ، لأنه إنما يعدل عن أحدهما لغرض دلالي يقتضيه السياق أو المقام أو الحال ، لأنهما ليسا سواء في الدلالة ، والدليل على ذلك مجيء المصدر بدل فعله في مواضع كثيرة ليؤدي غرضاً لا ينهض به فعله أمراً أو نهياً بما يناسب المقام ، نحو قوله تعالى ) لا إكراه في الدين ( [ البقرة 256 ] فليس هذا التعبير بمثل لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه ، لأنه إخبار في معنى النهي دال على ثبوته ودوامه وشموله لجميع أنواع الإكراه والإجبار ، وكذلك قوله تعالى ) فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ( [ البقرة 197 ] ليس كما قيل : هو بمعنى (( لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا )) () ، وإنما معناه النهي الدائم الشامل لجميع أنواع الرفث والفسوق والجدال ، فهناك فرق بين دلالة ( لا ) النافية للجنس ، و( لا ) الناهية الجازمة للفعل ، فقد تدل ( لا ) الناهية على التفخيم بحسب المقام ، نحو قوله تعالى ) ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ( [ البقرة 119 ] ، قال الزجاج : (( ويجوز أيضاً ( ولا تَسْألْ عن أصحاب الجيم ) وقد قرئ به فيكون جزماً بـ( لا ) وفيه قولان على ما توجبه اللغة أن يكون أمره بترك المسألة ويجوز أن يكون النهي لفظاً ويكون المعنى على تفخيم ما أعد لهم من العقاب ، كما يقول لك القائل الذي تعلم أنت أنه يجب أن يكون من تسأل عنه في حال جميلة أو حال قبيحة ، فتقول : لا تسأل عن فلان أي قد صار إلى أكثر مما تريد )) () ، وذلك للإبهام الذي أفادته ( لا ) ، لأن إبهام الأمر يدل على تفخيمه وتعظيمه ، نحو قوله تعالى ) وما أدراك ما الحطمة ( [ الهمزة 5 ] ، و) فغشيهم من اليم ما غشيهم ( [ طه 78 ] وقوله
) وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ( [ الشعراء 227 ] وكذلك التعجب والحذف لما فيها من الخفاء المبهم ، فجاءت كل منهما بما يناسب مدخولها ، لاختلاف المقصود منهما ، ودلالة بناء اسم ( لا ) تختلف عن دلالة جزم الفعل ، لأنه طلب ملزم مقيد بزمن ومخاطب بخلاف نفي عموم الجنس بعد استغراقه ، كما يختلف في دلالته إذا صرح بلفظ النهي ، نحو قوله تعالى ) لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ... إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين ( [ الممتحنة 8 – 9 ] ، وعن النهي بلفظ الوعيد ، نحو قوله تعالى ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ( [ النساء 10 ] ، كما عبر بالأمر عن التهديد والوعيد في قوله تعالى ) قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار ( [ الزمر 8 ] ، وقوله ) من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( [الكهف 29 ] وقوله ) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ( [ الزمر 39 ] ، وقوله تعالى ) فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ( [ القلم 44 ] ، فقد ذكر الأمر ولم يرد به حقيقته الدلالية بل أريد به التعبير عن معنى مستفاد من مقام الكلام وهو التهديد ، وقد يعبر عن معنى النهي بالنفي ، نحو قوله تعالى ) وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ... وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ( [ البقرة 83-84 ] ، وهذا نفي في معنى النهي ، كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له كذا ، تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه () ، فالعدول عن صريح الفعل له دلالات لا يفي بها الفعل ، ولا يعبر عن المراد بدقة ولا يبلغ الغاية المطلوبة منه في الوصول إلى التأثير الفكري والنفسي الذي يسعى إليه المنتج اللغوي ويتصف به الكلام البليغ المعبر عن المشاعر بدقة وبطريقة مناسبة للمقام ، وذلك بالبديل الملائم الزائد على ما وضعته اللغة لأصل المعنى المراد .
قال عبد القاهر : (( قد علمنا علماً لا تعترض معه شبهة أن الفصاحة فيما نحن فيه عبارة عن مزية هي بالمتكلم دون واضع اللغة وإذا كان كذلك فينبغي لنا أن ننظر إلى المتكلم هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئاً ليس هو له في اللغة حتى يجعل ذلك من صنيعه مزية يعبر عنها بالفصاحة وجملة الأمر أنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها ومعلقاً معناها بمعنى ما يليها )) () .
فمعنى الكلام العام أو الأصلي ميسور لأهل اللغة ، ولكن الإبداع فيه يكون في البدائل الدلالية والأسلوبية، لأنها تشحنه بدلالات لمعان جديدة زائدة على معناه الوضعي والتركيبي، فأسلوب النداء مثلاً يأتي للتعبيرعن معان عدة تفوق كثيراً ما يؤديه صريح فعل النداء أو الدعاء، ففي قوله تعالى) أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ( [الزمر56] ، أي (( يا ندما ، وحرف النداء يدل على تمكن القصة من صاحبها ، إذا قال القائل : يا حسرتاه ويا ويلاه ، فتأويله الحسرة والويل قد حلاّ به وأنهما لازمان له غير مفارقين ، ويجوز يا حسرتي وزعم الفراء أنه يجوز يا حسرتاه على كذا وكذا بفتح الهاء ويا حسرتاهُ – بالكسر والضم ، والنحويون أجمعون لا يجيزون أن تثبت هذه الهاء في الوصل وزعم أنه أنشده من بني فقعس رجل من بني أسد :ـ
يـا ربّ يـا ربّـاه إيّـاك أســلْ عفـراء يا ربّاه من قبل الأجـل
ومعنى ( أن تقول نفس ) خوف أن تقول نفس وكراهة أن تقول نفس ، المعنى اتبعوا أحسن ما أنزل خوفاً أن تصيروا إلى حال يقال فيها هذا القول وهي حال الندامة )) () .
فقد عدل عن صريح الفعل في استدعاء الحسرة ، كما عدل عن أصل المعنى في النداء للدلالة على هيمنة التحسر على مشاعره وتمكنه منه وغلبة الندم على أحاسيسه وتجلي الحزن والغم لعظم المصيبة بسبب التفريط في جنب الله تعالى ، وهذه المعاني لا يجليها غير الأسلوب المناسب للظروف المحيطة بالكلام ، وهكذا أسلوب التعجب الذي يؤدى بطرائق متعددة كصيغتي التعجب القياسيتين ( ما أفعله ) و ( أفعل به ) والتحويل إلى صيغة ( فَعُل ) بقصد التعجب ، نحو قوله تعالى ) كبرت كلمة تخرج من أفواههم ( [ الكهف 5 ] ، والنداء والاستفهام ، نحو قوله تعالى ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ( [ البقرة 28 ] ، وبتعبيرات أخرى كثيرة تفيد التعجب ، نحو سبحان الله و) حـاش لله مـا هذا بشراً (
[ يوسف 31 ] ، ولله دره وغيرها .. ولكل تعبير دلالة تختلف عن التعبير الآخر ، والبديل بحسب المقام والسياق المناسب له .
وقد يستبدل النفي الصريح بغيره من التعبيرات لتؤدي معناه وللدلالة على معنى يقتضيه المقام وسياق الكلام ، إذ يعبر عنه بالاستفهام ، نحو قوله تعالى ) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ( [ الرحمن 60 ] ، (( أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة )) () .
فالاستفهام ليس على ظاهره ، لأنه ليس مطلوباً منه الجواب ، وإنما عبر به بدل النفي للدلالة على أن الإحسان في الآخرة لا يكون إلا لمن أحسن في الدنيا .
ونحوه قوله تعالى ) ومن يغفرُ الذنوب إلا الله ( [آل عمران 135] ، أي لا يغفر الذنوب إلا الله تعالى ، حيث جاء ( يغفر ) مرفوعاً و (( الرفع محمول على المعنى ، والمعنى وأي أحد يغفر الذنوب ؟ ما يغفرها إلا الله )) () .
فقد جاء الاستفهام للتعبير عن معنى غير الطلب ، وهو النفي أو الإنكار ، نحو قوله تعالى ) ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ( [ السجدة 28 ] ، وقوله ) أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ( [ الملك 21 ] فالطلب بالاستفهام ليس على حقيقته الدلالية ، لأنه يحمل دلالة النفي والإنكار بحسب المقام ، والتقرير أو الإقرار والتوبيخ ، نحو قوله تعالى) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ( [البقرة44] ، ونحوه قوله تعالى ) ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ( [ البقرة 130 ] ، ومعنى اسم الاستفهام ( من ) التقرير والتوبيخ ، وألف الاستفهام (( تكون استفهاماً محضاً كقولك : أزيد عندك أم عمرو ؟ وتكون تقريراً وتوبيخاً ، فالتقرير قولك : ألست كريماً ؟ ألم أحسن إليك ؟ كقوله تعالى ) ألم أعهد إليكم يا بني آدم ( [ يس 60 ] .
قال جرير :ـ
ألستـم خـير من ركـب المطـايا وأنـدى العالمـين بطـون راح
والتوبيخ كقولك : ألم تذنب فأغفر لك ؟ ألم تسيء فأحسن إليك ؟ )) () .
وتجمع ( أم ) معنى الاستفهام والإضراب ، فتكون بمعنى ( بل ) ، وقد يعدل بها عن النهي ، نحو قوله تعالى ) أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبـل ( [ البقرة 108 ] .
قال الزجاج : (( ومعنى ( أم ) ههنا وفي كل مكان لا تقع فيه عطفاً على ألف الاستفهام إلا أنها لا تكون مبتدأة – أنها تؤذن بمعنى ( بل ) ومعنى ألف الاستفهام ، المعنى ( بل أتريدون أن تسألوا رسولكم ) فمعنى الآية أنهم نهوا أن يسألوا النبي r ما لا خير لهم في السؤال عنه وما يكفرهم وإنما خوطبوا بهذا بعد وضوح البراهين لهم وإقامتها على مخالفتهم )) () .
أما التوقيف ، فالمراد به إيقاف المخاطب على العلم بالشيء وإقراره ، نحو قوله تعالى ) ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ( [ البقرة 107 ] بمعنى قد علمت
و(( لفظ ( ألم ) ههنا لفظ استفهام ومعناه التوقيف )) () .
ونحوه قوله تعالى ) ألم نشرح لك صدرك ( [ الإنشراح 1 ] ، حيث عدل عن الأسلوب الخبري إلى الاستفهام المنفي وجعله بدلاً منه للدلالة على الإقرار بحصول الطلب ، وليس الجواب عنه وقد يدل على التعجب مع الإقرار ، نحو قوله تعالى ) ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ( [ البقرة 258 ] (( هذه كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يعجب منه ، ولفظها لفظ استفهام ، تقول في الكلام : ألم تر إلى فلان صنع كذا وصنع كذا ، وهذا مما أعلمه النبي r حجة على أهل الكتاب ومشركي العرب ، لأنه نبأ لا يجوز أن يعلمه إلا من وقف عليه بقراءة كتاب أو تعليم معلم ، أو بوحي من الله عز وجل فقد علمت العرب الذين نشأ بينهم رسول الله r أنه أمي ، وأنه لم يُعلم التوراة والإنجيل وأخبار من مضى من الأنبياء فلم يبق وجه تعلم منه هذه الأحاديث إلا الوحي )) () .
وقد يدل الاستفهام بغير النفي على التعجب ؛ لأن الظروف المحيطة بالمتكلم تؤيد استحالة ما يتمناه ، نحو قوله تعالى ) قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ( [ آل عمران 40 ] (( أي كيف يكون لي غلام ، قال الكميت :ـ
أنـى ومن أيـن آبـك الطّــرب مـن حـيث لا صبـوة ولا لعـب
أي كيف ومن أين آبك الطرب )) () ، أي عاد لك .
وذهب الزجاجي إلى أن المعنيين متقاربان، لأنه يجازي بـ( أنى ) فتكون بمعنى (من أين ) ، فيجوز عنده أن يتأول كل واحد منهما للآخر واستدل ببيت الكميت السابق لمجيئه بالمعنيين () .
وليس كذلك لاختلاف الدلالة وإن تقاربا في المعنى العام ، إلا أنه لكل معنى يختص به إذ السؤال عن الحال ليس مثل السؤال عن المكان واستدلاله بالبيت حجة عليه وليست له ، لأن الشاعر جمع بينهما بالواو ، والعطف بالواو يدل على أن المعطوف مغاير للمعطوف عليه وإلا لما جمع بينهما ، ولاستغنى باحداهما عن الأخرى ، فالاستفهام ههنا ليس المقصود منه لفظه ولا الطلب ، وإنما الوقوف على أمر معجب خارج عن المعتاد ، فلزم أن يأتي بأسلوب يناسب المقام والحال ، فجاء بما يلائم للوصول إلى المراد بأحسن صورة من اللفظ معبراً عن الحقيقة التي أدهشت المشركين وأهل الكتاب وكانت حجة عليهم حتى تمكن منهم العجب ، تم هذا بالبديل الأسلوبي المعجز ، كما حصل في البدائل الدلالية ، حيث تأخذ الألفاظ دلالات جديدة طبقاً لمجرى السياق ، كذلك معاني الكلام الأصلية تأخذ طرائق متعددة وأساليب مختلفة للدلالة على توليد المعاني الجديدة التي تتناسب واختلاف المقامات والأحوال ودواعي ذلك الوصول إلى الغاية القصوى في توجيه العقول والمشاعر إلى مايريده المنتج اللغوي من خلال اختيار اللفظة المناسبة والأسلوب الملائم ، للتأثير في المتلقي وإقناعه بالفكرة المعينة أو الرأي المطلوب تبنيه ، ولا تكون البدائل الدلالية والأسلوبية بدون قيد الملاءمة والمناسبة للسياق والمقام والظروف المحيطة بالكلام ، لأنها الاختيار الواعي المشروط بقيد المناسبة الدلالية الدقيقة المعبرة عن الموقف أصدق تعبير ، فاختيار ( إنْ ) في أسلوب الشرط له دلالة تختلف عن ( إذا ) ، لأن ( إن ) تدل على ضعف اعتقاد المتكلم في وقوع الشرط ، أما ( إذا ) فإنها تدل على قوة اعتقاد المتكلم في وقوع الشرط ويقينه من استجابة المخاطب ، نحو قوله تعالى ) واذكر ربك إذا نسيت ( [ الكهف 24 ] ، وهو موجه إلى النبي r فاختيرت ( إذا ) لمناسبتها للمقام ، وفي قوله تعالى ) قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ( [الأعراف 77]، وقوله ) فأت بآية إن كنت من الصادقين ( [ الشعراء 154 ] ، وقوله ) فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ( [ الدهان 36 ] .
اختيرت ( إن ) ، لأن الأقوال صدرت عن الكفار ، وهي موجهة إلى أنبيائهم ، فحملت الشك القوي في صدقهم ودلت على قدر من التحدي ، وقد حذف جواب الشرط للدلالة على ثقتهم بعدم وقوعه ، وفي قوله تعالى ) فاسألوهم إن كانوا ينطقون ( [ الأنبياء 63 ] ، دلت ( إن ) على الشك التام ، لأن الأصنام لا تنطق ، فاستعمل ضمير العقلاء تغليباً .



النتــائـج

اللفظة المستقلة بمفهومها الذاتي ، لها معنى عرفي معجمي ، ولها داخل التركيب معنى نحوي ، ولها في السياق معنى دلالي .
التركيب المستقل بمفهومه التركيبي الإسنادي له معنى معين ، وقد يبدل بغيره في الأسلوب ليؤدي المراد ولإيجاد دلالات جديدة زائدة على معناه الأصلي .
المعاني المعجمية والمعاني النحوية العامة كالخبر والطلب بأنواعه ، ثابتة بالعرف والقواعد أما البدائل الدلالية والأسلوبية فمتحركة بحسب المقام والسياق والحال والظروف المحيطة بعملية الكلام وقدرات المتكلمين .
الجملة الاسمية تفيد ثبوت الوصف على موصوفه ، لأن الخبر في الحقيقة وصف ، وتدل على اعتقاد المتكلم بصحة الخبر وقوة إسناده بالاستمرار وعدم التجدد ، وصدق وقوعه .
البدائل الدلالية والأسلوبية ليست اعتباطية تنتقل بحرية بل إنها مقيدة بالمقام والحال والظرف ومتفاوتة بحسب قدرات المتكلمين .
المعاني الأصلية لا تهمل بل تستحضر لبيان المعاني الجديدة للمفردات والتراكيب ، وإيضاح الدلالات المقامية والسياقية والحالية لمعرفة علة الاختيار .
يؤتى بالبدائل الدلالية والأسلوبية لتحصيل دلالات لا يستطيع أن يأتي بها المعنى الأصلي أو المعنى العام .
البدائل توسع المعنى الأصلي وتولد المعاني الجديدة بدلالات مختلفة عن دلالة المعنى الأصلي .
تتفاعل المعاني الثابتة والمتحركة مع بعضها للتعبير عن الدلالات الدقيقة المناسبة التي تحقق المراد من التبادل .
قد يحذف جواب الشرط للدلالة على اعتقاد المتكلم بعدم وقوعه وبأنه غير حاصل وقد يقدر بـ( أفعل ) وهو معنى عام للدلالة على قدر من التحدي .
يخبر بالأمر الصريح للدلالة على إلزام المتكلم نفسه بتنفيذ ما يخبر به فيأتي الخبر أوكد من الإخبار بالمضارع المرفوع الذي يعبر به عن الإطمئنان على دوامه لارتباطه بالزمن أما المضارع المنصوب فإنه يدل على افتراض حصوله في المستقبل بحسب دالة النصب والمضارع المجزوم يدل على عدم حصول الخبر والماضي مع ( قد ) يدل على تحقق وقوعه .
تدخل ( أل ) في البدائل الدلالية والأسلوبية لدلالتها على العموم ، حيث تبدل من التنوين والإضافة في المفردات ، ومن اسم الموصول والشرط والقصر في التراكيب .
يعدل عن الأمر بالفعل الخبري للدلالة على التوكيد والإشار بأن الفعل جدير بأن يتلقى بالمسارعة ، فكأنه امتثل وصار الخبر كأنه موجود فعلاً، نحو: يرحمك الله .
البدائل الدلالية والأسلوبية كلامية وليست وضعية ، تقوم على قدرات المتكلم لإيجاد المعاني الجديدة الزائدة على المعاني الوضعية والتركيبية النحوية .


المصــادر والمراجــع

الأشباه والنظائر في النحو، للسيوطي، مطبعة حيدر آباد الدكن ، ط2، 1359هـ .
الأصول في النحو ، لابن السراج ، تحقيق : د . عبد الحسين الفتلي ، مطبعة الرسالة ، بيروت ، ط3 ، 1988م .
الأمالي الشجرية ، لابن الشجري ، مطبعة دار المعارف العثمانية حيدر آباد – الدكن ، ط1 ، 1349هـ .
الإيضاح في علوم البلاغة ، للخطيب القزويني ، تحقيق : لجنة من أساتذة الأزهر ، مطبعة السنة المحمدية .
البحر المحيط ، لابي حيان ، مطبعة السعادة بمصر ، ط1 ، 1328هـ .
البرهان في علوم القرآن للزركشي ، تحقيق : محمد أبي الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربية ، ط1 ، 1376هـ - 1957م .
بلاغة الكلمة في التعبير القرآني ، للدكتور / فاضل صالح السامرائي ، دار عمار ، ط2 ، 1422هـ - 2001م .
البيان في روائع القرآن ، للدكتور / تمام حسان ، عالم الكتب ، القاهرة ، ط1 ، 1993م .
التعبير القرآني ، للدكتور / فاضل صالح السامرائي ، مطابع جامعة الموصل ، 1989م .
تفسير الجلالين، للمحلي والسيوطي، منشورات مؤسسة النور للمطبوعات، بيروت.
الجملة العربية والمعنى ، للدكتور / فاضل صالح السامرائي ، دار ابن حزم ، ط1 ، 1421هـ - 2000م .
حروف المعاني ، للزجاجي ، تحقيق : د . علي توفيق الحمد ، مؤسسة الرسالة ، دار الأمل ، ط1 ، 1404هـ - 1984م .
الخصائص، لابن جني ، تحقيق : محمد علي النجار ، مطبعة دار الكتب المصرية.
دلائل الإعجاز ، لعبد القاهر الجرجاني ، دار المنار بمصر ، ط3 ، 1366هـ .
دور الكلمة في اللغة ، لستيفن أولمان ، تعريب : د . كمال بشر ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة .
روح المعاني في تفسير القرآن الكريم ، لشهاب الدين الآلوسي ، إدارة الطباعة المنيرية ، دار إحياء التراث العربي .
شرح ابن عقيل ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، المكتبة العصرية 1419هـ - 1998م .
شرح الكافية ، لرضي الدين الاسترابادي ، مطبعة ( الشركة الصحافية العثمانية ) ، 1310هـ .
الكشاف ، للزمخشري ، مطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر ، 1367هـ - 1948م .
معاني القرآن ، للفراء ، تحقيق : محمد علي النجار ، الدار العربية للتأليف والترجمة ، 1966م .
معاني القرآن وإعرابه ، للزجاج ، تحقيق : د . عبد الجليل عبده شلبي ، عالم الكتب ، ط1 ، 1408هـ - 1988م .
مغني اللبيب ، لابن هشام ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، دار الكتاب العربي ، بيروت .
المقتضب ، للمبرد ، تحقيق : محمد عبد الخالق عضيمة ، القاهرة ، 1382هـ .
همع الهوامع ، شرح جمع الجوامع ، للسيوطي ، مطبعة السعادة بمصر ، ط1 ، 1327هـ .
الدوريات :ـ
علوم اللغة ، كتاب دوري ، المجلد الثالث ، العدد الأول ، 2000م ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
المعنـــى, دلالــة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:04 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59