#1  
قديم 04-19-2012, 12:28 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي مقال بعنوان الدعوة للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي


ما من قائم يقوم في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية داعياً إلى ترك ضلالة من الضلالات، أو بدعة من البدع، إلا وقد آذن نفسه بحرب لا تخمد نارها، ولا يخبو أوارها حتى تهلك، أو يهلك دونها.
ليس موقف الجندي في معترك الحرب بأحرج من موقف المرشد في معترك الدعوة، وليس سلب الأجسام أرواحها بأقرب منالاً من سلب النفوس غرائزها.
ولا يَضَنُّ([1]) الإنسان بشيء مما تملك يمينه ضَنَّه بما تنطوي عليه جوانحه من المعتقدات، وإنه ليبذل دمه ***** لعقيدته، ولا يبذل عقيدته ***** لدمه، وما سالت الدماء، ولا تمزقت الأشلاء في موقف الحروب البشرية من عهد آدم إلى اليوم إلا حماية للمذاهب، وذوداً عن العقائد.
لذلك كان الدعاة في كل أمة أعداءها وخصومها؛ لأنهم يحاولون أن يرزؤوها في ذخائر نفوسها، ويفجعونها في أعلاق قلوبها.
الدعاة أحوج الناس إلى عزائم ثابتة، وقلوب صابرة على احتمال المصائب والمحن التي يلاقونها في سبيل الدعوة، حتى يبلغوا الغاية التي يرونها، أو يموتوا في طريقها.
الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة، أو جهلة، أو زنادقة، أو ملحدين، أو ضالين، أو كافرين؛ لأن ذلك ما لا بدَّ أن يكون.
الدعاة الصادقون يعلمون أن محمداً " عاش بين أعدائه ساحراً كذاباً، ومات سيد المرسلين، وأن الإمام الغزالي عاش بالكفر والإلحاد ومات حجة الإسلام، وابن رشد عاش ذليلاً مهاناً حتى كان الناس يبصقون عليه إذا رأوه، ومات فيلسوف الشرق؛ فهم يحبون أن يكونوا أمثال هؤلاء العظماء أحياءاً وأمواتاً.
سيقول كثير من الناس: وما يغني الداعي دعاؤه في أمة لا تحسن به ظناً، ولا تسمع له قولاً؛ إنه يضر نفسه من حيث لا ينفع أمته، فيكون أجهل الناس وأحمق الناس.
هذا ما يوسوس به الشيطان للعاجزين الجاهلين، وهذا الداء الذي ألمَّ بنفوس كثير من العلماء؛ فأمسك ألسنتهم عن قول الحق، وحبس نفوسهم عن الانطلاق في سبيل الهداية والإرشاد، فأصبحوا لا عمل لهم إلا أن يكرروا للناس ما يعلمون، ويعيدوا عليهم ما يحفظون، فجمدت الأذهان، وتبلدت المدارك، وأصبحت العقول في سجن مظلم لا تطلع عليه الشمس، ولا ينفذ إليه الهواء.
الجهل غشاء سميك يَغْشى العقل، والعلم نار متأججة تلامس ذلك الغشاء فتحرقه رويداً رويداً؛ فلا يزال العقل يتألم لحرارتها ما دام الغشاء بينه وبينها، حتى إذا أتت عليه انكشف له الغطاء؛ فرأى النار نوراً، والألم لذة وسروراً.
لا يستطيع الباطل أن يصرع الحق في ميدان؛ لأن الحق وجود، والباطل عدم، إنما يصرعه جهل العلماء بقوته، ويأسهم من غلبته، وإغفالهم النداء به، والدعاء إليه.
محال أن يهدم بناء الباطل فرد واحد في عصر واحد، وإنما يهدمه أفراد متعددون؛ في عصور متعددة، فيهزه الأول هزة تباعد ما بين أحجاره، ثم ينقض الثاني منه حجراً، والثالث آخر، وهكذا حتى لا يبقى منه حجراً على حجر.
الجهلاء مرضى، والعلماء أطباء، ولا يجمل بالطبيب أن يحجم عن العمل الجراحي؛ فراراً من إزعاج المريض، أو خوفاً من صياحه وعويله، أو اتقاءاً لسبه وشتمه؛ فإنه سيكون غداً أصدق أصدقائه، وأحب الناس إليه.
وبعد: فقليل أن يكون الداعي في الأمة الجاهلة حبيباً إليها، وقليل أن ينال حظه من إكرامها وإجلالها إلا بعد أن تتجرع مرارة الدواء، ثم تشعر بحلاوة الشفاء.
الدعاة في هذه الأمة كثيرون ملء الفضاء، وكظة([2]) الأرض والسماء، ولكن لا يكاد يوجد بينهم داعٍ واحد؛ لأنه لا يوجد بينهم شجاع واحد.
أصحاب الصحف، وكتاب الرسائل، والمؤلفون، وخطباء المجامع، وخطباء المنابر كلهم يدعون إلى الحق، وكلهم يعظون وينصحون، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكن لا يوجد بينهم من يستطيع أن يحمل في سبيل الدعوة ضراً، أو يلاقي في طريقها شراً([3]).
رأيت الدعاة في هذه الأمة أربعة: رجلاً يعرف الحق ويكتمه عجزاً وجبناً، فهو ساكت طول حياته لا ينطق بخير ولا شر، ورجلاً يعرف الحق وينطق به ولكنه يجهل طريق الحكمة والسياسة في دعوته، فيهجم على النفوس بما يزعجها وينفرها، وكان خيراً له لو صنع ما يصنعه الطبيب الماهر الذي يضع الدواء المر في =برشامة+ ليسهل تناوله وازدراده؛ ورجلاً لا يعرف حقاً ولا باطلاً، فهو يخبط في دعوته خبط الناقة العشواء في بيدائها، فيدعو إلى الخير والشر والحق والباطل، والضار والنافع، في موقف واحد؛ فكأنه جواد امرئ القيس الذي يقول فيه:
مكَرٍّ مفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً ...................................
ورجلاً يعرف الحق ويدعو الأمة إلى الباطل دعوة الـمُجِّد المجتهد، وهو أخبث الأربعة وأكثرهم غائلة؛ لأنه صاحب هوى يرى أنه لا يبلغ غايته منه إلا إذا أهلك الأمة في سبيله، فهو عدوُّها في ثياب صديقها؛ لأنه يوردها موارد التلف والهلاك باسم الهداية والإرشاد؛ فليت شعري من أي واحد من هؤلاء الأربعة تستفيد الأمة رشدها وهداها؟!
ما أعظم شقاء هذه الأمة وأشد بلاءها؛ فقد أصبح دعاتها في حاجة إلى دعاة، ينيرون لهم طريق الدعوة، ويعلمونهم كيف يكون الصبر والاحتمال في سبيلها؛ فليت شعري متى يتعلمون، ثم يرشدون؟


([1]) يضن: يبخل.

([2]) الكظة: البطنة.

([3]) ليس هذا الكلام على إطلاقه (م).
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للأديب, مصطفي, لطفي, لقاء, المنفلوطي, الدعوة, بعنوان


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع مقال بعنوان الدعوة للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مقال بعنوان : مغزي الحياة للدكتور راغب السرجانى Eng.Jordan الملتقى العام 0 12-27-2016 10:36 PM
مقال رائع للدكتور مصطفى محمود (رحمه الله) Eng.Jordan الملتقى العام 0 11-21-2016 12:16 AM
مصطفى لطفي المَنْفَلُوطي Eng.Jordan شخصيات عربية وإسلامية 0 06-16-2013 11:17 AM
قرآن الفكر للأديب مصطفى صادق الرافعي Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 04-19-2012 12:26 PM
أدب المناظرة للأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 04-19-2012 12:24 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:59 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59